|
رمضان كريم … في بلادي الجميلة
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 7209 - 2022 / 4 / 2 - 12:25
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
قبل يومين كنتُ في مشوار في أحد شوارع حيّ الزيتون، وشاهدتُ شبكةً من الخيوط معلّقٌ بها ورقاتٌ ملوّنة مقصوصة بالتساوي ومفرّغة بأشكال هندسية مختلفة، وبعض الأطفال والصِّبية من أعمار مختلفة، يحاولون رفع شبكة الخيوط تلك بين شرفات الشارع. إنه شهرُ رمضان الكريم، والأيامُ المبهجة التي تسبقه حيث يتبارى أطفالُ كل شارع في تزيينه بالأضواء والفوانيس والأهلّة استقبالا وتحية للشهر الكريم الذي يجمعُ المصريين كافّة على المحبة والتوادّ والتراحم وموائد الإفطار والسحور وصلوات التراويح وجلسات السمر. المصريون ينتظرون هذا الشهرَ الطيب لأنه لا يشبه بقية الشهور، ولأن مذاقَ رمضانَ في مصر الجميلة لا يشبهُه رمضانُ في أية بلد أخرى من بلاد الله. كنتُ دائمًا أتباهى أمام أصدقائي من الأدباء والأديبات العربيات بأن شهر رمضانَ في مصر، لا شبيه له في سائر بلدان العالم. وأن مَن لم يحضر شِطرًا من رمضان في مصر، فقد فاته الشيءُ الكثير. شهرٌ لا يشبه أيَّ شهر آخر يمرُّ على مصر، ولا يشبهه أيُّ رمضانَ آخرَ يجوبُ العالم. فهذا الشهرُ يخرج عن كونه شهرًا دينيًّا، ليتحوَّل إلى سيمفونية احتفال بالحياة. يتبارى فيه الأطفالُ والكبار، وما بينهما من أعمار، ليجعلوا منه كونشرتو شعبيًّا يعزف الأوركسترا فيه سونتاتِ فرحٍ وولائمَ وزيناتٍ وأنوارٍ وألوانٍ وتزاورَ وصلاتِ رحم وسهراتٍ لا يعرفها إلا رمضان. لا تكادُ تعرف فيه المسلمَ عن غير المسلم. لأن المصريين على كافة عقائدهم وطبقاتهم المادية والاجتماعية والتعليمية يتسابقون في رسم الفرح على الوجوه وعلى جدران الأبنية وسماوات الشوارع والأزقة والميادين. يتفق المسلمون، وغيرُ المسلمين، على أن لرمضانَ في مصرَ نكهةً مميزة لا مثيلَ لها. ما السبب؟ إنه سرًّ المصريين الخاص، منذ آلاف السنين، وقبل نزول الرسالات. تعويذةٌ تصبغُ الأشياءَ بلون مصرَ، وتسبغُ على الأيام طعمَ النيل. إنها فرادةُ المصريين في صناعة الفرح، وامتلاكهم مَلَكةَ "الاحتفال". قبل عامين زارنا رمضانُ ونحن في بيوتنا لا نبرحها بسبب جائحة كورونا. وهذا العام يزورنا رمضان تحت موجة غلاء عالمية طاحنة، سوف نقاومها بإذن الله بالوعي والحكمة والاستغناء عن غير الضروري ومقاومة الهدر والفوضى. المناسباتُ الدينية عندنا هي مناسبةٌ للحياة. فتلتقي السماءُ والأرضُ في قطعة موسيقية بديعة، ليست تشبه المقطوعاتِ السماويةَ الخالصة، ولا المعزوفات الأرضية الخالصة. مزيجٌ فريد. فقط في مصرَ، يأتيك من السماء، صوتُ "سيد النقشبندي" عند الفجر يشدو: "قُلْ اِدعُ اللهَ، أو اِدعُ الرحمنَ، أيًّا ما تدعوه فله الأسماءُ الحُسنى"، ثم يأتيك عند المغرب شجوُ "محمد رفعت" مؤذّنًا؛ فلا تُخطئُ صوتَه بين ألف صوت عداه. في "رمضانَ المصري"، تجد الشوارعَ غارقةً في اللون والضوء والصَّخب. فكأنك في عيد قوامُه ثلاثون ليلةً متّصلات، ليغدو أطولَ عيد في التاريخ. الناسُ ساهرون لا يعرفون النومَ في ليالي رمضان. يتجاوزون الفجرَ، وينتظرون حتى ينسلَّ الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسود. هو الشهرُ الذي لن تميّز فيه المسلمَ من المسيحيّ. فالكلُّ يحتفل؛ كأنه شهرٌ مصريٌّ، وليس دينيًّا وحسب. المسيحيُّ يصوم مع المسلم محبةً؛ لأن إنجيله علّمه ألا يليق أن يشبعَ وجارُه جائع. وإن باغتنا أذانُ المغرب ونحن في الطريق، سنجد الصِّبيةَ والصبايا يستوقفوننا على رؤوس الشوارع وتقاطعات الميادين مبتسمين يلوّحون لنا بالخير. يفتح واحدُنا نافذة سيارته ويتناول كأسَ العصير وحبّاتِ التمر لكي "يكسر صيامه". ويحدثُ أن يقول أحدُهم للشباب حاملي التمر والماء: (شكرًا، أنا مسيحيّ!)، فيُفاجأ بأجمل ردٍّ: (واحنا كمان مسيحيين، كل سنة وأنت طيب!) يحدث فقط في مصر؛ أن يقفَ شبابٌ مسيحيّون ليسقوا ظِماء الصائمين المسلمين، زارهم المغربُ وهم خارج بيوتهم. ونحن صغار، كنا نجمع قروشنا ونركض إلى المكتبة لنشتري الورقَ الملوّن والصمغ ومقصّات الورق البلاستيكية، بعدما نكون قد جمعنا عصوات الخشب طوال العام وخبأناها تحت أسرّتنا، ثم نسهر مع أطفال الحيّ لنصنع زينة رمضان والفانوس الكبير الذي سيُعلّق في منتصف شارعنا. يتبارى أطفالُ كل شارع ليكون فانوسُهم أكبرَ، وزينتُهم أجملَ وأكثفَ لونًا. لم ننتبه، إلا حين كبرنا، أن نصفَ أطفال شارعنا من صانعي زينة رمضان، كانوا مسيحيين. رمضانُ شهرُ الجميع، وبهجةُ الجميع، وصلاةُ الجميع لإله واحد، ربّ الكون الشاسع؛ نعبده جميعًا، كلٌّ عبر رؤيته. نحبُّ اللهَ، كما أحبَّنا اللهُ وخلقنا وجعلنا شعوبًا وقبائلَ لنتعارفَ ونتحابّ ونتآخى. يأتي رمضانُ كلَّ عامٍ ليؤكد أن دمَ المصريين واحدٌ، وعِرقنا العريقَ واحد، ونسيجَنا الصافيَ واحد، لا يعبثُ به العابثون. كل سنة وأنتم طيبون. كلُّ سنة ومصرُ العظيمةُ، عظيمةٌ. “الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن.”
***
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الرئيس السيسي: المرأةُ المصرية … مفتاحُ حياة
-
في حضرة الطيبات والطيبين ... المنسيين!
-
ما هديتُك في عيد الأم؟
-
الستّ نعيمة … مبسوطة جديدة ...تحسبُهم أغنياءَ!
-
الشيخ طنطاوي … البابا شنودة … ذكرى طيبة
-
ماعت المصرية … على منصّة القضاء
-
جائزة صموئيل حبيب … سمفونية العطاء
-
خرافةٌ اسمُها: قبولُ الآخر!
-
معجزاتُ أجدادي
-
نسورٌ كثيرةٌ … وفريسة!
-
محمود أمين العالم… أمي خائفةٌ منك!
-
أكاذيبُ زجاج الشرفة
-
هابي فالنتين
-
ياسر رزق … وسنوات الخماسين
-
إصبعُك والثعبان … أصحاب ولا أعز
-
العالمُ المخبَأ في ورقةٍ صفراءَ صغيرة
-
معرضُ الكتاب … والشتاء وآلزهايمر
-
عيدُ الغطاس … والقلقاسُ الأخضر
-
رسالةُ سلام للعالم … من أرض السلام
-
منتدى شباب العالم … ميلاده الرابع
المزيد.....
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|