بعد سقوط النظام البعثي الفاشي في نيسان الماضي وبعد ان بدأت تظهر للعلن وبالادلة الدامغة جرائمه الهمجية، اصاب الكثيرين ممن كانوا يرون في هذا النظام غير مايراه العراقيون،الارتباك. وبدأت تظهر في الصحف وكتابات العديد من الكتاب تسميات وتعابير واراء ادانة وتجريم لهذا النظام وافعاله تناسب حقيقته الفعلية، التي بحت اصوات العراقيين، قبل سقوطه، في محاولة كشفها واقناع الاخرين،لاسيما العروبيين، بها، وليست تلك التي حاول ان يسوقها النظام من خلال شعاراته وتوظيفاته للاعلام بتسخيره لاقلام المثقفين والاعلاميين والساسة الفاشلين والمتقاعدين.
واذا كان يمكن فهم وتفهم حالة عدم قدرة الفرد العادي، المضلل بالشعارات والطنين الاعلامي والضخ الايدلوجي الكاذب، على معرفة طبيعة النظام الفاشية، فكيف يمكن فهم حالة الكاتب والصحافي الحامل لادوات الوعي والمعرفة. واذا كان مفهوما واقع الصحف والقنوات الاعلامية المؤجرة لمواقفها وانشطتها وبعض الكتاب ممن ارتبط ايدلوجيا وارتزاقيا بالنظام البعثي فكيف يفهم موقف من لايصنف مع هؤلاء ؟
حالات تغيير المواقف والتوصيفات ومفرداتها عديدة لكن في ضوء الدائرة التي اريد حصر النقاش فيها اجد حالتين، من دون ان يعني ذلك نمذجتهما، وهما الكاتبان
< نضال حمد> و<علاء اللامي>.
< فنضال حمد> بعد تبدل موقفه، او ربما تجذره،بعد- سقوط النظام البعثي-اخذ يدين هذا النظام وبلغة واضحة وصريحة، ويشير الى جرائمه وطبيعته الاستبدادية،وهو امر جديد لم نعتد عليه في كتابات< نضال> السابقة والتي تناول فيها الشان العراقي،وهذا تحول نوعي في موقفه من هذا النظام رغم اعلانه المستمر من انه لم يدافع عنه او يمتدحه وكأن هذا كاف لتحديد موقف ادانة، وكاف لابعاد الشبهة عن نفسه في موالاة النظام او القبول به مع مآخذه عليه، وعافيا نفسه، في ذات الوقت، من مسؤولية الكاتب الباحث عن الحقيقة والمدافع عن القيم التي تحترم انسانية الانسان، ومن دور الانسان الواعي الذي عليه ان يوظف ادوات وعيه في الكشف عن الزيف والظلم والجريمة في هذا العالم وادانتها. ومهملا ان على الكاتب ان يناى بنفسه عن انانية وبراغماتية السياسي المعلية للمصالح على حساب القيم الانسانية التي من واجب الكاتب الحرص عليها والدفاع عنها. واعتقد ان نضال يدرك، كما غيره من الكتاب، مامعنى ان يصمت كاتب ما عن جرائم ويكتفي بعدم المديح او الدفاع.
ثم ماقيمة ان يدين < نضال> النظام البعثي الفاشي بعد سقوطه وبعد ان صارت جرائمه ليس فقط لايمكن الدفاع عنها او تسويغها الا في عقول ملوثة بالرذيلة< كما هو حال معن بشور حينما جرم الضحايا> وانما صار من غير الممكن عدم ادانتها حتى من قبل مؤسسة بيروقراطية فاشلة كجامعة الدول العربية بعدما صرح بتلك الادانة امينها العام مؤخرا.
وان كان يمكن تفهم ان كاتبا، يفترض فيه الرؤية العميقة والاستشرافية، فشل لسبب ما في تحديد موقف مناسب في قضية ما، فلا يمكن فهم موقف < نضال حمد> الاخير الا في اطار معنى القول( لابد مما ليس منه بد) الذي يضطر اليه لاستكمال ومواصلة موقفه في مهاجمة المعارضة العراقية، ومن خلالها ضمنا الشعب العراقي، وتمرير تلك التهجمات عبر ادانة النظام الذي صار جثة هامدة، مقدما بادانة جرائمه مدخلا لتهجمه على المعارضة العراقية.
يبدو لي ان نضال حمد ينطلق برؤيته ومواقفه من معيار غير مرن يرى في البعد القومي وشعارات الامن القومي محددا ثابتا في تقييم الوقائع من غير ان يرى الجوانب الاخرى التي تزخر بها المعطيات والحيثيات الامر الذي اوقعه، كما افترض، في دائرة القصور في الفهم والتخلف في الموقف من القضية العراقية.
فلا فخر لك يا< نضال>، ولن يحسب لك، ان لم يحسب عليك،موقفك المتاخر جدا في ادانة الجريمة.
مع ان الامر مختلف في المنطلقات والخلفيات عند الاخ <علاء اللامي> الذي بدا الارتباك واضحا في كتاباته الاخيرة، الا انه يشترك مع< نضال حمد> في بعض السمات والدواعي المتحكمة في رسمه لمواقفه واطلاقه لتقييماته، فهو الاخر بدا وكانه قد وقع في مطب المنطلق الاحادي، الذي يوصل الى المحدودية غالبا، في منطلقاته لتقييم المواقف والاحداث..
وقداوقعه هذا البعد في شيء من التخبط انتج انتقالات سريعة من الموقف والراي الى نقيضيهما. فمرة ادان <الباجةجي> ومرة امتدح موقفه بمعيار نسبي ضيق في كلتا الحالتين. ومرة توقع من< احمد الكبيسي> مواقف كبيرة بمجرد ان دعى هذا، في امتطاء انتهازي للشعارات، الى طرد القوات الاجنبية، فيما تراجع< علاء> عن ذلك بعدما شهد واكتشف قصر قامة وضآلة الكبيسي الطائفية. وان كان اللامي يشرح موقفه بقول الامام علي بن ابي طالب ( بالحق يعرف الرجال) وبرسمه لمواقفه من معيار واحد ثابت هو مصلحة العراق- الوطن، فهو قد وقع في قصور اختزال الوطن والوطنية في حدود موقف الادانة للوجود والدور الامريكي، وهو، براي، معيار ضيق. فالموقف من واقعة الوجود الامريكي والمعضلة الوطنية العراقية الان لايقيم فقط من شكله العام الذي يمكن ان تلتقي حوله قوى عديدة، بينما المهم، في تصوري، هو المنطلق اولا والنوايا او الاستهدافات من هذا الموقف ثانيا. فموقف الرفض للوجود الامريكي موقف عام مشترك قد تلتقي حوله قوى من اقصى اليمين الى اقصى اليسار لكن مايميز هذه المواقف هو دوافعها، وهذا يتطلب من المتابع والمحلل للوضع ان ياخذ الطبيعة التكوينية لهذه القوى وطبيعة طروحاتها وخلفياتها الفكرية والايدلوجية. وهذا هو القصور الذي وقع فيه <علاء اللامي> وادى به الى التسرع والعشوائية في اطلاق الاحكام، وهو ذات القصورالذي اثمر تقييمه الايجابي الكبير لتيار الصدر الثاني من غير ان ياخذ بنظر الاعتبار طبيعة هذا التيار وتطلعاته وتركيبته ذات النزوع الى الانفراد السياسي والاقصاء وباساليب حادة وعنفية وهو ماشهدنا له امثلة واستعدادات منذ سقوط النظام البعثي ولحد الان.< من اغتيال السيد عبدالمجيد الخوئي الى محاربة المرجع الاعلى السيد السيستاني والى تهديد السيد محمد باقر الحكيم بالمواجهة وتمزيق صوره في تظاهرات معادية له في سعي محموم للسيطرة على الشارع الشيعي، ثم محاولة فرض الحوزة العلمية كبديل سياسي عن الحكومة التعددية( ولاية فقيه عراقية)- بعد ان تم اعلان ان الناطق والممثل الوحيد للحوزة هو السيد مقتدى الصدر- وصولا الى المباشرة العملية بفرض رؤى تيارهم لطبيعة النظام الاجتماعي والسياسي من خلال تطبيق مبادئ الشريعة الاسلامية بالقوة والتهديد>.
الايشكل هذا التيار وممارساته في نظر<علاء اللامي> خطرا فعليا على الوحدة الوطنية والاجتماعية العراقية وعلى مستقبل الديمقراطية التي هي لب المسالة الوطنية العراقية ؟ الاتفرض عليه مسؤوليته ككاتب ان يتغلغل في عمق خلفيات الحدث والقوى او التيارات ولا ان يكتفي او يقف عند حدود بعض الشعارات او المواقف بدون البحث والاهتمام بسياقاتها.
مع كل التقييم الايجابي لدور تيار الصدر في مواجهة النظام الفاشي الا ان الموقف منه، ومن اي تيار سياسي اخر، يجب ان ينطلق من معيار موقفه من الديمقراطية والتعددية ودوره في بناءها. وهي محاور مركزية ومعيارية للوطنية.
مسالة اخرى لفتت انتباهي في لغة <علاء اللامي> هي تحوله في توصيف النظام من الشمولي، حيث اعتاد تسميته فيما مضى، الى النظام البعثي والفاشي، والاخيرة تسمية اكثر دقة واكثر تاثيرا في التعبير عن الموقف النقدي من مفردة شمولي الحيادية. والمشكلة لاتكمن في التسمية وانما في التغيير وفي التوقيت. فانا اقرأ هذا التبدل عند اللامي على خلفيتين.
الاولى، خلافه مع جريدة الزمان التي اعتاد النشر فيها. والجميع يعرف وبالتجربة ان البعثي سعد البزاز صاحب الجريدة لايسمح بوجود موقف او مفردات تشير الى النظام بالبعثي والفاشي، فهو< البزاز> من التيار الانتهازي والتضليلي الذي يريد ان يوحي وكان تجربة صدام حسين هي ليست تجربة البعث وان نظام صدام ليس افرازا وامتدادا طبيعيا لايدلوجية البعث الفاشية والعنصرية.
والثانية في سقوط مشروع المصالحة مع النظام، التي دافع عنه< المشروع> اللامي، بسقوط النظام نفسه، والتي كانت تقتضي، ربما، نوع من اللغة الدبلوماسية التي لاتستفز النظام. وهنا هو الماخذ على الاخ علاء اللامي: فهل يجوز منك، وانت الذي لم تعرف بالمداهنة، ان تغير تسمية النظام- وهي ليست مسالة شكل ولفظ ابدا- ولدوافع لاترتبط مع هموم الوطن ومعانات الشعب الكبيرة؟
يقال ان للوعي ضريبة ومسؤولية تضع صاحبه تحت الضوء وفي بؤرة المسائلة، من قبل الجمهور، عن القصور والخلل الذي يمكن ان يقع ويوقع الاخرين فيه بحكم ان لصاحب الوعي دور يضعه، شاء ذلك ام ابى، في موقع طليعي.. والكتاب هم من بين اهم قادة وممثلي الوعي، وتلك مسؤولية تثقل كواهلهم. ووقوعهم في القصور يلقي ظلال الشك على كفاءتهم وبالتالي على دورهم. حيث لا يجوز لهم ان يتخلفوا في تحديد الابعاد الدقيقة لمواقفهم ومسبباتها، فمن الاسس الجوهرية لصياغة الموقف هي القدرة على الرؤية الاستشرافية مشفوعة بالجراة في الكشف والمكاشفة بدون الاكتراث لحسابات معنوية وغير معنوية تتعارض مع نزاهة البحث الموضوعي.
كذلك من المهم ان لايكتفي الكاتب بمسائلة الجمهور له وانما عليه ان يفرض على نفسه مسائلة من نوع اقسى، هي مسائلة الذات التي، باشتراط النزاهة وسلامة القصد، لاترحم ولاتهادن.. كما ان من المعضلات التي تواجه صاحب الوعي هي كيفية القدرة على التمييز وعلى الوضوح في الرؤيا وسط اختلاطات الصور والافكار والمواقف والرؤى وتعدد وتداخل الوقائع والمعطيات محتما عليه موقعه ودوره الافتراضي والواقعي ان يكون هاجسه ومحركه في ادراك الواقع وتقييمه هو بوصلته الذاتية الفردية، حيث ان وعي الواقع ليس موقفا عقليا، منطقيا ورياضيا يضع المعادلات والحسابات في جردات تقليدية خطية، وانما هو عملية مركبة تشترك في صياغتها وبلورتها الهواجس والمشاعر وقوى اللاوعي- ان شئتم- ونظرة مجهرية للذات وللواقع وكل مايشترك في مكونات خلفية الذات الواعية، الروحية والعقلية والمادية.
ومن جانب اخر يحظى التوقيت في تحديد الموقف المناسب والتشخيص الموضوعي للحالة المنظورة باهمية جوهرية. بمعنى ان تاتي لحظة الوعي بطبيعة الاشياء ومحددات الموقف في اوانها الصحيح.
تفرض هذه المنطلقات والمقايسات من الناحية العملية على الكتاب مسؤولية ان يلعبوا دورهم ويتحملون مسؤوليتهم في عملية التغيير والبناء ونشر الوعي، لاسيما في مراحل التحولات الكبرى. وتجنب الدوران في دائرة ماتوصلهم اليه اسقاطاتهم لرغباتهم على الواقع او محدودية النظر اليه فيبتعدون عن الرؤية الشاملة والمحيطة له فيتعثرون في مطبات تضاريسه فيتلكؤن وتسقط جدوى وجودهم كعناصر توعية وتنوير في مجتمعهم وثقافتهم.
2003-05-19