عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 7200 - 2022 / 3 / 24 - 23:10
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الدين في مواجهة مباشرة من الإنسان الذي يظن أنه أخطأ في الأختيار وعليه أن يعيد حساباته من جديد ويلقي بالسبب واللائمة ليس على أختياره هو بل على ما أختار , منطقيا هذا الاتهام ومهما كانت تبريراته وحججه القائمة لا يمكن أن يكون منطقيا إلا إذا مارس المختار (القضية المختارة ) سياسة سلب وأستلاب ملجئ يفقد من أختار القدرة على الوعي بقراره , بمعنى من يتهم الدين أنه السبب في كل هذه الفوضى والعبثية والظلم الآن وليس قبل ,الآن تخلص من قهرية سلطة الدين وإلجائه المفرط وقد أعلن الحقيقة على الملأ , هذا الإدعاء كاذب من أصله لأن من سار بالدين ونظر وفلسف ودافع بكل قوة عنه هو هذا الإنسان الدعي وليس شرطي الدين الذي جاء معه ليلزم الناس تحت عوامل التهديد والقوة بضرورة الإيمان .
أكثر ما توجه سهام النقد والاتهام من بعض المبهورين بإنجازات العلم ومنجزاته التي تتخطى قدرة عقولهم على فهم ما يجري فيظن أن العلم هو الحقيقة المطلقة الوحيدة والصحيحة في الوجود وما عداه مجرد خيال مريض وتوهم عبثي لا قيمة له أمام ما يطرحه العلم ,الحقيقة المرة التي لا مناص من فضحها أن نلاحظ قبل أن نباشر بذلك جملة من النقاط المهمة والضرورية لبيان حقائق العلم أولا وهي :.
• العلم الذي يقصدونه وفي جميع مراحله إنما هو نتاج وعي الإنسان وقدرته على أن يرفع الحجاب وبشجاعة عن مجهولات شكلن ولمدة طويلة نوع من المحذور البحثي أو حتى التفكير بعدم واقعية وجودها كغيب مستور أو مجهول لا يمكن قهره ,وبالتالي نظرية أن الإنسان كان مستلب الوعي أمام الدين تهتز منذ أن باشر العلم أول خطواته باكتشاف الحرف والنار والزراعة وكلها حدثت قبل أنتشار مفاهيم وآليات التدين بزمن .
• العلم ككيان واقعي متبلور هو الأبن الشرعي الذي ولد من رحم الدين أما من حاجات متصلة به أو متفرعة من وجوده ,وابتدأ من الحضارات الأولى التي أختطت منهج المعرفة وبناء أسس حضارتها التي كان الدين يقودها حضر العلم كحاجة مرافقة للدين وللحضارة ,وبالتالي تجريد العلم من هذه العلاقة طعنا بوجودية العلم ومخالفا للمنطق التأريخي له .
• العلم مجردا وكقوانين وقواعد لم ينكر الدين طبعا نقصد هنا القيم العملية التي يستند لها في أصل إنطلاقته الأولى والتطورات والتحولات الكونية التي بنيت على ذلك الأساس السليم ,معتبرا أن كل مجهول أو غيب ما لم يبحثه هو في منهجيته ومنطق العلم التجريبي ,لا يمكن الحكم عليه إلا أنه واقع بحاجة للبرهنة والكشف حتى يصل العلم فيه للتقرير واليقين القاطع , أما الدعوات التي نسمعها من تناقض الدين والعلم فهي أما مزايدات تبريرية للخروج من نطاق الدين وشيطنته ,أو قلة معرفة وجهل بالعلم ذاته وسيرورته التأريخية من صيرورة أولى أبتدأت بعلاقة الإنسان الكائن الجديد على الوجود بما يحمل وما يتأمل أن يفعل .
• الشيء الملفت للنظر وكحقيقة علمية لا بد من مراعاتها في البناء والإنطلاق أن العلم يفترض أولا الإحاطة بالقضية من جميع نواحيها ومن ثم مباشرة النقد بناء على إحاطة الدارس من خلال أساليب المقارنة والمقاربة والتفكيك والتصنيف والترميز الفاحص للأصيل عن المحرف وصولا إلى جوهر القضية المبحوثة أو التي هي قيد الدراسة ,ثم مقارنة النتائج المتحصلة مع اليقنيات النسبية التي فيها نوع من الثبات العلمي لتقرير الموافقة والمخالفة .
وهذا يستوجب أولا أن يكون الباحث في المخالفة بين الدين والعلم على إطلاع تام بالمنطق الديني ومنهجيته وما يتفرع من ذلك من مسائل ووسائل في فهم الدين , بمعنى أخر يجب أن يكون متبحرا بالدين وعارفا وكاشفا لكل أسراره حتى يتمكن من نقد القضية الدينية بوسائله العلمية التي هو في جدارة عالية من القدرة على أستعمالها وتطبيقها ,لأجل ذلك عليه أن يكون عالما في الدين للمستوى الذي يمكننا أن نطلق عليه قادر على الفهم التام وبذات الوقت عالما نقديا تجريبيا ذاع باع طويل ومقتدر في القضية العلمية , وهذا ما لم نحصل عليه متزامنا في شخصية واحدة ولمرة واحدة ليثبت لنا حقيقة التناقض المزعوم .
إن قضية التنازع بين الدين والعلم وفشل الأول في كشف إشكاليات الإنسان المادية ومعادلاته التي تغني الإنسان عن الجهد والتضحية والبذل ,هي في الحقيقة دعوى لا تستند إلى فهم حقيقة الوجود الإنساني ولا تنطبق مع ما يريده أو يتبناه العلم من أن التحصيل العلمي يعتمد على حقيقتين هما :.
1. الوعي المبني على القدرة على الكشف والرغبة في تبني حلول .
2. ولكي يكون الوعي كذلك لا بد من تنميته وحثه وبناءه ذاتيا بوسائل قبل العلمية ,لأن العلم تحصيل متراكم لتجربة حياتية عامة فيها الصحيح والخطأ وفيها الخيال واليقين , وفيها المحاولة والفشل حتى يصبح للوعي قدرة للفرز بين الأشياء وهذه الخطوة الأولى والأهم في بناء قضية العلم الأولى .
كيف تريد للإنسان أن يكون علميا وعالما وهو لم يتعرف بعد على أي من أساسيات المعرفة ولا يمر بالتجربة الوجوديه بشقيها المثالي والمادي ,وكيف له يبني مناطات القياس والمعايرة في الفرز والتصنيف وهو لم يمر بتجربة جادة وحادة ومتعبة ومحركة للنظام العقلي لدية لتحفزه على ما يريد أن يجعل منه هدفا غائيا .
الدين لم يكن منافسا ولا منازعا للوظيفة العلمية ولم ولن يكون بديلا عن كثير من الرؤى والأفكار والقيم والنظريات حتى التي تشترك معه بالهدف والوسيلة كالأخلاق والمعرفة المثالية ,فلكل من أوجه العلم الإنساني وظيفة محددة تتكامل مع الوظائف الأخرى وتتشارك في مسيرة إيصال الإنسان للكمالات البشرية , والذي حدث أن هناك أضطراب وصناعة تنازعات وأفتراض تناقضات أدت لتقديم شيء محل شيء وتعطيل قيم ومفاهيم لأجل أخرى ,جعلت من ميزان التوازن الطبيعي في أختلال خطير عندما تسند قضية لوظيفة ما لا تتناسب مع واقعها ولا مع أختصاصها ونطلب من هذا التلاعب والتحريف أن يصل بنا للنتيجة الحقيقية , والسبب في ذلك أختلال موازين الوعي الإنساني .
الخلط بين مسار القضية الدينية بفكرتها وهدفيتها من قبل الديان ومحاولة إقحامها خارج المدى الرسوم لها أصلا أو تكليفها أو حشرها حسب تصور البعض على أن القضية تتسع للتداخل بينها وبين بقية المجالات الحيوية للمعرفة الإنسانية ,واحدة من أساليب تشويه الدين والإساءة له أما بقصد نية سيء أو أحيانا من جهل مركب , كما لا يمكن للعلم مثلا أن يكون بديلا للمجال الحيوي الذي يحتوى الفكرة الدينية والتي تتمحور حول علاقة روحية عقلية إرشادية تهدف الى البحث عن خيارات الأحسن والأخير للإنسان من بين مؤثرات وتفاعلات ذاتية محصورة في الرغبات والأهواء النفسية وبين المؤثرات الخارجية المثيرة لهذه العوامل النفسية أو تستثار بها .
لا للعلم ينبغي له أن يكون بديلا عن فكرة الدين لأسباب عديدة وحاسمة ولا الدين بإمكانه أن يكون فاعلا ومنتجا في قضية العلم ,هذا القانون ينفي أفتراض التناقض بينهما , قد يستدل البعض على صور من التناقض بين ما يجده في الفكر الديني وليس بالدين كفكرة محكمة ومنضبطة بعلم الديان وبين بعض الصور والقوانين والنتائج العلمية , هذه الجزئيات أو التفسيرات أو التخريجات التي تشهد نوعا من تناقض لنتيجة قراءات اعتباطية ذاتية مأخوذ بصورتها من فهم قاصر لأصل فكرة الدين , ليس لها محل دفاع أو أي محاولة لتحصينها على أنها جزء من الدين ,والواجب هنا عقلا وعلما ودينيا أن يضرب بها عرض الجدار وبلا أسف .
في النهاية علينا أن نؤمن أن الدين واحد من الروافد الأساسية التي تستخدم في صناعة العقل وتأهيله ليكون على قدر وظيفة الإنسان في الوجود المتمثلة بخطي الأعمار والتعارف , وأن لا يكون العقل بواسطة القضية الدينية منشغلا بتأليه الدين وعبادته بدل أن يكون منميا لروح وجوهر فكرة الديان الأصلية الذي أرسل الدين من أجل بسطها وتحقيقي غائية العبادة التي هي تحقيق تطبيق المشروع الأخيري والأحسني للإنسان والوجود كاملا .
هذا الكلام الذي قدمنا فيه لبحثنا عن الدين وليس عن العلم لنؤكد حقيقة مهمة من حقائق التجربة الإنسانية ,بصيغتها العملية أن لا شيء يمكنه أن يفسر كل شيء ويعطيه بعدا عقليا ومنطقيا دون الاستناد إلى قواعده الخاصة والعامة , كما لا يمكن أن نهمل أي مفهوم على أنه غير ضروري ولا مفيد لنا وهو متواجد في الواقع ونتاجه فقط لأننا لا نرغب به أو لا يوافق تفكيرنا , الوجود الحياتي أو الحياة الوجودية مزيج متنوع ومتطور ومتبدل ومتغير يناسب ويتناسب مع الزمن ويتفاعل مع المكان ,ولا يمكننا بالفعل ولا بالفرض أن نستبعد هكذا تفاعلات لمجرد خطأ في المعالجة أو خطأ في التطبيق , وأحيانا الخطأ هو من يقودنا لإثبات الحقيقة من بين سلسلة الأوهام والخيبات إن كان العقل السوي هو من يريد الوصول لليقين النسبي .
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟