أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - ماثيو رينو - فكرة الشيوعية الإسلامية: حول ميرزا سلطان غالييف (1892-1940)















المزيد.....



فكرة الشيوعية الإسلامية: حول ميرزا سلطان غالييف (1892-1940)


ماثيو رينو

الحوار المتمدن-العدد: 7198 - 2022 / 3 / 22 - 22:22
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


الكاتب: ماثيو رينو

من خلال شخصية البلشفي التتري، ميرزا سلطان غالييف، يهتم ماثيو رينو هنا بتجربة قلّما ما هي معروفة: تجربة “الشيوعية القومية الإسلامية” كما تطورت في روسيا السوفياتي ولاحقاً في الاتحاد السوفياتي، منذ عام 1917 وحتى نهاية الـ 1920ات. قدمت النسخة الأولية من هذه الورقة بمناسبة مؤتمر التفكير بالتحرر (نانتير، شباط/فبراير 2014). نشرت الورقة في موقع revueperiode.net بتاريخ 24 آذار/مارس 2014



عام 1961، كتب فرانز فانون في كتابه معذبو الأرض:

“كان على التحليلات الماركسية أن تخفف من حدتها قليلاً حين تعالج مشكلة المستعمرات”.(1)

توفر هذه الفكرة نقطة انطلاق ممتازة لإعادة تفحص إشكالية مابعداستعمارية التي سماها المؤرخ الهندي ديبيش تشاكرابارتي “ترييف أوروبا“. يوجد في الواقع ضمن الدراسات حول التابع وما بعد الاستعمار ونزع الاستعمار مفهومين غير متجانسين ومتناقضين لترييف أوروبا، ويعتبر تشابكهما بشكل متعمد، مصدراً للغموض. هناك، من جهة، مفهوم من خلالاه يعني الترييف التخصيص، وبالنتيجة النسبية للفكر الأوروبي- والأوروبي المتمركز حول نفسه”، وخاصة الفكرة الماركسية. ومن جهة هناك مفهوم الترييف باعتباره امتداداً يؤكد الحاجة إلى توسيع وإزاحة حدود النظرية إلى خارج أوروبا كشرط لإمكانية تحقق أممية أصيلة. لقد شجب معارضو النقد المابعداستعماري حتى الآن وبشكل حصري الشكل الأول من هذين المفهومين للترييف، أي النسبية، بحيث أدركوا عن حق وجود انفصال عن الفكر المناهض للاستعمار والنضالات التحررية. ولكن لو كانوا أكثر انتباهاً إلى النوع الثاني، أي الامتداد، لكان بإمكانهم رؤية وجود جذور عميقة في الفكر المناهض للاستعمار، خاصة الماركسية المناهضة للاستعمار.


هناك عدة طرق لتتبع هذه الجينولوجيا، أي توضيح الاستمرارية وكذلك الفواصل التي تشكل أسس التاريخ المعرفي من النقد المناهض للاستعمار إلى النقد المابعداستعماري. ما أقترحه هنا هو النظر في مشكلة من وجهة نظر أساسية، هي مشكلة تأميم الماركسية، التي لا يؤدي ارتباطها المعتاد بسؤال “بسيط” حول “تكيف الماركسية مع الظروف الخاصة” باستعادة التعقيد بقدر ما، كما أثبت غرامشي وس.ل.ر. جايمس، أن هذا “التأميم” يتضمن عمليات حقيقية في الترجمة النظرية والتطبيقية. أشهر مثال على ذلك هو مشروع “صيننة الماركسية” الذي أجراه ماو تسي تونغ. في الحقيقة، وكما كتب الكاتب عارف ديرليك- وهو ناقد مجتهد لدراسات مابعد الاستعمار-: كانت إحدى أكبر نقاط قوة ماو كقائد هو “قدرته على ترجمة الماركسية إلى لغة صينية”، أي بكلمات أخرى، “جعل الماركسية عامة [بمتناول الجميع]”. (2)

حيث نرى بالفعل أن عمليات تأميم الماركسية لا يمكن اختزالها بالصيغة الستالينية: “قومية بالشكل، اشتراكية في المضمون”.

سأركز في ورقتي على تجربة أقل شهرة، وهي تجربة “الشيوعية القومية الإسلامية” كما تطورت في روسيا السوفياتية ولاحقاً في الاتحاد السوفياتي، منذ عام 1917 وحتى نهاية الـ 1920ات، وهي تبدو لي ضرورية لإعادة طرحها في هذه الأيام لثلاثة أسباب على الأقل:

أولا، إن الشيوعية الإسلامية، وكما يوحي اسمها، تثير السؤال الأكثر صلة من جهة بحركات التحرر البيضاء أو “من أصل أبيض” (حمراء، سوفياتية في حالتنا)، ومن جهة أخرى، بالإسلام والجماعات التي تدمجه بطرق متعددة بمطالبها السياسية؛

ثانياً، نحن أمام حركة تحرر مناهضة للامبريالية تطورت بالتنسيق مع عملية ثورية في قلب الإمبراطورية (الروسية)، وهو وضع تاريخي كان أبرز سابقة له هو تفرع الثورة الفرنسية والهايتية في بداية القرنين 18 و19؛

ثالثاً، نحن نتعامل مع “ثورة استعمارية” حصلت داخل الحدود الإقليمية لـ”المركز”، وإن كان ذلك على حدودها. لكن هذا ليس استثناء بقدر ما هو حالة حدية تكشف أنه، وضمن سياق امبريالي عالمي، لا تشكل القومية غير الأوروبية أبداً ما هو “خارج” الامبراطورية: إنما هي بالأحرى الحدود الدائمة. إن التفكير بتأميم الماركسية، وتحديداً البلشفية، لناحية ترييف أوروبا، لا يعني كثيراً التفكير في الآخر الراديكالي الذي كان على الماركسية-اللينينية أن تواجه نفسها به والتي لا يمكن أن تفشل في تغييره، وتنسيبه، وذلك للتفكير بالهوامش النظرية والعملية للبلشفية- التي هي نفسها ترجمة سابقة للماركسية في روسيا- ولتوسيعها، الأمر الذي يعني كذلك توضيح الطرق التي جرى بها إعادة التفكير في البلشفية في هوامش الإمبراطورية.

نظراً لعدم وجود ادعاء بإعطاء لمحة عامة عن الشيوعية القومية الإسلامية، فإنني هنا مهتم بما تبقى من شخصياتها الأساسية، أي المثقف البلشفي التتري ميرزا سلطان غالييف حيث نقل تروتسكي عن كامينيف قوله عند اعتقال غالييف الأول:


“إنه أول اعتقال لعضو بارز في الحزب يحصل بمبادرة من ستالين. […]، وهذا ما يظهر تعطش ستالين للدماء لأول مرة”. (3)

ولكن لنبدأ من البداية. (4)

ولد سلطان غالييف عام 1892 في بشكيريا، في كنف عائلة متواضعة جداً. عام 1907، التحق بمدرسة إعداد المعلمين في قازان، والتي سيتخرج منها أهم القادة القوميين المستقبليين. في السنوات التالية، قام بنشاط صحافي وانخرط في الحركات القومية الإسلامية. بعد شهرين، من ثورة شباط/فبراير عام 1917، شارك في موسكو في المؤتمر الأول لمسلمي روسيا وانتخب سكريتيراً لمجلس المسلمين في روسيا. في حزيران/يونيو 1917، وبعد لقائه بالمللا نور فاخيتوف- الذي سيطلق البيض النار عليه في آب/أغسطس 1918- انضم إلى صفوف البلاشفة. في تشرين الأول/أكتوبر 1917، انضم إلى اللجنة العسكرية الثورية في قازان وأصبح، إضافة إلى توليه مسؤوليات أخرى، رئيس الكلية العسكرية الإسلامية. كانت تلك الفترة بالنسبة له فترة تعاون مع ستالين، ثم تولى رئاسة مفوضية الشعب للقوميات (Narkomnatz). خلال تلك الفترة، كشفت أعمال سلطان غالييف ورفاقه عن 3 توجهات استراتيجية أساسية:

1. يستند الأول إلى تشكيل الجيش الأحمر المسلم، أو “الجيش الأحمر البروليتاري الشرقي”، (5) والذي “يعتبره سلطان غالييف، كما ماو من بعده، “طبقة اجتماعية” منظمة وهرمية ومسيسة جدا، قادرة على الحلول مكان البروليتاريا المحلية الضعيفة كقوة فعالة للثورة”.(6)

2. يمثل التوجه الثاني في إنشاء حزب شيوعي لمسلمي روسيا، وضع موضع التنفيذ في حزيران/يونيو 1918، يكون قادراً على الحفاظ على استقلالية الحركة الثورية الإسلامية التي قد تتعرض للخطر من خلال اندماجها في المنظمات التي يسيطر عليها الروس، وحتى السوفيتات.

3. التوجه الثالث- الذي يستمد جذوره من ما قبل ثورة 1917 بوقت طويل- يهدف إلى بناء جمهورية إسلامية تترية-بشكرية كبيرة، كانت قد وعدتهم بها “رسمياً” مفوضية الشعب من أجل القوميات آذار/مارس 1918.

في الوقت عينه، أرسى سلطان غالييف الأسس النظرية والأيديولوجية للشيوعية القومية الإسلامية والتي يمكننا كذلك تقسيمها إلى ثلاث نقاط:

1. يتعلق الأول بالعلاقات الطبقية، وبشكل متناسب، بالعلاقة بين الثورة الاشتراكية بالثورة القومية. مشدداً على تجانس البنية الاجتماعية المسلمة وغياب البروليتاريا التترية، أكد سلطان غالييف أنه من الضروري، في المرحلة الأولى من الثورة ترك قيادة الحركة إلى قياديين مسلمين من البرجوازية الصغيرة. أكثر من ذلك، وفي رد على معارضة لينين للأمم المضطهِدة والأمم المضطهَدة، دعا إلى “انتقام المضطهَدين من المضطهِدين وأعلن أن “كل الشعوب المسلمة المستعمَرة هي شعوب بروليتارية”. (7)


2. تتعلق النقطة الثانية بالعلاقة بين الثورة الاشتراكية والإسلام. إذا دافع سلطان غالييف عن الفكرة القائلة إن “الإسلام ككل الأديان محكوم عليه بالزوال” (8)، إلا أنه يؤكد رغم ذلك إلى أنه “من بين كل “الأديان الكبيرة”” في العالم، يبقى الإسلام هو الأصغر، إذاً الأكثر صلابة وقوة من خلال التأثير الذي يمارسه” وما تقدمه الشريعة الإسلامية من طروحات إيجابية وتقدمية: “التعليم الإجباري”، “الإلتزام بالعمل والتجارة”، “غياب الملكية الخاصة للأراضي والمياه والغابات”…، الطروحات التي يقترحها دون أن يقولها بشكل صريح، يمكن دمجها وتنمية بها المجتمع الشيوعي الآتي. من جهة أخرى، تكمن فرادة الإسلام في واقع “أنه خلال القرن الماضي، جرى استغلال العالم الإسلامي بأكمله من قبل امبريالية أوروبا الغربية”. كان الإسلام ما زال “ديناً مضطهَداً”(9)، وهذا الاضطهاد استتبع نشوء “إحساس من التضامن”، مقروناً برغبة عميقة بالتحرر. بالنسبة لسلطان غالييف، لا يوجد أي تعارض بين الثورة الاشتراكية والإسلام: يجب على الإنسان ألا يعمل على تدمير الإسلام، إنما نزع روحيته، أي “مركسته”.

3. النقطة الثالثة تتعلق بتصدير الثورة البلشفية، أو على حد قول سلطان غالييف نفسه، نقل “الطاقة الثورية” التي ولدت في روسيا إلى خارج حدودها. الثورة “يجب أن تتسع وتتعمق أيضاً بمضمونها الداخلي وفي مظاهرها الخارجية”.(10) ولكن السؤال هو معرفة الاتجاه الذي يجب أن تنتشر فيه وفقاً لأي جغرافيا؟ مثل غيره من الماركسيين غير الأوروبيين، مثل مانابندرا ناث روي، دعا سلطان غالييف إلى قلب ترتيب الأولويات بإعطاء الأولوية للثورة الاشتراكية في الشرق. ليس فقط لأن الأخيرة ليست غير مرتبطة بالنجاح السابق للثورة في أوروبا، إنما لأن ذلك من الممكن أن يعوّض فشل الثورة في ألمانيا والمجر. بالنسبة لسلطان غالييف، إن “الموقد الأوروبي” قد انطفأ، في حين يشكل الشرق “مادة غنية للغاية وقابلة جدا للاشتعال”.(11) ضمن هذه المقاربة، تصبح الثورة المناهضة للاستعمار شرطاً للثورة الأوروبية والعالمية، وليس العكس: “محرومون من الشرق ومقطوعون عن الهند، وأفغانستان وبلاد فارس، وسواها من المستعمرات الآسيوية والأفريقية، ستنهار الامبريالية الغربية وتموت موتاً طبيعياً”.(12) أخيراً، تتجسد قوة سلطان غالييف بالتأكيد على أن الشيوعيين المسلمين في روسيا هم الأكثر قدرة على ضمان هذه الدورة الثورية، ونشر الثورة السوفياتية في الشرق. من خلال الدعوة إلى اللامركزية، ضد مركزية موسكو، أمر سلطان غالييف القادة البلاشفة بجعل حدود روسيا، وهوامشها (أورايين) okrainy، مصدر الثورة في الشرق.

في هذا الوقت سرعان ما تفكك التحالف بين المسؤولين السوفيات والشيوعيين المسلمين، الذي فرضت تشكله الحرب الأهلية، ومنذ تشرين الثاني/نوفمبر 1918، تحول الحزب الشيوعي المسلم إلى الفرع المسلم في الحزب البلشفي. وبما خص الوعد بإنشاء جمهورية تترية-بشكيرية فقد تبخر بشكل تدريجي. أصبح سلطان غالييف شخصاً غير مرغوب فيه وتغيب عن المؤتمر الأول لشعوب الشرق في باكو في أيلول/سبتمبر 1920. وغالباً ما قلنا أن المؤتمر شكل قمة “الود” بين السلطة السوفياتية وحركات التحرر المناهضة للامبريالية في الشرق، اللحظة التي كانت قصيرة الأمد، والمشحونة بكل الآمال، جسدها إيعاز كامينيف:

“إثارة حرب مقدسة حقيقية (جهاد) ضد الرأسماليين الإنكليز والفرنسيين”. (13)

رغم ذلك، اتضح ما هو خلاف ذلك، على الأقل بالنسبة للشيوعيين المسلمين في روسيا الذين رأوا أن ادعاءاتهم بأنهم دعاة الثورة في الشرق قد جرى القضاء عليها من خلال التأكيد، من جهة، على معاصرة الثورة الاشتراكية والثورة القومية التي كان على قيادتها أن ترتاح “ليس إلى البرجوازية الراديكالية إنما إلى الفلاحين الفقراء”، ومن جهة أخرى “الأولوية المطلقة للثورة البروليتارية في الغرب على الثورة الاستعمارية”. (14) بالنسبة لسلطان غالييف، لم تكن هذه الانتقادات انتصاراً لمفهوم للثورة الأممية على مفهوم آخر، مفهومه، بقدر ما كان انتصاراً للشوفينية الروسية الكبرى، التي كان دائماً يخشى من إعادة تشكلها ويخافها ويلاحظها ويحاربها عند الشيوعيين الروس، والآتية من عقلية وممارسات استعمارية موروثة من الإمبراطورية القيصرية والتي أدانها جيورجي سافاروف في كتاب نشره عام 1921 بعنوان الثورة الاستعمارية(15). وقد حل الغضب على سلطان غالييف عام 1923. بعد أسابيع قليلة من المؤتمر 12 للحزب الشيوعي الروسي، ألقي القبض عليه في موسكو بأمر من ستالين وطرد من الحزب. واتهم بـ”التآمر” بسبب العلاقات التي كان يقيمها مع المسؤولين في المنظمات القومية المتمردة، من بينهم أحمد زكي فاليدوف، وحركة بسماتشي في آسيا الوسطى. شكلت هذه الإدانة بداية حملة واسعة من القمع ضد ما أطلق عليه اسم “سلطان-غالييفية”.

بين أيار/مايو 1923 ونهاية العام 1924، عندما تبددت الآمال بالعودة إلى الحزب، همش سلطان غالييف أكثر “داخل” السلطات الثورية السوفياتية ولكن ليس “خارجها” بعد. في السجن، حيث أمضى أكثر من شهر بقليل، كتب سيرته الذاتية، ووجهها إلى ستالين وتروتسكي، شرح فيها طروحاته حول الثورة الأممية:

“بدا لي أن الحركة الثورية في المستعمرات وشبه المستعمرات والحركة الثورية لعمال المدن كانت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً وأن تحالفهم المتناغم سيؤدي إلى نجاح الثورة الاشتراكية الأممية”. (17)

كان شرط إمكانية حصول الثورة العالمية، بالنسبة لسلطان غالييف هو التوليف والتكوين والدوران والتكثيف المتبادل للثورات الاشتراكية (في أوروبا) والثورات المناهضة للاستعمار (في الشرق)، حيث الأولى بقيت مع ذلك مستقلة عن الأخرى. ولكن، كما يقول، هو بالضبط ما حصل داخل روسيا:

“إن نجاح الثورة في روسيا يفسر بشكل دقيق من خلال التناغم بين مصالح البروليتاريا الروسية من جهة والتحرير الوطني والطبقي في المناطق المستعمرة المحيطة، من جهة ثانية. بهذا المعنى، تقدم روسيا جميع الميزات لمجال كبير من تجارب الثورة الأممية”. (18)

هذه الأطروحة الأصيلة للغاية هي شبيهة لتلك التي كتبها س.ل.ر. جايمس في كتابه “اليعقوبيون السود”، والتي نقلها عنه إدوارد سعيد:

“تتقاطع الأحداث في فرنسا وهايتي وتستجيب لبعضها البعض مثل الأصوات في معزوفة فوغا.” (19)



في 14 آب/أغسطس 1924، أرسل سلطان غالييف رسالة يطلب فيها إعادته إلى اللجنة المركزية للحزب. وفي حين رأى بإبعاده على أنه “عمل عقابي عادل”، كما أوضح أن “جريمته” لم تكن إلا “ردة فعل” لخطر أكثر خطورة، ألا وهو انتشار الشوفينية الكبرى. كما رفض أي تصور “تاريخاني” للثورة في الشرق:

“من المرجح أن تتطور الثورة عند مناطقنا الحدودية الشرقية بطريقة غير مخططة، ليس وفقاً لـ”خطة محددة سلفاً”، ولكن من خلال القفزات، ودون اتباع الخطوط المنحنية حتى، إنما تتبع الخطوط المتقطعة. وهذا ما يفسر حقيقة أن هذه المناطق قد عاشت تحت ظلم القيصرية الساحق”.(20)

في هذه المساحات التي هي على حدود الإمبراطورية، لا يمكن للزمانية الثورية إلا أن تكون زمانية متفجرة، مكونة من قفزات وانفجارات، وفترات من الركون والحرائق المفاجئة- وهي أطروحة لا تخلو من جديد من الوصف الذي قدمه س.ل.ر. جايمس حول السيرورة التاريخية في جزر الهند الغربية المكونة “من سلسلة من فترات الانحراف والاضطراب والتي تتخللها الاندفاعات والقفزات والكوارث”. (21)

لم ينجح طلبه بإعادته إلى منصبه، وكان على سلطان غالييف تبني استراتيجية مختلفة تماماً، والذي بات الآن على قطيعة كاملة مع السلطة السوفياتية- وبذلك بات “معادياً للثورة” من وجهة النظر هذه. وعلى الرغم من أن هذه الفترة من حياته غير معلومة إلى حد كبير، يعتقد أنه كتب برنامجاً بين عامي 1923 و1928، باللغة التترية بعنوان اعتبارات حول أسس التنمية الاجتماعية-السياسية والاقتصادية والثقافية للشعوب التركية،(22) والذي فقد مذاك ولكن جرى الاستشهاد به في العديد من الدراسات السوفياتية. جرى التعبير عن قطيعة سلطان غالييف بشكل خاص من خلال نزع أبوة أوروبا عن المادية الديالكتيكية، والتي سماها “مادية الطاقة”، والتي تستمد جذورها من الشرق، عند المغول. هذا التحول المعرفي ليس من دون دلالة لأنه يشكل مساهمة في القطيعة الأيديولوجية والاستراتيجية بشكل عام. قدم سلطان غالييف فكرة قيام “جبهة مشتركة للمضطهدين” تجمع “كل الطبقات في المجتمع الإسلامي، ما عدا البرجوازية الكبيرة والإقطاعية” وتلتئم عند “الفكرة التقليدية للأمة- مجتمع المؤمنين”. (23) وبشكل أكثر جذرية حتى، استبدل التعارض بين “الرأسمالي-المستغل” بالتعارض بين “الصناعي-المتخلف[اقتصادياً]” وأعلن أن العدو ليس فقط “برجوازية القوى الامبريالية إنما المجتمع الصناعي بأكمله” (24)، بالطبع كان الاتحاد السوفياتي جزءا منه.(25) وبحسب وجهة نظره، إن “تصفية الثورة الاشتراكية في روسيا” بحيث لا يمكن إصلاحها بعد ذلك وستكون مترافقة بالضرورة بزيادة منسوب الشوفينية الروسية الكبرى وبشكل عام سيطرة الغرب على الشعوب المسلمة. ولتجنب ذلك، هناك حل واحد فقط: “هيمنة العالم المستعمَر على “القوى الأوروبية””(26) أو بحسب كلماته، “ديكتاتورية الدول المستعمَرة وشبه المستعمَرة على الحواضر الصناعية”(27). ولذلك هناك ضرورة للعمل على إنشاء أممية استعمارية “شيوعية إنما مستقلة عن الأممية الثالثة، وحتى متعارضة معها”(28) بحيث يكون مركزها في دولة تركية ضخمة داخل روسيا، اسمها جمهورية طوران، بقيادة “حزب الاشتراكيين في الشرق”.

كانت تلك المهام هي التي كرس سلطان غالييف نفسه سراً لها، حتى ألقي القبض عليه عام 1928. وحكم عليه بالإعدام يوم 28 تموز/يوليو 1930، وخففت عقوبته في بداية العام 1931 إلى السجن لمدة 10 سنوات. أطلق سراحه عام 1934، واعتقل من جديد عام 1937 وحكم بالإعدام نهاية العام 1939. وقد نفذ الحكم عليه رمياً بالرصاص يوم 28 كانون الثاني/يناير 1940،(29) تاركاً إرثاً لكثير من الذين حاولوا التفكير بربط الاشتراكية بمسار إنهاء الاستعمار، خاصة في العالم الإسلامي وعلى وجه التحديد في الجزائر؛(30) وهو إرث يتطلب اليوم، ليس أقل من أمس، التأمل به، ليس فقط في المستعمرات والمستعمرات السابقة، ولكن أيضاً وربما قبل كل شيء، في عواصم الاستعمار السابقة خلال ما بعد الاستعمار.

الهوامش:

1. فرانتز فانون، معذبو الأرض تر. سامي الدروبي وجمال الأتاسي، ص. 42-43

2. Arif --dir--lik, « Mao Zedong and “Chinese Marxism” » in Companion Encyclopedia of Asian Philosophy (edited by Brian Carr and In--dir--a Mahalingam. Londres et New York : Routledge, 1997, pp. 593-601.

3. Léon Trotsky, « Suppléments » à Staline, « II : Kinto au pouvoir », dernière consultation le 8 février 2014

4. Je prends essentiellement appui sur les quelques essais de Sultan Galiev traduits en français (in Alexandre Bennigsen et Chantal Quelquejay, Les mouvements nationaux chez les musulmans de Russie. * Le « sultangaliévisme » au Tatarstan. Paris et La Haye, Mouton & Co, 1960) ainsi que sur des sources secondaires, au premier rang desquelles deux ouvrages d’Alexandre Bennigsen et Chantal Quelquejay (Alexandre Bennigsen et Chantal Quelquejay, Le « sultangaliévisme » au Tatarstan, op. cit. Alexandre Bennigsen et Chantal Lemercier-Quelquejay, Sultan Galiev, le père de la révolution tiers-mondiste. Paris : Fayard, « Les inconnus de l’histoire », 1986 voir également Maxime Rodinson, « Communisme et tiers monde : sur un précurseur oublié » (1960) in Marxisme et monde musulman. Paris, Éditions du Seuil, 1972) Enfin, je me réfère occasionnellement au volume des écrits de Sultan Galiev en russe, et dans un moindre mesure en tatar, publié en Russie en 1989 et dont l’exégèse demande encore à être faite (Mirsaid Sultan Galiev, Izbrannyje troudy. Kazan, Gasyr, 1998).

5. « Deuxième Congrès des Organisations Communiste des Peuples d’Orient : Résolution sur la Question d’Orient » présenté par Mirsaid Sultan Galiev, Žizn’ nacional’nostej (La vie des nationalités), n° 46 (54), 7 (20) décembre 1919, n° 47 (55), 14 (27) décembre 1919, reproduit in Alexandre Bennigsen et Chantal Quelquejay, Le « sultangaliévisme » au Tatarstan, op. cit., p. 214).


6. Alexandre Bennigsen et Chantal Lemercier-Quelquejay, Sultan Galiev, le père de la révolution tiers-mondiste, op. cit., p. 123. Voir également Mirsaid Sultan Galiev, Les Tatars et la révolution d’octobre, Žizn’ nacional’nostej (La vie des nationalités), n° 24 (122), 5 novembre 1921, reproduit Alexandre Bennigsen et Chantal Quelquejay, Le « sultangaliévisme » au Tatarstan, op. cit., p. 219-225.

7. Mirsaid Sultan Galiev, cité par Alexandre Bennigsen et Chantal Quelquejay, Le « sultangaliévisme » au Tatarstan, op. cit., p. 105.

8. Mirsaid Sultan Galiev, cité par Alexandre Bennigsen et Chantal Quelquejay, Le « sultangaliévisme » au Tatarstan, op. cit., p. 106.

9. Mirsaid Sultan Galiev, « Les méthodes de propagande anti-religieuse parmi les musulmans », Žizn’ nacional’nostej (La vie des nationalités), 14 décembre 1921 et 23 décembre 1921, reproduit in Alexandre Bennigsen et Chantal Quelquejay, Le « sultangaliévisme » au Tatarstan, op. cit., p. 228.

10. Mirsaid Sultan Galiev, « La révolution sociale et l’Orient », Žizn’ nacional’nostej (La vie des nationalités), n° 38 (46), 5 octobre 1919, n° 39 (47), 12 octobre 1919, n° 42 (50), 2 novembre 1919, reproduit in Alexandre Bennigsen et Chantal Quelquejay, Le « sultangaliévisme » au Tatarstan, op. cit., p. 207.

11. Ibid., p. 211.

12. Ibid., p. 212.

13. Voir Ian Birchall, « Un moment d’espoir : le congrès de Bakou 1920 », Contretemps web, dernière consultation le 5 février 2014.

14. Alexandre Bennigsen et Chantal Quelquejay, Le « sultangaliévisme » au Tatarstan, op. cit., pp. 139-140.

15. Giorgi Safarov, Kolonial’naja revolucija (La révolution coloniale). Opyt Turkestana, Gosudarstvennoe izdatel’stvo, 1921, réimprimé par Society for Central Asian Studies, Oxford, 1985. أرسل لينين سافاروف عام 1920 إلى كازاخستان لتصفية اللامساواة بين المستعمرين الروس والشعوب المحلية عن طريق إعادة الأراضي البور إلى الأخيرين التي تركها الأوائل. قبل فترة قصيرة، استدعى لينين إلى موسكو “كل الشيوعييين في تركستان المصابين بعدوى العقلية الاستعمارية الروسية” (Jean-Jacques Marie, « Quelques divagations », Les Cahiers du monde ouvrier, n° 46, avril-mai-juin 2010, p. 143). باتت المعركة ضد الشوفينية الروسية العظمى الآن، ضد ستالين وحلفائه حيال مسألة جورجيا، أصبحت تشكل “معركة لينين الأخيرة” (Voir Moshe Lewin, Le Dernier combat de Lénine. Paris : Édition de Minuit, 1978 كتيب لينين “حول مسألة القوميات والحق بتقرير المصير” الذي تلاه في كانون الأول/ديسمبر 1922 عندما سمحت صحته بذلك، ولكن لم ينشر إلا عام 1956).


16. “المؤتمر الرابع للجنة المركزية للحزب الشيوعي مع العمال المسؤولين من الجمهوريات والأقاليم الوطنية (9-12 حزيران/يونيو 1923)، “خطاب ستالين”، أعيد إصداره في Alexandre Bennigsen et Chantal Quelquejay, Le « sultangaliévisme » au Tatarstan, op. cit., pp. 239-245. ملخص المؤتمر- المتضمن على وجه التحديد إفادات أقارب سلطان غالييف وتروتسكي- نشر في روسيا عام 1992: Tajny nacional’noj politiki CK RKP. Stenografičeskij otčet sekretnogo IV soveščanija CK RKP, 1923 g. (Les secrets de la politique nationale du Comité central du Parti communiste russe : Rapports sténographiés de la quatrième ré--union-- secrète du Comité central du Parti communiste russe, 1923). Moscou : INSAN, 1992.

17. Mirsaid Sultan Galiev, « Avtobiografičeskij očerk “Kto ja ?” : Pis’mo členam Central’noj kontrol’noj komissii, kopija – I.V. Stalinu i L.D. Trockomu. 23 maja 1923 » (“سيرة ذاتية: من أنا؟”: رسالة إلى أعضاء في لجنة المراقبة في اللجنة المركزية، نسخة إلى كل من ستالين وتروتسكي، 23 أيار/مايو 1923) in Izbrannye trudy, op. cit., p. 446-509.

18. Ibid.

19. Edward W. Said, Culture et impérialisme. Paris : Arthème Fayard, Le Monde diplomatique, 2000, p. 388.

20. Mirsaid Sultan Galiev, « Zajavlenie v Central’nuju kontrol’nuju komissiju RKP (b) s pros’boj o vosstanovlenii v partii. 8 sentjabrja 1924 g.» (« Demande de réintégration au Parti adressée à la Commission centrale de contrôle. 8 septembre 1924 ») in Izbrannye trudy, op. cit., pp. 516-522.

21. C.L.R. James, « De Toussaint Louverture à Fidel Castro » (1963) in Les Jacobins noirs : Toussaint Louverture et la Révolution de Saint-Domingue. Paris : Éditions Amsterdam, 2008, p. 360.

22. Alexandre Bennigsen et Chantal Lemercier-Quelquejay, Sultan Galiev, le père de la révolution tiers-mondiste, op. cit., p. 221. يذكر بينيغسين وكيلكيجاي كذلك برنامج الحزب التركستاني السري إيرك “المحتوي على العديد من النقاط المستوحاة من نظريات سلطان غالييف” (ibid., p. 224).

23. Alexandre Bennigsen et Chantal Quelquejay, Le « sultangaliévisme » au Tatarstan, op. cit., p. 105.

24. Ibid., p. 103.

25. Ibid., p. 103.

26. Ibid., p. 180.

27. Sultan Galiev, cité par Alexandre Bennigsen et Chantal Quelquejay, Le « sultangaliévisme » au Tatarstan, op. cit., p. 180.

28. Alexandre Bennigsen et Chantal Quelquejay, Le « sultangaliévisme » au Tatarstan, op. cit., p. 180.

29. Robert Landa, « Sultan Galiev », Cahiers du mouvement ouvrier, n°19, décembre 2002-janvier 2003, p. 88.

30. ادعى الرئيس الأول بعد الاستقلال، أحمد بن بلا أنه تأثر بفكر سلطان غالييف، وعلى نحو خاص بفكرته عن “الأممية المستعمرة”. كما كان سلطان غالييف كذلك في الجزائر موضوع عمل روائي متميز للكاتب حبيب تنغور، سلطان غالييف أو نقص المخزون، حيث شبهه بالشاعر الروسي سيرغي إسينين (Habib Tenguour, Sultan Galiev ou la rupture des stocks. Paris : Sindbad, 1985).



#ماثيو_رينو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الانتخابات التشريعية الفرنسية: اليمين المتطرف على أبواب السل ...
- رئيس وزراء فرنسا محذرا: اليمين المتطرف على أبواب السلطة (فيد ...
- صحيفتان من أبرز صحف بريطانيا تعلنان دعم حزب العمال في الانتخ ...
- وجه فرنسا يتغير.. اليمين المتطرف يتصدر الانتخابات البرلمانية ...
- صحيفتان من أبرز صحف بريطانيا تعلنان دعم حزب العمال
- فرنسا.. حزب ماكرون في طريقه لخسارة كبيرة أمام اليمين المتطرف ...
- اليمين المتطرف يتصدر بفارق كبير الدورة الأولى من الانتخابات ...
- فرنسا: اليمين المتطرف يتصدر الانتخابات وائتلاف ماكرون ثالثا ...
- الدار البيضاء: احتجاج عائلات المختطفين مجهولي المصير وضحايا ...
- اليمين المتطرف يتصدر انتخابات فرنسا ونسبة المشاركة قياسية


المزيد.....

- ليون تروتسكى فى المسألة اليهودية والوطن القومى / سعيد العليمى
- كيف درس لينين هيغل / حميد علي زاده
- كراسات شيوغية:(الدولة الحديثة) من العصور الإقطاعية إلى يومنا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كراسات شيوعية:(البنوك ) مركز الرأسمالية في الأزمة.. دائرة لي ... / عبدالرؤوف بطيخ
- رؤية يسارية للأقتصاد المخطط . / حازم كويي
- تحديث: كراسات شيوعية(الصين منذ ماو) مواجهة الضغوط الإمبريالي ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كراسات شيوعية (الفوضى الاقتصادية العالمية توسع الحروب لإنعاش ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - ماثيو رينو - فكرة الشيوعية الإسلامية: حول ميرزا سلطان غالييف (1892-1940)