|
الجريمة والعقاب : طريق نجيب محفوظ في بحث مقارن 3 / 3
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 1668 - 2006 / 9 / 9 - 10:03
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
بيئة وشخصيات : البعدُ الرمزيّ
1 ـ كرنفال المكان والزمان
إن تفكيك وتركيب معمار البنى الأساسية لقصتيْ دستويفسكي ومحفوظ ، وهو ما حاولنا القيام به في ما سبق من دراستنا ، قد يسهل علينا مهمة إجراء المقاربة المناسبة ، المفترضة ، فيما يخصّ بيئتها وأبطالها ، أيضاً . علماً بأنه لم يكن في وارد خطتنا هنا ، التطرق إلى الأسلوب الفني الخاص بكلا المؤلفين ، إلا ما كان ضمن ثيمة المقارنة . وإستكمالاً لبحثنا هذا ، سنحاول كذلك تكوين صورة عامة عن البعد الرمزيّ ، الواحد ، لموضوعتيْ المكان والزمان في روايتيْ " الجريمة والعقاب " و " الطريق " ، تمهيداً للدخول في البعد نفسه ، فيما يتعلق بشخصياتهما ؛ وهما الروايتان الكلاسيكيتان ، التي تسعى مقاربتنا هذه لجمعهما مع بعضهما ، بإفتراض إنعكاس إحداهما في الاخرى . لا بد قبل كل شيء من القول ، بأنّ المكان لدى دستويفسكي الروائي ، قد إكتسب مدلولاً بالغ الأهمية ، إن كان على مستوى الفكرة أو الرمز . وخليق بالملاحظة هنا ، أن تكون بطرسبورغ هي مكانُ أحداث " الجريمة والعقاب " ؛ هيَ المدينة الكبرى ، التي تتجاور في أبنيتها ومساكنها أنواع البشر المختلفة ، وتزخر طرقاتها بالأفكار والأحلام والأوهام والهذيانات . إن كل اللقاءات الحاسمة ، على تأكيد باختين ، الناقد الروسي ، بين إنسان وإنسان وبين وعي ووعي ، تقع في آخر لحظات الأزمة : " أي تقع في مكان وزمن أسراري وبطريقة كرنفالية " . (1)
إنّ فعل " التخطي " ، الموحي بالمكان ، شكّلَ كما لاحظناه في ما سلف من دراستنا ، أساسَ فكرة " راسكولنيكوف " ؛ بطل رواية دستويفسكي هذه . الفكرة ، المترسخة في لا وعيه ، عن " العائق " الأخلاقي الذي يتوجّب على صنو نابليون أن يتجاوزه . هذا البطل ، يجدُ في الطرقات مكاناً مناسباً لأحلامه وأفكاره ، فضلاً عن ما يتوفر فيها من شتى المصادفات المحتملة : " ألم أذهبَ إلى هناك وأنا أعرف أن كل شيء سيتم ، وكأنه مسطور في كتاب ؟ وعلى الرغم من أنه ألقى على نفسه هذا السؤال للمرة المائة منذ أمس ، فإنه إستمرّ يتابع الطريق " (2) . أجل ، الطريق الذي سيمضي فيه ، إلى النهاية ، بطل " الجريمة والعقاب " ؛ ومن سيتابعه ، بعد قرن كامل ، " صابر " ، بطلُ رواية " الطريق " . فمما له مغزاه حقا ، بالنسبة لمبدعنا المصريّ نجيب محفوظ ، أن تحمل نصف رواياته أسماء أمكنة ؛ وفيها بطبيعة الحال ، الرواية موضوع هذا البحث : " وسرعان ما توثقت علاقات خفية بينه وبين الفندق ، كأنما جاءه على ميعاد ، ووجدَ نفسه يعبرُ الطريق نحوه " (3) . ها نحنذا ، هنا أيضاً ، أمام فعل " التخطي " ، سالف التنويه ؛ والمنوّع من فعل " يعبرُ " . هذا الفعل ، مشروط بالعلاقة بين صابر والفندق . وليس مصادفة ، على رأينا ، أنّ ذلك الفندق حملَ إسم " القاهرة " : فالمرموز هنا ، هوَ المكان الذي سيقرر مصير بطل الرواية .
إنتبه غروسمان ، الناقد الروسي ، إلى إرتباط " الجريمة والعقاب " بالفترة الزمنية التي كتبت فيها . لقد إقترح في هذا الشأن ، أن يكون للرواية عنوان آخر ، هوَ " 1865 " ؛ مبرراً ذلك بأنّ هذه الرواية ، لم تكن إلا صدى للتيارات الفكرية والأخلاقية ، السائدة آنذاك (4) . إن رواية محفوظ ، " الطريق " ، التي صدرت عام 1964 ، عبّرت بدورها عن أزمة بطلها في خضم التغيّرات المصاحبة لتحوّل مصر إلى نوع من رأسمالية الدولة . وإذا كان إقتراحُ ناقدنا الروسيّ حصيفاً ، بالنسبة لزمن الرواية ، فإننا نجدُ إسم " الطريق " ، الموحي بالمكان ، الأكثر مناسبة كعنوان آخر ، مقترح ، لرواية " الجريمة والعقاب " ، التي بين أيدينا ! وعلى كل حال ، فإنّ كلاً من دستويفسكي ومحفوظ لم يفصل الإبداع عن الظروف التاريخية والإجتماعية ، ولم يسمحا ، بالمقابل ، أن يذوب فيها . بقي أن نقول ، أنّ " الجريمة والعقاب " و " الطريق " ، تتخطيان الزمن التقليدي إلى الزمن المأزوم ، الذي يعادل فيه اليوم أعواماً . فبتقليص اللحظة الزمنية ، هنا وهناك ، صار للأحداث بعداً دراماتيكياً عاصفاً .
2 ـ شخصيات المغامرة
أ ـ البطل :
إنّ خصوصية المكان والزمان ، في " الجريمة والعقاب " و " الطريق " ، ما كان لها إلا أن تنعكس على مسارات شخصياتهما ومصائرهم . ونلاحظ هنا ، أنّ ما يجمع بطليْ العمليْن ؛ راسكولنيكوف وصابر ، كون كل منهما بلا سيرة حياة متشكلة سردياً ، فضلاً عن أنّ الماضي لديه يتحدد في بعض الذكريات المرتبطة جوهرياً بالحدث " الراهن " . إنّ مرتكبَ الجريمة ( أو الخطيئة ) ، يُنظر إليه بوصفه البطل الذي يجرؤ على خرق القانون العام ـ المشترك ، بين أفراد المجتمع . وحينما تكون الجريمة مرتبطة بـ " فكرة " ما ، متسلطة على إرادة البطل ، فإنّ إزدواجية شخصيته تكمن هنا : أيْ تناقض فعله الدموي ، المرتكب ، مع هدفه المنزه عن الأغراض الأنانية . ويعتبرُ مفهوم " الإزدواجية " ، الموصوف ، أهم ميزة لرؤيا كل من محفوظ ودستويفسكي ، فيما يخصّ بطليْ روايتيهما . أما أهم المفاصل المشتركة بين هذين البطلين ، فنعتقد أنها محددة على مستوى الشخصية ، بهذه النقاط : أ ـ تغرّب كلاهما عن الوسط الذي يحيا فيه . فراسكولنيكوف ، بنظر زملائه في الدراسة ، كان إنساناً متكبراً ؛ وهوَ من جهته ينظر إلى من حوله بإزدراء : والأمر مع صابر ، أنه كان يعتبر أفراد المجتمع الذي نشأ هو بين ظهرانيه أعداءً ؛ فيما كان هؤلاء ينظرون بسخرية إلى تكبّره وتعاليه عليهم . ب ـ حساسية كلا البطلين من الأقاويل ، المتداولة في وسطه ، ولمتناولة بالسوء سيرة أفراد من عائلته . ج ـ تطابق الصفات الشخصية لراسكولنيكوف الطالب ، مع ما نعلمه عن بيوغرافية المؤلف دستويفسكي ، حينما كان طالباً : وفي " الطريق " ، نعلم أن صابراً عانى طويلاً من الصرع ؛ وهوَ المرض المرتبط بإسم دستويفسكي . د ـ تهمة " الجنون بخيال " ، تلاحق إجتماعياً كلا البطليْن .
في حالة الجريمة المزدوجة ، التي إرتكبها راسكولنيكوف ، نجدُ أنّ قتله للمرابية العجوز كان متعمداّ ، فيما أنّ مصرع أختها جرى بغير إرادته ورغبته . وهنا يصحّ التأويل النقديّ لكلمة البطل ، عندما هتف : " إنني قتلت نفسي وليس العجوز " ( ص 681 ) ؛ من أنّ البطل يُعلن الحقيقة الكامنة وراء الجريمة . إذ أنّ ضحيتيْه تمثلان قطبَيْ نفسه ، الداخليين : التسلط والخنوع (5) . وهذه الإزدواجية لدى البطل ، يقرها أيضاً أحد أصدقائه ، بحديثه عن راسكولنيكوف : " إنّ في جسده عقليتيْن متناقضتيْن " ( ص 367 ) . وعنصر الترميز ، المدهش ، في " الجريمة والعقاب " ، يبرز خصوصاً في شخصيّة " سفيدريكايلوف " : إنه يمثل ما يمكن وصفه بـ " القرين " / أو الصنو المشوّه لراسكولنيكوف . فهذا الرجل ، الذي عملت دونيا في منزله كمربية وعانت ما عانته من تحرشاته الفظة ، لم يكن يهمه إقتراف أعمال مشينة في سبيل مطامعه الشخصية أو نزواته الخسيسة . جدير بالتنويه أيضاً ، أنّ سفيدريكاليوف هذا ، هوَ الوحيد من بين شخصيات الرواية الذي يخرق مسألة تفرد بطلها بالسرد : " إنّ هذا الرجل أصبح منذ زمن ما ضرورة ملحة بالنسبة إليه . ولكن ما هو التفاهم أو التشابه الذي يجمع بينهما ؟ " ( ص 747 ) . نلتفتُ إلى رواية " الطريق " ، وإذا ببطلها أيضاً قد إرتكب جريمة مزدوجة . إنه يقتل العجوز أبو النجا ، بشكل مدروس ومخطط له . فيما نراه بعدئذٍ وقد وقعَ ضحية مكيدة ، ماكرة ، تجرّه إلى قتل عشيقته كريمة ، ويغير وعي منه . إننا هنا ، نستطيعُ الإفتراض بأنّ الضحيتيْن تمثلان قطبيْ نفس البطل ، الداخليين . وهذا ما يذهب إليه السرد ، من أنّ إلهام بلقائها مع صابر : " كشفت عن طبيعة ثانية فيه " ( ص 44 ) . كما ويجوز لنا الإفتراض ، بأنّ الرحيمي ( والد صابر ، المختفي ) ، قد مثل بالنسبة لإبنه نوعاً من " القرين " . فعلى الرغم من أننا لا نقع ، في السرد ، على أثر حيّ لهذا الرجل ؛ إلا أنّ معلوماتنا عنه ، تأتت عن طريق محامي إبنه ، صابر : إنه رجلٌ يذكرنا ، فوراً ، بسفيدريكايلوف ؛ خصوصاً أن المبدأ الذي إشترعه لحياته قائم على إرتكاب المحرمات في سبيل إرضاء نزواته . علاوة على أنّ شخصية الأب هذا ، تتجسّد في أحلام صابر وهذياناته ، علاوة على مونولوجه : " أبي .. لمَ تصرّ على الإختفاء ؟ قال : " أمكَ تظن أنها قتلتني ، وفي الحقيقة أنا الذي قتلها " . إذن فأنت مخيف ، لأنك قاتل " . ( ص 89 )
تحدثنا فيما سبق ، في الحلقة الاولى من هذه الدراسة ، عن ملامح البطل الأسطوري ، الهائم في رحلة البحث عن معنى الوجود والحياة . يجدر القول هنا ، أنّ شخصيات الأساطير والمغامرة ، قد تماهت في أعمال دستويفسكي ومحفوظ ، على السواء . حيث جرى هنا وهناك ، إسباغ المعاصرة على تلك الشخصيات الأسطورية ، من خلال نماذج إنسانية فريدة . وكتب " باختين " ، الناقد الروسي ، بخصوص أدب مواطنه دستويفسكي : " إنّ المهمات التي تمليها الطبيعة البشرية الخالدة ( المحافظة على الذات ، التعطش للفوز والغلبة ، التعطش للتملك ، الحبّ الحسيّ ) ؛ هذه المهمات ، هي التي تحدد المحور المغامري " (6) . والرواية ، كما هو معروف ، تطورت عن قصص المغامرة ، والمستلهمة بدورها الأسطورة . ويعتبر الباحث الانتربولوجي ، " ستراوس " ، أنّ الأسطورة هي التي تقف خلف المواد القصصية ، المعالجة مظهراً خاصاً لثقافة معينة (7) . من جهتنا ، نفترض هنا وجود سمات مشتركة بين أسطورة " أوديب " ، تحديداً ، وبين الروايتيْن موضوع هذا البحث ؛ كما تجلى لنا في عدة نقاط أساسية ، وكذلك : " حين يكون صحيحاً أنّ كلّ قصة ( كلّ كشفٍ عن الحقيقة ) ، إنما هيَ إظهارٌ للأب الغائب (المختبيء ، أو المؤقنم ) " (8) . وقد عمدنا فيما يلي إلى جدولة الثيمات الأسطورية لقصة " أوديب " مع الموتيفات الروائية لقصتيْنا موضوع البحث ، ومن ثم ألحقنا بكل منها خطاطة مفترضة ، منظمة وفقاً لتأويلنا لسياقها ومدلولاتها . دون أن ننسى التنويه هنا ، بأنّ هدف مقاربتنا هوَ إستدلاليّ لا إستنتاجيّ :
ـ أوديب / إسمه يعني " القدَم المتورّمة " (9) : 1 ـ حلم لايوس الأب = نذير خرق القوانين . 2 ـ النشوء مع أب مزيّف ، ثمّ رحيله في فتوته إلى " طيبة " = البحث عن الأب . 3 ـ في الطريق يقتلُ الإسبارطيّ ، ثمّ يخلص المدينة من أبي الهول = حوافز خرق القوانين . 4 ـ يتزوّج جوكاستا = إرتكاب الخطيئة . 5 ـ غضب الآلهة وما أعقبها من فقئه عينيه بعيد إنتحار جوكاستا = الجزاء . 6 ـ تؤازره إبنته أنتيغونا في منفاه = عودة إلى الأصل .
ـ راسكولنيكوف / إسمه يعني " المنشق " : 1 ـ يفقد أباه منذ الصغر ، ثمّ يرحل شاباً إلى " بطرسبورغ " = البحث عن الأب . 2 ـ مقالته في الصحيفة عن " تخطي العائق " ، ثمّ تلقيه رسالة الأم ولقائه والد سونيا = حوافز خرق القوانين . 3 ـ الحلم = نذير خرق القوانين . 4 ـ يقتل المرابية وأختها = إرتكاب الخطيئة . 5 ـ إستنفار السلطات ، ثمّ الإعتراف والحكم بالسجن = الجزاء . 6 ـ تؤازره سونيا ودونيا في منفاه = عودة إلى الأصل .
ـ صابر / إسمه طباق لمعنى " المتمرد " : 1 ـ يكتشف حقيقة الأب المفقود ، ثمّ يرحل شاباً إلى " القاهرة " = البحث عن الأب . 2 ـ الإعلان في صحيفة " أبو الهول " ، ثم عشقه لكريمة = حوافز خرق القوانين . 3 ـ الحلم = نذير خرق القوانين . 4 ـ يقتل زوج كريمة = إرتكاب الخطيئة . 5 ـ إستنفار السلطات ، ثم يقتل كريمة ويحكم بالإعدام = الجزاء . 6 ـ تؤازره إلهام حتى النهاية = عودة إلى الأصل .
ب ـ الآخرون :
" هل تفهم يا سيدي العزيز ، ماذا يعني أن تجدَ كل الطرق قد سدت في وجهك ؟ ـ تذكرَ فجأة السؤال الذي طرحه عليه مارميلادوف أمس ـ " ذلك أن كل إنسان بحاجة إلى أن يجد ولو طريقاً واحداً يستطيع أن يسلكه " . هذا الخطاب ، هو جزء من مونولوج طويل ، يحتدم في نفس راسكولنيكوف . إنه يستعيد فيه محاورات الأبطال الآخرين معه ، ثم يقوم هو بمجادلتهم . هكذا ، نجد هذه الشخصيات قد دخلت ، منذ الصفحات الأولى للرواية ، في وعي البطل . علاوة على ملاحظتنا ، أن معظم أولئك الأبطال يتقاسمون السكنى ، أو يتجاورون ، مع بعضهم البعض وبطريق المصادفة . ذاك المونولوج ، إذاً ، الذي يؤكد على مفهوم " الطريق " ، لا يمكن إلا أن يُحيلنا إلى الرواية المحفوظية ؛ " الطريق " ، ليسَ بتأكيدها على العنوان حسب ، بل كمكان ورمز . ففي هذه الرواية الأخيرة ، القرينة على فرضنا ، نتحسس إسلوب محفوظ ، المونولوجي ؛ الجديد آنئذٍ ، والذي كتبَ به قبلاً روايتيْن ، هما " اللص والكلاب " و " السمان والخريف " . يقوم إسلوب كاتبنا هذا ، المستحدث ، على حكر السرد بشخصية البطل . وفضلاً عن تلك التوافقات الإسلوبية بين روايتيْ " الجريمة والعقاب " و " الطريق " ، من ناحية طريقة السرد ، فإن هذه الأخيرة ، أتاحت لبطلها أيضاً ثيمة " الصدفة " ؛ بما كان من لقائه مع معظم الشخصيات الاخرى ، وفي يوم وصوله لمدينة القاهرة . غير أن وحدة الشخصية في السرد ، هنا وهناك ، يجب ألا تحجب عن أعيننا إسلوب كل من المؤلفيْن ؛ المبنيّ على دمج أكثر من قصة في السياق السرديّ ذاته . لا بل إن دستويفسكي ، من جهته ، يسمح لبطل آخر ( هوَ سفيدريكايلوف ) بخرق وحدة السرد في روايته ، وبالتالي بخرق توحّد بطلها نفسه بالمونولوج . ولكن ، دعونا الآن نمضي في مقاربتنا ، الشاملة أولئك الأبطال الآخرين .
سونيا / كريمة :
ما أن يلمّ راسكولنيكوف بقصة سونيا ، عن طريق والدها ، حتى يختارها شريكة " فكرته " القائمة على قتل المرابية . غير أن إنتماء حبيبته هذه ، بحسب تصنيفه ، لفئة " الخانعين " في المجتمع ، يجعله في حوار جدليّ معها . إلا أن بطلنا نفسه ، كما سبق ونوهنا ، يعاني من إنفصام في شخصيته ؛ وبالتالي فإن مجادلته تلك إنما هيّ مجادلة مع أحد قطبيْ نفسه بالذات ؛ أيْ الخنوع . ها هوَ راسكولنيكوف يجدُ " قريناً " لسونيا ؛ إنها ليزافيتا ، أخت المرابية ، والتي تعامل كالعبيد مما يضطرها ، أيضاً ، لبيع جسدها . وعلى هذا ، فإن قتل بطلنا لهذه الفتاة المسكينة ، ودونما قصد منه ، إنما كان قتلاً للجانب الآخر من نفسه : " نظر إلى سونيا ، وفجأة بدا وجهها شبيهاً بوجه ليزافيتا ". ( ص 667 )
في رواية " الطريق " ، علمنا أنّ كريمة أصبحت عشيقة لصابر ، ثم شريكته في الجريمة : إنها إمرأة شابة ، سبق لزوجها الأول أن باعها للعجوز أبو النجا ، صاحب الفندق . فإذا كانت كرامة كريمة / كزوجة ، تمتهن يوميا ، كما هو شأن سونيا / كمومس ؛ فلا ريبَ أن شخصية الزوج بالنسبة للأولى ( العجوز أبو النجا ) ، ستذكرنا بشخصية العجوز المرابية ، بالنسبة لراسكولنيكوف ، حبيب الثانية . وإذ نظر هذا الأخير لحبيته كشهيدة وقديسة ، بحسب العقيدة الدينية ( مريم المجدلية ) ، فقد شاء كاتبنا المصري إعتماد العقيدة الدينية ، المترسخة في الوعيّ الشرقيّ ، خصوصاً ؛ عن " أصل الشرّ في الكون " ؛ بجعله المرأة كمطية للشيطان ( حواء ) : " ثم جاء صوتها كأنما يزحف من جحر " ( رواية الطريق ، ص 105 ) . هذا في المرموز الدينيّ ، أما على أرض الواقع ، فإنّ بطل محفوظ يجدُ قريناً لعشيقته ، كريمة ، في شخص أمه الراحلة ، بسيمة : فهذه الأخيرة ، سبق في شبابها أن هربت من بيت زوجها ( الرحيمي ، والد صابر ) ، برفقة شخص ما لبث أن راح يتاجر بجسدها . وبسيمة أخيراً ، حينما وضعت إبنها أمام الإختيار الوحيد ( البحث عن الأب ) ، كانت قد وجهته عملياً إلى الطريق المفضي لكريمة ؛ وبالتالي إلى قدَر الجريمة : " أما كريمة ، فإمتداد حيّ لأمه فيما تهبه من متعة وجريمة " ( ص 97 ) . ونفترض أنّ إندفاع صابر ، الأعمى ، لقتل عشيقته ، كان من ضمن خطة محفوظ الفنية ؛ وهي الخطة المتأثرة بمرامي دستويفسكي في مسألة مقتل ليزافيتا : أي تعرية مبدأ الخلاص الفردي ، مهما تكن ذرائعه مشروعة وعادلة .
دونيا / إلهام :
إفترضنا فيما سلف من دراستنا ، أنّ رسالة الأم كانت الحافز الرئيس لراسكولنيكوف ، في عزمه على تنفيذ جريمته . إنّ قطبيْ نفس البطل ، هنا أيضاً ، يتمثلان بشكل حاد . فالأم الخانعة مظهراً تجسدُ ، رمزياً على الأقل ، الموقف المتسلط غير العابيء بإعتبارات الحبّ ، بقبولها زواجَ دونيا بذلك الرجل المكتهل ، ما دام ذلك سيؤمن للإبن الحبيب إمكانية تحسين ظروف حياته . ودونيا ، من الجهة الاخرى ، يتكشف موقفها عن الخنوع ، بقبولها لمشروع الزواج . هذا ، مع التذكير ، بأنها نفس الفتاة التي خرجت من إمتحاناً شبيهاً ، سابقاً ، أكثر حزماً وقوة إرادة : إذ عملت مربية لدى سيد ثرية ، وتعرضت لتحرشات زوجها ( سفيدريكايلوف ) . على أن دونيا ، تستعيد فيما بعد قوة إرادتها ، الموصوفة ، فتطرد خطيبها وتصدّ سفيدريكاليوف بقسوة ، فضلاً عن موقفها المتفهم لأخيها ومساندتها له بعيد إعترافه بجريمته .
شخصية إلهام في " الطريق " ، جديرة بالتأمل ، لما تلقيه من ضوء على اسلوب محفوظ ، الفني . إنّ عمل هذه الفتاة في صحيفة ، إسمها " أبو الهول " ، يحيلنا إلى الإسم ، كرمز خالد للأسرار ؛ وبالتالي إلى شخصية بطلتنا ، الملغزة . فهي تمثل ، على إفتراضنا ، جانب الحكمة ، المخذول دوماً ، في نفس صابر . هذا الأمر ، يؤكده تلك العلاقة الملتبسة ببطلنا ، والمتراوحة في مستوى الصداقة ؛ أو حتى " الأخوة " . هذه الصفة الأخيرة ، الوهمية ، شاء الحلم أن يرمزها وخصوصاً ما تبعه من معرفة صابر أن في بيت إلهام مفقودٌ أيضاً : الأب ! ولنقل أيضاً ، أنّ إزدواجية البطل ، تتمثل في شخصية هذه الفتاة : الخنوع المتبدي بعلاقتها مع صابر ، والصلابة أمام حقائق الحياة ومصاعبها ؛ كما في مسألة رفضها لخطيب إشترط عليها ترك عملها . ثم ما كان من وقوفها ، إلى النهاية ، بجانب صابر ، فبقيت بالنسبة له : " الحقيقة الوحيدة التي عرفها " . ( ص 76 )
بورفير / الساوي :
" يدعونني عالم نفساني . كذب ، أنا واقعي وحسب ، إلى أقصى درجة . أي أنا أصور كل أعماق النفس الإنسانية " (10) . هكذا كتب دستويفسكي ، في دفتر مذكراته ، رداً على بعض معاصريه الذين رأوا في أسلوبه ، المونولوجي ، نوعاً من " التطبيق الأدبي " لعلم النفس . لعل رواية " الجريمة والعقاب " ، هي الأكثر من بين أعمال كاتبنا ، الموحية بذلك التصور ، الموسوم . الملاحظ ، من جهة اخرى ، نلاحظ أنّ أطول الحوارات في تلك الرواية ، قد جرت بين راسكولنيكوف وبورفير . هذه الأخير ، كمحقق نابه ومثقف ، إتبع في قضية الجريمة ، المناطة به ، طرقاً نفسانية مبتكرة . فهوَ لم يعمد إلى توقيف المشتبه به ( راسكولنيكوف ) ، بالرغم من شكوكه القوية حوله . لا بل إن لقاءاتهما الثلاثة ، لم تكن إستجواباً بالمعنى الحرفيّ ، القانونيّ ، المعروف . فقد عمد هذا المحقق إلى لغة إشارات حوارية ، تصل إلى أعماق راسكولنيكوف ، مستفزة ضميره وإرادته ، سواءً بسواء . وحينما يواجه المحقق بطلنا ، أخيراً ، يعرض عليه الإعتراف ، متيحاً له عقوبة مخففة تعيده مجدداً إلى حياته الطبيعية ، كبشر سويّ .
أما محقق " الطريق " ، فإنه بحسب خطة مؤلفها ، الفنية ، يظل متماهياً في ظل العجوز ، المدعو " الساوي " ؛ معاون القتيل ، صاحب الفندق . لقد إكتفى ذلك المحقق ، الفعليّ ، بمحضر واحد ، مبتسر ، مع صابر . ثم ما لبث أن إختفى تماماً من السرد ، تاركاً للعجوز الساوي مهمة رصد وتحري أمر المشتبه به في الفندق ؛ وهما كريمة وعشيقها . جدير هنا بالملاحظة ، أنّ أطول حوارات " الطريق " ، تجري أيضاً بين صابر والساوي . فهذا العجوز ، الماكر ، إتبع خطة محبكة ، بإلقائه ظل من الشك حول حياة كريمة ؛ بزعمه أنها ما فتأت على علاقة بالرجل الأول الذي باعها للعجوز أبو النجا . كان هدف الخطة ، كما سيتبينه المرء لاحقاً ، جرّ صابر إلى منزل عشيقته تلك ، ليصار إلى ضبطه معها وإدانتهما معاً : " وغير بعيد أن تكون الآن هدفاً لعين أو أكثر . ولن تدري بما يدور حولك . كعم خليل قبل أن تهوي عليه ضربتكَ " ( ص 135 ) . المدهش ، أنّ هذه الصورة ، المجازية ، سبق وأن إستعملها حرفياً ، تقريباً ، المحققُ بورفير ، خلال حديثه مع راسكولنيكوف . فهوَ في حواره ذاك ، يذكر بطلنا بأساليب المحققين في تعمّد التلهي بأمور جانبية ، بعيدة عن المسألة قيدَ البحث ، ثم الإنهيال فجأة على المتهم : " كضربة فأس على جمجمته " . ( ص 557 )
المراجع :
1 ـ ميخائيل باختين ، شعرية دستويفسكي / الطبعة العربية في بغداد 1986 ، ص 261 2 ـ دستويفسكي ، الجريمة والعقاب / الطبعة العربية لدار الحياة في بيروت ، بلا تاريخ ، ص 834 : وجميع إستشهاداتنا هنا ، مأخوذة من هذه الطبعة 3 ـ نجيب محفوظ ، الطريق ـ الطبعة السابعة في القاهرة 1981 ، ص 27 : وجميع إستشهاداتنا هنا ، مأخوذة من هذه الطبعة ، أيضاً 4 ـ ريتشارد بيس ، دستويفسكي : دراسة لرواياته العظمى / الطبعة العربية في دمشق 1976 ، ص 44 5 ـ المصدر نفسه ، ص 68 6 ـ شعرية دستويفسكي ، ص 152 7 ـ روبرت شولز ، البنيوية في الأدب / الطبعة العربية في دمشق 1984 ، ص 85 8 ـ رولان بارت ، لذة النص / الطبعة العربية في حلب 1992 ، ص 34 9 ـ يفترض " ستراوس " ، أنّ أبطال الميثولوجيات يحملون غالباً أسماء تفصح عن عاهة ما ، في تكوينهم : أنظر ، البنيوية في الأدب ، مصدر مذكور ، ص 86 10 ـ شعرية دستويفسكي ، ص 86
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأعلام العراقية والإعلام العربي
-
علم الكرديّ وحلمه
-
الجريمة والعقاب : طريق نجيب محفوظ في بحث مقارن 2 / 3
-
محفوظ ؛ مؤرخ مصر وضميرها
-
الجريمة والعقاب : طريق نجيب محفوظ في بحث مقارن 1 / 3
-
كردستان ، موطن الأنفال
-
ثقافة المقاومة أم ثقافة الطائفة ؟
-
المقاومة والمعارضة 2 / 2
-
المقاومة والمعارضة
-
الكوميديا السورية
-
إنتصار الظلامية والإستبداد ؟
-
ثقافة المقاومة ، ثقافة الموت
-
لبنان في فم الأسد ، مجدداً ؟
-
صلاح الدين عصرنا
-
قصف إعلامي ، عشوائي
-
محمد أوزون ؛ كاتبٌ كرديّ على أبواب العالم
-
من البونابرت العربيّ إلى الطاغوت الطائفيّ
-
الزرقاوي ، وسوداويّة الإسلام السياسي
-
الوجهُ الجميل لنظام ٍ قبيح
-
المثقفُ مستبداً
المزيد.....
-
راكبة تلتقط بالفيديو لحظة اشتعال النار في جناح طائرة على الم
...
-
مع حلول موعد التفاوض للمرحلة الثانية.. هل ينتهك نتنياهو اتفا
...
-
انفصال قطعة كبيرة من أكبر جبل جليدي في العالم!
-
15 قتيلاً على الأقل خلال انفجار سيارة في مدينة منبج في سوريا
...
-
روسيا تعلّق الطيران في عدة مطارات عقب هجوم أوكراني بالطائرات
...
-
عواقب وخيمة لوقف أمريكا المساعدات الخارجية.. فمن سيعوضها؟
-
الصفائح الجليدية في القطب الجنوبي أكثر قدرة على الصمود
-
انتشال رفات 55 شخصا ضحايا اصطدام طائرة الركاب بمروحية عسكرية
...
-
لبنان .. تغيير أسماء شوارع وساحات تذكر بالنظام السوري السابق
...
-
الرئيس الجزائري: أبلغنا الأسد رفضنا للمجازر بحق السوريين
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|