"للإنصاف لا للدفاع عن إيلاف"
خاص بإيلاف
د. خالد يونس خالد *
"العقل قوة من أفضل القوى الإنسانية، بل هي أفضلها على الحقيقة"
محمد عبده
"وحيث تخرج الكلمات من أعماق الحقيقة"
طاغور
أيها العقل الأسير في زنزانات الإرهاب، كيف نفك قيودك وأنت في سرادب مظلمة؟ لا تصلك الكلمة الحرة ونحن نجهل إستعمال السلاح، ولا نملك إلاّ الكلمة التي تُرهب السلاح، وهي التي ستحرر العقل الأسير أينما كان. إنها الكلمة الإنسانية النبيلة التي تخرج من أعماق الحقيقة.
لقد تعلمنا الإيمان من الكلمة الصادقة التي نزلت من السماء العلُى وأنقذت البشرية من الضلال إلى النور. وستظل الكلمة الصلدقة سلاح الديمقراطيين من أجل السلام والحرية، ومن أجل الحياة للإنسانية.
لماذا الخوف من موقع ايلاف؟
هناك مواقع كثيرة في الأنترنت، تجيد الشتم وتتلذذ بنشر الأكاذيب والمهاترات، ولا تميز بين النقد والشتم، فلا يخاف منها أحد، ولا يحترمها أحد. أما موقع إيلاف، فالويل له أن ينقد، لأنه موقع يقرؤه الملايين، ويلجأ إليه الظمأى المتعطشين للحرية ليطفئوا ظمأهم بجرعة من الكلمة التي تخرج من أعماق الحقيقة وهي بعيدة عن السب والرذيلة.
نعم الكل يخاف من الصادق مع نفسه، لأن الصادق لا يسرق من أحد، ولا يعتدي على أحد، مثلما يرفض العدوان عليه من أحد. فالكل يحب الجمال ويود أن يكون جميلا. والكل يحب العقل ويتمنى أن يكون عاقلا. لكن الحقيقة هي ملك العقلاء، والنزاهة ليست إلا زاد الحكماء.
ف "كم فتى في الكوخ أجدى من أمير في القصور
قوته اليومي قرص خبز شعير
ثلثاه من تراب وبقاياه شعير
وبباب الكوخ كلب الشيخ يعوي
أين حقي؟ "
أظن أنه شعر محمد صالح بحر العلوم ؟
كم فتى فقير له قلب كبير وعقل نبيل، فلا يخاف من أحد ولا يريد أن يخاف منه أحد. ولكن لماذا يحجب عنه الخائف من ذاته النور؟ لماذا يمنع الخائف من الآخر الكلمة الحرة الجميلة التي تقود إلى ساحات أفضل من العمل والفكر والمحبة.
لماذا تمنعون موقع إيلاف عن الناس؟ بالأمس كانت السعودية والأردن واليمن، واليوم سوريا. لماذا القلق من الذات، والأنعزال عن الكلمة التي لا يُراد بها باطل، إنما الهدف منها أن يضيئ النفق المظلم ، حتى يخرج الناس إلى النور، ويتجرؤوا أن يفتحوا عيونهم ليروا نور الحقيقة. لا تخافوا من عروشكم، فنحن لا نجيد القتال، إنما نريد خيركم مثلما نريد خيرنا، ومحبتكم مثلما نغمر الناس بمحبتنا. إنها العظمة الحقيقية للإنسان الذي لا يعرف الكره، بل يبدع من أجل أن نعيش أحرارا في حرية مفعمة بالمسؤولية وعدم الإعتداء على الآخرين فيسيولوجيا ونفسيا. فلا تمنعوا إيلاف عن الشعب، ولا أصداء إيلاف عن الجماهير، ولا ثقافة إيلاف عن الذين يبحثون عن الحقيقة، فإيلاف كلمة الشعب إلى الشعب.
النقد حكم عقلي وأدبي بعيد عن الخوف والتجريح
عندما كنت أجري أبحاثي الأكاديمية في الدراسات الإنسانية العليا في الجامعات السويدية، كان الأستاذ المشرف على الرسائل العلمية يشجعنا أن نمارس النقد ونتقبله بعيدا عن المهاترات. فالمهاترات ليس نقدا، والشتائم تعود إلى صاحبها، لأنها عنوان الضعف الإنساني، والعجز عن التعبير بالعقل.
عندما كنا نقدم الأبحاث في السيمينارات، ولم يوجه إلينا النقد الكافي، كان الأستاذ المشرف، ينقدنا ويعلق بأننا فشلنا في جذب إهتمامات الحاضرين ليقرؤوا البحث وينقدوه، لأن البحث كان يوزع قبل أسبوع من موعد السيمينار. وعندما كان يوجه إلينا نقدا تلو نقد، كنا نفرح، ونتعلم مِن الذي أراد أن يصححنا، ويرشدنا إلى ما لم نكن نعلمه. وإذا ما تجاوز النقد حدود العلم والإحترام لا يسمعه أحد. فحدود الحرية هي عدم الإعتداء على الآخرين.
النقد فن لا يجيده إلا الحكماء لأنه حكم عقلي من كاتب هو غاية وليس وسيلة. أما الذين يمنعون وصول الكلمة الصادقة، ويمنعون موقعا كموقع إيلاف ، يحتاجون أن يذهبوا إلى البحار العميقة ليغسلوا خوفهم ويتعلموا إحتمال الأذى من كرههم للحرية، حتى يعودوا إلى صفوف الشعب، ليحبهم أبناء الشعب بدلا من أن يخافهم. وليتعلموا بأن المعروف عن موقع إيلاف سلوكه الحسن في النشر، ورفض مقالات غير هادفة. لكنه موقع لا يعرف الهزيمة، فالإنسان الصادق لا ينهزم ولكن يمكن أن ينتصر أو يدمر كما قال الكاتب الفذ همنغواي في روايته الخالدة "الشيخ والبحر".
سحقا لولاء يُباع وُشترى
الإشكالية في بلداننا هي أن قياداتنا تجيد شراء الذمم بالإغراءات أو التهديدات أو المنع والسجن والقتل أحيانا. فالمواطنون يفقدون مواطنتهم أو وطنيتهم ويتحولون إلى رعايا، وفي وقت الأزمات لا يجيدون إستعمال السلاح للدفاع عن السلطان، لأن الذين يجيدون العمل العقلي عن قناعة برد العدوان عن الوطن يجب أن يكونوا أحرارا ، مواطنين من الدرجة الأولى، مفعمين بالعزة والكرامة الوطنية، يدافعون عن السلطان مثلما يدافعون عن الوطن.
لكن مع كل ذلك فإن موقع إيلاف سيبقى نبراسا للفكر النزيه، وسيرجع إلى سوريا كما رجع إلى السعودية والأردن واليمن. فالكل بحاجة إلى قبس من نور، ولا يمكن لجذوة إيلاف أن تُخمد حتى لا يبتعد الضوء عن الناس الفقراء التواقين للحقيقة الصافية.
إنني أتذكر رئيس الوزراء السويدي الأسبق الراحل أولوف بالمه الذي إُغتيل في شارع مفتوح. أتذكره جيدا حين كان يعَرف السياسة بمعنى ممارسة الإرادة وليس فن العمل في حدود الممكن. كانت مواقفه من معارضته للحرب الأمريكية على فيتنام معروفة، وهو يتقدم المظاهرات ضد السفارة الأمريكية تأييدا للحق ومن أجل الحرية. كان يفهم بجلاء بأن الحر لايحجب الحرية عن الآخرين، فلقد كان إنسانا عظيما بكل ما تعطي هذه الكلمة من معنى في حدود الإنسانية. وكانت الولايات المتحدة تحتج وتسحب سفيرها من السويد ثم يرجع السفير ثم يسحب السفير ثم يرجع، وبقي ذلك السياسي المخضرم صاحب الإرادة الحرة على نهجه. وعلق على تردد السفير الأمريكي بين الذهاب والإياب قائلا: يأتي ويذهب ويأتي ويذهب، لكنه يأتي من جديد.
ونحن نقول للذين يمنعون الناس في مشاهدة إيلاف، بأنهم سيرجعوا كما كان السفير الأمريكي يرجع.
الخوف من الآخر نابع من الخشية من الذات
على قياداتنا أن يهجروا تعاليم المفكر الإيطالي إيكولو ميكيافيللي في كتابه "الأمير" حين يقول "على الأمير أن يكون أسدا وثعلبا في الوقت نفسه ... وعلى الأمير أن يخشاه الناس". أما في البلدان التي يشعر المواطنون بوطنيتهم عن ثقة وإيمان وقناعة فلا يخشون من قياداتهم إنما يحبونها. فلا يمكن للنظام أن يخاف من الأفكار النيرة إذا لم يخف من نفسه. فعندما يخاف الفرد أو النظام من ذاته بسبب الشك بممارساته وأفكاره وآرائه التي لاتصب في مصلحة الجماهير يخاف من حياته وديمومته، ويتصور الموت أمامه في كل لحظة، وهو يموت كل يوم ألف مرة، ولا يسعه إلا أن يحَرم على نفسه الثقة بأقرب المقربين إليه. وهو يبيح لذاتِه الملذات والإعتداء على الناس. ولو عرف الحكام المستبدون ما نشعر به نحن البسطاء من سعادة في حياتنا البسيطة المليئة بالمحبة والعفوية لحسدونا فيما نحن فيه من صفاء.
في السويد مثلا، حيث نتعايش الوقائع عن وعي، فيشعر كل واحد من المواطنين بأنه جزء من الكل الكبير، له حقوق وعليه واجبات. فيجد المرء رئيس الوزراء والوزراء في الطرقات وبين الجماهير بلا حراسة، لأنه يريد أن يعيش حرا كمواطن عادي، له واجبات كثيرة يجب أن لا تؤدي إلى التأثير السلبي على الآخرين. وكم من مواطن يأبى أن يكون وزيرا حتى يتمتع بالحياة التي يريدها. قد تكون هناك حراس لحماية الملك ولكن بشكل لا يشعر المرء به حتى لا يزعج الآخرين.
لقد كانت تجربتي بالحياة في السويد معدوما عندما توجهت إلى هذا البلد قبل عشرين عاما، وأنا أجد ملك السويد يركب دراجته الهوائية والناس ينظرون إليه بسعادة وبشاشة. لم أكن أعرف أنه كان "صاحب الجلالة". سألت سيدة عجوز سويدية عن سر فرح الناس برؤية هذا الرجل الشاب الذي لم يكن قد تجاوز الثلاثين كثيرا آنذاك. فقالت: إنه ملكنا. قلتُ بتعجب ودهشة: ولكن أين حراسه وأين الجنود المدججين بالسلاح وأين المدرعات لتقطع الطريق على المارة؟ إبتسمت السيدة العجوز وكأنها تشفق عليَّ أنا، وقالت لي ببساطة ورفق: هل أنت من الشرق الأوسط؟ فقلت نعم. فقالت أتريد أن تعرف مَن يحرس الملك؟ قلت نعم. فقالت أنت تحرسه وأنا أحرسه وكل الذين تجدونهم حولك يحرسونه. قلت كيف؟ أنا لا أحمل السلاح ولم يكلفني أحد بحراسته. فقالت: إنه ملكنا الذي نحبه ويحبنا، وكلنا نحرسه في قلوبنا لانه رمز مملكتنا، وحامي عزتنا، وهو مجرد من المسؤوليات، لأن الشعب يحكم، والملك في القلوب.
ترورقت عيناي بالدموع، وأدركتُ لتَوي، بأنني غريب في بلد غريب، هذا الإنسان الذي جاء من بلاد الويلات والعذابات، وشهاداته الأكاديمية التي حصل عليها من جامعة عراقية، لم تعلمنه أكثر مما تعلم من هذه السيدة العجوز التي أعطاه درسا في الحرية، والمحبة، والمسؤولية. نعم سُحقا لولاء يُباع ويُشترى، وسُحقا لحياة لا تعرف المحبة ولا تذوق طعم الحرية. فأين نحن وقياداتنا تحميها الدبابات والمدرعات ومئات الجنود المدججين بالسلاح الخفيف والثقيل، وقد حصلوا على 99،9% من أصوات الرعايا الذين تجردوا من المواطنة، لهم واجبات وواجبات وواجبات، بعد أن منحوا كل حقوقهم للسلطان، ومنعوا عليهم حق النقد والمظاهرات والتجمع؟
وحق إستعمال موقع في الإنترنت.
نشفق عليكم فرفقا بأنفسكم يا أصحاب السيادة!
القيادات التي تخاف من إيلاف وغير إيلاف تمنع الكلمة التي تعيش في القلب وتؤثر في العقل. بالأمس منعت الكلمة في السعودية، وحُرمت في الأردن، وحجبت في اليمن، واليوم قتلت تلك الكلمة في سوريا. بالأمس القريب رجعت الكلمة إلى الحياة بعد أن سلبت منها حقها في الوجود، ففرضت نفسها لتعيش كما كانت جميلة وحلوة. ورجعت الدول إلى حيث العقل لا يفقد مجراه في صحراء الخوف الكامن في النفوس. وغدا سترجع سوريا إلى ساحات أكثر رحبا في التفكير، لا تكبت الأصوات ولا تسد الأفواه، ولا تقتل الأفكار ولا تعدم العقول. سنظل ننادي عاشت الديمقراطية الشرق أوسطية بين الولاء الأعمى والحرية اليتيمة.
عاش الملك، ومات الملك، وجاء الملك، وليحيا الرئيس. وإذا عزل الملك أو الرئيس فليكن من بعدهما الطوفان فالموت لمن لا حياة له. ولنردد أغنية الشاعر الحمداني:
أيضحك مأسور وتبكي طليقة
ويسكت محزون ويندب سالي
لقد كنتُ أولى منك بالدمع مقلة
ولكن دمعي في الحوادث غالي
* باحث وكاتب صحفي عراقي مستقل