مصطفى العبد الله الكفري
استاذ الاقتصاد السياسي بكلية الاقتصاد - جامعة دمشق
الحوار المتمدن-العدد: 7186 - 2022 / 3 / 10 - 12:44
المحور:
الادارة و الاقتصاد
تعد وثائق بنما أضخم عملية تسريب للمعلومات والبيانات في التاريخ، حتى أنها تفوق تسريبات ويكيليكس بأضعاف مضاعفة. ما هي وثائق بنما؟ ما أهميتها وآثارها؟ لماذا أثارت كل هذه الضجة غير المسبوقة في كافة أنحاء العالم؟
تسريبات وثائق بنما للبيانات والمعلومات غير مسبوقة، حيث وصلت لصحيفة ألمانية “زود دويتشه تسايتونج” من مصدر مجهول، وتمت مشاركة البيانات والمعلومات مع الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين “ICIJ”، والذي بدوره قام بمشاركة البيانات مع شبكة كبيرة من وسائل الإعلام العالمية شملت 100 صحيفة من مختلف أنحاء العالم، للقيام بتحقيق استقصائي ضخم حول هذه الوثائق.
فحص ودقق وثائق بناما مئات الصحفيين الاستقصائيين من الهيئة الدولية للصحافة الاستقصائية، عملوا سراً عدة شهور. وكشفت الوثائق عن أصول مخفية لمئات السياسيين والمسؤولين وقادة دول سابقين وحاليين، ومشاهير ونجوم رياضيين. وذكر المحققون أن الوثائق المسربة من شركة موساك فونسيكا تتعلق بحوالي 200 ألف شركة مسجلة في مناطق الملاذات الضريبية الآمنة عبر العالم، 100 ألف شركة منها فقط في الجزر العذراء البريطانية!
حجم البيانات المسربة:
هذه التسريبات هي الأكبر والأضخم في التاريخ، تفوق كما ذكرنا حجم الملفات المسربة من موقع ويكيليكس عام 2010، والوثائق الاستخباراتية السرية التي سربها إدوارد سنودن عام 2013. فالتسريبات تضم 11,5 مليون ملف ووثيقة، وهي عبارة عن قاعدة بيانات بـ 2.6 تيرابايت من الملفات التي كانت تحتفظ بها شركة موساك فونسيكا. وبذلك فإن أوراق بنما هي أضخم التسريبات، مقارنة بحجم الملفات المسربة سابقاً: ويكيليكس عام 2010 كانت 1.7 جيجابايت، وأسرار أوفشور عام 2013 كانت 260 جيجابايت، وملفات لوكسمبورج الضريبية عام 2014 كانت 4.4 جيجابايت، وملفات إتش إس بي سي في عام 2015 كانت 3.3 جيجابايت.
ما الذي كشفته وثائق بنما؟
تضمنت التسريبات الأولى لوثائق بنما معاملات وحسابات مالية خارجية لمشاهير وزعماء سياسيين، تسببت في إثارة موجة من ردود الأفعال المتباينة حول العالم، ووجهت هذه التسريبات سيلا من الانتقادات لعدة شخصيات سياسية بينها رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون. عائلة رئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف، دافعت بدورها عن امتلاكها شركات أوفشور، بعد أن ورد اسمها في أوراق بنما، فيما دعت المعارضة الباكستانية إلى التحرك ضد رئيس الوزراء نواز شريف.
أهم ما في هذه الوثائق أنها أظهرت كيف يستخدم الأغنياء وأصحاب النفوذ الملاذات الضريبية الآمنة لإخفاء ثرواتهم وعدم دفع الضرائب المتوجبة على هذه الثروات، وتورط عدد من الشخصيات الهامة في أعمال غير مشروعة أهمها:
• تهريب وغسل الأموال،
• تجارة الأسلحة،
• تجارة وترويج المخدرات.
وأشارت الوثائق إلى أن من بين المتورطين في هذه العملية 12 رئيسًا من رؤساء دول العالم الحاليين والسابقين، وأكثر من 143 سياسياً حول العالم، حيث استغلت عائلاتهم والمقربون منهم ما يُعرف بالملاذات الضريبية.
الملاذات الضريبية:
(الملاذ الضريبي أو الجنة الضرائبية “Tax Haven” هي منطقة تفرض أقل الضرائب، أو لا تفرضها على الإطلاق، أي أن الأنظمة المصرفية في تلك المنطقة تحكمها قوانين صارمة للمحافظة على سرية حسابات العملاء، ومساعدتهم على التهرب من دفع الضرائب في بلادهم، وبالتالي إخفاء ثرواتهم).
دور شركة “موساك فونسيكا” رابع أكبر شركة محاماة في العالم:
ما هو دور رابع أكبر شركة محاماة في العالم “موساك فونسيكا” في هذه العملية؟ موساك فونسيكا شركة محاماة مقرها في دولة بنما، تقدم الشركة لزبائنها من الأثرياء خدمات عديدة كالملاذات الضريبية الآمنة، وتعمل على إدراج الشركات لزبائنها وتسجيلها في دول ونطاقات قضائية أجنبية خارجية، مثل: الجزر العذراء (جزر فيرجين) البريطانية. وتتقاضى شركة موساك فونسيكا رسوماً سنوية مقابل إدارة مكاتب هذه الشركات، كما أنها تقدم خدمات إدارة الثروات.
موساك فونسيكا شركة بنمية، تدير أعمالها في مختلف أنحاء العالم، يعمل بها أكثر من 600 شخص منتشرون في 42 دولة، ويضم الموقع الإلكتروني الخاص بها شبكة عالمية متطورة. نشاطها الرئيس في مناطق الملاذات الضريبية، مثل: قبرص، والجزر العذراء البريطانية، والمناطق التابعة للتاج البريطاني، مثل: جيرنسي وجيرسي وجزيرة مان.
عملت شركة موساك فونسيكا لأكثر من 300 ألف شركة، أكثر من نصف الشركات المسجلة هي ضمن مناطق الملاذات الضريبية البريطانية، وكذلك المملكة المتحدة نفسها. ليس بالضرورة أن يكون تعامل شركة موساك فونسيكا مباشرة مع الأثرياء مالكي الشركات، فكثير من التعاملات تكون عبر وسطاء: كالمحاسبين، والبنوك، والمحامين، وشركات الائتمان في أوروبا، ويتمركز هؤلاء الوسطاء في سويسرا، وجيرسي، ولوكسمبورج، والمملكة المتحدة.
من الصعب ربما التكهن بالشخصيات التي تقف وراء تحويل الأموال إلى مناطق الملاذات الضريبية، فالمالكون الحقيقيون يخفون شخصياتهم وراء أسماء أخرى لا سلطة لها أو أصول داخل شركاتهم، وكل ما تفعله أنها تعير توقيعاتها. لكن يمكن القول أن معظم هؤلاء المالكين من الصين وروسيا.
هل كل من يستخدم خدمات الملاذ الضريبي محتال؟
الإجابة بالطبع لا، فاستخدام تلك الخدمات قانوني تمامًا، وهناك العديد من الأسباب المشروعة للقيام بذلك. فعلى سبيل المثال، يقوم رجال الأعمال من روسيا وأوكرانيا بوضع أصولهم في الخارج لحمايتها من هجمات المجرمين، وكذلك القيود المفروضة على العملة الصعبة، وهناك استخدامات أخرى لها، وهي: الإرث، والتخطيط العقاري.
ماذا كان رد شركة موساك فونسيكا؟
ردت شركة موساك فونسيكا على الاتهامات الموجهة إليها من خلال التسريبات، بأنها لن تناقش حالات محددة من المخالفات المزعومة، كما قالت إنها تأسف لأي إساءة لاستخدام خدماتها، وأنها تحاول جاهدة لمنع ذلك. (وقال رامون فونسيكا مورا مدير مكتب المحاماة أن لديه تقريرًا تقنيًا يثبت تعرض الشركة لقرصنة من أجهزة ملقمة في الخارج. وقد استنكر مورا عدم حديث الصحافة عن القرصنة التي تعرضت لها الشركة، في حين أنها الجريمة الوحيدة التي ارتُكبت في كل ما قيل! كما استغرب تركز المعلومات المسربة عن الزبائن الأكثر شهرة، من بينهم شخصيات سياسة ورؤساء دول ورياضيون).
رئيس الوزراء الآيسلندي أول ضحايا وثائق بنما: أول من أطاحت بهم تسريبات هذه الوثائق هو رئيس الوزراء الآيسلندي “سيغموندور غونلوغسون” والذي قدم استقالته بعد فضيحة مدوية. فقد أشارت التسريبات إلى أن غونلوغسون كان يملك مع زوجته شركة “وينتريز” المسجلة في الخارج، ووجهت إليه تهمة إخفاء ملايين الدولارات في أصول عائلية.
الجميع في انتظار ما ستكشفه الأيام المقبلة، فهل ستطيح رؤوس أخرى بعد رئيس الوزراء الآيسلندي؟ وهل ستنكشف أسماء أخرى؟ أم أن كل ما حصل مجرد زوبعة في فنجان، تثيرها وسائل الإعلام سرعان ما ينطفئ فتيلها وتخبو مع الأيام كسابقتها ويكيليكس؟!
وثائق بنما: مصدر التسريبات يخرج عن صمته:
خرج المصدر الخفي، الذي سرب وثائق بنما، عن صمته وعرض على السلطات القضائية المساعدة مقابل الحصانة. وقال جون دوي في بيان من 1800 كلمة إنه لم يعمل في حياته لأي جهة تجسس أو لأي حكومة. وتحدث في البيان عن "المساواة في الدخل"، على أنها هي التي كانت الدافع وراء ما فعله. وكشفت وثائق بنما كيف يلجأ بعض الأثرياء إلى شركات مسجلة بالخارج للتهرب من الضرائب وتجنب العقوبات. وسربت الوثائق من شركة الاستشارات القانونية، موساك فونسيكا، التي تقول إنها لم تخالف القانون، وإنها تعرضت للقرصنة.
وقال جون دوي في البيان: " إن المساواة في الدخل من بين القضايا المصيرية في عصرنا"، مضيفا أن "المصارف وهيئات الضبط وسلطات الضرائب فشلت، وأن القرارات التي تتخذها تحمي الأثرياء، وتحكم قبضتها على المواطنين ذوي الدخل الضعيف والمتوسط". وتابع: "إن فصح وثائق بنما المتوفرة من قبل السلطات القضائية سيؤدي إلى فتح آلاف التحقيقات".
وعرض على السلطات القضائية إطلاعها على الوثائق وطالب بالحصانة من أي العقوبات الحكومية التي قد تطاله.
وكانت وسائل إعلام دولية، من بينها بي بي سي، حصلت على الوثائق المسربة، وعددها 11 مليون وثيقة، من شركة الاستشارات القانونية الموجودة في بنما. وتبين من خلال فحص هذه الوثائق، من قبل صحفيين استقصائيين، أن الشركة ساعدت زبائنها على غسل الأموال والتحايل على الضرائب.
وأدى نشر هذه المعلومات إلى فتح تحقيقات قضائية في العديد من الدول عبر العالم.
ولكن شركة موساك فونسيكا تقول إنها تعمل منذ 40 عاما، وفق القانون، ولم تتهم أبدا بمخالفة القانون، أو بأي جريمة.
لماذا اختفى الامريكيون من وثائق بنما؟
وما يثير الدهشة في هذا الصدد، أن الولايات المتحدة كانت الغائب الأبرز عن هذه التسريبات المالية الدولية التي دفعت ببعض الحكومات إلى فتح تحقيقات أطاحت نتائجها بمسؤولين كبار.
وفي التعليق على سبب تجاهل الصحافة الأمريكية هذه القضية، كشف موقع فوكاتيف الأمريكي عن أن 8 من أصل الصحف الأمريكية الـ10 الأعرق والأكثر رواجا، لم تعط "وثائق بنما" التغطية التي تستحق على صفحاتها، غداة الإعلان عنها، فيما اكتفت صحيفة، "واشنطن بوست" بتكريس زاوية صغيرة حول هذه المسألة في الصفحة الأولى، بينما خصصت صحيفة "يو إس إي توداي" للتسريبات المانشيت الرئيس في الصحيفة.
#مصطفى_العبد_الله_الكفري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟