عاهد جمعة الخطيب
باحث علمي في الطب والفلسفة وعلم الاجتماع
(Ahed Jumah Khatib)
الحوار المتمدن-العدد: 7186 - 2022 / 3 / 10 - 02:12
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ان الباحث في علم الاجتماع المهتم بالتغير الاجتماعي يواجه سؤالا منهجيا حول «ما الذي يتغير اجتماعيا؟» هذا السؤال يعد مدخلا لسلسلة أخرى من الأسئلة التي تدفع به(الباحث الاجتماعي) إلى تحديد المجالات التي يحدث في ظلها التغير الاجتماعي، والعناصر التي يمسها إلى جانب تحديد إشكالية مجالات التغير الاجتماعي، لا يجب أن نغفل قضايا أخرى كالتساؤل حول المسار الذي يقطعه التغير الاجتماعي، وهل هو تغير مستمر أم متقطع؟ وهل يتعرض للمقاومة؟ وما هو إيقاعه؟
إن هذه التساؤلات الجوهرية ما هي إلا مداخل ضرورية تساعدنا على تحديد مفهوم التغير الاجتماعي، دون أن يعني ذلك تعميق التحليل حولها. ويرع عبد الجليل (1986) ان الاجابة عنها تقتضي استحضار التعريف الذي قدمه (Guy Rocher)، حيث قال ان: «التغير الاجتماعي هو ذلك التحول القابل للملاحظة الذي يمس كل تشكيل اجتماعي لجماعة ما سواء كان استثنائيا أو مؤقتا، ويعمل على تغيير مسار تاريخ هذه الجماعة». وهكذا، فالتغير الاجتماعي يعبر، حسب روشيه، عن تلك التغيرات البسيطة التي يمكن ملاحظتها والتأكد منها بالتحقق والدراسة في الزمان والمكان.
وكذلك يرى عبد الجليل (1998) ان الحديث عن التغير الاجتماعي يعني الانطلاق من مجتمع معطى بالنسبة لحالة اجتماعية سابقة عليه قصد تحديد سياقات هذا التغير ومجالاته، وبالتالي، فقد لا يعدو أن يكون هذا المعطى هو المجتمع التقليدي عندما يكون مرتبطا بمعالجة ما هو تنموي، إذ يصبح هذا المجتمع مرجعية لقياس درجة ومستوى التغير الاجتماعي. تدفعنا محاولة تحديد مفهوم التغير الاجتماعي إلى التساؤل عن أشكال وتجليات حضوره سواء في الفلسفة الاجتماعية أو في مختلف المقاربات الاجتماعية والأنتروبولوجية التي ساهمت كل منها على استكشافه والتأسيس له بالشكل الذي ينسجم مع الطروحات والنظريات المؤسسة لذلك.
التغير الاجتماعي: بين المنظور الفلسفي و التوظيف الاجتماعي:
ان المقاربة الرصينة للتغير الاجتماعي تبدأ في الوهلة الأولى من التأصيل الفلسفي للظاهرة، حيث يكشف تصفحنا للفكر الفلسفي عن زخم كبير من المساهمات الفلسفية التي أثارت إشكالية التغير. فمنذ الفكر الفلسفي اليوناني لم تحد الآراء الفلسفية عن ملامسة هذه الإشكالية ولو أنها متفاوتة في الطرح والتصور، إذ نجد الفكر الهيراقليطسي لم يبتعد عن إثارة التغير التي كانت قضية فلسفية مركزية في إسهاماته الفلسفية حاول من خلالها دحض آراء خصومه التي كانت تركز على الثبات. فدافع هيراقليطس عن تغير الكائنات والموجودات، وسار أرسطو في نفس الاتجاه الذي رسمه هيراقليطس، حيث ساهمت كتاباته وإنتاجاته الفلسفية في رسم معالم فكر يؤمن بأهمية التغير ودافع عنها بالتركيز على مبدأ الصيرورة في حياة الكائنات والموجودات، أو بالأحرى صيرورة الوجود ككل(ادوارد, 1874).
أسس المنطق الأرسطي لفكر فلسفي حديث سيجعل، هو الآخر، من فكرة التغير موضوع الاهتمام الفلسفي الذي سيترتب عنه ظهور طروحات فلسفية تدعم فكرتي الثبات والاستقرار من جهة، وفكرتي التحول والتغير من جهة ثانية.
لن يقف مفهوم التغير عند حدود التوظيف الفلسفي بل سيزداد تبلورا واتساعا. إذ ستظهر مقاربات اجتماعية تتأطر ضمن الفكر الاجتماعي والاقتصادي تجعل منه محور اهتماماتها حتى ولو كانت تتميز بنوع من الكليانية( أوغست كونت، سان سيمون، آدم سميث...) وهكذا، سيظهر إلى الوجود فكر اجتماعي مؤسس على القواعد العلمية يهتم بالتغير الاجتماعي ليس كتحولات تشهدها المجتمعات فقط، وإنما كفكر يبرز تاريخية المجتمعات الإنسانية ، وهو ما سيجعل أحد علماء الاجتماع البارزين والمختصين في التغير الاجتماعي يؤكد بأن«علم الاجتماع فقد علماء اجتماع كرسوا جهودهم لدراسة التغير الاجتماعي، وتتوفر على آخرين يهتمون بدراسة تاريخية المجتمعات، والسبب في ذلك يكمن في افتقارهم إلى أدوات لتفسير وتأويل التغيرالاجتماعي(الدقاس,1987).
التغير الاجتماعي في الفكر الاجتماعي: من المقاربة السوسيولوجية إلى المقاربة الأنتروبولوجية:
دون التذكير بأن فكرة التغير الاجتماعي نالت حيزا مهما في كتابات الفلسفة الاجتماعية سواء مع أوغست كونت أو مع روسو وغيرهم، إلا أن ذلك لا يعني بأن السوسيولوجيا، بعد أن أخذت صبغتها العلمية ستجعل من التغير الاجتماعي موضوعها الأساسي، بقدر ما ستظهر دراسات تميل نحو فهم مجموعة من الظواهر الاجتماعية التي أخذت المجتمعات الغربية تشهدها في سياق الكشف عن حيثيات صيرورة هذه المجتمعات(كرم, 1936). إن ما وجب التأكيد عليه هو أن هذه المقاربات سارت في اتجاه التأسيس لعلم اجتماع يهتم بالتغير الاجتماعي سواء في بعده التطوري(التطور الاجتماعي) الذي يمتد لفترات طويلة، أو في بعده التغيري(التغير الاجتماعي كتبديلات قابلة للملاحظة والدراسة)(روشيه، مندراس)
في الوقت الذي شرع فيه علم الاجتماع يجعل من التغير الاجتماعي أهم الموضوعات التي تشتغل عليها، أخذت تظهر إلى الوجود أنماط أخرى من الدراسات تهتم بدينامية المجتمعات المتخلفة أو السائرة في طريق النمو اتخذت منحى أنتروبولوجيا. إذ همت كثير من الأبحاث إلى الاشتغال على المجتمعات الحديثة العهد بالاستقلال، والتي ينظر إليها بأنها مجتمعات تقليدية حسب المنظور الاجتماعي لها. انصبت الاهتمامات الأنتروبولوجية، إذن، على دراسة كيفية التعايش القائم بين التقليد والتجديد في هذه المجتمعات ودراسة إشكالية الثقافة (سلام, 2002) حتى ولو أن قدرة الأنتروبولوجيا في حصر هذه التغيرات «معقدة وغير كافية ما لم تستعن بأدوات علم الاجتماع والسيكولوجيا في دراستها لدينامية هذه المجتمعات (لكلرك, 1982).
التوظيف الأنتروبولوجي للتغير الاجتماعي:
تعمل الأنتروبولوجيا، حسب جورج بلاندييه، نتيجة تنوع وتعدد الملاحظات التي تقوم بها، ومن خلال التحليل المقارن الذي تنهجه لمختلف المعطيات، على بلورة نظرية خاصة بالمجتمعات المسماة بالتقليدية. في هذا السياق، فإن منظور الباحث الأنتروبولوجي للتغيرات الاجتماعية يرتكز على ضرورة استحضار ديناميتين مهمتين في التغير الاجتماعي إحداهما داخلية والأخرى خارجية. إنه يربط التغير الاجتماعي بالدينامية الخاصة بالتغيرات الناجمة عن المصادر الخارجية من جهة، وبالدينامية المرتبطة بالتغيرات الناتجة عما هو داخلي من جهة ثانية. استلهم بلانديي ذلك من الباحث بلبار الذي تحدث هو الآخر عن دينامية البنيات والأنساق وهي الدينامية التي تحدث على المستوى الداخلي لكل بنية أو نسق، وتشمل كل العناصر المكونة لها، ثم دينامية التحول حيث تصبح البنية موضوع الدراسة والاشتغال وما يطرأ عليها من تحولات وتغيرات(Balandier, 1986). هاتان الديناميتان اللتان تشكلان المصدر الحقيقي للتغير الاجتماعي حسب بلانديي تضعنا أمام سؤال الاستمرارية والتكرار، أو بالأحرى، أمام جدلية التقليد والحداثة. فإذا كانت تختلف المقاربات الاجتماعية، بدءا من طرح أوغست كونت، تقرن التجديد والتقدم بالمجتمعات المتقدمة أو العقلانية حسب تعبير ماكس ويبر فإن التكرار والرتابة تتميز بها المجتمعات التقليدية وغير التاريخية، أو كما هو الأمر عند كارل ماركس الذي يعتبر التقليد بمثابة العائق الأكبر أمام عقول الأشخاص، فإن المقاربات الأنتروبولوجية تعتبر الأنساق التقليدية بأنها تشهد حالة من الدينامية والحركية (Boudon, 1997). إنها تلغي تلك المقولة المستوحاة من التصور الاجتماعي والمتمثل في ثبات المجتمعات وجمودها. هكذا، نلاحظ أن الأنتروبولوجيا تشرع في وضع تاريخ للمجتمعات السائرة في طريق النمو، وهو التاريخ الذي بترته السوسيولوجيا عندما ألصقته بالمجتمعات المتقدمة.
تكمن مهمة الأنتروبولوجيا - وهي تضع مقاربتها للتغير الاجتماعي – في كونها تربطه بالمجتمعات غير الأوربية منطلقة، حسب رِؤية بلانديي، من التمييز الذي تضعه بين دينامية التغيرات الداخلية ودينامية التغيرات الخارجية في هذه المجتمعات، ومن التمييز بين ضرورات هذا التغير وشروطه.
وقد حدد بلانديي في إطار حديثه عن دينامية التغيرات الاجتماعية الداخلية ثلاثة مؤثرات لها ارتباط بالتغيرات الاجتماعية-ثقافية. تتعلق الأولى بالتعديلات الناجمة عن العلاقات القائمة بين المجتمع والإطار الطبيعي الضامن لها، أما الثانية فتتصل بهشاشة التوازنات الاجتماعية، بينما الأخيرة فمصدرها التحديث والابتكار((Forsé, 1992
وفي حديثه عن دينامية التغيرات الخارجية يورد بلانديي مجموعة من الخصائص التي يجب على المهتم بالتغيرات الاجتماعية أن يأخذها بعين الاعتبار، ومن جملتها:
التفاوت الحاصل بين المجتمعات المتقدمة والمتأخرة على المستوى التقني والاقتصادي، وما لذلك من آثار سلبية على التغيرات الاجتماعية والمتجلية في ترسيخ اللاتوازنات الاجتماعية .
ينتج عن الخاصية السابقة ظاهرة التبعية، التي تفرض على المجتمعات المتقدمة مراقبة التغيرات الاجتماعية التي تشهدها البلدان المتأخرة مما يلزم هذه الأخيرة بضرورة توجيهها .
لم تقف الأنتروبولوجيا عند هذه الحدود، حسب جورج بلانديي، بقدر ما عملت على وضع اليد على العوائق والعراقيل الثقافية منها على وجه الخصوص، التي تحول دون التقدم التقني والاقتصادي في المجتمعات السائرة في طريق النمو. إنها العوائق التي تصنفها المقاربة الأنتروبولوجية ضمن ظاهرة المحافظة .(Giacobbi, 1992)
التوظيف الاجتماعي للتغير الاجتماعي:
يمكن توظيف النظريات السوسيولوجية التي قاربت مفهوم التغير الاجتماعي على نظريات كليانية(holistiques) على غرار ماركس وما قدمه من أطروحات حول التغيير الاجتماعي، حيث اعتبر الأساس المادي للمجتمع المرتكز الرئيسي لكل عملية تغيير؛ أو إميل دوركايم حيث تصوره عن الكثافة الاجتماعية والاتصال بمجتمعات أخرى عوامل بارزة في التطور والتغير الاجتماعي. يركز دوركايم في كتابه «التقسيم الاجتماعي للعمل» على العلاقة القائمة بين الفرد والمجموع الاجتماعي واضعا السؤال التالي: كيف يقيم جمع من الأفراد مجتمعا؟ وللإجابة على هذا السؤال، ميز دوركايم بين نمطين من التضامن: تضامن آلي، وتضامن عضوي. إنه أراد أن يكشف عن القوانين التي تحكم الظواهر الاجتماعية وإيجاد أجوبة لمجموع المشكلات الاجتماعية للوصول بالمجتمع إلى التضامن العضوي؛ وإلى جانب ماركس ودوركايم، نجد كذلك الاتجاه الوظيفي الذي يبدو التغير الاجتماعي لديه مرتبطا بوظائف النسق الاجتماعي؛ فيما يفسر ماكس التغير الاجتماعي بالعودة إلى ما يطرأ من تغيرات على مستوى النسق القيمي، وهكذا يكون العامل الديني، مثلا، سببا من أسباب التغير الاجتماعي. إذا كانت النظريات الكليانية تفسر التغير الاجتماعي من خلال مقولات كبرى، فهناك نظريات اتخذت من الفرد موضوعا لها لدراسة التغير الاجتماعي، ونذكر في هذا السياق سوسيولوجيا ريمون بودون ونموذجه التفسيري المتمثل في المنهج الفرداني والذي أسسه من خلال استلهامه لآراء مجموعة من السوسيولوجيين ومن جملتهم ماكس وفيلفريدو باريتو وغيرهم...
المقاربات الكليانية للتغير الاجتماعي:
الوظيفية والمستويات الثلاثة في التغير الاجتماعي:
تميل الوظيفية ككل النظريات التطورية إلى اعتبار المجتمع نسقا اجتماعيا يتجه إلى الحفاظ على توازنه الداخلي. ولن يحصل ذلك حسب هذه النظرية إلا بعد الأخذ بعين الاعتبار الخصائص التالية:
- كل نسق اجتماعي هو عبارة عن مجموعة من العناصر المتداخلة فيما بينها مشكلة بنية.
- كل نسق اجتماعي هو بمثابة بنية قارة.
- كل عنصر من عناصر النسق يِؤدي وظيفة ما ويساهم في الحفاظ على التوازن داخل النسق.
- وظيفة النسق تنبني على التوافق الحاصل بين الأعضاء حول القيم الأساسية.
إذا كانت الوظيفية تجعل من توازن النسق الاجتماعي القضية المركزية التي تدافع عنها في أطروحاتها مع مختلف روادها، فإن التساؤل عن موقع التغير الاجتماعي ضمن هذا الطرح يصبح مشروعا، خاصة وأن التوازن الاجتماعي قد يبدو في أول وهلة مناقضا للتغير الاجتماعي إذا اعتبرنا هذا الأخير بمثابة نقلة يشهدها المجتمع من حالة إلى أخرى في ظرف زمني غير محدد قد يكون قصيرا أو متوسطا أو طويلا. «إن التوازن هو حالة يطرأ عليها تعديل بسيط تختلف به عن حالة أخرى منشودة وتكون مفروضة على النسق»(Rocher, 1970). ولن يتحقق ذلك إلا عبر وظيفة الاندماج الاجتماعي الذي يهدف النسق الاجتماعي، أو بالأحرى، الجماعة المجتمعية إلى تحقيقه.
التغير الاجتماعي على مستويين:
- المستوى القصير، حيث التغير الاجتماعي يحدث بفعل التحولات التي تساهم فيها العوامل الخارجية، وبشكل أساسي التقدم التكنولوجي؛ أو بفعل العوامل الداخلية المتمثلة في التوترات الاجتماعية الجزئية أو الكلية.
- المدى البعيد حيث حددت الوظيفية، مع بارسونز، ثلاث حقب كبرى مر منها المجتمع الإنساني: الحقبة البدائية والحقبة الوسيطية والحقبة المعاصرة التي تتميز مجتمعاتها بسيادة القوانين والمؤسسات(1992Giacobbi,).
غير أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو تحديد الفاعل الرئيسي لهذا التغير الاجتماعي، إذ من الصعوبة بمكان كما يقول، ميشيل فورسي، اعتبار الأجزاء المكونة للنسق الاجتماعي بأنها نفسها هي الفاعل الرئيسي في تحولاتها. على هذا الأساس يرى بارسونز أن القيم المستدخلة بواسطة التنشئة تشكل حاجزا مهما أمام كل تغير اجتماعي، وتصبح بالتالي وظيفة الثبات الناتجة عن استدخال هذه القيم هي القادرة على تفسير المقاومة التي تشهدها عملية التغير الاجتماعي في كثير من المجتمعات.
وهكذا تميز الوظيفية، مع بارسونز، في التغير الاجتماعي بين ثلاثة مستويات:
المستوى الأول: يمس البعد الداخلي للنسق الاجتماعي دون إحداث تغيير جذري عليه، ويتميز بالثبات والاستقرار، وهو ما يعني أن التغير الاجتماعي يحدث في صورة تحول اجتماعي داخلي لعناصر النسق للإبقاء على التوازن، ويحدث كل ذلك، كما تقر الوظيفية، بفضل وظيفتي النسق الاجتماعي المتمثلتين في التكيف والإدماج. أي تكييف كل عناصر النسق الاجتماعي مع الجديد وإدماج كل ما هو جديد في بنيات النسق.
المستوى الثاني: إذا كانت وظيفة الثبات تؤدي دورها على مستوى النسق الاجتماعي، وإذا كان التغير الاجتماعي الحاصل فيه قد يحدث بشكل غير واضح، فهذا يعني أن تطور النسق الاجتماعي يحدث بشكل بطيء، وهو ما يؤشر على وجود تغير اجتماعي ضمني ومضمر.
المستوى الثالث: وهو المستوى الذي تعمل فيه القوى الاجتماعية على إحداث تغير اجتماعي قوي ينتج وضع قطيعة مع التوازن الاجتماعي، يترتب عنه تأسيس نظام اجتماعي جديد. بعبارة أخرى، القطع مع التوازن وإحداث تغير على مستوى البنية يعني ظهور تحولات في القيم.
هذه المستويات الثلاثة في التغير الاجتماعي لها دلالة مجازية كما يقول ميشيل فورسي(Forsé). ذلك أن نمطية هذه المستويات تنبني على مبدأ أن الاتجاه الطبيعي لكل نسق يتمثل في الحفاظ على التوازن. فإذا كان هناك لا توازن نتيجة توترات وصراعات اجتماعية، فإن ذلك يدفع بالنسق الاجتماعي إلى فرض وممارسة وظيفة الثبات.
قياس التغير الاجتماعي:
غير أن قياس التغير الاجتماعي لا يتم من خلال علاقات التمفصل بين العوامل الداخلية فقط(التوترات الداخلية أو أشكال التكيف والاندماج الاجتماعي كما تقر بذلك الوظيفية)، وإنما يحدث كذلك، بفعل وقوة العوامل الخارجية المؤثرة والمتحكمة في سيرورة التحول الاجتماعي. وهذا ما أثبته ماكس ويبر عندما أكد بأن «الإصلاح البروتستانتي، بخلقه نمطا أدبيا ينسجم مع تطور الاستثمارات والتوفير، قد لعب دورا حاسما في تطور الرأسمالية»(عبد الجليل, 1998)، وهي الفكرة التي نجدها، كذلك، في أطروحة التحديث حيث إن المحاولات النظرية في سوسيولوجيا التنمية تعتبر العوامل الخارجية تساهم كثيرا في القطع مع البنيات التقليدية والدفع بعوامل أخرى جديدة تساعد على تسريع التحول الاجتماعي بنيويا.
لا يقف العامل الثقافي، هو الآخر، بعيدا ومنعزلا عن مسرح التغير الاجتماعي، بل تعد إسهامات التأثيرات الثقافية على البنية الاجتماعية بليغة جدا. وترجع أصول التدخل الثقافي إلى ما يصطلح عليه بالنظريات العاملية التي تنظر إلى التغير الاجتماعي على أنه نتيجة لعامل واحد هو عامل الثقافة، من حيث إنها أفكار وقيم ومعتقدات وسلوكات كما هو متعارف عليه في الدراسات الأنتروبولوجية على الرغم من كونها ليست محل إجماع من حيث الدلالة بين القواميس المختلفة.
إن تدخل العامل الثقافي في إحداث التغيرات الاجتماعية «يبدو على مستوى تفاعل العناصر الثقافية مع بعضها البعض حتى ولو كانت الطريقة التي يتم بها تختلف من النظرية الانتشارية إلى النظرية الارتباطية في الثقافة»(ادوارد, 1874).
تساهم، إذن، النظريات العاملية في تفسير التغير الاجتماعي بفعل التدخل الثقافي، ولا ينبغي اعتبارها بمثابة النموذج الاجتماعي الأمثل لدراسة التغير الاجتماعي خاصة وأن الإرهاصات الاجتماعية الأولى التي اهتمت بهذه الظاهرة برزت مع كونت وماركس وغيرهما من السوسيولوجيين الأوائل الذين تحدثوا عن التطور والتحول الاجتماعيين في إطارهما العام والشامل بتحديد المراحل الكبرى التي يمران عبرها.
ينصح هنري مندراس )1985Mendras,) في كتابه «التغير الاجتماعي: الاتجاهات والبراديغمات» الدارسين للتغير الاجتماعي، والسوسيولوجيين على وجه التحديد، بعدم السقوط في النزعة التطرفية عندما يتم ربط التغير الاجتماعي بأحد الاتجاهين السابق ذكرهما «نظريات التوازن ونظريات اللاتوازن». لذلك، نجده يدعو المهتمين بهذه الظاهرة إلى التريث في إصدار الأحكام وإعطاء تعليلات للتغير الاجتماعي.
إذا كانت نظريات التوازن تفسر التغير الاجتماعي بالانطلاق من دينامية الميكانزمات الداخلية للأنساق الاجتماعية وبنياتها بفضل التفاعل الحاصل بين عناصرها، فإننا نجد بالمقابل، نظريات اللاتوازن، أو بالأحرى، نظريات الصراع تقدم تفسيرا للتغير الاجتماعي على أنه نتيجة للتناقضات المؤدية له، كما شددت على ذلك النظرية الماركسية الكلاسيكية منها والحديثة.
بمقتضى هذه النظريات يصبح الصراع عملية اجتماعية يأخذ تجليات مختلفة في الحياة الاجتماعية. وهكذا، فبمقاومة التغيير «يؤدي الصراع إلى إعاقة النسق من الاستمرارية في الروتين المميت ويفسح المجال للاختراع والإبداع»(Forse, 1992). عن التصادم، مثلا، بين القيم الاجتماعية التقليدية والحديثة، يؤدي في نهاية التحليل إلى مجموعة من التغيرات التي تمنع من تحجر النظام الاجتماعي، مما يهيئ الأرضية ويؤثث للجديد بفضل الاختراعات. في سياق هذا التصور، وجدت النظرية الماركسية في الصراع الأساس الحقيقي والعلمي لتفسير التغير الاجتماعي، وأن التاريخ هو تاريخ الصراعات، وبالتالي فهو تاريخ التغيرات الاجتماعية. إن الصراع، أخيرا، في ظل هذا الطرح الماركسي، هو محرك التاريخ ما دام يستند على التناقضات الاجتماعية.
ودون الاسترسال في الحديث عن النظريات الماكرو-سوسيولوجية المفسرة للتغير الاجتماعي، يمكن القول بأن «علم الاجتماع الحديث يميل، مع ذلك، إلى رفض الفكرة التي تقول بوجود سبب مهيمن للتغيير الاجتماعي، وتميل في الوقت نفسه إلى الاعتراف بتعددية أنماط التغيير»(ريمون بودون, 1986).
لا يمكن مقاربة التغير الاجتماعي، إذن، ببراديغم سوسيولوجي واحد، وهو ما يعني اعترافا وإقرارا بأزمة البراديغمات الاجتماعية خاصة عندما يتعلق الأمر بموضوعها. فإذا كانت النظريات الماكرو-سوسيولوجية الداعية إلى اكتشاف قوانين واتجاهات التطور الاجتماعي تجعل من الكلية الاجتماعية الموضوع المركزي في دراساتها وانشغالاتها، فإن السوسيولوجيا الفردانية ستجعل من الفرد الموضوع الأساسي لعلم الاجتماع، وبالتالي، تفسير التغير الاجتماعي من خلال أفعال وسلوكات الفرد كما يقول ريمون بودون: «علم الاجتماع لا يمكن أن يقوم إلا على أعمال فرد أو عدد من الأفراد المتفرقين. لهذا السبب يجب أن يتبنى حصرا المناهج الفردانية»(انصار, 1992).
الخاتمة:
بات التغير الاجتماعي من الموضوعات التي همت الدارسين السوسيولوجيين من مختلف مشاربهم الفكرية ولم تستقر دراساتهم على رأي واحد. فإذا كان التحديد المفاهيمي من بين الإشكالات التي تفاوتت حولها الآراء، فإن المقاربة المنهجية للتغير الاجتماعي، هي الأخرى، لم تخرج عن محيط هذا التفاوت والاختلاف خاصة بين النزعتين الهولستية والفردانية.
إن تتبع المسار السوسيولوجي ومحاولة فهمه للتغير الاجتماعي، واختلاف هذا الفهم من مدرسة سوسيولوجية إلى أخرى، من المدرسة الحتمية(مندراس) مرورا بالوظيفية(بارسونز) إلى الفردانية(بودون) يدفعنا إلى استحضار التداخل المفاهيمي الحاصل بين التغير الاجتماعي وجملة من المفاهيم الأخرى القريبة منه كالتطور والتحول الاجتماعيين على سبيل المثال.
غير أن التغير الاجتماعي يبدو أكثر دقة وتحديدا من هذه المفاهيم. لذلك، واستنادا إلى رأي ريمون بودون، لا ينبغي أن ندرسه استنادا إلى قوانين تاريخية كبرى، وإنما من خلال المفاعيل العرضية التي تحدث تحولات في البنيات الاجتماعية. ويجرنا ذلك، إلى القول، بأن المقاربات المنهجية لهذا الموضوع لم تكن بذات المنحى، إذ نلاحظ تباينا ملحوظا بين التصورات الهولستية(الماركسية، الوضعية، الوظيفية...) والمنهجية الفردانية في تناول التغير الاجتماعي بالدراسة والتفسير والفهم.
لقد فدمت المنهجية الفردانية جوابا عن كيفية مقاربة التغير الاجتماعي بالتركيز على ظاهرتي البروز والمفاعيل المنحرفة التي استطاعت أن تضيف عناصر أساسية إلى الأبحاث حول التغير الاجتماعي. وهكذا، اعتبرت المنهجية الفردانية السياقات المعقدة للتغير الاجتماعي من أهم المباحث في علم الاجتماع، وهو ما جعلها تدعو إلى ضرورة تركيز جهود الدارسين السوسيولوجيين على أفعال وسلوكيات الفاعلين بدءا من بساطتها وصولا إلى تعقدها، وليس التركيز على المقولات الهولستية العامة. فالتغير الاجتماعي، حسب بودون «لا يكون معقولا(intelligible) حتى على مستوى الماكرو-سوسيولوجي، إلا إذا غاص التحليل في العملاء أو الفاعلين الاجتماعيين الأكثر بساطة الذين يشكلون أنساق الترابط التي يعنى بها عالم الاجتماع».
إذا كانت النظريات الكليانية تنظر إلى التغير الاجتماعي على أنه نتيجة تضارب المصالح الاجتماعية وصراعها، فإن المنهجية الفردانية تتجاوز ذلك إلى اعتباره ناتجا عن المفاعيل العرضية الناشئة عن البنيات الاجتماعية المتداخلة والمترابطة فيما بينها. وبهذه الإضافة النظرية والمنهجية أضحت الفردانية مرجعا لكثير من الأبحاث والدراسات السوسيولوجية التي أثبتت جدواها بالنظر إلى نتائجها التي تقدمها على مستوى مسرح السوسيولوجيا مقارنة بالمقاربات الكليانية.
المراجع:
1- حليم، عبد الجليل، (التنمية والتبعية)، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز، فاس، عدد 8، 1986
2- حليم، عبد الجليل، التحديث القروي ورأسملة الزراعة المغربية«، سلسلة ندوات ومناظرات، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز، فاس، رقم 10، 1988.
3- تايلور، إدوارد، الثقافة البدائية، الأبحاث في اتجاه تطوير الأساطير والفلسفة والدين والعرف، 1874.
4- الدقاس، محمد، التغير الاجتماعي بين النظرية والتطبيق، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، ط 1، عمان، الأردن، 1987.
5- كرم، يوسف، تاريخ الفلسفة اليونانية، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1936.
6- سلام، محمد شكري،»سوسيولوجيا التحديث والتغير في المجتمع القروي«، مجلة عالم الفكر، عدد: 3، المجلد 30، يناير– يبراير، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2002.
7- لكلرك، جيرار، الأنتروبولوجيا والاستعمار، ت: د.جورج كتورة، معهد الإنماء العربي، بيروت، ط. 1، 1982.
8- Balandier, Georges, sens et puissance, quadrige, puf, 3rd ed, 1986.
9- Boudon,R. effets pervers et ordre social, p.u.f, 1977.
10- Forsé, Michel, «les théories du changement social», sciences humaines, n° 25, mars, 1992.
11- Giacobbi, M. et j.p. Roux, initiation à la sociologie, les grands thèmes, la méthode, les grands sociologues, hâtier, 1992.
12- Rocher, Guy, le changement social, Tome 3, coll. point, n° 15, Paris, 1970.
13- M. Forsé, op. cité, p: 28.
14- أورده عبد الجليل حليم في: التحديث القروي ورأسملة الزراعة المغربية، سلسلة ندوات ومناظرات، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز، فاس، رقم 10، 1988.
15- H. Mendras, le changement social: tendances et paradigmes, ed Armand colin, paris, 1985.
16- ريمون بودون وفرانسوا بوريكو، المعجم النقدي لعلم الاجتماع، ت: سليم حداد، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1986، ص: 186
17- بيار أنصار، العلوم الاجتماعية المعاصرة، ت: نخلة فريفر، المركز الثقافي العربي، ط: 1، 1992، ص: 76.
#عاهد_جمعة_الخطيب (هاشتاغ)
Ahed_Jumah_Khatib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟