العراق "محرَّراً"، لأمين الباشا.
إن إعادة الإعمار السياسي والاقتصادي والإداري في العراق تتطلب إعادة إعمار ثقافي. فما هي ملامح خطة إعادة إعمار العراق ثقافياً؟ الكاتب والباحث العراقي سلام عبود المقيم في منفاه الأسوجي يعرض بمنهجية نقدية ورؤيوية لافتة، تصوراته للمشروع الثقافي "المخيف" الذي بدأت حالياً خطة تنفيذه العملية، جاعلةً من البعث والطائفية والعشائرية في العراق خصائص جينية يعاد "تأهيلها" ثقافياً في حيز الحياة المجتمعية، لكنْ في ثياب المارينز.
أسوج...
كما أن الهدم والاعمار المادي والسياسي قد جرى التفاوض حوله مع فرقاء اميركيين واوروبيين بشراكة محلية، فإن الاعمار الثقافي كان، بحكم طبيعة الثقافة السباقة على البناء المادي، قد تم ترتيبه وزرعه كخلايا فكرية وسياسية منذ وقت مبكر، كممهد للغزو والاحتلال والهدم. وقاد هذه الخلايا بعض الوجوه المؤيدة للاحتلال، من خلال مؤسسات ثقافية أسبغ عليها صفة "المؤسسات البحثية"، كمؤسسة الخوئي وصحيفة "المؤتمر" وصحيفة "الزمان" ومؤسسة مكية، التي استطاعت ان تجمع حولها عدداً من المؤيدين المساندين للحرب والاحتلال، واعادة الاعمار بعد انجاز مرحلة التدمير العسكري. وقد باشرت هذه الخلايا التحول الى مؤسسات علنية، كمؤسسة "الزمان" و"المؤتمر"، في سباق سريع وشره من اجل كسب الارض الثقافية في الداخل، بعدما كان عملها محصوراً في الخارج. اما في الجزء الكردي فإن الامر هناك لم يكن ليحتاج الى جهد خاص. فالمؤسسات الاعلامية للحزبين الحاكمين، حزبي المدن - الدول الكردية، قد اعلنت صراحة تطابق مشروعها القومي مع اهداف القوات الغازية في المجالات كافة، بما في ذلك الجانب الثقافي، شريطة ان تكفل اميركا للقيادات الكردية بسط نفوذها على الموصل وكركوك بسطا مباشراً او من طريق الحاقهما بالادارة الكردية الموعودة.
ما هي ملامح خطة اعادة اعمار الثقافة؟
لم تبرز بوضوح تام حتى هذه اللحظة خطة واضحة في المجال الثقافي، عدا بعض الظواهر المتفرقة، ابرزها عودة بعض صحف الخارج الى الداخل في ظل الفوضى السياسية والمؤسسات والأمن، الا انها خطوة ضرورية في مجال تثبيت حرية التعبير وتوسيعها. ومن الظواهر الثقافية الجديدة بروز دعوات متعجلة الى خلق اتحادات مهنية وثقافية وتجمعات للمثقفين. بعضها نبع من داخل العراق بتأييد من بعض الاطراف الخارجيين كاتحاد المسرحيين، وبعضها جلب بالكامل من الخارج بالتنسيق مع خلايا الداخل، كدعوة سعد البزاز الى اقامة "ميثاق وطني عراقي". وهي تسمية تذكّر بجماعة "الميثاق الوطني العراقي" البعثية، التي حضرت اجتماع الناصرية بإسناد مباشر من المخابرات المركزية الاميركية. وقد بدأ مشروع البزاز الثقافي ببيان "31 مثقفاً" المنشور في 14/4/2003 في صحيفة "الزمان"، وتواصلت تلك النشاطات الثقافية باجتماعات فندق الشيراتون مع المثقفين والاكاديميين والاعلاميين، مصحوبة بآمال عريضة وبإغراءات مالية مؤثرة. وتستند دعوات البزاز الى مبدأين اساسيين، الاول: التسامح او المصالحة، والثاني: اقتسام الارض وفق نظرية لا غالب ولا مغلوب. اضافة الى عبارة مبتورة اسمها "رحيل القوات"، من دون تحديد لطبيعة "القوات" الراحلة. وفي اجتماع الشيراتون أكد البزاز مجدداً "المصالحة" وفق صيغة "لا يوجد رابحون ولا خاسرون"، و"إعادة دور قوى الداخل"، بعدما كان التعويل على الخارج قبل الحرب (الزمان 28/4/2003).
وفي الاطار نفسه جاء "البيان الثقافي" الصادر عن "الامانة العامة لرابطة الكتاب والمثقفين العراقيين" في آذار ،2003 الداعي الى "خلق واقع جديد" وفق الثوابت الآتية: "الاسلامية والوطنية العراقية ووحدة الانتماء والمصير التي تؤطر المثقفين العراقيين مهما اختلفت مرجعياتهم الايديولوجية"، اضافة الى مبدأ "الشراكة القوية" في "صناعة الانسان والمستقبل"، من دون ان يتم تحديد طبيعة الشراكة والشركاء. واذا كا بيان البزاز قد جاء على ذكر "القوات" على استحياء، فإن هذا البيان يغفل تماماً ذكر هذه القوات، ويكتفي بعبارة "حفظ السيادة" و"استقلال البلد". واذا كان بيان البزاز يلبس ثوب العلمانية فإن بيان الرابطة يعلن من غير لبس هويته الاسلامية ويؤكدها. وتأتي هذه الدعوات وغيرها كجزء من مشاريع اعادة تكتيل القوى الثقافية وتجميعها ضمن خطط لم تتبلور ملامحها وغاياتها بعد، لكنها خطط تحمل منذ ولادتها بذور التعارض والتناقض الظاهر والمستتر، العارض والمستعصي.
بعث الفوضى والقبلية
ربما تكون اشهر الصور الثقافية الحسية، التي تمتع البعض برؤيتها حية من على شاشات التلفزيون، ومنهم جورج بوش شخصياً، صور تدمير مراكز الثقافة والبحث العلمي العراقية، التي فُسرت وفق المفهوم الاميركي، على لسان وزير الدفاع الاميركي بأنها "تعبير عن الحرية" و"حرية ممارسة الاخطاء". وكان ذلك اول تفسير ايديولوجي اميركي لمعنى الحرية والتحرير. فالحرية الاميركية، طبقاً لاقوال رامسفيلد، تساوي بين فك الاغلال واطلاق طاقة التدمير الثقافي، التي هي في حقيقة الامر تعبير عن اتحاد مصالح الفئات الشريرة الثلاث: السلطة السابقة، قوات الاحتلال وحلفاؤها، والجماعات المنحرفة اجتماعياً في المجتمع العراقي. بيد ان الرسالة الداخلية، التي حرص الاميركان بعناية بالغة على ارسالها الى العالم، من خلال تجربة الحرية البشعة تلك، تقول: إن العراق ليس المانيا او اليابان، الا في نظر العمي والاغبياء.
اما الظاهرة الثالثة التي رافقت اعمال الاحتلال فظاهرة انبعاث الروح القبلية مجدداً، بوساطة القوات الغازية. فقد جرى وصف الجنرالات وتجار الحرب ووكلاء السلطة القبليين بالشيوخ، وهو امر حرص الاعلام العسكري على ترويجه. فالجنرال البعثي مزاحم كنعان التميمي نعتته القيادة العسكرية البريطانية بـ"شيخ البصرة"، في محاولة منها الى اعادة وصف المجتمع البصري وفق منظور عشائري، حيث تبدو بصرة السياب اشبه بعشيرة لصوص. وفي خيمة الناصرية، التي عقدها جاي غارنر، كان للوجود العشائري ثقله الملموس. ويفسر البعض هذا الامر بالقول ان القوات الغازية، التي لم تجد لها سنداً قوياً في المجتمع العراقي، الذي اندفعت الغالبية العظمى منه في اتجاه المرجعيات والقوى الدينية، أرادت الاستناد الى مؤسسة اجتماعية ما، حتى لو كانت مؤسسة تتعارض في جوهر تكوينها مع المفاهيم الاميركية حول التقدم والتحضر. فالمؤسسة العشائرية جزء من بقايا مؤسسة اجتماعية بائدة، ناضل الشعب العراقي طويلاً من اجل الحد من نفوذها. وقد تم احياؤها مجدداً على يد صدام، ولم تلبث أن اصبحت عنصراً مفضلاً في التحشيد السياسي الاميركي.
قوات الرقابة الحرة
بيد ان ابرز النشاطات الثقافية والاعلامية المرافقة لسياسة الاحتلال، هي الحملة الدعائية اليومية، التي سايرت خطة الغزو الاميركي، وكوّنت غطاء الاحتلال التبريري والنظري. ورغم بؤس هذا الغطاء والقائمين عليه، الا أنه أبدى حماسة عالية ونشاطاً لا ينكر على صفحات الجرائد العراقية والعربية ومواقع الانترنت، في الخارج على وجه الخصوص، ويلعب هذا النشاط دور الرقيب الحزبي، او يتقمص دوره.
فمن المعلوم ان الرقابة الثقافية العراقية لم تكن محصورة في مؤسسة رقابة المطبوعات، اي الجهاز الرسمي للرقابة، الذي طالب بعض المثقفين العراقيين بإلغائه، كما جاء في دعوة محمد حسين الاعرجي المنشورة في "المؤتمر" بتاريخ 8 أيار ،2003 وهي دعوة تعبّر بصدق عن وجهة نظر المثقفين العراقيين كافة. فالى جانب هذه المؤسسة لعبت الرقابة الحزبية دوراً اساسياً خطيراً في تاريخ الثقافة العراقية مدى ثلاثة عقود ونصف عقد. وقد مارس هذا الجهاز الفظ والوحشي دوراً تخريبياً وارهابياً عظيماً ضد الثقافة الوطنية وضد المثقفين افراداً وجماعات، فاقت بما لا يقاس دور المؤسسة الرقابية الرسمية، التي بدت محض جهاز بيروقراطي ضعيف قياساً بمؤسسة الرقابة الحزبية. فقد قام جهاز الرقابة الحزبي بأعمال المحاصرة والتطويق، ثم الهجوم، وصولاً الى ما عُرف بـ"التسقيط الثقافي والسياسي" للنصوص والكتّاب والفنانين، الذين أبدوا ميلاً ولو ضئيلاً لمغايرة الخطاب الرسمي السائد، العسكري والحزبي والتحالفي. ونظراً الى عدم توافر الظروف الآن لقيام جهاز جديد للرقابة الرسمية، في ظل الفوضى العامة المستشرية التي رافقت الاحتلال، فقد برز بقوة ملحوظة "جهاز الرقابة الحرة"، وهو الأخ التوأم لـ"قوات العراق الحر"، الذي أطلق عليه في زمن صدام جهاز الرقابة "الذاتية" وعاد لينشط بقوة، ولكن بزيّ جديد. فعلى انقاض جهاز الرقابة الحزبي البعثي ظهر جهاز رقابة ناطق باسم قوات الاحتلال، يستند الى الاسس الجوهرية النفسية والعقلية التي استند اليها الجهاز القديم، مستخدماً الاساليب ذاتها: الرصد، التطويق، الهجوم، والاسقاط او التصفية، موجهاً حرابه ضد كل من يبدي ميلاً لمواجهة سياسة الاحتلال، مستخدماً كل السبل والوسائل الممكنة، دون وازع من ضمير.
حراس النيات
وجهاز الرقابة الذاتية "المجندة" هذا، اعد بعض وجوهه على عجل، جهاز الدعاية التابع للمخابرات الاميركية، بالتزامن مع إعداد "قوات العراق الحر"، والتحق به البعض الآخر طوعاً وطمعاً، مدفوعين بغريزة متأصلة اسمها الادمان الرقابي، التي صنعتها ثقافة العنف وعسكرة الحياة. وقد أوكلت الى هذا الجهاز مهام الدفاع اليومي السريع عن الاحتلال وفق صيغ متفق عليها، والتصدي "الفوري" لكل من يظهر بارقة ميل معاد للوجود الاجنبي. وهي مهمة خاصة، تتطلب مهارة فريدة في متابعة كل ما يُكتب ويُنشر، ورصده. اي ممارسة دور الرقيب الخاص نيابة عن الرقيب العسكري الاجنبي. وبذلك حوّل جهاز الرقابة الخاصة مهامه من خدمة الرقيب العسكري المحلي الى خدمة الرقيب العسكري الاجنبي، بالتزامن مع تحويل المجتمع العراقي من عسكرة الحياة المحلية الى العسكرة الدولية. ونظراً الى خصوصية هذه المهمة فقد أوكلت الى مجموعة منتقاة من القمامين الثقافيين، الذين هم في الغالب من بقايا السياسيين الفاشلين وكتّاب الحرب ممن تدربوا بمهارة في مدرسة تمجيد حروب صدام سابقاً، ومن وجوه متخصصة في الانتهازية والتلون، اضافة الى مقتنصي الفرص من جماعات الفرهود الثقافي.
لقد ساهمت مراكز البحث واجهزة الاعلام العراقية الموالية للاحتلال في تزويد المحتل صورة مضللة عن طبيعة الشعب العراقي وواقعه، كاستعداد الشعب والمثقف العراقي خاصة لاستقبال الغزاة بالزهور، وتمزق كيان المجتمع العراقي الى حد أنه لم يعد قادراً على التفكير او اتخاذ القرار، اضافة الى حججها النفسية التي تؤكد شدة إملاق الناس وانكسارهم الى الحد الذي أضحوا فيه على استعداد تام لبيع أنفسهم من الشيطان في سبيل البقاء على قيد الحياة! ذلك كله يعكس حجم "الغربة" العقلية والبؤس الثقافي الذي يتمتع به هذا الفريق. ويعكس من ناحية اخرى حجم الهشاشة والدونية الفكرية والعاطفية التي تقف خلف تصورات كهذه. فرغم شدة سنوات القمع التي مارستها السلطة الباغية، ورغم شدة وقع الحصار المزدوج الصدامي والاميركي على نفوس الناس واحوالهم، ورغم الخراب الروحي من جراء كثرة حروب هذا النظام، الا ان الشعب العراقي لم يفقد رشده، كما يدّعي هذا الفريق. فهذا التصور المضلل لم يكن سوى امنية من اماني المتهافتين على مائدة الاحتلال، وانعكاس لما يعتمل في دواخلهم الهزيلة. إن هذا الفريق الذي يعمل كـ"مرشد" ثقافي وسياسي، ودليل أمني يصاحب فرق المداهمة والاعتقال، هو المسؤول عن صوغ الثقافة الوطنية للمرحلة الموقتة الراهنة بالتعاون مع المحتل. وهو المسؤول عن صوغ برامج الدفاع عن وجود المحتلين وبقائهم لاطول فترة ممكنة. وهو المسؤول امام المحتل نفسه - بحكم عقود الاتفاق - عن مهمة ايجاد غطاء شرعي وقانوني للاحتلال. والاكثر اهمية ان هذا الجهاز مسؤول عن مراقبة ردود فعل المثقف العراقي ازاء ما يقوم به المحتل، وعن صناعة غطاء اعلامي يبرر جرائم الاحتلال. فمقتل المدنيين في الموصل لم يقم الاميركان بتبريره الا على نحو ساخر، وقد تركت مهمة التبرير وتبرئة القتلة لكتّاب الحراسة المحليين. وفي احداث القتل التي تعرض لها مواطنون في مدينة الفلوجة - رغم اختلاف تفسيراتها - سارع هذا الفريق، قبل الاميركان، الى تبرئة اعمال القتل والقاء اللوم على عاتق القتلى ومنح الجناة صكوكاً قانونية تنص على "حق القتل"، في وقت سعت منظمات حقوقية اجنبية، بعضها اميركية، للتحقيق في الحوادث المذكورة. وحينما عمت المشاهد الشنيعة للنهب الثقافي والنهب العام واعمال الفرهود، سارع حراس الثقافة الى ايجاد حجج تنزه المحتلين، في وقت استقال ثلاثة من مساعدي الرئيس الاميركي لشؤون الثقافة، احتجاجاً على هذه الاعمال. ولم يكتف هذا الفريق بذلك بل راح يهاجم بشراسة وفق خطة محددة كل المثقفين الذين دانوا او انتقدوا ظاهرة السلب. فـ"حراس النيات" من بني كلبون، على حد تعبير الروائي الجزائري واسيني الاعرج، هم أقل رأفة من سيدهم المحتل. فقد لعبوا دوراً تحريضياً كبيراً في مجال توجيه الكره نحو كل ما هو عربي، في موجة سعار مخيف. وهم يتحملون قانونياً - من خلال خطابهم المليء بالتحريض والعنف - مسؤولية جنائية عن اعمال الثأر الظالمة والشنيعة التي تعرض لها فلسطينيون ابرياء، هم أهلنا، وضيوف بلادنا منذ نكبتهم. ولا يكتفي هذا الفريق بالجانب الدعائي الآني، وانما يسعى بكل السبل الى امرار مشروع الاحتلال، بالطريقة ذاتها التي مرر فيها كتّاب الحرب حروب صدام. حيث يجري الحديث بدون انقطاع عن الاحتلال الضرورة، كالقائد الضرورة، هذا المصطلح البغيض الذي ساد طوال فترة المحارق الصدامية، وزيّن صدور القصائد والقصص.
ويحاول هذا الفريق خلق تاريخ ثقافي زائف، لتضليل العامة من الناس، من طريق تدعيم حجج قبول الاحتلال بالشواهد التاريخية، بالعودة الى الماضي والتفتيش في مزابل التاريخ عن امثلة لعرب او اجانب قبلوا المحتلين او طلبوا مساعدتهم، من امرئ القيس حتى ازرا باوند وكنوت هامسون. وقد غاب عن هذا الفريق ان امرأ القيس لم يكن سوى نموذج خالد للشاعر الضليل الذي عاد من رحلة الاستجارة بحلة مسمومة، فمات ودفن غريباً. هذا الفريق لا يجهل فقط تاريخه القديم، بل هو على جهل تام حتى بتقاليد من يخدم مصالحهم. فإزرا باوند، أحد أعظم اصوات الشعر العالمي، لم تغفر له مكانته هذه كبوة مسايرته الاحتلال، فقد عاقبته "اميركا الحرة" نفسها بحجره عقلياً. وكذلك الامر مع أحد أعظم كتّاب النصف الاول من القرن العشرين والحائز جائزة نوبل، الكاتب النروجي كنوت هامسون، الذي أرغم على تمضية سنوات حياته الاخيرة في مستشفى للعلاج النفسي. اما الفرنسي لاروشيل فلم ينتظر حجره العقلي، إذ سارع الى الانتحار عشية تحرير باريس من الاحتلال. لذا، يحار المرء وهو يتأمل هؤلاء الرقباء الجهلة، الذين لم يتعلموا درس الوطنية حتى من تجارب محتليهم. ولكن، حينما نتأملهم بعمق اكبر نجد في ثقافتهم بعض الاجوبة عن السؤال الذي حيّر العالم أجمع: من الذي صنع اسطورة الطاغية صدام حسين!
من هذا الشتات يتضح لنا ان القيادة الاميركية لا تملك مشروعاً ثقافياً خاصاً، وان مشروعها الثقافي يتمثل في امر واحد، هو: كل شيء مفيد، طالما يصب في طاحونة الاحتلال. فالسياسة الثقافية الاميركية تقوم على مبدأ التأقلم مع الوسط المحيط. فهي تمتص من هذا الوسط اسوأ ما فيه ثقافياً وروحيا، مستفيدة منه لتدعيم وجودها واستمرار مصالحها. إن اميركا على استعداد لمد يدها لاكبر الشيطان، لو ان هذا الشيطان ابدى قدراً من التوافق مع مشاريعها. ولا يهم إن كان هذا الشيطان دينياً او طائفياً او قومياً او قبلياً، بل حتى لو كان بعثياً صدامياً خالصاً. فلسلطة الاحتلال التي تسيّرها شركات النفط والسلاح، في اعتبارها قوة غير شرعية، لن تجد افضل من جهاز صدام كي يتقبل هذه اللاشرعية، وينفذ مصالحها بإخلاص. من هذا المنطلق تجري عملية اعادة الاعتبار الى القيادات البعثية، كبعثيين بلا صفة بعثية وفق شعار "لا خاسرون ولا رابحون". ومن المنطلق نفسه يجري تسليم هؤلاء بالتقاسم مع جماعات العراق الحر مفاتيح عملية إعادة هيكلة البناء الاداري والسياسي.
وفي الجانب الثقافي تجري محاولات مماثلة، تهدف الى تكوين هياكل ثقافية، تقوم بمهام ادارة الثقافة، بالتقاسم بين رجال السلطة السابقين وبعثيي الخارج. اضافة الى جماعات العراق الحر.
عقبات ثقافية ومنغصات
ولكن، رغم تلك الانتصارات، فان حفلات اعراس الاحتلال لم تكن مبهجة دائماً حتى للمحتلين انفسهم ولحلفائهم. فمن الملاحظ ان اعادة الهيكلة الادارية تسير بعسر بالغ. وتسير عملية اعادة الهيكلة السياسية بعسر اكبر. اما إعادة الهيكلة الثقافية فتعاني صعوبات وتناقضات قد لا تجد لها حلاً سريعاً، بسبب طابع الثقافة الخلافي. فالخلاف في الجانب الايديولوجي لا يشبه الخلاف في الجانب الاقتصادي والاداري، ويوماً بعد يوم تتكشف للمحتلين وحلفائهم جملة معقدة من التناقضات، تنبع من شعاراتهم الملفقة ذاتها. كالتناقض بين توق الشعب الرامي الى التحرر الحقيقي الناجز من سيطرة النظام القديم ومن سيطرة القوى الاجنبية، وبين عملية اعادة هيكلة بنى المجتمع السياسية والادارية، على قاعدة التوفيق بين مصالح الادارة المحتلة ومصالح الجهاز القديم، الذي كان سبب الحرب المعلن. وفي هذا الاطار، نشأت حالة قلق وتردد، ابطأت سعي القوات الاميركية الى اقامة تحالف سياسي عراقي موقت. اذ يخشى كثير من الحلفاء، ان يكون هذا السعي محض محطة عابرة لحرق الوجوه والاوراق والشعارات. وهم محقون في تقديراتهم الاحترازية هذه. لذا تردد الشريف علي بن الحسين، قائد الاتجاه الملكي الدستوري في العودة الى مسقط رأس اخواله. وكرر احمد الجلبي غير مرة اغنية عزوفه عن تسلّم منصب سياسي في الوقت الراهن. ووضع الباججي شروطاً دونكيشوتية لتولي اي منصب، تتمثل في ضرورة ان يكون رئيساً منتخباً، في بلد تعمه الفوضى وتحفر ارضه الدبابات الاجنبية. اما التناقض بين شعار الحرية الاميركي والاحتلال كحقيقة قائمة على الارض، فهو جوهر الصدام القائم الآن في الخطاب الدعائي الاميركي وفي خطاب القوى السياسية العراقية المؤيدة للوجود الاجنبي. فلا يصح الجمع بين الحرية والاحتلال، فهما امران متناقضان. وحينما يتم القبول بالاحتلال يتوجب عدم انكار صفته كاحتلال، وانما يجب القبول به وتحمل نتائج القبول به، كي يكون الخطاب مقنعاً ومنطقياً. فنحن امام خيارين لا ثالث لهما: اما الاعتراف بوجود الاحتلال واما إنكاره وتبريره. اما التناقض الثالث فهو الذي يولده الاحساس المأسوي بالتخلص من ظالم سابق والوقوع تحت براثن متسلط جديد. اضافة الى التناقض بين الدعوة الى التخلص من حقبة نهب المصالح الوطنية الاقتصادية على يد فئة محلية فظة باغية، ووقوع هذه المصالح مجدداً في أيدي قوى اجنبية عظيمة الجبروت والشره. والتناقض بين الثقافة الوطنية وثقافة القوى الغازية، مهما أطلق عليها حلفاؤها المحليون من تسميات تجميلية، يضاف الى ذلك التناقض بين الفرقاء المحليين أنفسهم حول قضايا جوهرية كتقسيم العراق كيانات طائفية، واختلاف مصالح الحلفاء المحليين المذهبية والعرقية والسياسية والاقليمية، والاهم، الاختلاف حول الغنائم السياسية. وتمتد التناقضات لتصل حتى قلب المشروع الاميركي نفسه في صورة صراع بين مناصري جهاز المخابرات ومناصري وزارتي الدفاع والخارجية الاميركية. كل تلك التناقضات تجعل من الوحدة الايديولوجية الثقافية في جبهة حلفاء الاحتلال امراً مستحيلاً. لذلك تبدو الاجراءات الرامية الى ترميم الجسد الثقافي اكثر عسراً من غيرها، وربما تكون اكثر استحالة عند التطبيق. فإذا كانت الادارة الاجنبية قد حلت مشكلة الدعاية الفورية من خلال تكليف عدد من العراقيين وغير العراقيين اعمال الدعاية والتحريض والرد والرقابة الاعلامية، ومن خلال شراء ذمم هذا او ذاك من صغار النفوس، فانها لم تتمكن من حل مشكلة قيادة العمل الثقافي، ناهيك بإيجاد مخارج لعملية اعادة هيكلة الواقع الثقافي لمصلحة التحالف المحلي الموقت والتحالف الدولي. لان هذه المهمة ترتبط جوهرياً بالتناقضات السياسية الموجودة في جسد الفرقاء المختلفين.
"الواقعية السحرية"
في هذا المناخ الثقافي العسير، وفي ظل التناقضات المستعصية، التي تنهش جسد الحلفاء، جاء صدور قرار تومي فرانكس، القاضي بحل حزب البعث، كأجراء وقائي، يهدف الى ازالة بعض جوانب التناقضات الداخلية الكامنة في جسد القوى المتحالفة مع قوات الاحتلال. رغم ان هذا القرار بدا، في الظاهر، شأنا ابعد من حدود الاجراء الوقائي، نظرا الى كون مساواة البعث بالفاشية وجهة نظر تجد لها صدى ايجابيا عميقا في نفوس الغالبية العظمى من العراقيين.
ومن المعروف ان موضوع حل حزب البعث قد طرح في اول اجتماع لما يعرف بالمعارضة العراقية (اجتماع الناصرية)، الذي عقد في رعاية غارنر. ووجدت هذه الفكرة ترحيباً لدى اعضاء مؤتمر الناصرية، وعارضها بعض الشخصيات العراقية "المحببة" لدى المخابرات المركزية الاميركية من جماعة ما يعرف بـ"الميثاق الوطني العراقي" كما يؤكد كنعان مكية (يلاحظ هنا تشابه اسم هذه المجموعة مع عنوان بيان البزاز الثقافي). كما أوكلت مهمة متابعة عملية "التطهير" في الجانب الحقوقي الى هيئة يترأسها منذر الفضل احد مناصري الايديولوجيا البعثية السابقة ايضا، الذي تولى مهمة "تطهير المجتمع من ثقافة البعث"، والذي لا يريد الاجابة حتى الآن عن السؤال الاساسي القائل: هل تشمل هذه التطهيرات الفكر القومي الشوفيني اجمع، العربي والكردي والتركماني والآشوري، ام انها محصورة في فئة سياسية محددة تم رسميا اعلان وفاتها؟
ان تعقد الواقع الثقافي، وشدة الحاجة الى اتخاذ اجراءات تفتح الطريق امام حلول ممكنة على الصعيد الثقافي، دفعا الادارة الاميركية الى اصدار هذا القرار الذي نرى انه لم يكن في جوهره سعيا الى ايجاد حلول لمشكلات المجتمع العراقي الثقافي في درجة اساسية، وانما هو وليد الحاجة المباشرة الرامية الى تخفيف حدة التناقضات بين الحلفاء انفسهم.
ويلاحظ ان هذا القرار لم يصدر من المسؤول عن لجنة اعمار العراق جاي غارنر، ولم يصدر عن الممثل الاميركي في العراق برايمر، الذي هو المرجعية السياسية الاميركية الاولى، وانما صدر عن تومي فرانكس، قائد القوات الاميركية. فهل كان قرار حل حزب البعث قرارا عسكريا ام سياسيا ثقافيا؟
قد يقول قائل: المهم في الامر صدور القرار، ولا تهم تأويلاته، وهذا صحيح الى حد بعيد. رغم ان هذا الموضوع يثير تساؤلات جدية تحرج الحلفاء العراقيين قبل غيرهم، تتعلق بمقدار انسجام هذا القرار، من الناحية النظرية، مع ارادة بعض حلفاء الاميركان من البعثيين السابقين ككتل وكأفراد! كما ان هذا القرار يبدو متناقضا في الظاهر، مع سياسة اعادة الاعمار الاداري والسياسي والامني، التي اوكلت الى بعثيين سابقين في الغالب. لكن التمعن يكشف ان التعارض بين البعث والاحتلال ما هو الا تعارض خارجي، قشري، وما هو الا وهم. فمن الناحية الجوهرية يأتي هذا القرار ليحل الإشكال الجدي والتناقض اللذين تعيشهما عملية التقاسم الثقافي بين المحتلين والجهاز البعثي السابق، كما انه يحل التناقض الموجود داخل الكتل البعثية السابقة والحليف الراهن للاحتلال (احزاب وافراد). فهذا القرار سيحرر اولئك من تاريخهم السابق. اذ ان قرار التحريم يعني كما قالت الصحافة الموالية للأميركان "شهادة وفاة حزب البعث العراقي رسميا" موقعة باسم الجنرال تومي فرانكس. فليس الشعب العراقي وحده الذي تحرر من سلطة البعث، بل تحرر البعثي نفسه ايضا من هذه السلطة، ومن تبعيتها. وبذلك فهو حر، حاله كحال اي مواطن عراقي حر. فالموضوع في جوهره تحرير للبعثي من بعثيته بقرار عسكري، ومنحه شهادة اثبات رسمية، تسبغ عليه صفة المواطن الحر، المستعد للانخراط الفوري في عملية الاعمار بنظافة ونزاهة تامتين! ان هذه المفارقة السياسية جزء من الاجراءات الرامية الى اعادة تقاسم السلطة. فليس هناك، في تقدير المحتلين، من هم اجدر واوثق من جهاز البعث في مجال ادارة الدولة وفي مجال ادارة اجهزة الامن والمخابرات والرقابة، والاهم من هذا كله، ليس هناك من هو اجدر واحق منهم في مجال اعادة هيكلة العملية الثقافية لصالح المحتلين. وهذا هو عين ما قصده سعد البزاز بقوله "لا يوجد خاسرون او رابحون"، فقد كانت حربا بين شركاء، شركاء قدامى، حميمين الى حد اللعنة.
ان حل الجنرال فرانكس حزب البعث بأوامر عسكرية يعني ايضا حرمان المؤسسات الدستورية العراقية حق اتخاذ قرار وطني في واحدة من اخطر قضاياها، وربما يكون صدور هذا القرار قبل قيام هيئات دستورية عراقية، محاولة استباقية لوضع اليد على جزء من ملكيات الشعب، وهذا ما تفسره الفقرة التالية من القرار. فالقرار لا يتوقف عند حل حزب البعث، بل يتعداه الى منح قوات التحالف حق وضع اليد على تاريخ البعث كاملا: "تسليم ممتلكاته ووثائقه كافة الى قوات التحالف". وهذا يعني انهم يسلبون من العراقيين المضطهدين تاريخ القمع كله، ويصادرون حق الشعب العراقي في دراسة اهم الوثائق التاريخية وتمحيصها، والتي من المفترض انها ستعين الناس في اماطة اللثام عن تكوين هذا الجهاز وارتباطاته، وطبيعته وآليته، والاهم علاقاته المحلية والاقليمية والدولية، وصنّاعه الدوليين وفي مقدمهم الاميركان. ان ملكيات البعث ووثائقه كافة، من دون استثناء، ملك خاص للشعب العراقي. ان وضع اليد على ممتلكات البعث سرقة علنية، تشبه في جوهرها سرقة تاريخ الوطن، وسرقة آثاره ومتاحفه ومراكز الاحصاء فيه. انها محاولة متعجلة لـ"منتجة" تاريخ العنف بطريقة تلائم وجود المحتلين، وتلائم في درجة رئيسية مرحلة تقاسم السلطة. وفي الاخير، هي محاولة لصناعة تاريخ يمحو تماما الآثار الاجرامية للشركاء الكبار، الذين صنعوا آلة صدام العسكرية والسياسية، ووضعوها مثل سيف فوق رقاب ابناء شعبنا.
واقع للحاضر وللمستقبل
لا يتوقف القرار عند هذا الحد. فقد شمل تحت عباءته عبارة "حظر مشاركة اي احزاب تحث على العنف او تمارسه في الحياة السياسية في البلاد". وهي اشارات واضحة تطلب من الجميع القبول بالامر الواقع: الاحتلال العسكري. فاذا كانت ممارسة العنف مفهومة الى حد ما، فمن يستطيع تحديد درجة "الحث على العنف"؟ ان هذه الفقرة محاولة استباقية ايضا تهدف الى وضع اي سعي لمعارضة الاحتلال تحت طائلة "الحث على العنف". ان صنّاع هذه الفقرة يعرفون جيدا ان الاحتلال العسكري، اي احتلال عسكري، وفق القانون الدولي هو اعلى اشكال العنف.
ولهذا كله نرى ان قرار التحريم هذا، في صيغته العسكرية، اجراء يهدف الى تخفيف التعارضات بين الحلفاء وطمس جزء عظيم الخطورة من تاريخنا، الجزء الاكثر ظلاما وبشاعة باسم الحرية، والاعداد مسبقا، باسم الحرية ايضا، لمواجهة كل من يسعى الى ادانة الاحتلال او معارضته، وربما حتى الى نقد جوانبه غير "المستحبة". وهو اشارة واضحة ايضا الى اعضاء فرقة الرقابة الذاتية، تأمرهم بمتابعة مراقبة مناهضي الاحتلال وتنفيذها على اكمل وجه، سواء وُجد جهاز رسمي للرقابة على المطبوعات ام لم يوجد.
وحدة الثقافة الوطنية
مسبقا، ومن دون إبطاء، اقول للجميع: لا يوجد ما نسمّيه "وحدة المثقفين" في ظل الاحتلال. ففي زمن الاحتلال تنشرخ الثقافة الوطنية، بل تنقسم انقساما لا رادم له، بين مؤيدين للاحتلال ومعارضين. هذه سنّة الحياة، وهذا هو منطقها، ومن يحاول ان يقول غير ذلك كاذب او معتوه.
اقول هذا، بهذه المباشرة والصراحة الجارحة، لأن بعض اخواننا من المثقفين العرب، استيقظوا فجأة بعد انتهاء السهرات التلفزيونية المجانية، التي نقلت ملهاة الحرب، ليتحولوا الى حكماء في شؤون السلام، بعدما كانوا حكماء متخصصين في شؤون الحرب. ومما لا شك فيه، اننا في محنتنا هذه في امس الحاجة الى وجهة نظر والى حوار صادر من مثقف شقيق، نعوّل عليه كثيرا، لأنه جزء اساسي من وحدة اهدافنا في مواجهة خطر غاشم يهدد مصالحنا الثقافية ووجودنا. نحن في حاجة تامة الى وجهة نظر شقيقة، علها تساعدنا في لمّ شتات ذواتنا الممزقة. ولكن ليس كل ما يتمنى المرء يدركه. فبعض تلك الدعوات جاءت بمظهر النبوءات السود، كما قرأنا في مقالات العفيف الاخصر. ومن المقالات ما جعلتنا محض عبيد تافهين معروضين في سوق النخاسة الدولية، كمقالات محمد الرميحي، وهناك مقالات عاطفية وشخصية طيبة عرضت علينا حالها بصدق، ولكنه صدق مثلوم. من هذه المقالات ما كتبه عبده وازن في "الحياة" عن "حرب اهلية بين المثقفين العراقيين" داعيا الى وحدة المثقفين العراقيين (الحياة 11 نيسان 2003). سأتوقف عند مقال وازن لأنه الاقرب في صدقه الى مشاعرنا وهو الابعد في درجة خطأه من اهدافنا. فهو الاطيب والاسوأ في الوقت عينه. وارجو منه ان يتقبل هذا، يبني وازن رؤيته حول وجود بوادر حرب اهلية على وقائع شديدة الصغر، مثل نشر مقال عن اديب. وبصرف النظر عن صحة او عدم صحة نشر هذا المقال او غيره، فان الخلاف بين المثقفين في لحظة كبيرة كالتي نعيشها الآن، لا تتمحور حول نقد هذا الاديب او ذاك، ولا حول نشر قصيدة او عدم نشرها، ولا تتعلق ايضا بالصراع حول تأويل نص او حول اساليب وطرق فنية. صح النوم! ان الصراع والوحدة في زمن استباحة "مهد الحضارات" انما هو صراع على الثوابت الوطنية الاساسية. لان دعوة وازن الصادقة الى الوحدة من خلال ما هو صغير وهامشي تحيل المثقفين العراقيين عامة، من دون قصد، محض جرذان صغيرة، لا تعرف سوى قرض الحبال والتسكع في اكوام القمامة. ان الوحدة الوطنية والحرب الاهلية، إن قدّر لها ان تحدث، فستتم بسبب سقوط نظام ديكتاتوري ومجيء سلطة احتلال تريد ادارة الصراع على هواها، لا اكثر ولا اقل. وكل ما عدا ذلك لا يدخل الا في اطار لعبة الورق "الكوتشينة" الاميركية المسلية.
تسامح ام نسيان؟
ان الحديث عن الوحدة يجرنا مباشرة نحو الحديث عن التسامح والذي كان موضوعا جديا من الموضوعات التي كتب فيها عدد كبير من الكتّاب العراقيين والعرب. وهو موضوع سعى فيه البعض، من الجانبين كالعادة، الى خلط الحابل بالنابل باسم غاية نبيلة. لقد جرى الخلط بين امر مرفوض، كمحاسبة البشر على انتماءات سابقة، والنقد الذاتي وادراك مواقع الخطأ والتخلي عنها، وصدق التخلص من فكر وممارسة عدوانية شريرة. فالتسامح الحقيقي لن يتحقق من خلال قرار عسكري، او من خلال تأجيل الاحقاد، او من خلال العفو من طرق النسيان. فنسيان الماضي محض خطوة في اتجاه اعادة تكراره، ولكن بثوب جديد. وهو ما يهدف اليه قرار الحل الفوقي العسكري لحزب البعث. ان المجتمع العراقي بكل مؤسساته، مطالب بمناقشة جوهر سياسة البعث، من اجل الوصول الى نتائج وطنية تخص المجتمع عامة، وتخص البعثيين الذين يودون فعلا التخلي عن ماضيهم الاسود. لقد ناقش شعب جنوب افريقيا بعمق قضية التسامح، ووصل الى نتائج مفيدة. وفي هذا الصدد يقول القس دزموند توتو ما مفاده ان التسامح ضروري لغرض استمرار الحياة وضمان سيرها نحو مستقبل خال من الاحقاد، لكن التسامح لا يعني النسيان مطلقا. ان معارضة ملايين الالمان والفرنسيين والانكليز للحرب - بصرف النظر عن مشاريع سلطاتهم - ليست سوى ادانة مقرونة بذاكرة حية. ان التخلص من البعث ومن ارثه الثقافي والسياسي ومن آثاره الروحية المدمرة، تقتضي تقصي جذور البعث وتشعباته في الحياة السياسية والاجتماعية بكل امانة. وهذه مهمة لن تتحقق من دون ان يقوم اولئك الذين عاشوا التجربة بكشف الجزء من ذلك التاريخ المظلم طواعية. ان التسامح ليس صفقة لتقاسم الادوار وفق نظرية "لا رابحون ولا خاسرون". بكل تأكيد لم يخسر سعد البزاز شيئا فقد انتقل من مسؤول اعلى في جهاز الاعلام البعثي في الداخل، الى رئاسة مؤسسة صحافية كبيرة في المنفى، وها هو يعود مصطحبا معه مشاريع اكبر. نعم لم يخسر البزاز وغيره شيئا. بيد ان الشعب العراقي خسر ثلاثة اجيال من ابنائه. فكم يجب علينا ان نخسر، لكي يعترف الفاشيون ببعض ما اصابنا؟
التسامح اذاً يُقصد به اعادة هيكلة الدولة بالتقاسم بين المحتلين وقيادات النظام السابق، والذي وجد تأييدا قويا لدى القيادات البعثية السابقة، خاصة ممن هم في المراكز القيادية للشرطة والامن والاستخبارات. فمثل هذا التسامح لا يدخل ضمن المفهوم الاخلاقي والاجتماعي للتسامح الوطني، بقدر ما يدخل ضمن المفهوم السياسي التجاري، مفهوم الصفقات السرية. ان عودة قادة البعث ببدلة المارينز ليست من مباهج التسامح الوطني على الاطلاق. وما هي الا محاولة لاستثمار رأس المال البعث الاداري والامني والعسكري ولمصلحة المحتل. وما هي الا تغييب للمسألة الجوهرية المتعلقة بالبعث الام وبفروعه وتطويراته وتحويراته ونسخه القومية والطائفية القديمة والجديدة.
وحدة الثقافة الوطنية وأسسها
ان وحدة الثقافة الوطنية لا تعني خنق الجدل، واخفاء الخلافات، والتستر على التناقضات، والغاء تعدد الاصوات ومصادرة حق النقد والمكاشفة. ان ثقافة وطنية جديدة خارجة من ظلم سنوات عجاف يجب ان تكون اصيلة ومتمردة، تأبى ان تكون عبدا لوحدة كاذبة تحت راية صدام او تحت راية المارينز. ان الثقافة الوطنية التي ناضلت ضد الديكتاتورية، ناضلت من اجل تنوع اصواتها، ومن اجل تنوع اشكالها ومن اجل حريتها، ان كمّ الافواه باسم وحدة زائفة كاذبة، حلقة جديدة من حلقات المسلسل القديم: "خندق واحد لا خندقان"، البعثية. فالعراق الجديد لن يكون الا متعددا في اصواته السياسية.
ان ركائز الوحدة الثقافية لا يتم بناؤها من خلال نبذ الحوار، وطمس التعدد، بل من خلال الاصطفاف حول الثوابت الوطنية الاساسية، واولها المواقف من الارث الديكتاتوري والاحتلال. هل تسقط الديكتاتورية بسقوط رموزها السياسية الكبيرة؟ وهل سقوط الديكتاتورية العسكرية الخاطف سيتبعه سقوط مماثل لايديولوجيا العنف والرعب والعسكرة؟ ألن تغيّر ثقافة العنف زيّها، كي تتطابق مع سياسة المحتل؟ ما الموقف من ثقافة المحتل الاجنبي؟ ما الموقف من البديل الثقافي الراهن، الذي يراد له ان يحل محل ثقافة البعث؟ ما الموقف من الارث الثقافي البعثي وما سبل اجتثاثه واجتثاث عناصره الكامنة والظاهرة؟! ما هي وسائل ردم الهوة الروحية السحيقة التي حفرت في جسد المجتمع العراقي ووجدانه من جراء سياسة مجتمع الثكن البعثي، وما سبل اجتثاثه واجتثاث عناصره الكامنة والظاهرة؟ ما هي وسائل ردم الهوة الروحية السحيقة التي حفرت في جسد المجتمع العراقي ووجدانه من جراء سياسة مجتمع الثكن البعثي، الذي خلق جيشا واسعا من عبدة ثقافة العنف، ومن حراس النيات؟ هل هو قدر مرسوم ومقرر علينا، ان تعاد دورة انتاج الشر مرة تلو اخرى؟ وان تعاد دورة الشر بالوجوه عينها والارادات الشريرة ذاتها؟
ما هو الوطن اصلا؟ هل هو جنون صدام وثكن صدام وقصور صدام، التي اتخذها البعث ذريعة للتنكر للوطن كله؟ الى اي وطن ننتمي، الى جزئه الشرير الخرب، الى معسكرات الاعتقال فيه وفرق الرقابة، ام الى الارض التي انجبتنا والقت علينا مسؤولية ان نزرع فيها نبتة الخير والامان؟
هذه اسئلة لا يحق لأحد القفز عليها لدى الحديث عن وحدة الثقافة الوطنية. فالثقافة الوطنية تتطلب اولا، قبل ان تكون "ثقافة" و"وطنية"، وجود وطن نؤمن به، نؤمن بقدسية ارضه، نؤمن بأمان شعبه وحريته واستقلاله. كما تتطلب ان نؤمن بأنفسنا كمواطنين، كبشر مكتملي الارادة، لا مجرد حلفاء ووكلاء وخدم لمحتل، مهما كانت صفاته البطولية.
المثقف وصدمة الحرب
ومما لا شك فيه ان المجاهرين من المثقفين العراقيين بالولاء للاحتلال والقوات الاجنبية ليسوا سوى جماعات محددة، تتكون جلها من بعثيين سابقين، وحزبيين فاشلين، ووجوه انتهازية تحترف التلون والقتل في كل زمن وحين، ومن قوميين عصبويين، اضافة الى رهط ممن تلوثت اياديهم واقلامهم وألسنتهم بسموم ثقافة البعث والحرب، يريدون تطهير انفسهم، من خلال تمجيد فضائل صواريخ توماهوك المحملة اشعاعات الديموقراطية الغربية. وهي جماعات تعيد الى الاذهان مرحلة الولاء السافر لأميركا على يد جهاز السافاك، الذي دفع المجتمع الايراني بقوة نحو حلول سماوية، بعدما اوصد ولاء الشاه وجهازه الثقافي للنموذج الاميركي الطرق كافة.
ان محاولة تصغير حجم هذه الفئة، التي قد تتسع وقد تضيق تبعا لقوة المواجهة التي سيلقاها المشروع الاميركي، لا تعني ان المثقف العراقي يعيش لحظة صحو. على العكس، ان طول الكارثة وعمقها قد مزقا ذات المثقف العراقي، الضعيف اصلا، وجعلا الغالبية الساحقة منهم يقفون موقف المصاب بالذهول وهم يشاهدون اللعبة السياسية والعسكرية الجارية امامهم، كما يشاهد المرء فيلما خياليا عن حرب في كوكب آخر، لكن زمن الفرجة قد زال. فقد انتهت الحرب وسقط نظام البعث، واضحى محض اوراق لعب "كوتشينة". وبهذا الانقلاب تضع الحياة امام المثقفين اسئلة جديدة، ولقد وقف بعض المثقفين العراقيين موقف الحائر في تلك الحرب الجارية بين الشاعر فاضل السلطاني متحدثا عن هذه الاسئلة "اسئلة ما قبل الحرب وما بعدها" (الشرق الاوسط 6 نيسان 2003) وكان له رأيه الخاص، الذي يقول بأن الشعب العراقي لا يقوى على منازلة عدوين شريرين على هذه الدرجة من البأس في وقت واحد. وذلك، في اعتقادي، رأي جمهور واسع من المثقفين العراقيين. وهو رأي سكان العراق العربي في جنوبه ووسطه وشماله ايضا، الذين ظلوا يمارسون حرب الانتظار السلبي طوال فترة الحرب، من غير ان يمحضوا اياً من الطرفين الشريرين دعما ولو لفظياً.
اسئلة للحرب واخرى للاحتلال
اسئلة ما قبل الحرب انقضت وانقضت معها الحرب. ولم يعد المثل العراقي القائل "رمانتين بيد واحدة ما تنلزم" مشروعا. فلم يعد امامنا، من الرمانتين المسمومتين سوى رمانة ما بعد الحرب: رمانة الاحتلال المشبعة باليورانيوم المخصب. لذلك وجب علينا ان نضع امام انفسنا من دون ابطاء اسئلة ما بعد الحرب.
وهنا، لا بد لنا ان نوضح جيدا، ان استعادة وحدة الوطن واستقلاله وحريته لن تتم بالخروج من موقف المتفرج الى رفع راية النضال الفوري المسلح، كما يشيع مهادنو الاحتلال. ان استعادة حرية الوطن واستقلاله عملية شاقة، معقدة وطويلة، لا تقل مشقة وطولا عن مرحلة وجود البعث. مرحلة سيواجه فيها المثقف الوطني الحر اصنافا عديدة من صنائع الجيش المحتل المحليين واعوانه، وسيواجه بطش العسكريين الاجانب وقوانينهم المفروضة، وسيواجه محاولات اختراق ذاته وضميره. لكنه، سيرغم عاجلا ام آجلا، على ان يختار بين المحتل وبين ارادته الوطنية المستقلة.
ان الفن والادب والثقافة الوطنية عموما لم تكن في يوم ما موضعا للمساومة مثلما هي عليها الآن. ولم يكن المثقف العراقي مشتتا الى هذا الحد، كما هي عليه الحال اليوم. لكن هذا التشتت لم يكن غريبا، ففي مفاصل عديدة سقط المثقفون العراقيون في لجة الحيرة، لكنهم ما لبثوا ان عادوا واستجمعوا انفاسهم وواصلوا طريقهم، وإن حدث ذلك بعد خراب البصرة غالبا.
ان حكم التاريخ لا يرحم. لقد مر على هذا الوطن غزاة متعددو المشارب والمنابت، وقد ذهبوا جميعهم وبقي الوطن. وعلى مدى التاريخ ظهر سياسيون وكتّاب ومروّجو افكار تابعون للمحتلين والطغاة. فلم ننس بعد تلك الغنائيات المرعبة التي مجدت الظلام وتغنت بالخراب والبكاء والموت. ولذا لن يكون غريبا او محالا ان تظهر لنا رواية او قصيدة بعنوان : "زمن الاحتلال الجميل"، كما كان الموت والخراب والبكاء جميلا في زمن الطاغية صدام.
هل يجوز للثقافة ان تفقد معناها الاخلاقي؟
ان الحديث الغامض عن وحدة الثقافة العراقية، الذي يردده البعض اليوم يشبه الحديث عن وحدة الثقافة التي نادى بها بعض الفرقاء في ظل حروب صدام. فالوحدة في نظرهم وحدة مصالح سياسية آنية. اما الحديث عن الوطن فهو محض رومنسية اخلاقية من صناعة "الحالمين". صناعة الحالمين هذه كانت وستظل نقطة الامل والصدق والحقيقة المحفورة في وجدان التاريخ. ان وحدة المثقفين انما تقوم على اسس محددة وثوابت اساسية لا تقبل المساومة. فإذا كان طول المأساة التي صنعها صدام قد ارغمت البعض على الوقوع في لعبة المفاضلة بين الشريرين، فإن "كتابة شهادة موت حزب البعث" وانتهاء الحرب رسميا، تعطي المثقف فرصة جديدة لاستعادة " وعيه وازالة الغموض العالق به، وتأمل واقع الحال والنظر بعين واثقة الى ما يجري على الارض.
لكن الغريب والشاذ حقا في واقعنا الثقافي، ان يكون رجل الشارع العادي، الذي تحمّل عبء الصدمات العظيمة المباشرة مدى نصف عقد، يبدو اقل اضطراباً من المثقف. والاهم من هذا انه اكثر تماسكا واصرارا على البحث عن مسالك تقود الى الحرية، رغم ضبابية هذا البحث، الناشئة بسبب غياب دور الطليعة الثقافية!
ان المثقفين يتحملون الآن في هذه اللحظة وليس في لحظة اخرى، مسؤولية انارة الطريق وشد ازر الشعب، ومسؤولية رعاية احلام المواطنين وتوقهم الى الحرية والعدالة والخير، ومسؤولية الدفاع عن تاريخ الشعب وثقافته وابداعه في مواجهة عمليات نهب التاريخ وطمسه وتزوير ارادته، ومسؤولية تنبيه السياسيين وتحذيرهم وتبصيرهم، لا التحول الى اذناب لهم. وليس امام رجل الثقافة والادب الآن سوى سؤال اساسي واحد، تتفرع منه اسئلة كثيرة: في اي جبهة تناضل الكلمة الشريفة، في جبهة تبرير افعال المحتل واعماله الحربية ام في صف الشعب والقانون والعدل؟ في اي صف تتكتل الثقافة، في صف اعادة هيكلة المجتمع وفق رغبات جيش الاحتلال ام وفق الحاجات الاساسية للشعب؟ وفي صف من تقف الكلمة الحرة، في صف حلم الناس بعالم خال من الطغاة السابقين واللاحقين ام في صف اعادة اقتسام السلطة بين الطغاة القدامى والطغاة الجدد؟
هذه اسئلة لا يمكن الوحدة الثقافية ان تقوم بدون الاجابة عنها اجابة كاملة وواضحة. فالثقافة لا تصنع اصطفافها من خلال التجمهر والفرجة على تمثال صدئ لطاغية يتم سحبه بدبابة غازية. فالتمثال ذاته، والطاغية ذاته، كلاهما، جرت صناعتهما في ورش المحتلين. ان المثقفين الوطنيين يصطفون دائما خلف مبدأ اسقاط ثقافة الديكتاتور وليس خلف تمثال من تماثيله. يصطفون خلف اقتلاع جذور ثقافة العنف والاستبداد من ارض الواقع، وخلف اقتلاع الاسس النفسية والاجتماعية والسياسية التي خلقت المستبد، وليس خلف حفلة تهديم رمزه الحجري او المعدني. ان تضليل الشعب مهمة اساسية من مهام الاعلام الغازي، هذا امر مؤكد، اما كشف التضليل فمهمة المثقف الوطني الحر وحده.
ان الزمن العراقي ليس كغيره من الازمان، فهو زمن دائري خال من البراءة الطويلة الدائمة. لذلك سنكون مرغمين على القبول به حكما فيصلا يمنح كل واحد منا شهادته، شهادة موت ضميره، او شهادة اخلاصه للحقيقة ولتاريخ شعبه.
لقد قيلت مثل هذه الكلمات الحزينة عند مجيء البعث في اواخر الستينات، وها هي تعاد منطوقة بمرارة شديدة. فما اشبه اليوم بالبارحة، وما اضعف ذاكرتنا!
النهار-