|
هذا ما حدث في تونس
عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)
الحوار المتمدن-العدد: 7183 - 2022 / 3 / 7 - 19:36
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
المجموعات المتضامنة مع حركة النهضة تحت شعار "الديمقراطية"، والتي تُكرّس جهودها داخل تونس وخارجها للهجوم على الرئيس، في محاولة لِتقويض شرعيته الشعبية؛ وتحميله مسؤولية تدهور الأوضاع، تكشف أنشطتها عن هشاشة أخلاقية فادحة، سيما أن 25 جويلية في الأصل كان انفجارا شعبيا ضد منظومة الفساد والإرهاب، ضد السياسة الوحشية التي تعرض لها الشعب على يد العصابة؛ ضدّ اغتصاب مؤسسة القضاء وتحويلها إلى بؤرة لحماية القَتَلة والفاسدين، ضد الموت الذي غرز مخالبه في الشعب، فيما رئيس الحكومة وقتذاك يتنقّه في المسبح، ومسلل السمسرة والملاكمة والفضائح متواصل في البرلمان. كان انتفاضة ضد التيار المافيوزي التكفيري، ضد التطرف والتسفير والجهاز السري والاستثراء الفاحش وتخريب الفلاحة والتجارة والصناعة والمرافق العمومية والأمن والمعيشة والأعراف والأخلاق. 25 جويلية، كان لحظة شعبية عارمة ضد هذا التيار الذي لا يمكن لأيّة دولة على وجه الأرض أن تتعايش معه سواء في ظل مناخ ديمقراطي أو غير ديمقراطي. ولعلّ هذا السرطان الذي تهاوى على امتداد الساحة العربية، لا يجوز تصنيفه ثقافيًّا، فضلًا عن اعتباره جزء من الحالة الديمقراطية، لأنّه مجرّد قيْح حضاري تستخدمه الدّوائر الاستعمارية لِفرض النكوص على هذه الأمة، وإجبارها على التراجع إلى الخلف، حتى تظل هذه المنطقة الغنية منقسة ومُحتربة على الدوام.
لذلك، فموقف الهلع من "الدكتاتورية" الذي يصدر عن هذه الجماعات (التي وضعت نفسها في خدمة راشد الغنوشي)، إنما يوحي بأن منظومة ما قبل 25 جويلية 2021 كانت ديمقراطية كاملة الأوصاف. وهذا موقفحسب رأيي لا علاقة له بنصرة النظام الديمقراطي، بل على الأرجح، والأوضح، أنه عبّر عن التباس علاقة هؤلاء الناس بقضية الديمقراطية، وعن سطحية فهمهم لمعضلة الأزمة التي تعيشها تونس في ارتباط بحكم حركة النهضة، إذ بيّنت تجربة العقد الماضي، من خلال الممارسة، أنها حركة تقف خارج المشترك الوطني، وأنها عبارة عن منظمة لصوص، وأنها خرّبت مؤسسات الدولة سواء بسياسات الإهمال والتدمير، أو بسياسات خلق أجهزة موازية تشتغل خارج القانون، وأنها قسّمت الشعب بدل توحيده، وأنها أفسدت السياسة بالأموال الأجنبيّة، وأنها وضعت البلد في مهبّ نزاع المحاور... وباختصار شديد هذه حركة أولوياتها فئوية، تنظر في البدء والمنتهى، لمصلحتها الضيقة في علاقة بمصالح دول أجنبية، أما مصلحة تونس وحياة التوانسة فهي خارج معادلة حكم حركة النهضة.
بهذا المعنى لا يجوز إقناع التوانسة بأن التضامن مع هذه الحركة، يندرج ضمن الدفاع عن النظام الديمقراطي. وأعتقد، دون أيّة نيّة في المسّ من سمعة أيّ كان، أن خلفية هذا الموقف تتراوح بين الجهل والانتهازية، أكثر ممّا تحمل من الصّدقيّة وصرامة الانحياز للديمقراطية. ويتخلل المسافة الواقعة بين الجهل والانتهازية، شعور باليأس والقنوط والانكسار، لسياسيين خفيفي الوزن حالهم يدعو للسّخرية. بعضهم يلهث منذ عقود وراء وجاهة الحكم والمنفعة الخاصة دون النظر للصالح العام. والبعض الآخر انحاز للثورة ظناً منه أن الثورة شأن سريع، سيحقق له مكاسب الانتصار والحكم بسهولة. ولمّا جرت الرياح عكس توقّعاته البسيطة، وأوصِدت أمامه الأبواب، وطال الأجل بالثورة، واتسع نطاق أزمتها، وتعددت عثراتها، وبدا أنها أخفقت في تحقيق أهدافها، انبرى يبحث عن التموقع في المشهد بما يؤجّل اندثاره سياسيا. وذهب في كل المذاهب بحثًا عن موقع ومكسب وكرسي حتى ولو كان مُلطّخًا بالدم. هكذا، وبهذه المنهجية يتوهّم السياسيون البؤساء أن الشعب ثار من أجلهم هم وحسب. فهذا نمط من السياسيين يتصرف على قاعدة أن "الثورة التي لا تستجيب لتطلعاته الذاتية التافهة ليست ثورة".
من واجب السياسي الحقيقي أن يبني رؤية وطنية للتغييرالذي حصل، ورؤية للإخفاق أيضا. وكما في قراءته للثورة، عليه أن يُبيّن لشعبه أسباب انكسار المسار الديمقراطي العربي بِرُمته، سيما في ظل حضور تيّار مُتطرّف لا يؤمن بالديمقراطية. وعليه أن يبني جبهة ديمقراطية مع كل الواقفين على المشترك الوطني، المُجمِعِين على الدولة الحديثة، وعلى أسس النظام الجمهوري، وعلى قيم السيادة الوطنية، وقيم المساواة والعدل والتقدّم. هذا هو دور السياسي الكبير الذي يُدمجُ طموحه بطموح شعبه ونهضة بلاده. وليس ذاك السياسي المُتملّق الباحث عن أي مسرب للموقع وسط منظومة تدفع بالبلاد ضدّ أمنها، وضدّ استقرارها.
بكل صراحة وموضوعية، لا يمكنني أن أفهم القفز على كل هذه الأمور والوُقوف في صفّ عصابة إرهابية، إلا زيف ادعاء هؤلاء السياسيين دفاعهم عن الديمقراطية. ما جادل به هؤلاء حين أغلقت عليهم حركة النهضة منافذ الوصول للكراسي، من كونها "حركة تمثل خطرا على الوطن"، وكونها "مورّطة في الاغتيالات "، لا يختلف في شيء على ما يجادلون به اليوم من إلقاء مسؤولية الأزمة على عاتق الرئيس. وإذا جنحنا إلى حُسن النيّة، واستبعدنا فرضية الانتهازية، انتهينا إلى أن هؤلاء يفتقدون للعمق في النفاذ إلى جوهر الأمور، بحيث لا نعثر على ما يُشير إلى امتلاكهم لرؤية يُعتدُّ بها لفهم مقتضيات الانتقال إلى الديمقراطية، ولا استطلاع جادّ لماهية الدولة الحديثة وبنيتها وشروط قيامها؛ ناهيك عن الجهل الفادح بمجريات الأحداث والوقائع في عموم المنطقة منذ 2011. وفي الحالتين، انساق هؤلاء، كما كل الكائنات البسيطة، خلف ما روجته حركة النهضة، من مسوغات للانخراط في الدفاع عمّن أوصلوا البلاد إلى الهاوية، وأوصلوا الدولة إلى الخراب، وأوصلوا الشعب إلى وضع من الخصاصة والجوع لم يشهده حتى في ظلّ حكم الاستعمار والبايات.
يقولون قيس سعيّد تنكر للديمقراطية وهو في طريقه إلى الدكتاتورية، وهو يعمل على هدم الدولة. وقد أدار ظهره للتعددية السياسية... وما شابه ذلك من الدّعايات. الحقيقة هي أمر آخر مختلف تماماً. تسلم قيس سعيّد مقاليد الرئاسة، وعلى الفور بدأ رئيس حركة النهضة يسلب رئيس الجمهورية صلاحياته، بعد أن كان استولى على مؤسسة القضاء منذ سنوات. ثم استولى على صلاحيات الحكومة، إما بالتعطيل والتّأزيم في حالة حكومة الفخفاخ، أو بالوصاية والتحكم في حالة حكومة المشيشي. وبالتوازي مع ذلك كانت الأزمة تتضاعف ورقعة الفقر تتّسع، والمرفق العمومي يتهاوى، إلى أن بلغت الأوضاع حدًّا لا يُطاق. فانفجر الشارع ليضع الدولة أمام مسؤولية وقف النزيف. وقد أظهر الرئيس شجاعة وصلابة فائقة عندما أطاح بالمجلس النيابي، ذلك الخندق الذي تنبع منه كلّ المصائب، وأعاد لمنصب الرئيس المنتخب صلاحياته. ربما يجدر بمن يتهمون رئيس الجمهورية ب"الانقلاب على الديمقراطية"، أن يُنشِّطوا ذاكرتهم، ويعيدوا حلقات مسلسل فضائح البرلمان وجرائم رئيسه منذ بداية العُهدة. من واجبهم أن يتذكّروا لأن شعبهم لم ينس شيئًا ممّا حدث. بل أن الشعب التونسي مازال يعتبر أن خطوة التخلص من ذلك المجلس / الفضيحة، جاءت في وقت مُتأخّر جدًّا، إذ كان يجب غلقه منذ الأشهر الأولى، لكن الرئيس القادم من خارج المنظومة، لم يكن بوسعه التعرف بسرعة على مؤسسات الحكم، ولم يتيقن من موازين القوى داخل جسم الدولة. وعلى كلّ حال، عندما يُكتب تاريخ الثورة التونسية يومٍا، سيذكر أن خطوة الإطاحة بمجلس نيابي يرأسه شخص، يُدير في نفس الوقت، جهازًا إرهابيا سرّيًا، مثلت خطوة ثانية كبرى، بعد خطوة التخلص من بن علي، في طريق الانتقال الديمقراطي والانتصار للثورة وقواها.
خارج هذا النطاق، هل ارتكب قيس سعيّد أخطاء فادحة؟ الجواب، بالتأكيد نعم. وكيف لا، وهو القادم من خارج مؤسسة دولة تم تفخيخها في كلّ مفصل ومضرب؟ كيف لا يرتكب أخطاء وسط دولة بلغ التخريب فيها ما يحتاج ثورة ثقافية وإدارية تُخلّصها من المافيات التي استولت عليها بالكامل؟ كيف لا يُخطِئُ وسط إدارة فاسدة تحتاج قنبلة نووية لإيقاع تغييرات جوهرية في بنيتها؟ نعم أخطأ كثيرا رئيس الجمهورية. ولكن هذه الأخطاء تُعتبر صغيرة وهامشية، وليست من حجم الجناية التاريخية التي ارتكبتها حركة النهضة ورئيسها في حق تونس وشعبها ومستقبل أجيال. أن يؤاخذ الرئيس على أنّه قاد مسار 25 جويلية بالكثير من الانعزالية إلى درجة فقدان هذا المسار للتّأييد العارم الذي رافقه في البداية. وأن يؤاخذ لأنه لم يُدرك إلى حدّ اليوم أنه لن يستطيع إدارة شؤون مؤسسات الدولة والبلاد بمفرده. وأن يؤاخذ لأنه لم يشتغل على أهمّ قضية، وهي إعادة بناء الإجماع الداخلي حول مشروع وطني مفهوم وواضح. نعم هذا كله صحيح، ويجِبُ أن يُقال بشجاعة. ولكن قبل ذلك وبنفس الشجاعة، يجب أن نُشخص الأزمة ونضع أصابعنا على جذورها وأصولها، لا أن نُخفي أُصولها بالاختباء وراء فروعها.
وصل قيس سعيد لرئاسته الدولة بتفويض شعبي لا يطاله الشك. ولكنه واجه مؤسسة دولة مستعصية على الإصلاح، اعتادت الحكم بالولاء للحزب الحاكم، دون اكتراث للإرادة الشعبية. وواجه ساحة سياسية مُتشظّية، ممزّقة، منقسمة، وأحزاب معزولة شعبيا، قصيرة النظر، محكومة بالرغبة في الكرسي بأي ثمن. أحزاب لم تستطع الصبر ولا الفهم ولا الإقناع. وواجه مشهدا إعلاميًا أغلبه يشتغل لصالح تضامنات الفساد. ومجالاً عاماً خرباً، فيه تُباعُ الذّمم وتُشترى الشخصيات بالأموال. وقبل هذا وبعده، واجه قيس سعيد إقليمًا مضطربًا بمفعول زلزال 2011، مُتّفقًا حول استعداء الثورة السياسية التحرّرية، ومُنقسِمًا حول مصير تونس، كُلّ حسب أجنداته وارتباطاته. وفي قلب هذا المناع تمتعت قوى الردّة الحضارية بمقدرات هائلة وقدر فادح من الشرّ. وقد عملت هذه القوى المحلية بتوجيه دولي على حشد كافة إمكاناتها لضرب ثقافة الثورة، وإجهاض التحول من الاستبداد وحكم العشائر والأقليات إلى النظام الديمقراطي.
هذا ما حدث في تونس، ومن لا يستطيع رؤية هذه الحقائق، ليس جديراً بالتحدث باسم الديمقراطية، ولا هو جدير بادّعاء الغيرة على المؤسسات الدستورية.
#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)
Boughanmi_Ezdine#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
برقية إلى شباب اليسار التونسي
-
أزمة الأحزاب السياسية في تونس
-
التدخل الروسي في أوكرانيا: هل هو غزو للأخت الصغرى؟ أم مواجهة
...
-
هل يمكن الحديث عن أزمة في الإسلام؟
-
حضور حركة النهضة، يساوي غياب المشترك الوطني.
-
حركة النهضة أصبحت -مافيا- ولم تعُد حزبًا سياسيًا.
-
ثورة، بلا ثوريين.
-
نَكبتُها، في نُخْبَتِهَا، بما في ذلك الرّئيس.
-
إلى رئيس الجمهورية قيس سعيّد.
-
الاتحاد العام التونسي للشغل جزء من النظام العام ومحور توازن
...
-
ما دخل اتّحاد الشغل بالسياسة؟
-
الخيار الوطني في مواجهة جماعات الاحتياط الكولونيالي
-
-الأمّة الإسلامية- فكرة مُتخيّلة، ومفهوم فضفاض.
-
الواقفون خارج الأحداث
-
تونس تنتصر.
-
أنا الشعب ماشي، وعارف طريقي!
-
25 جويلية ثورة دستورية، وليس انقلابا على الدستور.
-
أحزاب مُفلسة تقف خارج نطاق الخدمة
-
يجب نزع المسمار
-
الذين حكموا البلاد بعد 14 جانفي هم الكارثة، وليست الثورة
المزيد.....
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|