|
كتاب صُنِع في الجحيم(13)
ناصر بن رجب
الحوار المتمدن-العدد: 7177 - 2022 / 3 / 1 - 22:04
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
محنة سبينوزا ونشأة العَصر العَلماني
المعجزات (نهاية الفصل الخامس)
اعترف ابن ميمون وهوبز بالدّور السّماوي المهمّ الذي أولته الكتب المقدّسة للمعجزات، وبالأخصّ من حيث أنّ مهمّتها تتمثّل في إقرار رسالة نبوّية أو في المساعدة على تحقيق مخطط إلهيّ(1). إلاّ أنّ مثل هذا التصوّر للنّشاط السّماوي يُحتِّم مع ذلك تمييزاً بين المجرى العادي للطّبيعة وتعليق سيرها هذا بأمرٍ إلهيّ، وهذا ما يدحضه سبينوزا بكلّ ما أوتيَ من قوّة. فالمشيئة الإلهيّة، في نظره، تتجلّى مباشرة في السّير العادي الرّوتيني للطّبيعة، وليس في بعض الاستثناءات التي يُزْعَم أنّها خارقة للطّبيعة. من المتعارَف عليه أنّ فلسفة القرون الوسطى وبداية الفلسفة الحديثة كانتا تلجآن إلى وجود العالَم وشكله للبَرهَنة على وجود الرّب. الرّب كعلّة أولى لِكوْنٍ حادِثٍ، الرّب كمُصمِّمٍ ذَكيٍّ لنظام كونيّ مرتَّب بحكمة ومهارة: وهذه الخلاصات كانت تنبَثِق منطقيّا من مقدِّمات تجريبيّة طبيعيّة جدّا ويمكن الحصول عليها بسهولة. وذهب بعض المفكِّرين إلى حدّ اعتبار أنّ النّظام العادي للطّبيعة يمكن استخدامه كدليل لإدراك صفات الرّب وفهمها. لقد كان ديكارت، على سبيل المثال، يعتَقِد أنّ قوانين الطّبيعة كانت قد انبثَقت عن خالِقها وبالتّالي فهي تكون شاهدةً على كماله، وبساطته، وعطفِه. كما أنّنا نجد اعتقادا آخر، وهو مشترك أيضا لدى الجميع ولكنّه أكثر صلابة، مفاده أنّ الأشياء الخارقة للعادة (وليست العاديّة) تقدّم أفضل دليل ساطِع على قوّة الرّب، وأنّ ما هو مفارق للطّبيعة (وليس ما هو طبيعيّ) يكشِف بصورة مباشرة أكثر العناية الإلهيّة. فالطّبيعة يمكنها أن تواصل مجراها، غير أنّ الرّب يُظهِر يده الإلهيّة عندما يتدخّل فيها. وسبينوزا يعتبر أنّ هذه هي بالخصوص وجهة نظر "العاميّ" كما يصف ذلك في الرّسالة: "فالعامّة يَظنُّون أنَّ قُدرة الله وعنايته تظهران بأوضح صُورة مُمكنة إذا حدث في الطبيعة، على ما يبدو، شيء خارق للعادة، مُناقِض لِما اعتاد العامة أن يتصوّروه، وخاصةً إذا كان هذا الحادث بالنسبة لهم فرصةَ كسْبٍ أو مغنم، وهم يعتقدون أن أوضح بُرهان على وجود الله هو الخروج الظّاهر على نظام الطبيعة؛ لذلك يبدو في نظرِهم مَن يُفسِّر الأشياء والمُعجزات بالعِلَل الطبيعية، أو من يبذُل جهده من أجل معرفتها بوضوح، يبدو كأنّه قد ألغى الله، أو على الأقلِّ قد أسقَطَ العناية الإلهية. وبعبارة أخرى، يظنُّ العامَّة أنّ الله لا يفعل في الطّبيعة ما دامت تسير على نظامها المُعتاد، وبالعكس تبطُل فاعلية الطّبيعة وعِلَلها الطّبيعيّة عندما يفعل الله"(2). كلّ الذين يعتقدون مثل ذلك "يتصوّرون [...] وجود قُدرَتيْن مُنفصِلتيْن إحداهما عن الأخرى، قدرة الرّب وقدرة الأشياء الطّبيعيّة". كلّ هذا ينبني مع ذلك على تصوّر خاطئ، بل حتّى ضيِّق الأفق، لإله متجسِّم منكبٍّ على صُنعِ الأديان الطّائفيّة: "ولكن ماذا يقصدون بكلٍّ من هاتيْن القدرتيْن، الرّب والطّبيعة؟ وهذا ما لا يعرفه العامّة ولا يعرفون ما المقصود بذلك؛ فقدرة الرّب بالنّسبة لهم هي شيء مّا يشبه سُلطَةَ المَلِك"(3). كما رأينا آنفا، إنّ قدرة الرّب في نظر سبينوزا هي قدرة الطّبيعة الطّابعة. ويترتّب على ذلك إذن أنّ عناية الرّب لا يمكنها أن تتجلّى أو يتمّ تقويتها من خلال ممارسة أعمال فوق طبيعيّة خارقة للعادة، بواسطة المعجزات. فإذا كان المقصود بـ"العناية الإلهيّة" هو مشروع يُنجِزه فاعِلٌ مُتعالٍ، ذكيٌّ وله غاية، حينئذ فلا يوجد ولا يمكن أن يوجَد شيء مثل هذا في كَوْن سبينوزا. سبينوزا لا يرفض على الاطلاق فكرة (أو على الأقلّ لغة) العناية الإلهيّة. إلاّ أنّ فهْمَه لها يختلف عن الفهم العامّ كثيرا جدّا إلى درجة أنّها أصبحت غير واضحة المعالِم لقرّائه المعاصرين: فالعناية الإلهيّة، حسب المعنى الذي يعطيه لها سبينوزا، لا يمكنها أن تضطلِع بمهمّتها التقليديّة (والبيْبليّة). فإذا كان الرّب هو لا شيء غير الطّبيعة الطّابعة وأعمالِها، وكلُّ أعمالِها بدون استثناء هي مطابقة لقوانين، فإنّ العناية الإلهيّة تتجلّى حصريّاً في نظام الطّبيعة نفسه. فكلّ الأشياء تحدث في الطّبيعة الطّابعة وبواسطتها. ويمكن أن نترجِم هذا من خلال عبارات كتاب الأخلاق بالقول إنّ كلّ الأشياء الماديّة ووضعيّاتها تنتج عن صفة التمدُّد الإلهي ولانهائيّة حالاته؛ وكلّ الأشياء العقليّة ووضعياتها تنتج عن صفة الفكر الإلهي ولانهائيّة حالاته. ولكنّ ذلك يعني أنّ رعاية الرّب ما هي إلاّ النّجاعة السببيّة الكونيّة للطّبيعة الطّابعة. وعليه، فالعناية الإلهيّة تمتدّ لكلّ الأشياء وذلك لمجرّد أنّه لا يوجد أيّ شيء خارج سلطة الطّبيعة الطّابعة. فكلّ ما يحدث، سواء كان نافعاً أم ضارًّا لأيٍّ كان، ما هو إلاّ معلول للرّعاية الإلهيّة. وهكذا يُصبِح هذا التّعبير محايِداً أخلاقيّا وغير ضارٍّ لاهوتيّا في المنظور السبينوزي. وهو ما يشرحه سبينوزا من خلال مواصلته مناقشة قضيّة المعجزات مُوضِّحا: "أنّ مقاصد الرّب وأوامره، وبالتالي عنايته، التي ترد في الكتب المقدّسة، ليست في الواقع إلَّا نظام الطبيعة؛ بمعنى آخر، عندما تقول الكتب المقدّسة إنّ شيئًا مّا هو عمل الرّب، أو إنّه تمّ بمشيئته، فهذا يعني أنّ هذا الشّيء قد تمّ وفقًا لقوانين الطّبيعة ونظامها، وليس على الإطلاق، كما يعتقد العامّة، أنّ الطّبيعة قد توقّفت عن الفعل بعض الوقت للسّماح للرّب بأن يفعل، أو أنّ مسارها قد توقّف لبعض الوقت"(4). تسمح هذه المقاربة على الأقلّ لسبينوزا أن يستعمِل خطاب العناية الإلهيّة دون تكلُفة باهضة. فطالما احتفظنا في أذهاننا بأنّ هذا الخطاب لا يُحيل حقيقة إلاّ لإجراءات الطّبيعة الطّابعة الضّروريّة، فهو يصبح خطابا أجوَف ولا يعرِّضنا لأيّ إدّعاء خرافيّ بوجود ربّ يُغدِق حسناته على الفضلاء من البشر ويسلّط عقابه على الأشرار منهم، أو ربّ له ميول خاصّة تجاه أشخاص بعينهم. وهذا التصوّر هو بالذّات تصوّر اختزالي للعناية الإلهيّة عارٍ من كلّ تَبِعات أخلاقيّة. كما يعني ذلك أنّ أسلَم طريق نحو معرفة الرّب لا يكمن في قائمة من الحوادث المعجِزة والإستثنائيّة بقدر ما هو كامن فقط في دراسة انتظامات الطّبيعة الطّابعة وتواتراتها: "فعندما نعلم أنَّ الله قد حدَّد كلَّ شيءٍ ونظَّمه، وأنّ العمليات التي تتمُّ في الطبيعة هي نتائج لماهية الله، وأنَّ قوانين الطّبيعة أوامر أزليّة وإرادات إلهية، فعندئذٍ حتمًا يجِب أن نستنتِج أنّه كُلَّما ازدادت مَعرفتنا بالأشياء الطبيعية وازداد تَصوُّرنا وضوحًا لكيفيّة اعتمادها على العِلَّة الأولى، وكيفيّة حدوثها طبقًا لقوانين الطبيعة الأزلية، ازدَدْنا معرفةً بالله وبإرادته"(5). لا يعتقد سبينوزا أنّه من الواجب تبنّي لاهوته الميتافيزيقي حتّى نخرج بدرس ثمين. بل من الواضح أنّه لا يتوجّه فقط لأولئك الذين كانوا قد اقتنعوا (ربّما على ضوء ما جاء في كتاب الأخلاق) بتصوُّره عن الرّب أو الطّبيعة الطّابعة، ولكن أيضا لأولئك الذين في مقدورهم بعد أن يُغلِّلُوا أنفسهم بأفكار دينيّة تقليديّة. فحتّى هؤلاء، الذين يظلّون محافظين على تصوّرٍ خاطئ وتجسيميّ للرّب، فهم بحاجة ليفهموا على الاقلّ أنّ "أحكام الرّب [...] ومشيئاته" (وهذا النّوع من المفاهيم يرفضها سبينوزا رفضا باتّا)، يمكن إدراكها بشكل أفضل في إجراءات العالَم المنظَّمة التي يسبِّبها الرّب. فالأحداث التي تبقى عِلَلُها الطّبيعيّة خفيّة، "بالرّغم من أنّها تشغل بقوّة خيال النّاس وتسبّب اندهاشهم وإعجابهم"، هي أحداث أقلّ ملاءمة لتقديم "معرفةً أكبر وأكمَل" من أعمال الطّبيعة الطّابعة التي نتصوّرها بشكل أوضح ومتميِّز. وهكذا يخلص سبينوزا إلى أنّ "المعجزات لا تجعلنا على الإطلاق نتعرّف لا على الرّب، ولا على وجوده، ولا على عنايته الإلهيّة، ولكنّ كلّ هذه الحقائق نستطيع استنباطها على نحوٍ أفضلَ بكثيرٍ من نظام الطّبيعة الثّابت الذي لا يتغيَّر"(6). إنّ المفهوم الطّابيعاني للعناية الإلهيّة الذي يقدِّمه سبينوزا في رسالة اللّاهوت والسّياسة يمكنه أيضا أن يتوافق، بمعنى أو بآخر، مع عنصر هامّ للرّؤية الدّينيّة الشّائعة للعناية الإلهيّة، ألا وهي الرؤية المتمثّلة في وجود ربّ يُسيِّر نظام الثّواب والعقاب. فالعناية الإلهيّة في الأديان الإبراهيميّة تضمَن، على الأقلّ في المدى البعيد، أنّ الفضيلة والرّذيلة سيُجزَيان جزاءً عادلا. وهذا هو البعد الأخلاقي للعناية الإلهيّة الموجّهة نحو الأشخاص التي كان الفلاسفة اليهود في القرون الوسطى يسمّونها "العناية الإلهيّة الخاصّة"، لكي يميِّزوها عن "العناية الإلهيّة العامّة" التي تتحقّق من خلال قوانين الطّبيعة والتي تُزوِّد كل جنس من الكائنات بمواصفات أساسيّة لتأمين البقاء والوجود (مثل ملَكة العقل عند الكائنات البشريّة والسّرعة عند أنواع الغزلان)(7). يبقى هناك شيء لا يستطيع سبينوزا تقبُّله بأيّ حال من الأحوال أن يكون هناك توزيع مكافآت للعمل الفاضِل يقوم به فاعِل أخلاقيّ ذكيّ، ما يُشبه الشّخص، الجالس في الأعلى، الذي يُسيِّر كلّ هذا بحريّة وهمّة. يُوضِّح سبينوزا في كتاب الأخلاق أنّ الفرد الفاضِل يسعى نحو الأفكار الحقّة والملائمة ويحصل عليها، بعبارة أخرى، يكتسب فهما عقلانيّا عميقا للطّبيعة الطّابعة وإجراءاتها. وكما رأينا سابقا، هذه المعرفة الذّهنيّة، خلافا للأخبار التي نحصل عليها بواسطة الحواسّ أو المخيّلة، تسمح لنا أن نفهم الماهية الحقيقيّة للأشياء وبالخصوص الحالات التي تعتمد من خلالها بالضّرورة على عِلَلها السّامية في الطّبيعة. يؤكِّد سبينوزا على أنّ هذه المعرفة للرّب أو الطّبيعة الطّابعة هي السّبيل الذي به ترتبط الأشياء بعضها ببعض ويشكّل فائدة عظيمة للكائن البشري وذلك من وجهيْن. أوّلاً، يقترح سبينوزا أنّ إدراك الماهيات وقوانين الطّبيعة الطّابعة يوفِّر للإنسان الفاضِل الأدوات الضّروريّة التي تساعده على أن يختار التوجّه الصّحيح في مسيرته الحياتيّة المليئة بالصّعاب. فمسالك الطّبيعة شفّافة بالنّسبة لمَن يشحذ ذهنَه ويصقُله. فتكون بذلك قدرته على تدبير الأشياء واجتناب المخاطر أرقى من قدرة شخص مّا تتحكّم فيه الحواسّ والمخيّلة، شخص يكون من جرّاء ذلك خاضعاً للصّدفة ولما يمكن أن يطرأ من الأحداث. فالفاضِل يمتلك قدرة أكبر على السّيطرة على الأحداث؛ أمّا الآخرون فهم تحت رحمة الحظّ. وهكذا تقدّم معرفة عميقة للأشياء فائدةً عمليّة عظمى. ثانياً، وهو الأهمّ، المعرفة الحقيقيّة تكون، بالنّسبة للفاضِل، مصدرا لسعادة دائمة وسلام روحيّ من شأنهما الصّمود أمام تصاريف الدّهر. عندما يفهم شخص مّا الطّبيعة الطّابعة فإنّه يدرك ضرورة كلّ الأشياء، وبالخصوص حقيقة أنّ تلك الأشياء التي يرغب فيها بشدّة، وبحكم أنّها لا تستقرّ على حال، فهي تنفلت عن سيطرته. وبصورة أدقّ، فإنّه يدرك أنّ كلّ الأجسام الماديّة، حالاتها وعلاقاتها، بما في ذلك حالات وعلاقات جسمه هو، تنتُج ضرورة عن ماهيّة المادّة (التمدّد) وقوانين الفيزياء الكونيّة؛ كما يدرك أيضا أنّ كلّ الأفكار، بما فيها كلّ خصائص الأذهان، تنتُج ضرورة عن ماهيّة الفكر وقوانينه الكونيّة. مثل هذا التبصُّر لا يمكنه إلاّ أن يُضعِف الهيمنة التي تمارسها الانفعلات اللّاعقلانيّة على الفرد. فهنا تكمن الإمتيازات الطّبيعيّة أو ما تُجزى به الفضيلة. فعندما يرتقي المرء إلى مستوى عالٍ من فهمه للطّبيعة الطّابعة ويُدرِك أنّه غير قادر على التحكُّم فيما تمنحه أو تضِنُّ به عليه أو تسحبه منه، عندها يصبح أقلّ قلقاً وتوتُّرا في علاقته بالأشياء، أقلّ فريسة لتأثيرات الرجّاء والخوف ممّا يمكن أن يحدث أو لا يحدث. وحيث أنّه لم يعد مهوسا أو مُحبَطا خوف فقدانه لما عنده من ممتلكات، يكون أقلّ عرضة لما يغمُره من مشاعِر وأحاسيس عند امتلاكه لأشياء أو في لحظة فقدانه لها. هذا المرء وبهذه الصّفة سواجه كلّ الأشياء ويتعامل معها بنفس المزاج ولن تؤثِّر فيه الأحداث الماضية، ولا الحاضرة ولا المستقبليّة، بصورة مفرِطة، ولاعقلانيّة ولا بأيّ شكل من الأشكال. ستمضي حياته هادئة مطمئنّة، دون تحمّل أوزار ما تقذفه به الأهواء من شقاء وعذاب. سيعرف التحكّمَ في نفسه وينعم بسكينة الرّوح: "كلّما تعلّقت هذه المعرفة (cognitio) - معرفة أنّ الأشياء ضروريّة – بأشياء جزئيّة، وكلّما كان تخيُّلنا واضحا وشديدا لها، كانت قدرة النّفس على التحكّم في الانفعلات قدرة أعظم، فالتّجربة نفسها تُثْبت ذلك. ونحن نرى فعلا أنّ الحُزنَ الذي يتسبّب فيه ضياع شيء ممّا نمتلك سرعان ما تنقص حدّته إذا ما اعتَبَر فاقد هذا الشّيء أنّه لم يعد في وسعه الاحتفاظ به بأيّ وجه من الوجوه. وفي نفس السّياق، نلاحظ أنّه لا أحد يُشفِق على طفلٍ [لأنّنا نعتبر الطّفولة حالة طبيعيّة وضروريّة] لكونه لا يُحسِن الكلام والمشي والتّفكير، ولكونه يعيش سنوات عديدة لا يكاد يعي ذاته"(8). إنّ مَن يُسمّيه سبينوزا "الإنسان الحرّ"، هو ذاك الفاضِل الذي يحيى "تحت إمْرَة العقل وحده"، يتحمّل ما يَهَبه له الحظّ وما يَخسَره بكلّ هدوء وراحة بال، لا يفعل إلاّ ما يعتقد أنّه "أفضل ما يُمكن أن نفعله في الحياة"، ويرفض الرّكض وراء أشياء فانية ولا يهتمّ بها كثيرا ولا يُبالغ في التألّم من الموت. فهو يعي تماما مكانه في رحم النّظام الطّبيعي للاشياء، وهذا الوعي يُغدِق عليه السّعادة وسكينة حقيقيّة للرّوح. وهكذا إذن تكون الفضيلة قد أُجْزِيَت. فالسّعي لامتلاك الفهم والمعرفة تكون نتيجتهما الطّبيعيّة هي الغِبطَة(9). فحرّيتنا، وتفتّحنا المادّي والبسيكولوجي مرتبطان مباشرة بمعرفتنا للطّبيعة الطّابعة، بما في ذلك إدراكنا لضرورة كلّ الأشياء وأيضا مكاننا في العالَم. والفضيلة هي مصدر سعادة دائمة، مجرَّدة من شوائب الحظّ وتقلّباته. هذه هي فائدة الفضيلة، فائدة حقيقيّة وطبيعيّة بالتّمام والكمال. وكلّ هذا يشكّل بالنّهاية نوعا خاصّا من العناية الإلهيّة في صُلْب النّظام السبينوزي، نظام لا تبلُغه إلاّ الكائنات العقلانيّة. بطبيعة الحال، هناك بالنّسبة لسبينوزا معنى هامّ يُفيد بأنّ الكلّ (كلّ شيء) هو نتيجة العناية الإلهيّة. فلا وجود لأيّ شيء لا يحدث في الطّبيعة الطّابعة، وكلّ ما يجري يجب أن يجري في الطّبيعة الطّابعة لأنّه لا يوجد شيء خارجها، ولا يوجد شيء لا تكون علّته الرّب أو الطّبيعة الطّابعة. وبالتّالي، فإنّ ما يحدث من خير وما يحدث من شُرور لشخص مّا، وفي الحقيقة كلّ الخير وكلّ الشّرور التي تُصيب أيّا كان، وليس فقط ما يحدث من الغبطة التي هي مادّة ثانويّة طبيعيّة للفضيلة، جميع كلّ ذلك هو نِتاجٌ للعناية الإلهيّة. كما أنّ العناية الإلهيّة هي التي تفعل فعلها عندما يتألّم الفاضل ويشقى، أو عندما ينعم الشرّير بالرّخاء ورغد العيش. ومع هذا، هناك من وجهة نظر الفاعلين(10) البشريّين فارق كبير جدّا بين، من جهة، المنافِع التي تحصل اتِّفاقاً (وذلك كما يعتبرها الفاعلون من وجهة نظرهم ودرجة الجدوى التي يمنحونها لها)، وحسب الوسائل المختلفة، و هي طبيعيّة، التي يتأرجحون من خلالها وفقا لمشيئة الأشياء الخارجيّة، ومن جهة أخرى المنافِع التي يمتلكونها بطريقة إراديّة ومتحكَّم فيها. وهذا هو التّمييز الذي نجده في رسالة اللّاهوت والسّياسة بين "العوْن الخارجي" (auxilium externum) وبين "العوْن الدّاخلي" (auxilium internum) للرّب: "وإذن يُمكننا أن نُسمِّي كلَّ ما تستطيع الطبيعة الإنسانية أن تُنتِجه بقُدرتها الخاصة للمُحافظة على وُجودها عَوْنَ الله الداخلي، ونُسمِّي كلَّ ما تُنتِجه قوَّة الأشياء الخارجية ممَّا فيه منفعةُ هذه الطبيعة الإنسانية، بالعون الخارجي"(11). إنّ العوْن الخارجي يُشير بكلّ بساطة إلى ظروف نكون متواجدين فيها بإجراءٍ تقوم به العِلَل الخارجيّة؛ وكما يقول سبينوزا، هذا العَوْن هو في الغالب مسألة "حظّ" وعِلَل خارجة عن سيطرتنا، وتعمَل فيه العناية الإلهيّة بطريقة عامّة جدّا. أمّا العوْن الدّاخلي فهو بالمقابِل يجد أساسه في القدرة التي يقدّمها الرّب أو الطّبيعة الطّابعة للشّخص، وهذه القدرة هي التي تشكّل الكيان الجوهري لكلّ فرد (وهو ما يُسمّيه سبينوزا في كتاب الأخلاق conatus، أي الجهد الذي يسعى المرء من خلاله للاستمرار في وجوده). ويتمثّل العون الدّاخلي في امتلاك شخص مّا، تحرّكه في ذلك هذه القدرة التي يتحكّم فيها العقل، معرِفةً بواسطة موارده الذّاتيّة الشّيء الذي يسمح له بتنميّة سعادته وحصوله على امتياز في العالَم. لا يسع سبينوزا إذن إلاّ أن يكون متّفقا على أنّ المكافآت أو الامتيازات التي ينالها الأتقياء تشكّل جزءًا من العناية الإلهيّة، ولكنّ هذه العناية "الخاصّة" لا تتطلّلب أيّ تدخّل خارق للطّبيعة أو خرق لقوانين الطّبيعة. بل بالعكس، فهو مسار طبيعيّ تماما تنتج من خلاله بالضّرورة، وفقط بحكم قوانين الطّبيعة، بعض المعلولات من بعض العِلل. كلّ التّنازلات المصطلحيّة التي يقدّمها كتاب الإخلاق لـ"قدرة وأوامر" الرّب أو للعناية الإلهيّة هي تنازلات متّسقة مع المشروع الطّابعانيّ العام لسبينوزا. وهي كذلك منسجِمة مع الرّفض المطلق للمعجزات.
(يتبع) ------------------- هوامش (1) في الحقيقة، يقلِّل ابن ميمون من أهميّة الدّور السّماوي في المعجزات وقيمتها الدّينيّة؛ أنظر على سبيل المثال المقطع الذي اقتبسناه أعلاه من مصنَّفه "مشناه توراة". (2) الرّسالة، الفصل السّادس، "المعجزات"، ص 229. (3) نفس المصدر، ص 229، التّرجمة من عندنا. (4) الرّسالة، فصل المعجزات، التّرجمه من عندنا. (5) نفس المصدر، حنفي، بتصرّف، ص 234. (6) نفس المصدر، حنفي، بتصرّف، ص 235. (7) أنظر عل سبيل المثال، ابن ميمون، دليل [دلالة] الحائرين، ج 3، الفصليْن 17-18، والحديث فيهما عن "آراء النّاس في العناية [وهي] خمسة آراء [...]، الرّأي الأوّل: هو قول مَن زعم أنّ لا عناية أصلا بشيء من الأشياء في جميع هذا الوجود وأنّ كلّ ما فيه من السّماء إلى سوى ذلك واقِعٌ بالاتّفاق، [...]. الرّأي الثّاني: هو رأي من يرى أنّ بعض الأشياء بها عناية، وهي بتدبيرِ مُدبِّر ونَظْم ناظِمٍ، وبعضها متروك مع الاتّفاق، [...]. والرّأي الثّالث: هو مقابل هذا الرّأي الثّاني، وهو رأي مَن يرى أن ليس في جميع الوجود شيء بالاتّفاق بوجه لا جزئيّ، ولا كلّي، بل الكلّ بإرادةٍ وقصدٍ وتدبيرٍ، وبيِّنٌ هُوَ أنّ كلَّ ما يُدبَّر فقَد عُلِمَ. وهذه هي فرقة الأشعريّة من الإسلام. ولزم هذا الرأي شناعات عظيمة فتحمَّلوها والتزَموا بها، [...]. والرّأي الرّابع: مَن يرى أنّ للإنسان استطاعة. ولذلك يجري ما جاء في الشّريعة من الأمر والنّهي والجزاء والعقاب، عند هؤلاء، على نظامٍ ويرون أنّ أفعال الله كلّها تابعة لحكْمَةٍ، وأنّه لا يجوز عليه الجور، ولا يُعقِب مُحسِناً. والمعتزلة أيضا يرون هذا الرّأي. وإن كان استطاعةُ الإنسان ليست هي عندهم مُطلَقة، وهم أيضا يعتقدون أنّه تعالى عالِم بسقوط تلك الورقة وبدبيب هذه النّملة، وأنّ عنايته بكلّ الموجودات. فلزِمتْ هذا الرّأيَ أيضا شناعات وتناقضات. [...] والرّأي الخامس: هو رأيُنا أعني رأي شريعتنا [...] أنّ الانسان ذو استطاعة مُطْلَقة، أعني أنّه بطبيعته وباختياره وإرادته يفعل كلّ ما للإنسان أن يفعله دون أن يُخلَق له شيء مُستَجَدّ بوجه. وكذلك جميع أنواع الحيوان تتحرّك بإرادتها، وهكذا شاءَ، أعني أنّ مِن مشيئته القديمة في الأزل أن يكون الحيوان كلّه يتحرّك بإرادته، وأن يكون الإنسان ذا استطاعة على كلّ ما يريده أو يختاره ممّا يستطيع عليه. وهذه قاعدة لم يُسمَع قطّ في ملّتنا خلافها...". (8) كتاب الأخلاق، مرجع سابق، بتصرّف، ص 322. (9) في لحظة مّا، يقول سبينوزا إنّ الفضيلة البشريّة هي بالضّبط الغبطة: "إنّ الغبطة ليست أجْراً للفضيلة، إنّما هي الفضيلة بعينها". كتاب الأخلاق، ج 5، قضيّة 42. الترجمة من عندنا. (10) الفاعِل agent، في لاتينيّة القرون الوسطى agens، هو مَن يفعَل، الذي يتولّى مهمّة مّا. عندما يقدِّم شخص مّا نفسه كناقِل لمشروع مّا، يمكننا الحديث عن فاعِل. ويعني هذا أنّ الشّخص ليس منخرطا بأكمله، بل بالعكس من ذلك، يكون في لحظة معيّنة يفعل بطريقة دقيقة وفقا لدور معيَّن. وعندها نقول إنّ الشّخص وضع نفسه في وضعيّةٍ فاعِل. وهي صيغة لمساءلة الأصل الفعلي لشيء مّا: لعمَلٍ كان أو لفكرةٍ... [المترجم] (11) الرّسالة،حنفي، الفصل 3، ص 180.
#ناصر_بن_رجب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كتاب صُنِع في الجحيم(12)
-
كتاب صُنِع في الجحيم(11)
-
كتاب صُنِع في الجحيم(10)
-
كتاب صُنِع في الجحيم(9)
-
كتاب صُنِع في الجحيم(8)
-
كتاب صُنِع في الجحيم(7)
-
كتاب صُنِع في الجحيم(6)
-
كتاب صُنِع في الجحيم(5)
-
كتاب صُنِع في الجحيم(4)
-
كتاب صُنِع في الجحيم (3)
-
كتاب صُنِع في الجحيم (2)
-
كتاب صُنِع في الجحيم (1)
-
رَبُّ القَبائل، إسلام محمّد
-
قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (14)
-
قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (13)
-
قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (12)
-
قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (11)
-
قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (10)
-
قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (9)
-
قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (8)
المزيد.....
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|