الكرد قرون الحديد أولو البأس الشديد؟!
سمعنا من بعض العالمين بالنصوص القرآنية وقرأنا لبعضهم الآخر أن المقصودين بالآية الكريمة (ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون - الفتح 48 ) هم الأكراد الذين اشتهروا في التاريخ بقوتهم على صد الغزاة وتحمّل المشاق والقدرة العظيمة على القتال ، وتاريخهم المليء بالحروب الداخلية والخارجية يدل على ما هم عليه من هذه الصفات الحميدة التي بدونها لا يمكن لشعب من الشعوب أن يصمد في وجه الطغاة الغزاة وينتهي به الأمر بدونها إلى الإبادة، كما حدث لعديد من الشعوب التي انقرضت وتوارت عن الأنظار بعد أن كانت قوّية تجول وتصول في البلاد، تستعمر هذا وتقضي على ذاك، ومن أمثلتهم الشعبان الليدي والبابلي اللذين عاشا بجوار الكرد أو قريباً من بلادهم واختفيا من مسرح التاريخ في حين ظل الكرد مستمرين في البقاء كشعب عريق رغم كل ما تعرضوا ويتعرضون له من مهالك ومصائب عبر مراحل التاريخ..
لقد قاوم الكرد طويلاً ضد المغول والتتار الزاحفين المدمرين من جهة بشكل لم يسبق له مثيل، ووقفوا في وجه الصليبيين الحارقين الذابحين بالجملة القادمين من جهة الغرب، وكذلك ضد الامبراطوريتين الفارسية والعثمانية اللتين حولّتا بلاد الكرد إلى ساحات للحروب الطاحنة فيما بينهما لقرون عديدة، وقاتل الكرد ضد الانجليز والجون ترك والفرنسيين والروس ومن حضر معهم إلى كوردستان من مرتزقة هنود وسيخ وزنوج ومن تلاهم من عنصريين عرب وفرس وترك استهدفوا وجود الكرد كشعب مثلما حدث في العراق منذ قيام الجمهورية العراقية عام 1958 وحتى سقوط النظام البعثي،كما قاتلوا بعضهم بعضاً نتيجة المشاحنات الطويلة الأمد بين الإمارات الكردية والطبقات الحاكمة عليهم قروناً اكتنفها ظلام دامس، مما أبعدهم عن الحضارة ودمّر بلادهم الجميلة وأضعف قواهم الحربية والاقتصادية، بحيث طبع التخلف وجه كوردستان والجهل وجه الكرد..
وهكذا نرى أن سمعة الكرد القتالية قد طغت على غيرها من خصائلهم بحيث عرّف بعضهم الكرد بأنهم قوم جبليون ومحاربون أشدّاء في حين أهمل الجوانب الأخرى من الصفات الحميدة التي لديهم كعدم تعذيب الأسرى والعفو عن المحاربين عند دخولهم المدن وضيافتهم للناس حتى أعدائهم الذين كانوا يقاتلونهم ثم يضطرّوون لأسباب معينة إلى اللجوء إليهم كما حدث مؤخراً ، قبل الحرب في العراق وبعدها لعديد من رجال الحكم البائد في العراق وجنوده واستعداد الكرد على الدوام لمّد أياديهم للسلام والتآخي رغم ما لاقوه من جفاء وعانوه من ظلم من قبل القائمين على أمور البلاد، وما إلى هنالك من صفات يتمتّع بها الكرد بفضل الله تعالى.. إلا أن هذه الصفات التي اكتسبوها من مجتمعهم القديم المحارب لم تساعدهم كثيراً في الخلاص والنجاة من المجازر التي ارتكبت بحقهم فعدّوهم كان على الدوام مستعداً لارتكابها بحقهم في أعوام الثمانينات، بل إن الجيش العراقي قاد الألوف من نسائهم وأطفالهم وشيوخهم وقضى عليهم في معتقلات سرّية كما حدث ل8000 من أبناء وبنات عشيرة البارزاني أو ل5000 من سكان مدينة حلبجة ولباقي الذين انتزعهم النظام وأبادهم في "عمليات الأنفال" حيث قدّر بعض المطّلعين عددهم بأكثر من 180000 إنسان من المدنيين، إضافة إلى حملات الإعدام الجماعية وعمليات هدم آلاف القرى الكردية.. ولكن على الرغم من هذا كلّه فإن الكرد سيظلّون محتفظين بخصائلهم الحميدة هذا وسيشاركون بقوة في بناء عراق ديموقراطي موحّد وفيدرالي يتمتع فيه الشعب الكردي بحقوقه القومية والوطنية الكاملة كجزء هام من الشعب العراقي، وليس هناك من يدعوهم للتخلي عن هذه الصفات أو تجاهلها في أيام الشدّة والقتال رغم كل الوحشية التي يعاملون بها عندما يتمكّن الأعداء منهم، كما فعل زبانية ومجرمو البعث بهم طوال فترة حكمه.
إلا أن تطور المجتمعات والتقدّم السريع في كل المجالات، إضافة إلى ابتكار فنون جديدة في الحرب والسياسة للقضاء على العدو وشلّ حركته وإخراجه من المعركة، يستدعي تغييراً كلياً وشاملاً في أسلوب إدارة الأزمات وقيادة الشعوب، فالحرب الأخيرة في العراق أظهرت لنا صورة جديدة لأساليب الحرب والقتال وبالتالي لكيفية التعامل السياسي مع المستجدات، ولقد أظهر الكرد لأوّل مرّة - كما بدى - للجميع حنكة في التعامل مع الأحداث المتلاحقة بدءاً من الحملات الإعلامية المركّزة على النظام العراقي من قبل الأمريكان ومروراً بتسخين الأجواء الدولية استعدادً لشن حرب عليه ومن ثم الشروع في الحرب وتصفية النظام أخيراً والانتقال لبناء عراق جديد.. الكرد انتبهوا - وهذا جديد في سياستهم - إلى أن الوقوف في وجه العاصفة الهادرة لن يأتي لهم سوى بالدمار والخسارة، فسارعوا إلى التلاقي مع "المعارضة العراقية" والتحدث إلى دول الجوار والاستعداد للمشاركة في الحرب على النظام العراقي إلى جانب قوات الحلفاء بقيادة الأمريكان لعلهم يتمكنون هذه المرّة من الحصول على شيء، ففي الماضي وقف شيوخهم وزعماؤهم ضد القوى العظمى بعد الحرب العالمية الأولى فخسروا ووقف قادتهم الأكثر خبرة وتجربة ضد الاتحاد السوفييتي بعد الحرب العالمية الثانية فخسروا أيضاً.. والسبب الأكبر في هزائمهم هو أنهم اعتمدوا فقط على قوتهم القتالية ووجدوا أنفسهم "قرون حديد وأولي بأس شديد" فكانت هزائمهم سياسية وليست عسكرية.. ولكن هذه المرّة لم يقعوا في تلك الأخطاء ووضعوا مصلحتهم القومية فوق كل المصالح الأخرى فإذا بهم يحررون كل كردستان الجنوبي في أيام قلائل، ويتصدرون اجتماعات تأسيس عراق جيد ويكسبون ثقة الشعب العراقي كلّه.. وهذا يمكن اعتباره انتصاراً سياسياً عظيماً حققه قادة الكرد في جنوب كردستان مما سيؤثر بقوة في مجمل القضية الكردية والوضع الكردستاني مستقبلاً وسيثير الخوف في قلوب الدول التي تفصل أبناء وبنات كردستان بعضهم عن بعض..
إلا أن مخاوف كثيرين من الكرد لاتزال موجودة، وهي مخاوف جدّية ومتعددة كما عبّر عنها بعض المثقفين الوطنيين، إذ يعتبر هؤلاء أن انغماس قادة الكرد في عملية إعادة بناء العراق وعدم استغلال الظروف القائمة لاعلان دولة كردية في كردستان العراق قد تحبط مشاريعهم مرّة أخرى بمجرّد قيام عراق قوي وخروج الأمريكان منه وعودتهم إلى ديارهم، إذ لايزال هناك من يرفض أن يصبح الكرد أقوياء في هذه المنطقة أو أن يشاركوا بقوة في إدارة البلاد، وفي العراق مال كثير يمكن تحويله من جديد إلى آلة حربية جبارة تحطّم قوى الكرد مستقبلاً أو تفرض عليهم شروطاً قاسية بحيث يضطررون إلى التراجع عن كثير مما حققوه حتى الآن.
الظروف القائمة ملائمة لاعلان مثل هذه الدولة المستقلّة مثلما كانت ملائمة لطلب البرلمان الكردي سحب القوات التركية من أراضي جنوب كردستان، فالتواجد الأمريكي البريطاني على أرض العراق، إضافة إلى المشاكل الجادة التي تعانيها الدول الثلاث المعنية بالأمر (تركيا، ايران وسورية) وعدم قدرتها على التدخل خوفاً من اصطدامها بالأمريكان، وعدم وجود حكومة عراقية حتى الآن أو جيش قادر على غزو كردستان، وكذلك الضعف الذي عليه الموقف العربي عموماً.. كل هذا يساعد على إعلان دولة كردية مستقلّة ، وكما قال أحد الخبراء الأمريكان بأن الذي في يديه البترول يستطيع أن يشتري لنفسه ممراً إلى البحر أيضاً.. ولذلك يتساءل بعضهم: لماذا لايستغل الكرد هذه الظروف المستجدة لصالح تحقيق جزء من حلمهم القومي الكبير؟!
وحقيقة ليس هناك كردي واحد يرفض قيام دولة كردية، إن كان فعلاً كردياً تهمه مصلحة هذا الشعب الذي عانى من الحروب وعذاباتها الكثير وتعرّض لمختلف صنوف الاضطهاد القومي على أيدي المستبدين به، ولكن الذي يحدّد الأهداف المرحلية لهذا الشعب ليس (صندوق الانتخاب) وإنما قادة الأحزاب ورؤساؤها، وهم جزء من النسيج السياسي للمنطقة يتعاملون مع الأحداث والمتغيّرات الدولية تعاملاً يختلف عما تريده قلوب الكرد ويطمحون إليه، فهناك أمور أخرى وعديدة متداخلة وحسابات معقدّة تؤثر في عملية انتقاء وإصدار القرارات العليا للأحزاب، ومنهم من يضيّع الفرص متذرعاً بأن الأمريكان لايريدون ذلك أو أن الجيران سيغضبون ويقطعون علينا السبل أو أن دولة كردية لن تعيش في ظروف العداء المخيم على الكرد من كل صوب وحدب، وقد يكون ذلك صحيحاً وواقعياً ، ولكن السؤال الذي يطرحه بعضنا هو: أليس الوضع الكردي القائم حالياً في العراق وضع (استقلال)؟ فإذا كان لديك جيش وبرلمان وعاصمة محررة وأموال كثيرة في يديك وكل أراضيك محررة وتجبي الجمارك على الحدود ولك محاكم وجامعات وتلفزيونات ومؤسسات من كل الصنوف والأشكال وعلاقات سياسية واسعة على الصعيد الدولي، وتتمكّن من المشاركة بقوة في كل ما يتعلق بالعراق، بل تعتبر من أهم رجالات المستقبل العراقي، وتأييد الشعب لك تأييد عظيم ، فماذا تحتاجه بعد لاعلان استقلالك؟ فقط رضاء أعدائك الآخرين؟!! لماذا لايدعو السياسيون الشعب لاستفتاء حول الفيدرالية ضمن العراق أوالاستقلال إن كانوا فعلاً يعملون من أجل الديموقراطية؟!
أعتقد بأن المسألة - من وجهة نظر الأحزاب الكردية الكبيرة - تختلف إلى حد كبير عما يفكر به الناس العاديون أو المثقفون، وحسابات الأحزاب أكثر تعقيداً وحركتها بطيئة بسبب اتساع بيروقراطيتها وضخامة هياكلها والعلل الكامنة في تنظيماتها التراتبية.. ووضعها يذكرنا بقصة الملك الصيني الذي رفض استغلال الفرصة على أرض المعركة بالهجوم على خصمه المنهك قواه من المسير قبل أن ينظم الخصم قواته وينهي استعداداته للقتال، فهاجم عليه الخصم بعد أن أكمل استعداده ونظّم قواته فأرداه قتيلاً وبدّد قواته واحتل بلاده... فلم ينفعه شيء لا بأسه الشديد ولا قرون الحديد، ووقع ضحية حلمه في أن يدخل التاريخ كملك ذي خصائل حميدة لا كمحارب منتصر..