|
شَمْسُ الحَصَاد
الياس خليل نصرالله
الحوار المتمدن-العدد: 7173 - 2022 / 2 / 25 - 14:06
المحور:
الصناعة والزراعة
مُنْذُ أَن عُرِفَت الزِّراعَةُ، وَفِي كافَّةِ الحِقَبِ والْعُصورِ اَلَّتِي تَلَتْهَا، تَكَيُّفَ الفَلّاحُ فِي بِلادِنا مَعَ تَتابُعِ اَلْفُصولِ الأَرْبَعَةِ، وَجَعَلَ مَواسِمَهُ الزِّراعيَّةَ تَتَناغَمُ مَعَهَا، فَيَزْرَعُ فِي الشِّتاءِ مِن المَحاصيلِ مَا يَتَحَمَّلُ البْرد، وَيَكْتَفي بِأَقَلِّ سَاعَاتِ إِضاءَةِ الشَّمْسِ، ثُمَّ يَزْرَعُ فِي الصَّيْفِ نَباتاتِ النَّهارِ الطَّويلِ، وَفِي الرَّبيعِ يَزْرَعُ مَا ارْتَوَى مِنْ المَطَرِ.
اَمّا السُّنَّةُ الزِّراعيَّةُ، فَهِيَ عِبارَةٌ عَنْ المُنَاسَبَاتِ الزِّراعيَّةِ، المُرْتَبِطَةِ بِالْمُناخِ وَأَشْهُرِ السَنةِ وَتَشْمَلُ الحَرْث الغَرْس والْبَذْر وَاَلْحَصاد وَقَطْفَ الفَوَاكِهِ، وَارْتَبَطَ ذَلِكَ بِأَشْهُرٍ مُعَيَّنَةٍ، مِثْلَ الحَصادِ فِي أَيَّارَ، وَقَطْفِ العِنَبِ فِي آبَ أُقَّطِفْ العِنَب وَلَا تَهابُ، وَشَهْر أَيْلُولَ فِي رُّزْنامَةِ الفَلاحِ، أَيْلُول دِباغَ الزَّيْتُونِ وَبِدَوْر الزَّيْتِ فِي الزَّيْتُونِ. تَبْدَأُ سَنةُ اَلْفَلّاحة بِمَوْسِمِ الحَرْثِ والبذر، وَتَصِلُ ذُرْوَتَها فِي مَوْسِمِ الحَصادِ.
فَقَدْ تَراكَمَ الكَثيرُ مِن الخِبْرَاتِ الزِّراعيَّةِ وَالحَيَاتِيَّةِ والْبيئيَّةِ عِنْدَ الفَلّاحِ فِي بِلادِنا عَلَى مَرِّ الأَجْيالِ، حَيْثُ تَحَدَّدَت لِكُلِّ شَهْر بَرْنامَجَ عَمَلِهِ اليَوْميِّ، ضَبْطُ تَوْقيته، وَمُتَطَلَّبات كُل بِدايَةٍ وَنِهايَةِ مَوْسِمٍ زِراعيٍّ. وَتشَكّل مَعَ تَراكُمِ خِبْراتِ هَذَا المُجْتَمَعِ الزِّراعيِّ لَدَى الفَلّاحِ عَادَاتٍ وَتَقاليدَ وَأَمْثالٍ وَقيَمٍ، وَالَّتِي جَرَى خَزَّنُهَا فِي الذّاكِرَةِ الجَمْعيَّةِ، وَالتي تَوارَثَها كَقَوانينَ وَنَمَط لِتَنْظِيمِ حَياتِهِ وَأَعْمالِهِ. وَسَأَعْرَضُ مَوْسِم الحَصادِ فِي بِلادِنا بِكُلِّ مَا ارْتَبِطَ بِهِ مِن أَدَواتٍ، مُصْطَلَحاتِ غِناءٌ وَأَمْثالٌ شَعْبيَّةٍ بِدَافِعِ اَلاّ نَنْسَى وتَرَسِيخ تجذرنا في ترابِ الوطن.
مَوْسِمُ الحَصادِ: اعْتَادَ الفَلّاحُ قَبْلَ النُّضوجِ الكامِلِ لِسَنابِلِ الحِنْطَةِ اَنْ يُباشِر بِقَطْفِ سَنابل القَمحِ الفِريك، ليُضَمِمَها فِي زُغْدٍ، وَيَقُومُ بَشْعَوطَتِهَا لِتَحْضِيرِ الفَريكَةِ. كَانَ مَوْسِمُ الحَصادِ، يَبْدَأُ فِي شَهْرِ أَيَّار مَعَ نُضوجِ القَمْحِ والشَّعيرِ، وَعَبَّروا عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ "إِجَا أَيَّارَ اَبو السَّنابِلِ وَاَلْغِمارِ"، وَ "يَا مُنْجَلي إِجَا أَيَّارَ لَا تْمَانِع". وَتَتَطَلَّب الحَصادُ ضَرورَةَ تَساقُطِ النَّدَى لَيْلًا بِكَمِّيَّاتٍ كَبيرَةٍ "صاقوعَةُ النَّدَى" لَأنَ الرُّطوبَة سَتَمْنَعُ تَساقُطَ بُذورِ السُّبُلِ عِنْدَ جَمَعِها، وَتُخَفِّفُ وَخْزّ الأَشْواكِ، وَسُموم الحُرِّ. وَيَوْمَ الحَصادِ كَانَ يَبْدَأُ دَغْشِة، وَيَدومُ حَتَّى ضَبَّ اَلْرَمَسُ. وَكَانَتْ أداَةُ الحَصادِ الاّساسيَّة المِنْجَلِ، وَيَضَعُ الحَصادَ مَا يَحْصُدُهُ تَحْتَ إِبْطِهِ (اَلْشَمْلَةِ)، وَتَعاوُن، الجَميعِ مِن رِجالٍ وَنِساءٍ وَأَوْلادٍ عَلَى جَمْعِ الشَّمْلَاتِ، وَتَكْديسِها فِي مَكانٍ يُسَمَّى الغِمْر. والأَغِّمارُ كَانَتْ تُجْمعُ لِتَكُونَ حلَّةً، وَبَعْدَهَا يَتِمُّ نَقْلُها إلى البَيْدَرِ (اَلْجُرْنُ). وَبَعْدَ اَلِانْتِهاءِ مِنْ عَمَليَّةِ الحَصادِ، يَذْهَبُ اَلْفُقَراءُ إلى الحُقُولِ لِجَمْعِ (تَلْقيطٍ) مَا بقي مِنْ سَنَابِلَ، وَلِتُصْبِحْ بَعْدَهَا الِحَقُولُ المَحْصودَةِ مَرْتَعًا لِلْحَيَوَانَاتِ، إذ كان يُسْمَحُ إحضارُ قُطْعانِ البَقَرِ والْغَنَمِ إِلَى الحُقُولِ التي انتهى حصادها، لِتَنَالَ نَصيبَها مِمَّا تساقط وبقي مِنْ حُبوبٍ وَنَباتاتٍ مُفيدَةٍ لِتِلْكَ الحَيَوَانَاتِ، وَالَّتِي هِيَ بِالْمُقَابِلِ كانت توَفِّرُ بِفَضَلاتِها (رَوْثَها) سَمادًا لِلْأَرْضِ.
وَبَعْدَهَا كَانَتْ تَبْدَأُ عَمَليَّةُ الرِّجادَةِ (رَفْعُ اَوْ شِيلْ المَحْصولِ الى البَيْدَرِ)، يَحْزِمُ الشّيالَةَ سَنَابِلَ القَمْحِ، فِي حِمْلٍ، وَنَقْلُها عَلَى الحَيَوَانَاتِ الَّى البَيْدَرِ. لِتَكَدُّسَ هُنَاكَ فِي كَوْمَةٍ دائِريَّةٍ كَبيرَةٍ بَعْدَ تَنْظيفِ البَيْدَرِ، وَأَطْلَقُوا عَلَيْهَا اسْمَ حلةٍ (حاَبونَ). وَاَلْبَيْدَرُ (الجَرينَةُ، وَهَذَا مَصْدَرُ أَسْماءِ أَحْياءِ الجَرينَةِ فِي قُرانَا) هوَ المَكانُ المُخَصَّصُ لِجَمْعِ المَحاصيلِ الزِّراعيَّةِ مِنْ أَجْلِ دَرَسِها وَنَزْعِ الحُبُوبِ مِنْهَا، قَبْلَ تَخْزينِها. وَعِنْدَ اخْتيارِ مَوْقِعِ البيادِرِ يُفْتَرَضُ أَنْ يَكونَ بِشَكْلٍ عام فِي أَماكِنَ مَفْتوحَةٍ لِلْهَوَاءِ، لكي يُذري الدريس بِسهُولة. كَمَا يَجِبُ اَلَا تَكونُ بَعيدَةً عَنْ مَنازل القَرْيَةِ لِيَتَيَسَّرَ لِلْفَلَّاحِ سُرْعَة الوُصول إِلَى البَيْتِ لِقَضَاءِ الحاجَةِ، وَلِتَسْهِيلِ عَمَليَّةِ إِحْضارِ الأَكْلِ والْماءِ وعملية نقلها.
وَمَعَ الانْتِهاءِ مِنْ عَمَليَّةِ النَّقْلِ إلى البَيْدَرِ، يَبْدَأُ الفَلّاحُ مَعَ أَوْلادِهِ وَقْطَارِيزَهَ بنَشْل السَّنابِلِ بالشّواعيبِ مِنْ الحلَّةِ وَفُرُشِها بِدَائِرَةٍ عَلَى أَرْضِ البَيْدَرِ (اَلْجُرْنِ)، وَسُمّيَتْ اَلْطَّرْحَةُ، لِتَدوسَها الحَيَوَانَاتُ أَوَّلًا بِأَقْدامِها (جَمالٍ ، حِمْيَر ثِيرَانِ اَلْخِ) لِتَحْضيرِها لِدَرْسِها بِالنُّورْجِ (مورج) وهو لَوْحٌ خَشَبيٍّ مَصْنوعٍ مِنْ خَشَبِ البَلّوطِ يَحْتَوِي عَلَى مَجْموعَةٍ مِنْ الحَصَى البَازِلْتِيَة مُلَصَّقَةً في أسفله، وَالَّذِي كَانَ يُدِيرُهُ فَتًى لِمَنْعِ انْحِرافِ الدّابَّةِ اَلَّتِي تَجُرُّ النّوْرَج عَنْ مَسارِها، بَيْنَمَا كَانَ شَخْصٌ اَخَرٌ يَقومُ بِتَقْليبِ اَلْطَّرْحَةِ بِاسْتِمْرارٍ لِتَقْلِيلٍ لُزوجَتِها لِتَسْهِيلِ عَمَليَّةِ فَصْلِ البُذورِ.
وَتَنْتَهي عَمَليَّةُ الدِّراسَةِ عِنْدَمَا تُصْبِحُ اَلْطَّرْحَةُ خَلِيطًا مِن الحُبُوبِ وَاَلْتِبِنِ والقَصَل "عِيْدَانُ قَمْح ثَخينَةِ "، مَخْلوطَةً بِبَقايا الحَصَى والتُّرابِ والْأَشْواكِ، اَلَّتِي تَكونُ قَدْ عَلِّقَتْ بِهَا مِنْ أَرْضِ البَيْدَرِ، وَهُنَا تَأْتِي عَمَليَّةُ التذْريَةِ لِفَصْلِ الحُبُوبِ عَنْ كُلِ الشَّوائِبِ وَاَلْعَوالِقِ. وَكَانَتْ التَّحْضيرُ لِلتَّذَرِيَةِ يَبْدَأُ بتَكويمِ الدَريسِ فِي الطَّرَفِ الغَرْبيِّ، مِنْ البَيْدَرِ لِضَمَانِ تَساقُطِ الحُبُوبِ وَاَلْتِبِنِ، القَصل عَلَى أَرْضِ البَيْدَرِ وَكَانَتْ اعِّمالُ التذْريَةِ تَجْري بِطَريقَةٍ بِدائيَّةٍ بِاسْتِغْلالِ قُوْة هُبُوبِ واتْجاهِها، حَيْثُ يَخْتارُ الفَلّاحُ سَاعَاتِ اليَوْم اَلَّتِي تَهُبُّ دفِيهَا الرّياحُ اللَّطيفَةُ، وَتَكُونُ رِيَاح غَرْبيَّةٌ أوْ شَماليَّةً شَرْقيَّةً، فَيَقِفُ الفَلّاحُ جنُوبًا فِي طَرْفِ أُلْكومَةِ مُسْتَخْدِمًا مِذْراةً خَفيفَةً مِنْ الخَشَبِ. وَبَعْدَ انْتِهَاءِ والتَّذْريَةِ تكونُ قَدْ تَشَكَّلَتْ ارْبَعَةُ أَكْوامٍ عَلَى أَرْضِ البَيْدَرِ، مِنْ الغَرْبِ الَى والشَّرْقِ، وَهِيَ، عورمَةُ الحَبِّ (قَمْحُ شعير، عدس كرسنة) وَعُرِفَتْ بِاَلْصَليبيَّةِ، كَوْمَةَ القَصْلَ "عُقْدُ القَشِّ وَاَلْسَنابِلِ"، كَوْمَة التِّبْنِّ، وكَوْمَةُ الدُّقِّ وَهُو تبْنٌ ناعِمٌ جِدًّا (الموْصُ). وبَعْدَ الانْتِهَاءِ مِن أَعْمالِ التَّذْريَةِ، كَانَت النِّساءُ تَبْدَأُ بِعَمَليَّةِ فَصْلٍ جَديدَة لِحُبوبِ القَمْحِ مِمَّا تَبْقَى فِيهَا مِنْ التِّبْنِ والْقَشِّ والقَصْلِ والْأَوْساخِ والتُّرابِ والصَّرارِ والزوانِ وَأيَ شَوائِبَ اخْرَى، بِاسْتِخْدَامِ الكُّربالِ والمسرَدِ والْغِرْبالِ. (هِيَ انّواعٌ مَناخِل اخْتَلَفَتْ فِي حَجْمِ ثُقوبِها لِتُنَاسِبَ اسْتِعْمَالَاتِهَا). وَبَعْدَهَا جَرَتْ عَمَليَّةُ تَنْظيفِ البَيْدَرِ بالكواشَةِ، وَمَكَنْسَةُ اَلْبِلانِ الشوَكيَّةِ.
إرْتَبِطَتْ بِاَلْحَصادِ وَمُشْتَقّاتِهِ بِشَكْلٍ مُباشِرٍ أَوْ غَيْرِ مُباشِرٍ أَمْثَالًا شَعْبيَّةً ذَاتَ مَعانٍ وَدَلالاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي تُراثِنا الزِّراعيِّ القَرَويِّ. بِمَا أَنَّ بِدايَةَ الحَصادِ فِي أَيَّارَ فَقَالُوا "فِي أَيَّارَ احْمِلْ منجَلَكَ وَغارٌ". وَكَمَا ذَكَرَتْ كَانَ يَوْم الحَصادِ، يَتَطَلَّبُ البَدْء قَبْلَ بُزوغِ الشَّمْسِ وَيَسْتَمِرُّ حَتَّى "ضَبِّ اَلْرَمْسِ"، أيْ يَوْم الحَصادِ كَانَ طَوِيلًا فَقَالُوا فِي ذَلِكَ "أَطْوَلُ اَلْنَهاراتِ نَهارُ الحَصادِ وَلِيالِي البِدادِ" (اَلْمُعْصِرَجِيُّ)، "أَحْصُدُ بَدْرِي قَبْلَ مَا تَجي الشّوْبَةُ". وَبِمَا أَنَّ التَّذْريَةَ ارْتَبِطَتْ بِحَرَكَةِ الهَوَاءِ، فَكَانَ الفَلّاحُ بِذَكَائِهِ الفِطْريِّ يَعي وَيَتَحَسَّسُ تَغَيُّرَ حَرَكَةِ الهَوَاءِ مَعَ حُلولِ شَهْرِ آبَ، فَقَالُوا فِي ذَلِكَ "إِنْ إِجَا آب وَمَا دَرَيَتْ كَأنَكَ بِاَلْهَوا انْغِرِيتْ". وَأَطْلَقُوا عَلَى بُذورِ الحِنْطَةِ الجَيِّدَةِ قَمْحٌ صَلِيبِيٌّ والشَّبَهُ فارِغَةَ رِدايِدَ، فَفَضَلُوا فِي مِثْلِهِمْ ابن القرية بقولهم ردادينا ولا القَمْح الصَليبي.
وَكَانَ المَحْصولُ يَتَخَلَّلُهُ بُذورًا غَيرْ صَالْحَةً لِلْأَكْلِ وَيَجِبُ تَنْقيَتُهُ مِثْلَ الزوانِ، الحَسْكُ الدحِيرَجَةِ، فَرَبْطوا تَفْضيلَ الزَّواجِ الدّاخِليِّ بمثل استمدوه من الزوَانِ بِقَوْلِهِمْ "مِنْ زِوَانِ (أَو مِنْ طِين) بِلادِكَ حَطَّ عَلَى خَدَادِكِ". وَمِن امِّثالِهِمْ لِتَشْجِيعِ ِ كَمَصْدَرِ مَعيشَةٍ لِلْفُقَرَاءِ "كلُّ ساقِطَةِ إلَّها لاقِطَةً". هِيَ لقوْطَةٍ بَسْ مِشْ قَارُوطَهُ.
وَارْتَبَطَ بِاَلْحَصادِ أَمْثَالًا شَعْبيَّةً تُعَبِّرُ عَنْ تَعَبِ وَمُعاناةِ هَذَا العَمَلِ الشّاقِّ، كَقَوْلِهِمْ "إِجَا الحَصيدُ وَإِجَا التَّعَبِ وَاَلْتَّنْكيدُ"، "يَا أَيّامُ السَّبُلِ شُو خَلَّيَتْ لِلْغَزْلِ" وَ "يَا مُرًّا وَيَا مُرار الحَصيدَةِ قَطَعُتْ ايدِيِيِ". وَأَكَّدَتْ أَمْثالُهُمْ التَّنَبُّؤ بِإِمْكانيّاتِ هُطولِ مَطَرِ غَزيرٍ فِي أَيَّارَ "لَا تُؤْمِن، لِلْوِدْيَان لَوْ إنْهُ فِي زَهْرِ الرُّمّانِ"، "يَا سَعْدُ وَيَا سَعْد، حَصيدٌّي وَرَعْدٌ". (تَبْدَأُ خَمْسِينِيَّةُ الشِّتاءِ مِنْ واحِد شُبَاطَ حَتَّى آذَار وَتَنْقَسِمُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسامٍ تُعْرِفُ بِالسُّعُودَاتِ). وَهُنَاكَ أَمْثالٌ شَعْبيَّةٌ ارْتَبَطَت مَضامِينها بِأَدَواتِ الحَصادِ لِتَنْقُلَ لَنَا صِفاتٌ سَلْبيَّةٌ وَإيْجَابِيَةٌ وَامَانِي وَأَطْماعٌ، مِثْلَ قَوْلِهِمْ "وَاوي بَلَعْ مَنْجَلٌ عِنْدَ خراه بِتَسْمع عْوَاه". وَفُلانٌ غِرْبالٌ سَارُودٌ ، وَ "بِخافِ أَهْزَكْ يَا غُرْبالِي ، ليَسْقُطَ كُلُّ حَبيبٍ وَغالي". وَقَوْلُهُمْ "فُلانٌ زيَّ لَوَّحِ اَلْدِراسِ". وَأَفْرَزَ الاقْتِصادُ والزِّراعيُّ البدائيُّ أخْلَاقِيَّاتٍ اجْتِماعيَّة فَرَضَتْ ضَرورَةَ التَّعاوُنِ والمُتَبادَلِ والْعَمَلِ الجَماعي بِشَكْلٍ وخاص فِي مَواسِمِ حَرْثٍ وَزَرْعِ اَلْأرْض وَحَصادِ المَحاصيلِ ومِثْل فَزْعةِ اَلْحَصّاد لِمَعونَةِ جَارٍ لَا يَسْتَطيع حَصاد حَقْلِهِ لِأَسْبابٍ تَتَعَلَّقُ بِظُروفٍ خاصَّةٍ بِهِ. إِنّ أَدَواتِ العَمَلِ. البُدائيَّة وَشَظَف العَيْشِ أَدَّى إلى الحاجَةِ لِلتَّعَاوُنِ المُتَبادَلِ كَضَرورَةٍ اقْتِصاديَّةٍ معيشية واجْتِماعيَّةٍ، لِضَمَانِ اسْتِمْراريَّةِ العَيْشِ والْبَقاءِ وَعَبَّروا عَنْ ذَلِكَ بقولهم "إلي بِيشُوفَنِي بِعَيْن بِشُوفُو بِتِنْتْين" "وَكُل شِي قَرْضُهُ وَدينٌ حَتَّى دُموع العَيْنِ وَاَلْلّطِ عَلَى اَلْخَدّينِ". كَمَا حَثُّوا وَشَجَّعوا عَلَى ضَرورَةِ التَّعاوُنِ "كَثْرَة الاّياديِّ فِي الحَصيدَةِ بَرَكَةً". وَأَهْل اَلْمَعونَةِ رَافِعِينَ المّوْنَةَ، عونَةً وَإِلَّا راعونةَ.
وَارْتَبَطَ بِالحَصَاد أَغَانِي فولْكُلوريَّةٍ، والتي اسْتَمْدُوهَا مِنْ بيئَةِ عَمَلِهِمْ وَتَرَنَّمُوا بِهَا فِي مَواسِمِ الحَصادِ، وَلَقَدْ كَانَ بَعضها يَعُودُ إلى مَرْحَلَةِ انْتَقَال الإِنْسانُ مِنْ نِظامِ الْمُشَاعِيَّةِ البُدائيَّةِ الَّى طَوَّرِ الزِّراعَةِ. وَتَابَعَ الإِنْسانُ يُغْني خِلالَ عَمَلِهِ، وَيُرَدِّدُ أَغانيَهُ المُسْتَمَدَّةَ مِنْ وَاقِعِهِ لِتَقْطَعَ الأَمْكِنَةَ والْأَزْمِنَةِ، يُرْسِلُهَا عَبْرَ حُقولِهِ وَمَزارِعِهِ لِتَكُونَ رِسالَةً لَهُ وَلِغَيْرِهِ مِنْ العاملين في الحصاد. وَهَدَفَتْ التَّرْويحُ عَنْ النَّفْسِ، بِتَخْفيفِ التَّفْكيرِ بِاَلْكَدِّ وَعَنَاء التَّعَبِ والْمُعاناةِ، وَلِتَشْجيعِ وَبَعَثِ الهِمَمِ والْعَزيمَةِ والنَّشاطِ، وَوَسيلَةً لِلاتْصَالِ والتَّعارُفِ والْمَعونَةِ. وَحَمَلَتْ أُغْنيَةُ الحَصادِ شقاء الأَزْمانِ الاولَى لِلْإِنْسَانِ، بِتَعَبِهِ وتسخيره. واسْتعباده فِي تِلْكَ العُهودِ. فَهِيَ التَّعْبيرُ الواقِعيُّ لِوِجْدانِهِ وَذاكِرَتِهِ الشَّخْصيَّةِ والْجَمْعيَّةِ. إَنَّها أَغَان تَطَوَّرَتْ مِن أُغْنيَةِ شَخْصيَّةِ إلى أُغْنيَةً شَعْبيَّةً فولْكُلوريَّةٍ وَأَصْبَحَتْ مُلْكًا لِلشَّعْبِ كُلِّهِ، مُلْكًا لِكُلِّ مِنْ يُغْنيها أَيّام الحَصادِ الصَّيْفِيَّةِ الملتهِبة. وَأَهَمُّ ما تضمنته التَّعْبير عَنْ الصِّراع بَيْنَ الأَغْنياءِ وَالفُقَرَاءِ مِنْ الفَلَّاحِينَ.
وَلَقَدْ عَكَسَتْ وَكَشَفَتْ بِالْأَسَاسِ عَلاقاتُ الاسْتَغْلَالِ الجَشَعِ بَيْنَ الإِقْطاعيِّ والْأَجيرِ. فَكَثِيرٌ مِمَّا تَحْمِلُهُ أَغَانِي الحَصادِ يُؤَكِّدُ فَدَاحَة هَذَا الاسْتَغْلَالِ وَمُكَوِّناتِهِ. وَهَذِهِ الأَغَانِي هِيَ كَشْفٌ وَتَوْثيقٌ لِلْأَلَمِ والْحِلْمُ الإِنْسانيِّ لِلْعَامِلين في الحُقُول. أي هِيَ مانيفِسْتو (بَيانٌ) عَميقٌ لِلشُّعُورِ عَنْ المَأْساةِ وَعَنْ الحُلْمِ بِالسَّعَادَةِ وَلَوْ لِسَاعَة مِنْ الزَّمَنِ ، فَكَمْ مِن أُغْنيَةٍ حَفظَتْ لَنَا ذَلِكَ الصِّراع، وَكَانَتْ قوَّةً دافِعَةً لِلتَّصَدِّي وَقَهْرِ المُسْتَغِلِّينَ. واقْتَطَفَ القَليل القَليل مِنْ هَذِهِ الأغَاني:
هَبْهْبُو يَا هَبْهَبوا روَجْهَ الحلَّةِ مَا أَطِيبُو ، هَضْضَا المُعَلِّمُ مَا أصْعِبُو والْمُعَلِّم أَقْطَشَ المُعَلِّمُ عَرْشَ عَرْشِ مِنْ كُتُرِ الأَكْلِ كَرْشٌ
يَا مُعَلِّمَ حِلْنا وَإِلَّا بِنَهْرُبَ كُلُّنا يَا مُعَلِّمَ وحِلْنا وَعَلَى الحَلَّةِ حِلَّنا وَمِن زَخِيخَاتِ العِرْقِ حَتَّى مِنَّا انْدَلَقَ
منْجَلي يَا أَبُو رِزَّةٍ وَشُو جَابَكَ مِنْ غَزَّةَ جابِني حُبِّ البَناتِ وَاَلْخُدودُ النّاعِماتُ
كَانَ مَوْسِمُ الحَصادِ يَنْتَهي بجورعَة فِي يَوْمِهِ الأَخيرِ، وَهِيَ وَليمَةُ الحَصادِ، حَيْثُ كَانَ يَتَلَاقَى مَعًا فِي قَعْدَةِ احْتِفاليَّةٍ، مَجْموعَة الْأَقَارِبِ والْأَصْدِقاءِ والْجيرانِ، وَكُلّ المُشَارِكِينَ فِي أَعْمالِ الحَصادِ. وَوَظيفَةُ وَأَهَمّيَّةُ والجورْعَةِ بِالْأَسَاسِ لَمْ تَنْحَصِرْ فَقَط بَالُوجْبَةْ ،جُودٌ مِنْ المَوْجودِ، إِنَّمَا الِاحْتِفاء بِانْتِهَاءِ الحَصادِ وعنائه ، فَقَالُوا فِيه "جورْعَةٌ وتَكْميلةٌ وَمَا عُدْنَا نَميلٌ وَلَا .. ميْلَةَ". بِرَأْيِي عَكَسَتْ. وَعَبَّرَتْ الجورْعَةُ، تَأْكيد التَّعاوُنِ وَالتَّكَاتُفِ والِاتِّحادِ، المَوَدَّةُ، الِاحْتِرامُ المُتَبادَلُ، وَحُسْنُ الجّيْرَةِ كَقيَمٍ تَضْمَنُ الصُّمود والْبَقاء أمامَ تَحَدّياتِ الظُروفٍ المَعيشيَّةِ القاسيَةِ وَاَلْمُضْنيّةِ.
#الياس_خليل_نصرالله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تَأْثِيلُ الدَّبَكَةِ، دَلْعونا، اَبو الزَلْفِ وميْجانًا
-
صَفْجَاتٌ مُغَيَّبَةٌ مِنْ تَارِيخِ سُورْيَا الْحُقوقيُّ الس
...
-
رُهابُ (فوبيا) العَيْنِ والْحَسَدِ – تَغْليبُ الخُرَافَاتِ ع
...
-
تَأْصيلُ عِبارَتَي اَلْدحَيِّ وَاَلْدحْيَةِ
-
التَّلاقُحُ بَيْنَ اللُّغَاتِ
-
مرحلة الاتزان
-
مرحلة الرزانة
-
طقوس وعادات من عَبَقِ الماضي السحيق، ما زلنا نمارسها!
-
قراءة في كتاب وليد الفاهوم* -دراسات في الدين والدنيا والإسلا
...
-
آراء المؤرخين في نشأة المعتزلة، تّسميتها ومواقفها!
-
أسطورة نفرتيتي بين الواقع والخلود
-
التخمة بين القمة والقاع في الدولة العباسية
-
الولوج الى العتبات الحياتية في قواني امورابي (حمورابي)
-
المثقف وأوتاد الثقافة المنفتحة
-
نظرة عصرية في ادب ابن العميد
-
الحصانة البرلمانية بين الانتهازية والمساواة
-
لمحة عن صراع عبدالله اوچلان والنظام الاوردوغاني
-
الطب الشعبي في الميزان تعريف الطب الشعبي - التقليدي
-
محيي الدين بن عربي، فيلسوفًا ومتصوّفًا!
-
بول فيريري وفلسفة التعليم – خلاصات تهمّ مجتمعنا الياس خليل ن
...
المزيد.....
-
السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
-
الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
-
معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
-
طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
-
أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا
...
-
في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
-
طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس
...
-
السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا
...
-
قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
-
لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا
...
المزيد.....
-
كيف استفادت روسيا من العقوبات الاقتصادية الأمريكية لصالح تطو
...
/ سناء عبد القادر مصطفى
-
مشروع الجزيرة والرأسمالية الطفيلية الإسلامية الرثة (رطاس)
/ صديق عبد الهادي
-
الديمغرافية التاريخية: دراسة حالة المغرب الوطاسي.
/ فخرالدين القاسمي
-
التغذية والغذاء خلال الفترة الوطاسية: مباحث في المجتمع والفل
...
/ فخرالدين القاسمي
-
الاقتصاد الزراعي المصري: دراسات في التطور الاقتصادي- الجزء ا
...
/ محمد مدحت مصطفى
-
الاقتصاد الزراعي المصري: دراسات في التطور الاقتصادي-الجزء ال
...
/ محمد مدحت مصطفى
-
مراجعة في بحوث نحل العسل ومنتجاته في العراق
/ منتصر الحسناوي
-
حتمية التصنيع في مصر
/ إلهامي الميرغني
-
تبادل حرّ أم تبادل لا متكافئ : -إتّفاق التّبادل الحرّ الشّام
...
/ عبدالله بنسعد
-
تطوير المشاريع الصغيرة والمتوسطة، الطريقة الرشيدة للتنمية ا
...
/ احمد موكرياني
المزيد.....
|