|
القرآن محاولة لقراءة مغايرة 26
ضياء الشكرجي
الحوار المتمدن-العدد: 7168 - 2022 / 2 / 20 - 13:25
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يا أَيُّهَا النّاسُ اعبُدوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُم وَالَّذينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقونَ (2/21) هنا خطاب يتحول الخطاب إلى عموم الناس، وهو خطاب جميل، بقطع النظر عن دوافعه، وعن مصاديق ما يعنيه موجه الخطاب. فالخطاب موجه للناس، أي لكل أفراد النوع الإنساني، يدعوهم لعبادة الله، الذي هو ربهم، ويبين مبررات هذه الدعوة، وفوائد الاستجابة لها. الدوافع كونه هو الرب الحقيقي والمطلق، وإن وجدت أرباب وسادة إما وهمية أو نسبية أو هي في طول ربوبيته، وكذلك مبرر أنه خالقهم أي باعثهم إلى الوجود، وهنا تكون العبادة فيما هي بمعنى الشكر، باعتبار أنه الموقف الأخلاقي من المشمول بالمنة والعطية تجاه مانحها، وليس هناك من منة وعطية أعظم من منة وعطية الوجود، وأرقاها هو الوجود الإنساني، منذ وجد أول إنسان، لذا فهو «الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم». أما فوائد هذه العبادة، فلعلها تفضي بكم إلى الاستقامة الأخلاقية والسمو الإنساني، المعبر عنها حسب المصطلح الديني بالتقوى. وجميل قول «لَعَلَّكُم» التي تسبق هنا عبارة «تَتَّقُونَ». فالعبادة لا تفضي حتما ويقينا إلى تلك الاستقامة المنعوتة بالتقوى، بل لعلها تكون عاملا، أو عاملا مساعدا على بلوغ تلك الدرجة، أو لا يكون لها أي أثر، كما هو الحال مع معظم الممارسين للعبادات والطقوس والشعائر. ونعلم أن الإيمان حسب القرآن أرقى درجة من مجرد الإسلام بمعناه الفقهي، أما الإسلام بمعناه العرفاني فهو درجة أرقى من الإيمان، ثم إن التقوى هي درجة أرقى من الإيمان، ودرجة البر أرقى من التقوى. إذا فهمنا عبادة الإنسان لله فهما صحيحا، استقام المعنى من هذه الآية، لأن أن يعبد المرء ككائن نسبي قابل للتكامل ربه المطلق، يعني أن يعيش منسجما مع قيم المطلق ويتحرك باتجاهها، وهذا ما تعبر الآية في إحدى معانيها أو تأويلاتها الممكنة «يا أَيُّهَا الإِنسانُ إِنَّك كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدحًا فَمُلاقيهِ»، عندها سيسير باتجاه تحقيق شخصية الإنسان المتقي، بمعنى الإنسان المنسجم مع قيم الله، أي الإنسان المستقيم أو المتحرك في خط الاستقامة النسبية المتطلعة أبدا إلى مزيد من الاستقامة، وهذا ما تعبر عنه آية أخرى ألا هو قول القرآن «إِنَّما إِلاهُكُم إِلاهٌ وَّاحِدٌ فَاستَقيموا إِلَيهِ وَاستَغفِرُوهُ»، واقتران الاستغفار بالاستقامة المتحركة باتجاه المطلق الواحد، يؤكد نسبية الاستقامة، أي الاستقامة المصحوبة بزلات وانحرافات واعوجاجات عن خط الاستقامة، الذي يعمل المستقيم الإلهي المتحرك في استقامته باتجاه المطلق في خط تكاملي، على تصحيحه بما تعبر عنه الآية بالاستغفار، وتعني هنا ليس الاستغفار المجرد، بل ما يسمى بالتوبة، أي العودة إلى الله، والمشروطة بشروط استشعار الندم، وطلب المغفرة، وقطع العهد على النفس بعدم العودة إلى ذلك الخطأ أو الإثم، والتدارك بمعنى إصلاح ما أفسده ارتكاب ذلك الإثم. على أي حال هذه النصوص القرآنية، وهذه الآية الموجهة دعوتها إلى الناس ليعبدوا ربهم وخالقهم الله، تؤكد نسبية الاستقامة والتقوى والكمال الإنساني، ولاحتمالية تحققه عبر العبادة. لكن في نفس الوقت هناك الكثير من النصوص القرآنية الأخرى التي تتعامل على أساس الاقتصار على لوني الأبيض والأسود، الإيمان والكفر، التوحيد والشرك، البر والفجور، الهدى والضلالة، مما يهدم ما شيدته آيات أخرى في طرح معاني النسبية التي هي من لوازم العقلانية والعدل. وعودا إلى المعنى المؤول والعميق والحقيقي لعبادة الإنسان لله، فإنه كما سيأتي في مفهوم (الخلافة) قد يعيشه الكثير من الإلهيين اللادينيين، بل وحتى الكثير من الملحدين، أكثر مما نجده عند الكثير من الدينيين، فالملحد الذي يعيش معاني الإنسانية الراقية إنما يعيش قيم الله، بمعنى أنه حقق القدر الكبير من الاستقامة التي تسمى هنا بالتقوى. نعم هناك معنى ديني ضيق للتقوى، وهو معنى الخوف من الله، ولكن ما يعبر عنه بالخوف الإيجابي أي الفاعل (aktive) وليس الخوف اللافاعل (passive)، لأن المتقي من شيء، هو الخائف من أمر يخافه، والعامل على اتخاذ خطوات الوقاية مما يخافه، وهذا أيضا معنى جميل ومقبول ومعقول إلى حد كبير، ولكننا عندما نواجه المعنى الديني الأشد ضيقا للتقوى، نجد أنها تعني الالتزام الحرفي والدقيق بأحكام ذلك الدين. من حيث النية فإن هذا الالتزام يمثل حقا التقوى، لأن ممارسه يعتقد جازما إن هذا الالتزام يمثل الانقياد لأوامر الله والهروب من الوقوع في نواهيه، ولكن الفقه الديني نادرا ما أفلح في صياغة الإنسان الإنسان، بل غالبا ما صاغ إنسانا متزمتا متعصبا منغلقا. وإذا تبين أن أوامر الدين ونواهيه لا يمثلان أوامر الله ونواهيه، تكون طاعة الدين طاعة لغير الله، وقد تقع في إطار المعصية لله من حيث يريد مزاولها طاعة الله، باستثناء ما تفرضه الثوابت الأخلاقية أي العقل الأخلاقي أو الضمير الإنساني، أو الفطرة الإنسانية الإلهية أي الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها، عندما نفخ فيه من روحه حسب التعبير المجازي الذي يستخدمه القرآن، أو ما تعبر عنه المسيحية بأن الله خلق الإنسان على صورته، إذا فهمنا من ذلك المحتوى الداخلي، وليس الهيئة الخارجية، لتنزه الله عن الهيئة والصورة والشكل والمادة والحيز. وبقطع النظر عن فائدة العبادة أو عدم فائدتها، فأن يجعلها الله واجبة على الناس، بل ويعاقب على غير المزاولين لها، فهذا ما يمتنع صدوره عن الله الغني عن عبادة مخلوقيه له، ولكون تجربة ثلاثة آلاف سنة منذ نشوء الأديان الإبراهيمية، أثبتت لنا أن العابدين لله ليسوا دائما هم الخيرون والمستقيمون والإنسانيون، وغير العابدين فاقدون للخير والاستقامة والإنسانية. نعم، من يمارسها طوعا، وتقربه العبادة إلى الله، فتزيده استقامة وإنسانية، فهو بلا شك مستحق لثواب الله. فالعبادة بمعناها الحرفي، وهي ما يريده الدين من الإنسان، أو ما لا تكون العبادة كاملة إلا بها، في الغالب لم تؤد إلى استقامة العابدين إنسانيا، ثم أن يكون الله لم يخلق الإنسان إلا من أجل أن يعبده كما في الآية «وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدونِـ[ـي]»، مما لا يمكن أن نتعقل انسجامه مع عظمة الله وحكمته.
#ضياء_الشكرجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإطار التنسيقي وسادوس مبادرته الفذة
-
بين الأغلبية الصدرية والتوافقية الإطارية ورؤيتنا للتغيير
-
المراحل الأربع لتصحيح الديمقراطية في العراق
-
رسالة مفتوحة إلى أصدقائي الشيوعيين
-
رأي في الانتخابات يجب أن يقال ويجب أن يسمع
-
انتخابات 2021 ومعالجات دستور دولة المواطنة
-
حل الحشد الشعبي مطلب وطني ذو أولوية
-
انتفاضة الأهوازيين وعموم الشعب الإيراني
-
تصحيح مسار الديمقراطية في العراق 2/2
-
تصحيح مسار الديمقراطية في العراق 1/2
-
وقفات عند لقاء المالكي الأخير على العراقية 2/2
-
وقفات عند لقاء المالكي الأخير على العراقية 1/2
-
مع جريدة المستقبل حول خلافة السيستاني 3/3
-
مع جريدة المستقبل حول خلافة السيستاني 2/3
-
مع جريدة المستقبل حول خلافة السيستاني 1/3
-
كوكب الأرض مهدد بالفناء بالسلاح النووي
-
العلمانية واللادينية مواطن الالتقاء والافتراق 3/3
-
العلمانية واللادينية مواطن الالتقاء والافتراق 3/2
-
العلمانية واللادينية مواطن الالتقاء والافتراق 3/1
-
مخالفة القانون 372 للدستور
المزيد.....
-
قائد -قسد- مظلوم عبدي: رؤيتنا لسوريا دولة لامركزية وعلمانية
...
-
من مؤيد إلى ناقد قاس.. كاتب يهودي يكشف كيف غيرت معاناة الفلس
...
-
الرئيس الايراني يدعولتعزيز العلاقات بين الدول الاسلامية وقوة
...
-
اللجوء.. هل تراجع الحزب المسيحي الديمقراطي عن رفضه حزب البدي
...
-
بيان الهيئة العلمائية الإسلامية حول أحداث سوريا الأخيرة بأتب
...
-
مستوطنون متطرفون يقتحمون المسجد الأقصى المبارك
-
التردد الجديد لقناة طيور الجنة على النايل سات.. لا تفوتوا أج
...
-
“سلى طفلك طول اليوم”.. تردد قناة طيور الجنة على الأقمار الصن
...
-
الحزب المسيحي الديمقراطي -مطالب- بـ-جدار حماية لحقوق الإنسان
...
-
الأمم المتحدة تدعو إلى ضبط النفس وسط العنف الطائفي في جنوب ا
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|