|
في مواجهة الخوف من العلمانية
حسن خليل غريب
الحوار المتمدن-العدد: 7156 - 2022 / 2 / 8 - 17:09
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تمر أقطار الوطن العربي بمحنة كبرى تهدد وحدة مجتمعاتها بالتفسخ والتفتيت، كما تهدد وحدة الدولة السياسية بالانهيار، وإذا انهارت وحدة الدولة والمجتمع ستعود الأمة إلى عصر الدويلات الطائفية التي يكفر بعضها البعض الآخر، وستتعالى متاريس التقاتل والتذابح بين تلك الدويلات تسابقاً على حيازة كرسي إمارات (الفرقة الوحيدة الناجية من النار). وفي مواجهة هذه الأخطار المحدقة بأمتنا العربية، كان لا بُدَّ من رفع وتيرة الصراخ من أجل وضع حد لأعاصير التدمير التي تحدثها تيارات الإسلام السياسي في بنية المجتمع العربي. ومن المعروف أن صياغة النظرية القومية، وتأسيس الأحزاب والحركات التي تعمل من أجل تحويلها إلى عمل ميداني، جاءت بالأساس منذ أكثر من قرن من الزمن لكي تعالج إشكاليات كثيرة تركتها مظاهر الدول الدينية من جهة، ومظاهر التفتيت التي تركتها الدويلات الطائفية من جهة أخرى. ووجدت النظرية القومية أن الخلاص من تراث تلك المظاهر لإعادة الحياة لوحدة مجتمعية عربية يمر عبر نظام سياسي جديد، عنوانه المبادئ العلمانية. ففي العلمانية نقض لأكثر أمراض الأمة وعلى رأسها الطائفية. ولذلك ومن أجل علاج أمراض الطائفية كان لا بد من استخدام العلاج العلماني، وليس هناك من علاج أكثر جدارة منه حتى الآن، ومع أنها لم تكتمل حتى الآن فإن تجربة النظام القطري أثبتت طوال سني نشأتها الحديثة أنها تستطيع بناء أساس لدولة حديثة تحل مبدأ الولاء للوطن بديلاً لمبدأ الولاء للدين أو للمذهب الديني. ولكن أكثر ما واجه، او يواجه، النظرية القومية، كانت مظاهر العداء للفكر العلماني من قبل رجال الدين والمتدينين. وهنا دخل الفكر القومي بأزمة ذاتية لا يستطيع فيها الدخول لحل مشاكل الأمة على الأسس العلمانية، والأسوأ منها أنه يخشى مواجهة الجماهير بالدعوة لتلك المبادئ والترويج لها خشية من اتهام دعاته بأنهم يروجون لفكر علماني يتسم بـ(الكفر). وخوفاً من تلك التهمة يحجم كثير من القوميين لإشهار تأييدهم لمبادئ العلمانية. ومن أجل الإسهام في حل لهذه المشكلة جئنا بمقالنا هذا. أولا: لا بُدَّ من نصرة مبدئية للفكر القومي العربي الرسالة مجموعة من المبادئ والمُثُل، والمبادئ والمُثُل فيها من درجات الثبات ما يعصمها من الوقوع في شراك المتغيرات المرحلية. وإذا كانت المتغيرات تحتل المساحة الكبرى في مبادئ الرسالة، فيعني أن الرسالة ليست خالدة. واستناداً إليه، كيف تكون الرسالة القومية خالدة إذا لم تكن منابع مبادئها مبنية على قواعد وأسس ثابتة؟ فللنظرية القومية التي نعرفها، وتربينا على قواعدها، أسس ومبادئ، ومن أهم تلك المبادئ أنها إنسانية شاملة. وإنسانية القومية تصبح أكثر وضوحاً عندما ترتبط بالعدالة والمساواة بين أبناء القومية الواحدة أولاً، وعندما ترتبط مع القوميات الأخرى بعيداً عن مبادئ التعصب للعرق ثانياً، وعندما تعتبر التعددية في المعتقدات الدينية حقاً من حقوق البشر ثالثاً. وليس هناك من نظريات حديثة تصلح لتوفير العدالة والمساواة بين البشر سوى المبدأ العلماني الذي يعمل على فصل الدين عن الدولة مع الاحتفاظ بحرية الاعتقاد الروحي الماورائي للأفراد والجماعات مهما تعددت انتماءاتهم العرقية. ثانياً: تهافت المخاوف التي يثيرها المبدأ العلماني؟ وأما القول بأن المبدأ العلماني يثير مخاوف المتدينين لأنه مرتبط بالإلحاد كما يروِّج له، فهذا ليس خطأً بالمتدينين وإنما هو من أخطاء الحركات القومية، أي تلك الحركات التي لا تستطيع الدفاع عنه بموضوعية. أي إذا كان هناك خوف من المبدأ العلماني فعلى القوميين أن يزيلوا أسبابه بتوضيح مبادئه ومراميه، وليس أن يتجنبوه كونه يشكل مصدر خوف عند العامة من الناس، أو عند الصفوة من رجال الدين. إن الخوف والتخويف من المبدأ العلماني يتناقض مع ما جاء في القرآن الكريم الذي يأمر بحرية الاعتقاد قائلاً:) لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّين)، (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ)، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا* أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، وإذا شاء أحدهم الكفر (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ). وإذا كان القرآن الكريم قد أجاز حرية الاعتقاد، وحصرمهمة النبي بالتبليغ فقط ومنعه من حساب الناس وإنزال العقاب بهم، لأن الحساب شأن من شؤون الله، فإن الفكر القومي لم يخرج عن ذلك، بل أجاز حرية الاعتقاد أيضاً، واعتبر أن حساب المواطنين لا يقع على عاتق الدولة، بل اعتبر أنه لا فرق بين مواطن وآخر إلاَّ بمدى قربه أو بعده عن مصالح المجتمع، وهذا مطابق لما جاء في الحديث النبوي (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى). ثالثاً: في العلمنة، لرجل الدين حقله الذي يختلف عن حقل رجل السياسة: وأما أسباب الخوف منه عند العامة من الناس، فلأنه يجري تخويفهم من قبل الصفوة من رجال الدين من المبدأ العلماني. ولرجال الدين مصلحة كبرى في ذلك. ففي تطبيق المبادئ العلمانية إلغاء لدور رجال الدين الدنيوي، وهذا ما يدفع بهم إلى خارج الحياة السياسية. وأما السبب في ذلك، فلأن لرجل الدين حقله، ولرجل السياسة حقله أيضاً. وإذا اختلط حقل رجل الدين بحقل السياسة فهذا يعني أن ما يفتي به رجل الدين سيكون مقدساً. وإذا تعددت فتاوى رجال الدين، على تعددية انتماءاتهم الدينية والمذهبية، فستتكاثر القرارات السياسية المقدسة. وهذا التكاثر، مستنداً إلى مفاهيم الفرقة الضالة والفرقة المنصورة، سيؤدي إلى تكفير بين هذا النهج السياسي و ذاك. رابعاً: ثورية النظرية القومية انقلاب على المفاهيم السطحية الدينية وليس رضوخاً لها: فمن أجل أن يحافظ دعاة النظرية القومية على نقائها من تأثير الثقافة الشعبية السطحية، التي تعتبر العلمانية إلحاداً، أن يحددوا بداية ما هو أساسي في قواعد العلمانية وفي أسسها ومبادئها، ومن أهم تلك الأسس والمبادئ أنها تعترف بحرية الاعتقاد الديني لكل المواطنين وتشكل حماية لهم. ولهذا على القوميين الذين يؤمنون بأنه لا خلاص للوحدة الاجتماعية لمواطني الدولة القومية، إلاَّ بالنظام المدني العلماني، عليهم بدلاً من أن يجتنبوا الكلام عن العلمانية خوفاً، وهذا لن يحل المشكلة بل يبقيها جمراً تحت الرماد، أن يدرسوا إيجابياتها ويعمموها ثقافة شعبية. لأن من أهم رسالات القوميين أن يرفعوا الشعب إلى مستوى الثقافة الجديدة وتخليصهم من الأفكار القديمة، لا أن يسلكوا وسائل التقية، واستخدام وسائل اللف والدوران مع العامة هروباً من الاصطدام بها. والعكس من ذلك يعني أن من واجبات القوميين أن يرفعوا سقف الثقافة الشعبية لا أن ينزلقوا إلى متاهاتها، وأن يخضعوا لمجاملة الناس على حساب دورهم الثوري في التغيير، هذا مع العلم أنه لا تغيير في المجتمعات إذا لم يرافقه تغيير في الثقافة.
#حسن_خليل_غريب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فقراء الطوائف المنتفضون وقود مشاعل الثورة
-
من أجل بناء فكر قومي متماسك من يوجِّه من: ثوابت الفكر النظري
...
-
من أجل بناء فكر قومي متماسك من يوجِّه من: ثوابت الفكر النظري
...
-
أرضية النضال العربي وطنية وسقفه قومي عربي
-
القراصنة الذين نهبوا سفينة لبنان
-
سلام عليك استقلال لبنان يوم تُبعث حيَّا
-
متى يستعيد النظام العربي الرسمي قراره القومي السيادي؟
-
لكم الوَيلُ لا تَزنوا وَلا تَتَصَدَّقوا
-
الحركات الطائفية السياسية لغم دائم لتفجير السلم الأهلي
-
على ضوء انتخابات العاشر من تشرين الأول في العراق:
-
ورقة المئة ألف ليرة تكشف المستور من جرائم أحزاب السلطة
-
ثلاثية استعمارية وصهيونية وفارسية تتبارى في كراهية العروبة ا
...
-
ثلاثية استعمارية وصهيونية وفارسية تتبارى في كراهية العروبة (
...
-
ثلاثية استعمارية وصهيونية وفارسية تجمعها وحدة الكراهية للعرو
...
-
ثلاثية استعمارية وصهيونية وفارسية تتبارى في كراهية العروبة (
...
-
النظام الإيراني ومشاريعه العدائية المغطاة بشعارات شعبوية
-
حكومة ميقاتي تولد على أنغام رقصة المساومات بين ماكرون ورئيسي
-
من الثورة الموؤدة إلى الثورة المولودة
-
هل يحاسب الله البشر على أفعال خلقها فيهم خلقاً؟ الحلقة الثان
...
-
هل يحاسب الله البشر على أفعال خلقها فيهم خلقاً؟ (الحلقة الأو
...
المزيد.....
-
الجهاد الاسلامي: ننعى قادة القسام الشهداء ونؤكد ثباتنا معا ب
...
-
المغرب: إحباط مخطط إرهابي لتنظيم -الدولة الإسلامية- استهدف -
...
-
حركة الجهاد الاسلامي: استشهاد القادة في الميدان اعطى دفعا قو
...
-
الجهاد الاسلامي: استشهاد القادة بالميدان اجبر العدو على التر
...
-
أختري للعالم: هدف الصهاينة والأميركان إقصاء المقاومة الإسلام
...
-
اسعدي أطفالك بكل جديد.. ضبط تردد قناة طيور الجنة بيبي 2025 ع
...
-
شاهد: لحظة إطلاق سراح الأسيرة الإسرائيلية أربيل يهود وتسليمه
...
-
تسليم الأسيرة الإسرائيلية أربيل يهود للصليب الأحمر في خان يو
...
-
تردد قناة طيور الجنة الجديد على القمر الصناعي النايل سات وال
...
-
مستعمرون يقطعون أشجار زيتون غرب سلفيت
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|