|
العنف العابر للتاريخ: بدائيون بأثواب حضارية
هوازن خداج
صحفية وباحثة
(Hawazen Khadaj)
الحوار المتمدن-العدد: 7151 - 2022 / 2 / 1 - 00:41
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
منذ رسوم الكهوف الأولى وأساطير الحضارات والخلق، إلى معارك القدّيسين، وصولاً إلى حروب الأمر الإلهي، وحروب القوة والسيطرة تمتدّ قائمة القرون ومشاهد القتل والعنف والذبح والمجازر التي تجعل تاريخنا البشري مسرحاً لاستعراض العنف الممتدّ على كامل الجغرافيا. ومع توالي فصول مشاهد المسرحية، تحولت المشاهد إلى ظواهر تنازعتها الأسباب الدينية والمجتمعية والاقتصادية والسياسية، حيث حاول كل طرف قوننتها حسب مصلحته، ليصير العنف هو الشرط الأول لشروع الكائن البشري في الفعل؛ وتبقى مسألة التأصيل لنبذ العنف مجرد ماء شحيح يصب على النار التي أشعلها فعلُه العنيف. بدائيون بأثواب حضارية (في المجتمعات البدائية لا أحد يحلم بالخروج عن القواعد الاجتماعية). (العرف ملك بل طاغية في المجتمعات البدائية)، مقولات تتكرر في وصف "البدائية والتمدنية"، وعلى الرغم من عنصرية التقسيم وانتفاء وجود "الإنسان البدائي" كدليل على التفاوت الطبيعي بين البشر، إلا أن وجود بشر يعيشون في "ثقافة بدائية" في انعدام التطور ضمن الإطار الفكري، وبقاء العنف ملازماً للإنعزال، هو أمر شبه مؤكد لدى العديد من الباحثين والفلاسفة.(1) التطور الذي شهدته البشرية مع الثورة الذهنية الأولى وانتقال الإنسان من طور (الإنسان الجامع- الصياد) واعتماده على جمع الثمار والصيد ومتطالباتهما للعنف، إلى الإنسان المستقر الذي يزرع أرضه ويستأنس الحيوانات ويبني بيته لم يمنح أمنا من العنف البشري إنما أنتجت عنف المزارعين الأوائل، كمتابعة مختلفة بأدواتها ومواردها لطور الإنسان الجامع- الصياد، مشكلة نمطاً صراعياً عنفياً أساسه ضرورة الحيازة على القوت (الأرض) والخشية عليه، لتشكل حلقة مختلفة في مسار تطور البشر وأطوار العنف، وانتقاله من عنف الحاجة إلى عنف الضرورة، فالمزارعين الأوائل وصاروا أعنف كونهم حازوا على ممتلكات أكثر واحتاجوا أراضي أكبر وخسارة المراعي نتيجة غارات الجيران هي الفرق بين المؤنة والجوع، وهكذا كان المجال لا يحتمل توافقات، ولا يستطيعوا الانسحاب والتخلي عن الحقول والبيوت اضطروا للبقاء والقتال لأجل بيوتهم حتى النهاية المريرة، وتشير الدراسات الأناسية والآثارية إلى أنه في المجتمعات الزراعية البسيطة التي لم تتمتع بأطر سياسية خارج القرية أو القبيلة كان العنف البشري مسؤولاً عما يقارب 15% من الوفيات.(2) ومع مرور الزمن سيطر العنف البشري بتطوير أطر اجتماعية أوسع: المدن الممالك والدول غير أن بناء هياكل سياسية ضخمة وفعالة كهذه تطلبت استقرار الأفراد لمدة آلاف السنين، وتطلبت كذلك نوعاً من الترافد الفكري الذي يحفّز التغيير في مجالات الحياة المختلفة واتساع الأفق الفكري المرافق لمفهوم "المدنية"، ولكنه لم يساهم إلا بشكل طفيف في توسع الفكرة الإنسانية لتشمل شعوباً خارج بيئة الفرد الاجتماعية، إذ بقي هذا النوع من العلاقات قائماً على مقتضيات الضرورة والحاجة وبعيداً عن السعي لتعزيز التسامح مع أنماط الحياة الأخرى وتفهّمها، أو اختراق البيئات المغلقة الرافضة للغرباء وعاداتهم باستعلاء، وتستعمل ميلها الطبيعي في عنف الإنسان، الذي لا يكتفي بالتعبير عن مشاعره وعواطفه برموز مجردة فقط، إنما بطريقة مباشرة تجسيدية، لحماية نظامه وانتظامه المجتمعي المستمدّ من "الأسطورة والدين" الذي باتت الحقائق اليومية فيه خاضعة للمؤثرات الدينية الشعائرية، وكذلك من "العرف" المتحكم في كافة نواحي الحياة، متجاوزاً عتبة المعايير الاجتماعية، والشرائع "الإلهية" ليتسلل إلى كافة القوانين "الوضعية" الإنسانية، التي تلغي حرية الفكر الفردي وتخضعه لدائرتها عبر ممارسة العنف الرمزي أو المادي. حيث يعتبر أي تغيير في نظام الأشياء القائم مهما كان طفيفاً أمراً مدمّراً ، يجب مقاومته، والانتقام من الخارجين عن نظامه. العنف البدائي العابر للتاريخ والثقافات، صار أكثر تطوراً في أدواته وأصنافه ومشروعية استخدامه، فالغاية تبرر الوسيلة، حتى لو أحالنا إلى المقبرة الكبرى للجنس البشري، كما رآه إيمانويل كانط. العنف واللاعنف في الطبيعة البشرية درج علماء الاجتماع على تناول ظاهرة العنف، باعتبارها ظاهرة إنسانية سوسيولوجية صاحبت وجود الإنسان منذ الحقب البدائية وصولاً إلى العصر الحديث، وجرت العادة على اعتبار العنف سلوك متصل بالجانب الغريزي الحيواني في الإنسان، ووثيق الصلة في البعد اللاواعي منه بغريزة حبّ البقاء التي دفعت الإنسان البدائي للسيطرة على الطبيعة وخيراتها المادية، واستخدامه العنف في أي حركة إيجابية في الحياة كالبحث عن الطعام " الصيد" ، والدفاع عن النفس ضد الحيوانات المفترسة، والنشاط الجنسي. وبحسب وجهة نظر المدرسة النفسية انطلاقاً من "فرويد"، جرى تقسيم الغرائز إلى نزوتين توجّهان الكائن وتمدّانه بالطاقة الحيوية، نزوة الحياة (أيروس) ونزوة الموت (تاناتوس). الأولى: منبع الطاقة الجنسية المسؤولة عن كل علاقة إيجابية عاطفية ومتعاطفة وعن التقارب والتوحّد والتجمّع مع الآخرين، والثانية: تهدف إلى التدمير وتفكيك الكائن الحي. وأن كلا الغريزتين في صراع مفتوح داخلياً وخارجياً. فالعنف بشكله العام وثيق الارتباط بمفهوم العدوانية والتدمير، وانفجاره يعود إلى فقدانه "التكيّف النزوي" أي فقدان الكوابح الغريزية لعدوانيته، لذلك يكون العنف في هذا المقام متصلاً بالتهديد المباشر الذي يستهدف وجود الذات البشرية إن كانت تعيش في مجتمع بدائي لا تحكمه القوانين المنظمة، والتي تحيلنا إلى إمكانية السيطرة على العنف وترويضه. فالجانب الفطري في العنف حلّت محلّه الكوابح الحضارية، وإمكانية السيطرة عليه وقوننته للحفاظ على الحياة. هذا ما اتفق عليه فلاسفة العقد الاجتماعي جان جاك روسو وتوماس هوبز وغيرهم، باعتبارهم للعنف في التاريخ البشري أنه حالة الطبيعة المتميزة بالوهم الفطري، وأن الانتقال من حال الطبيعة إلى الحال المدنية أوجد في الإنسان تبدلاً ملحوظاً إذ أحلّ في سلوكه العدل محلّ الوهم الفطري، وأكسب أفعاله أدباً كان يعوزه من قبل، عند ذلك حلّ صوت الواجب محلّ الباعث المحرك الجسماني، والحقّ محلّ الشهوة".(3) أما أسطورة العدوانية والعنف الحيواني الشرس لدى البشر للحفاظ على الاستمرارية والبقاء، فإنها لم تعد كافية لتفسير العنف المُعاش، وقد وجدت ما يدحضها في دراسة علم الحيوان، فالعالم الإيثولوجي "كونراد لورنز"، يلغي أسطورة عنف الحيوان "الإنسان: حيوان عاقل". وإن نفس العوامل التي ارتقت بالإنسان فوق كل الكائنات الحية وضعته في وضعية محفوفة بالخطر، ليحيل العنف البشري إلى: أولاً: الشعور بالتهديد المباشر الذي يستهدف وجود الذات البشرية في مجتمع بدائي لا تحكمه القوانين المنظمة المتحكمة بالعدوانية كغريزة تلقائية، ثانياً: الحماس المناضل وهو نوع من العدوان المشترك بين الحيوان والإنسان يرتبط بالحاجة إلى الانتماء. ولكن بينما يتخذ عند الحيوان استجابة مقنّنة غريزياً من حيث الموضوع والهدف، فإنه عند الإنسان يتعلّق بموضوعات متعددة وشروط مختلفة كالإحساس بتهديد للجماعة، وجود عدو خارجي هو مصدر للتهديد، ازدياد عدد أفراد الجماعة، صورة بطل أو زعيم تلتفّ حوله الجماعة، لتمارس عنفها كاستجابة انفعالية لا تخضع لمنطق أو اقناع عقلاني.(4) معظم هذه الاتجاهات التي تتضمن مبادئ أساسية في تفسير ديناميّات العنف باعتباره طبيعة فطرية وأساسية لدى البشر تؤكد: أولاً: لا يمكن أن يبرّر العنف من طرف العقل أو أن يكون عقلانياً. فالعنف في هذا المقام متصلاً بالتهديد المباشر الذي يستهدف وجود الذات البشرية في مجتمع بدائي لا تحكمه القوانين المنظمة. ثانياً: أن الإنسان الذي تقوده طبيعته الغرائزية إلى العنف ليس بعيداً عن الانتظام البشري. ولا يمكن إنكار البعد المجتمعي في التأسيس للعنف ونشأته في الطبيعة البشرية. فالإنسان "كائن اجتماعي"، ولا يكون الفرد فرداً بل كائناً منصهراً في "الجماعة" وله ارتباطاته الطبيعية بالعائلة والعشيرة ثم بالمجتمع في صورته الشمولية حسب ماركس. وهذا دفع إلى التمييز بين العنف الفردي الموجّه إلى الذات كالانتحار، والعنف بين الأشخاص متمثلاً بالاعتداءات بأنواعها المختلفة وصولاً إلى الجريمة، والعنف الجماعي المرتبط بالتطور التاريخي والاقتصادي والاجتماعي. ثالثاً: الترابط بين الثقافي والمجتمعي، جعل العنف متعلقاً من حيث معاييره والحكم عليه بالثقافة السائدة، ولما كانت الثقافة تنشئ وحدة مشتركة مرتكزة على منظومات متنوعة كالتراث والمعرفة والعمل، فإن تجلّيات العنف تختلف من مجتمع لآخر. ولكنها بمجملها تستند على إنكار الآخر بواسطة العنف. ولا وجود لعنف مجاني أو اعتباطي أو بدائي، حسب ما قدّمته المدرسة الظواهرية مؤخراً في دراسة العنف باعتباره نمطاً كغيره من أنماط السلوك نتاج مأزق علائقي مع الآخر. أما التدمير والقتل فهي نتاج كارثة علائقية، وهذا ينطبق على أشكال العنف المادي الفردي في الجريمة والجماعي في الحروب.(5) رابعاً: اختلاف الاتجاهات المفسّرة للعنف، وغياب التحديد لماهية العنف وارتباطه بعوامل متعددة تختلط بين الذاتي والموضوعي والمجتمعي والاقتصادي إضافة للسياسي، أدى إلى ظهور مفارقات متعددة حول ظاهرة العنف كظاهرة عابرة ويمكن الخلاص منها، أو أنها مؤسّسة ومدشّنة للتاريخ البشري ولتطور البشر. البحث عن ظاهرة العنف بكافة أشكالها يدل على إمكانية تسخير العنف البشري لغايات مختلفة ومتعددة، كونه يستمدّ جذوره المحركة من الطبيعة البشرية ومن بنية المجتمعات التي تضفي عليه مشروعيته، فرغم الفوارق الواسعة بين العنف الفردي والجماعي إلا أن كليهما يعتمدان على الحاجة إلى المشروعية. العنف والحاجة إلى المشروعية: اكتسب العنف مشروعيته عبر التاريخ البشري، من خلال العديد من الأفكار المؤسّسة لنشوء الجماعات البشرية، التي قطعت ردحاً طويلاً في محاولة ربح رهان الصراع ضد الطبيعة للبقاء ككائن أصيل وكأساس لوجود الحياة على الأرض، والتي انتقلت من تسخير الطبيعة والسيطرة عليها من خلال التطور " الأدواتي" إلى تسخير بني البشر بعضهم لبعض ونمو غريزة السيطرة، التي رافقت البحث عن الاستقرار. على الرغم من أن إنسان العصور البدائية قد عاش على المشاع، فإن شواهد كثيرة تدل على اندلاع الحروب والصراعات، هذا ما سجّلته الرسومات على جدران الكهوف، ثم نقلته الأساطير التي تمثل القراءة الأولى للتاريخ الإنساني وترقيع للنقص في ذاكرة الإنسانية عن الماضي. فالأسطورة كانت بمثابة النظرة الشمولية التي تحيط بجميع الفعاليات الذهنية للمجتمعات، وبمثابة الخطاب الشامل الذي يحيط العالم والإنسان بتفسيراته وتبريراته، ومن ضمنها تقديم الدلائل على نمو ظاهرة العنف وتطوره واكتسابه المشروعية من أجل المنافع الاقتصادية الطبيعية التي اكتشف جدواها بمرور الوقت، والسيطرة على المجال، خصوصاً بعد اكتشاف أهمية الأرض وممارسة الزراعة، أو بفعل اختلاف المعتقدات الدينية التي رافقت العجز عن تفسير الظواهر الطبيعية وتأليهها نتيجة الخوف، وإما بسبب اختلاف أنماط الحياة وغياب قواعد التعامل الجماعي التي نمت بشكل مضطرد وصولاً إلى إنتاج القوانين والأنظمة خلال العصر التاريخي.(6) أساطير الآلهة ومشروعية العنف المؤسّس للتاريخ بغض النظر عن التعريفات المختلفة للأسطورة. فهي تغطي بدلالتها ورواياتها وبالبنى الرمزية التي توفرها الحياة الاجتماعية مسيرة كافة الشعوب البدائية الأولى في المعرفة وتفسير الظواهر والحصول على الإجابات، مثلما تشكل وسيلة الإنسان الراهن في استكشاف جذور الماضي والتسجيلات التاريخية الباكرة، التي أدرجتها الأساطير من خلال تواريخ حكومات الآلهة، أو أشباه الآلهة. فالتطور الذي رافق مسيرة الإنسان وانتقاله من كائن بيولوجي حيواني إلى كائن ثقافي وحضاري، يستعمل اللغة أداة رمزية للتعبير والتواصل، ويُعنى بالبناء الأسري والاجتماعي، ترافقت بتبنّيه عدد لا محدود من الاعتقادات والأرباب والطقوس المرتبطة بها، فكانت قوى الطبيعة المؤنسَنة تمثل الآلهة والإرادات السماوية، والتي شكلت ظهور السلطة المقدسة. فرضت الضرورة (الخوف وطلب الحماية) الأساس الأول في ظهور الآلهة وفكرة المقدس ليكون لكل حضارة، وأحياناً كل قبيلة، إله خاص يضمن لأفراد القبيلة -من وجهة نظرهم- استمرار النِعم التي توفرها لهم الطبيعة، فهي ضرورية لبقائهم وبقاء قطعانهم وزرعهم وتربتهم ومياههم. فكل الشعوب سواء كانت ذا كتاب معتقدي أم لا، تدّعي الانتساب إلى تراث حي، أي نظام من القيم المركزية التي ترجع بشكل متصل ومتواصل إلى أصل أسطوري، أو متعالي، ويتم تأييدها عن طريق الذاكرة الجماعية، التي تخلق نسقاً فكرياً يعطي تفسيره وتحليله لكل الظواهر المحيطة بالإنسان، وتنصب سُلّماً من قيم "القداسة والدناسة"، لتغذي النسق الاجتماعي والممارسات الاجتماعية بالصور والرموز، وتعطيها مصداقيتها بإرجاعها إلى القول الأسطوري. فمعظم المجتمعات لا يمكن أن تتخلى نهائياً عن السيادة المتمركزة في نقطة خارجها وذلك من أجل جعل السلطات الحاكمة متعالية وشرعية(7). ساهمت الآلهة في انتقال العنف من طوره البدائي إلى طوره الشرعي المؤدلج، وجرى الارتباط بين البشر والعنف من خلال تحالفهم مع الآلهة المسؤولة عن حياتهم. فالآلهة البدائية كانت التجسيدات الوهمية لعنف اتسمت به المجتمعات البدائية، والتي شهدت جملة من التطورات: أولها: تحول العنف من عنف أساسه البقاء واستمرار النوع إلى عنف مماثل ومتعالي تقوم به آلهة تتصارع فيما بينها تعبيراً عن نزعات السيطرة والسلطة والانتقام، وعن نزعة "الخير والشر"، حيث ينقم "زيوس من أباه كرونوس" فتندلع الحرب بين جبابرة أولمبوس، ويقتل الإله "ست أخيه أوزيريس" في مصر القديمة ، ويغتال "أنليل أنكيدو" في بلاد "سومر"، هكذا صور اليونانيون والفراعنة وبلاد الرافدين. الجميع كان في حاجة إلى الإله، وحتى القتلة قساة القلوب من البشر كانوا في حاجة لإله يعبدونه، ومن هُنا ظهرت الآلهة العنيفة وآلهة الحرب والقتل، والتي تسنّ القانون لكنها تعيش فوقه في حال تنفيذه لأنها قادرة على أن تؤكد تحررها منه. (8) ليكون التعالي الديني هو بداية انتقال الإنسان من حالة الفطرة والطبيعة التي يقف عندها الوجود الحيواني إلى حالة الثقافة والحضارة التي ميّزت الوجود الإنساني.(9) ثانيها: التأسيس للطقوس والتي شكلت بداية انتقال البشر بطريقة تعاطيهم مع الآلهة من حاجتهم الأساسية في درء الخطر والكوارث الطبيعية والحماية إلى ما هو أكثر منها، أو انتقلوا "مما هو كائن إلى ماهو ممكن"، إذ يتأملون زرعاً أوفر أو حظاً أكبر أو... عبر تأدية نوع من الطقوس يضمن مصلحتهم ومصلحة الآلهة لدرء شرّها. فالمقدس قوة ذات وجهين، فهو يحيي ويميت في آن.(10) وإن كانت الطقوس أولى التمثيلات الرمزية والمحظورات وأولى القوانين في تنظيم علاقات البشر، فقد كان استرضاء الآلهة وفروض الولاء والطاعة يتم وفق تقديم "الأضحية" القربان المقدس من النساء والأطفال، والتي كرّست طقوس العنف الدموية، وكان أكثرها دموية الإله مولوخ معبود بعض الشعوب التي عاشت في الشرق الأوسط القديم مثل الفينيقيين والعبرانيين والقرطاجيين، وذُكر هذا الإله في الإنجيل بكونه إلهاً متعطشاً للدماء. الفعل الطقسي في تقديم (القربان البشري) لتهدئة إله وحشي وتقديم الطاعة و(الرشوة) في مقابل نجاة الجماعة من غضبه، أعطى العنف مشروعيته باعتباره مقايضة للحصول على السلام، وجعل مصير الجماعة مرتبط بالإثنين(الضحية والإله)، فكلاهما يملكان القوة المقدسة القادرة على تبديل أحوال الجماعة. (11) ومع نهاية زمن القربان البشري، استمر العنف برمزيته على أنه حقيقة موضوعية أوجدتها الآلهة العظيمة أو قوانين الطبيعة وجرى استبدال القربان البشري بـ (الذبيحة الحيوانية) التي تلعب الدور نفسه في تأدية أبسط حقائق العنف، ومؤدّاها أن العنف الذي لا يعرف الإشباع يستمر يتخزن إلى أن يطفح به الكيل فيتدفق ويتفشى في الأرجاء، مسبباً الشرور.(12) ونتيجة ارتباط الوظائف الأساسية التي تنهض بها الحياة الاجتماعية مع "الديني المقدس" واحتوائه لها بكافة متغيراتها داخل منظومة متكاملة تشتمل إضافة للممارسات الدينية وأفعال التواصل والتبادل التي تتمّ بين الأفراد في حياتهم اليومية الأنشطة الاقتصادية والسياسية، وهي جميعها تمثل الزاد الأساسي لمبررات شرعية العنف حتى يومنا هذا. خاتمة رغم أن العنف هو الأصعب من ناحية التنظيم مقارنة ببقية الأنشطة البشرية، إلا أن تاريخ الاجتماع البشري الذي لخّصته الأساطير يمكن اعتباره مقارباً لتأريخ مشروعية العنف أو شرعنته باعتباره ضرورة تفرضها الحاجة، بل ساهم في تطوير أدواته، وما شهدته البشرية من تطور لم يدفعها لتتنصّل من حنينها المتواصل إلى أصولها الوحشيّة الطوطميّة ولم تُعقلن رغبات العنف البدائي، بل ألبست أنواعه المختلفة لبوساً متحضّراً، يصبح معه العنف مقنّعاً بأقنعة "التمدّن" و"التحضّر" و"التديّن" الزائفة، ويبقى اللاعنف بعيداً عن الترسيخ الفكري والمادي. فمدينة أفلاطون الفاضلة التي تشمل "المدنية" كل نواحي حياتها، عندما أنزلت من سمائها في ما بعد، وحلّت على الأرض في محاورة القوانين تحولت إلى حكومة تنذر بالشؤم، خصوصاً مع المدنية المعاصرة المتزامنة مع أقصى درجات التسييس الاجتماعي وما يترتب عليه من ممارسة العنف وشرائعه. ليبدو البشر بدائيون بأثواب متحضرة. مراجع 1- كاثرين بيرنديت. البدائية، حول مفهوم البدائية. ترجمة: د. محمد عصفور. عالم المعرفة العدد 53- ص: 25-26-27 2- يوفال نوح هرارى. العاقل: تاريخ مختصر للنوع البشري.ترجمة: حسين العبري، صالح بن علي الفلاحي. دار منجول، نيودلهي. التوزيع بالعربية دار بوك لاند، أبوظبي ص: 97- 98 2- جان جاك روسو. العقد الاجتماعي. ترجمة: بولس غانم، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع بيروت 1972 ص: 31 3- مصطفى حجازي. التخلف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجيا الإنسان المقهور. المركز الثقافي العربي ط:9 عام .2005 صفحة 184- 187 4- مصطفى حجازي. التخلف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجيا الإنسان المقهور. ص: 189- 192 5- الإنسان والطبيعة عبر التاريخ مسارات التطور، موقع هسبرس، الكاتب: عبد اللطيف الركيك https://www.hespress.com/writers/332171.html 6- الطقوس وجبروت الرموز قراءة في الوظائف والدلالات ضمن مجتمع متحوّل، بقلم: منصف المحواشي- إنسانيات . https://journals.openedition.org/insaniyat/4331 7- شمس الدين الكيلاني. من العود الأبدي إلى الوعي التاريخي الأسطورة الدين الأيديولوجيا. دار الكنوز الأدبية، بيروت. ط: 1 عام 1998. ص: 14- 18 8- تيري ايجلتون. الإرهاب المقدس. ترجمة: أسامة إسبر، دار بدايات للطباعة والنشر، سورية.ط:1 عام 2007. ص: 9 9- رينيه جيرار.العنف والمقدس. ترجمة: سميرة ريشا، المنظمة العربية للترجمة، بيروت. ط:1 عام 2009. ص: 16 10- رينيه جيرار.العنف والمقدس . ص: 13 11- تيري ايجلتون. الإرهاب المقدس. ص: 172 12- رينيه جيرار.العنف والمقدس. ص: 35 ( نشر على مرصد الشرق الاوسط وشمال افريقيا)
#هوازن_خداج (هاشتاغ)
Hawazen_Khadaj#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التعليم الديني الإسلامي في أوروبا مشكلات وآفاق
-
التنوير الإسلامي وحقوق الإنسان
-
أوهام أسلمة الغرب عند المسلمين
-
المرأة المسلمة في بلاد اللجوء؛ بين ثقافتي الشرق والغرب؟
-
أدلجة الدين وعولمة الخوف
-
التسامح والتعايش بين التدين والمجتمع
-
المؤسسة الدينية الإسلامية؛ التشكيل والدور؟!
-
الثورة اللبنانية.. المرأة والحرية
-
الوطنية والتخوين
-
تنفسوا قبل أن يصبح الهواء مَكرُمة
-
الأسرة والصراعات
-
الضروري الممكن
-
انتخبوا مرشحكم
-
المعادلة الناقصة في حوار الحضارات
-
المواطنة والتعابير التعددية
-
الديمقراطية- أنظمة الحكم والدساتير
-
الليبرالية والخلط بالمفاهيم
المزيد.....
-
مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية شرطة الاحتلال الإسرائي
...
-
أجراس كاتدرائية نوتردام بباريس ستقرع من جديد بحضور نحو 60 زع
...
-
الأوقاف الفلسطينية: الاحتلال الإسرائيلي اقتحم المسجد الأقصى
...
-
الاحتلال اقتحم الأقصى 20 مرة ومنع رفع الأذان في -الإبراهيمي-
...
-
استطلاع رأي إسرائيلي: 32% من الشباب اليهود في الخارج متعاطفو
...
-
في أولى رحلاته الدولية.. ترامب في باريس السبت للمشاركة في حف
...
-
ترامب يعلن حضوره حفل افتتاح كاتدرائية نوتردام -الرائعة والتا
...
-
فرح اولادك مع طيور الجنة.. استقبل تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
استطلاع: ثلث شباب اليهود بالخارج يتعاطفون مع حماس
-
ضبط تردد قناة طيور الجنة بيبي على النايل سات لمتابعة الأغاني
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|