في عام 1761 م كان الفيلسوف الفرنسي (فولتير) ملتجئاً إلى مدينة (فيرني) السويسرية بعد أن نجا بجلده من الملك فردريك الألماني ومنعه الملك الفرنسي من دخول الأراضي الفرنسية. وحتى يكون بمنأى من بطش الاثنين فقد استراح هناك. فإن طاردته الاستخبارات البرويسية هرب إلى فرنسا وإن طالته الجواسيس الفرنسية هرب إلى ألمانيا. وكان في مدينة (تولوز) الفرنسية القريبة رجل يدعى (جان كالاس) بروتستانتي المذهب وله بنت اعتنقت الكثلكة. وفي يوم شنق ابنه نفسه بسبب الإحباط في سوق العمل. وكان رجال الدين الكاثوليك يتمتعون بسلطة مطلقة في المدينة
ولا يسمح لأي بروتستانتي في تولوز أن يكون محامياً أو طبيباً صيدليا أو بقالاً أو بائع كتب أو طبّاعاً. ومُنِع الكاثوليك من استخدام أي خادم أو كاتب بروتستانتي. وفي يوم حُكِم على امرأة بغرامة قدرها ثلاثة آلاف فرنك لأنها استعانت بقابلة بروتستانتية. ما يعادل الشيعة للسنة عندنا أو بالعكس.ويقول (ويل ديورانت) صاحب كتاب (قصة الفلسفة) أن القوانين كانت تقضي في تلك الأيام "بأن يوضع جثمان المنتحر منكساً عارياً على حاجز من العيدان المشبكة ووجهه إلى الأسفل ويسحب بهذه الطريقة عبر الشوارع وبعدئذ يعلق على المشنقة" ولكي يتجنب المدعو (كالاس) هذه الفضيحة فقد حاول بكل سبيل ممكن أن يخرج بوثيقة تقول أن ابنه مات ميتة طبيعية. ولكن إشاعة رهيبة انتشرت في البلد تقول إن الولد لم يشنق نفسه بل إن جان كالاس قتل ابنه حتى يحول بينه وبين اعتناقه الكاثوليكية كما فعلت أخته من قبل. فألقي القبض على الرجل وبدأوا في تعذيبه حتى مات. وهربت عائلته إلى فيرني لتقص الفاجعة على فولتير. ومن منفاه أطلق الرجل صيحته
المعروفة" "اسحقوا العار".لعل فولتير من القلائل الذين قضوا حياتهم في المنفى من أجل أفكارهم وكتب 99 كتاباً وعاش حتى سن 83 وسجن في الباستيل مرتين وضربه الأوغاد بتوصية جيدة
من النبيل (دي روهان) أن يشبعوه ضرباً دون رأسه فقد يخرج منه يوما شيئا عظيماً. وهرب إلى بريطانيا خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين.وهو أول من اعتبر أن التاريخ ليس سير الحروب والملوك بل مغامرات العقل وأن تاريخا بلا فلسفة وفن لا يبق منه شيء. وأن التاريخ لن يقف على قدميه ما لم نبعد عنه اللاهوت. وهو نفس المسار الذي سلكه ابن خلدون من قبل. ولم يرجع إلى باريس التي ولد فيها إلا قبل موته بقليل وعندما جاءه القس ليسمع اعترافه سأله فولتير عمن أرسله فقال: الله ؟ فسأله فولتير أن يقدم أوراق اعتماده من الله فولى ولم يعقب؟ وعند لحظة الموت جاءه قس ثاني رفض تقديم الغفران له ما لم يوقع على اعترافه وإيمانه الكاثوليكي إيمانا راسخاً فطرده وسجل الكلمات التالية" أموت على عبادة الله ومحبة أصدقائي وكراهية أعدائي ومقتي للخرافات والأساطير الدخيلة على الدين" ووقع هذا البيان في 28 فبراير من عام 1778م.إن العصر الذي عاش فيه (فولتير) كان يسجل تبايناً في الحريات على طرفي بحر المانش وفي فترة السنوات الثلاث التي قضاها هناك لاحظ الفرق فوصف بريطانيا "بأن فيها شعب له آراؤه الخاصة وحريته المميزة. شعب أصلح دينه وشنق مليكه وأنشأ برلماناً أقوى من أي حاكم في أوربا ولا وجود فيه للباستيل وفيه ثلاثون مذهبا دينيا بدون قس واحد". وأعجب جدا بالحركة الدينية السلامية الكويكرز. وفي رسالة نشرها فولتير عن (أسئلة زاباتا) وكان المدعو راهباً سمح لعقله بمناقشة
المسلمات فقال عندما يختلف مجلسان فيلعن أحدهما الآخر فمن نصدق؟ وعندما فشل في الحصول على جواب بسيط بدأ الرجل يدعو إلى الله على نحو بسيط فكان جزاؤه أن أحرق حيا عام 1631م.
ومنه اعتبر فولتير أن "أن أول كاهن كان أول محتال قابل أول أحمق" وعندما وقع زلزال لشبونة فانهدمت الكنائس على رؤوس الناس فمات في ساعتين ثلاثون ألفاً من الناس سخر من التفسيرات التي قدمت بأنها انتقاما من الله ضد الكاثوليك. وظهر صدق كلامه حينما ضرب الزلزال الجامع المنصور في طنجة في المغرب وأكمل طريقه إلى حافة الاطلنطي الأخرى فهدم مدينة بوسطن بزلزال أشد على رؤوس البوريتانيين. في الوقت الذي كان الناس في المراقص في باريس يلعبون.وعندما اندلعت حرب السنوات السبع بعد زلزال لشبونة صب فولتير كل جهده ضد الحرب
ووصفها بأنها " أم الجرائم وأعظم الشرور وكل دولة تحاول إلباس جريمتها ثوب العدالة. إن القتل حرام وجميع أنواع القتل يعاقب عليها القانون زمن السلم. أما إذا نفخ في الصور وأعلنت الحرب فيصبح القتل بالألوف مباحاً". وهو يقول في ختام مقال له عن الإنسان في قاموسه الفلسفي"يحتاج الإنسان إلى عشرين سنة كي يبلغ أشده منذ كان جنينا في بطن أمه فحيواناً في طفولته وشاباً حين نضوج عقله، وثلاثة آلاف سنة ليكشف القليل عن جنسه، والأبد إلى أن يعرف شيئاً عن نفسه. ولكن دقيقة واحدة تكفي لقتله"والذي يجعلني أنفض الغبار عن التاريخ لنستعيد ذكرى رجل قضى حياته من أجل (حرية التعبير) وأطلق شعاره المعروف "إنني مستعد أن أموت من اجل أن أدعك تتكلم بحرية مع مخالفتي الكاملة لما تقول" هو المؤتمر الهام الذي انعقد بتاريخ 19 يناير عام
2003م بمناسبة إصدار العدد عشرة آلاف من جريدة الاتحاد الإماراتية. فعلى مدار يومين اجتمعت نخبة من ألمع الأدمغة الصحفية لأفضل جرائد العالم العربي وأوسعها انتشارا في دولة الإمارات العربية المتحدة لمناقشة قضية واحدة: ما هو مصير الكلمة المكتوبة؟ وتحديدا مصير الصحافة العربية أمام الوسائط الجديدة التي تربح المواقع منها بالتدريج. وكان معظم المتحدثين يؤكدون على أهمية رفع (سقف الحريات) كي يكتب للصحافة الحياة والنجاة. ولكن السؤال الذي لم يطرحه المتكلمون من سيعطي الحريات؟ ولمن؟ وما هي الحريات؟إن حرية الصحافة مرتبطة بفلسفة التعبير كما أنها مرتبطة بتكوين العقل فأساطين الصحافة المشرفون على صياغة الكلمة هم في الواقع المشرفون على تشكيل العقل من خلال المعلومة والتحليل. ولكن هل يريدون الحقيقة فعلاً؟ وهل يستطيع الكاتب أن يقول الحقيقة فعلاً؟ وهل سيفهم المواطن الحقيقة ويتحملها لو قيلت له؟ ففي يوم ذكرت مجلة در شبيجل الألمانية خبر أكثر من خمسين اجتماعاً لقائد عربي في المنطقة مع القيادة الصهيونية بالوقت والمكان والأشخاص قبل أن تكون كلمة السلام متداولة في المنطقة. وهل تستطيع الصحافة العربية نشر خبر صناعة حاكم عربي على يد (ساندي برجر) الذي كلف بمهمة شائكة (حسب تعبير مجلة در شبيجل). أم خبر استعداد العراق لابتلاع الكويت قبل حدوث أي شيء. إن هول الصدمة كان إلى درجة أن خبر اجتياح الكويت سمعه الناس من الإذاعات الأجنبية. فهل نعتب على المواطن أن لا يصدق الإعلام حتى في درجات الحرارة؟في الواقع يجب أن نحمد الله على مرور مثل هذه الأفكار لأن أسلاك الدماغ العربي نحيفة تحترق مع أي فولتاج عالي من كهرباء الأفكار. ويلعب رئيس التحرير في كثير من الأحيان دور (مانعة الصواعق). كما يجب أن نعترف أن هامش الكتابة يزداد اتساعا وبسرعة فهذا قدر كوني مثل زحف الشتاء وتساقط ورق الخريف. والناس تتطلع للمعلومة بنهم وحرص ومن أي منبر وبأي وسيلة. ومنح الانترنيت الناس الحرية بأنفاس إلكترونية فأصبح الناس بنعمة الانترنيت إخواناً.نحن كما نرى في مثلث ضيق بين الناشر والكاتب والقاريء. فالناشر عنده مصلحة والكاتب محاصر والقاريء أعمى. وبين الأصم والأخرس والأطرش علاقة جدلية. صم بكم عمي فهم لا يعقلون. فهذه هي سيمفونية الفكر في العالم العربي. بين مواطن مخدر الوعي ومثقف مدجن وفقيه غائب عن العصر وسياسي يهمه المحافظة على الشخير العام.ولفك هذه الإشكالية يجب إحياء مبدأ فولتير الثلاثي الذي يعد إنجازاً
هائلاً في تاريخ الإنسان والرأي. وهو مكون من ثلاث فقرات: تقول الأولى أن المسألة لا تدور حول الصواب والخطأ لأن هذا محتم لكل واحد منا. واعتبر (ليسنغ) من فلاسفة التنوير أن الله "لو وضع الحق في يمناه والشوق إلى البحث عن الحقيقة في يسراه ومعها الخطأ لزام لنا. يقول ليسنغ أنه سيخر على ركبتيه ضارعاً إلى الله أن يمنحه الشوق الخالد إلى البحث عن الحقيقة لأن الحقيقة النهائية هي لله وحده" وفولتير حينما يطلق حرية التعبير بدون حدود يخلق مناخ الحوار الذي يعدل الخطأ وينضج الصواب. وفي الفقرة الثالثة منه يقول فولتير أنه سيدافع عن رأي الآخر حتى
لو كان خطأ محضاً ليس دفاعاً عن الخطأ بل دفاعاً عن التعبير. لأن الخطأ يحق له أن يعيش. فهذا الذي أطلقه فولتير في أوربا كان له أثر هائل في نشوء حق التعبير والاجتماع عليه والتظاهر سلمياً. وهذا يوصلنا إلى حل إشكالية كبيرة وهي أن حق التعبير مرتبط بواجب التعبير. فما هو حق لطرف واجب على الطرف المقابل. وإذا كان الحاكم يمنع الناس من التعبير والتظاهر فلأنهم يمنعونه من الوجود. وهناك من يتمنى موت حاكم عربي ولكنه ينسى في غمرة هذه الشهوة أن تمني الموت للآخر هو في الواقع تمني الموت لنفسه، لأن مشكلة الأمة ليست معلقة بموت وحياة وفرد وعندما نتمنى الموت للآخرين تنقل عدواها إلينا فنموت نحن أيضاً. وعندما ينتخب الحاكم مائة بالمائة فإنه يعني أن الأمة أصبحت صفرا بالمائة. وعلى هذه المقدار تنكمش الأمة فمن ينتخب 99% فهو يعني أن الأمة أصبحت واحد بالمائة. وعندما تعلق صور الزعماء إلى الدرجة المقززة فهو يعني أن الزعيم التهم الأمة. وهي تنتظر دورها لالتهامه. وذرية بعضها من بعض. وثقافة مريضة تعيد إنتاج نفسها. وتبقى المسألة ترواح في مكانها بين محتار وغاضب وحاقد ويائس. كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها.