|
آلهة البدو
اسماعيل شاكر الرفاعي
الحوار المتمدن-العدد: 7148 - 2022 / 1 / 29 - 14:50
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الجزء الاول 1- القبيلة البدوية : تشكيلة اجتماعية اقتصادية مستقلة بنفسها عن التشكيلات الزراعية : العبودية والإقطاعية ، وهي اقرب الى التشكيلة الاجتماعية الرعوية منها الى التشكيلات المشاعية . لقد انفصلت التشكيلة البدوية عن المشاعية بما اكتسبته من قدرة على حماية ملكيتها الخاصة ( قطعانها ) من الحيوانات المفترسة ، ومن اللصوص ومن غزو القبائل الاخرى لها . لقد اجبرت الظروف القاسية : القبيلة البدوية على تنظيم نفسها عسكرياً لحماية ممتلكات القبيلة ، وحماية اعضاء القبيلة انفسهم من الفناء من خلال المهارات العسكرية التي يكتسبونها خلال الدفاع في المعركة عن ممتلكاتهم . واذا ما نشأ تحالف قبلي كبير ، تقوم القبيلة بالانضمام اليه ، او بإنشاء تحالف مواز له مع قبائل اخرى خوفاً من غزوها واستعباد رجالها . فالقبيلة البدوية مضطرة في جميع الأحوال الى جعل علاقتها بالقبائل الاخرى تقوم على المناورة وعلى الاستعداد العسكري الذاتي كما لو كانت في حالة نفير دائم . وقد انتجت علاقة القبيلة المتوترة بمحيطها ثقافة خاصة ، تنطوي على الشك والحذر من هذا المحيط ، وعلى منظومة قيم في طليعتها : مفهوم البطولة البدوي . لقد اثبتت الثقافة البدوية : انه لا توجد ثقافة طافية فوق سطح احداث التاريخ ، لا بد لجذور أي ظاهرة ثقافية من ان تكون قد تغذت بما يكفي من التفاعلات الجارية داخل تشكيلتها الاجتماعية الاقتصادية قبل ان تورق وتزهر وتنتج موقفاً ومفاهيم عن الكون والحياة والانسان . 2 - تضم الثقافة البدوية معارف ضرورية كمعرفة طرق التنقل في الصحراء ، وتتبع الأثر والقيافة ، ومعرفة فصول السنة وما تحمله من رياح وامطار . اكتسب البدو هذه الثقافة عن طريق التنقل والطواف والترحال بحثاً عن الكلأ والماء لقطعانهم من الجمال والماشية . وفي هذا الطواف الدائب سيجد البدو - بالإضافة الى المكان الظليل كثير العشب - اجوبة للكثير من الأسئلة الاجتماعية والاقتصادية والوجودية التي لم تسعفهم قصائدهم الاولى ( المعلقات) في الاجابة عليها ، اذ ظل شعراؤها وخطباؤها مترددين عن النفاذ الى ( عالم ) ما وراء العياني والمشاهد والمحسوس ، وارجاع كل خيوط اللعبة الارضية اليه ، وتسليمه مقادير الحياة ، والاعتراف به صانعاً لأحداثها ، كما فعل هوميروس في الالياذة والأوديسية ، وكما سيفعل الاسلام لاحقاً في ما سيطلق عليه : عالم الغيب . لقد تحدثت الثقافة البدوية عن : الدهر الذي يهلك فيه الانسان والحيوان والنبات ، لا عن القضاء والقدر الاسلامي ، الذي سيكون الى جانب صفات الله وخلق القرآن مدار الحديث والنقاش الأهم في علم الكلام الاسلامي . ولم يتكلموا كذلك عن مفهوم الرزق المقرر سلفاً كما في الثقافة الاسلامية اللاحقة ( يوضح يوسف الصديق في كتابه " هل قرأنا القرآن " الدلالة الأنثروبولوجية لمفردة الرزق - المفهوم ويقول بانها عصية على الترجمة الى لغات اخرى ) 3 - هذا التنقل والترحال الدائم ، لا يعني عدم امتلاك البدو لارض بعينها ، فقصص بعض المعارك والغزوات حول ؛ الحمى ( ارض القبيلة الخاصة ) تشير الى امتلاك القبائل البدوية لارض بعينها ، والقبيلة تعود اليها في احد فصول السنة ، وقد تترك فيها - قبل رحيلها - ما يؤكد عائديتها اليها . كما يشير الى ذلك الدكتور جواد علي في كتابه : المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام ( والأجزاء الاولى من تواريخ : الطبري والمسعودي وابن كثير ، وكذلك الاجزاء الاولى من فجر الاسلام ، ومن موسوعة حسن حنفي : من النقل الى العقل ) وفي هذا الطواف المستمر يكتشف البدو : ان المزارعين الذين ينتجون القوت ، هم اصحاب ثروة وغنى ، ولكنهم يفتقرون الى قوة دفاع ثابتة ومنظمة عنها ، وانه بالإمكان الإغارة على ثرواتهم وسلبهم ما يملكون . وهذه المعرفة المكتسبة كانت وراء ممارسة الغزو الخارجي ، وتحويل التنقل من اجل العثور على العشب والماء لحيواناتهم : الى غزو ، أي الى مصدر ثابت من مصادر العيش ، فأوائل الغزوات التي شنها البدو على الجماعات التي استقرت وبدأت تزاول انتاج غذائها بنفسها بدلاً من جمعه جاهزاً من الطبيعة : هذه الغزوات الاولى منحت الجماعات البدوية التي مارستها فرصة تكوين اولى المفاهيم عن وظيفة الانسان الاساسية في الحياة ، والمتمثلة بربط تلبية الحاجيات الاساسية للإنسان : عن طريق الغزو لا بالإنتاج أي : أخذها عنوة ، من خارج القبيلة بالاغارة ليلاً او فجراً على قبيلة بعينها ، ومصادرة ما تملك من حيوانات ونساء ورجال : وسيطلق الاسلام لاحقاً على هذا النهب الحربي : جهاد ، ويغلفه باوامر ربانية . وسيفرق الفقه الاسلامي ببن احكام المدن التي تستسلم من غير قتال وتلك التي يتم فتحها عنوة بالسيف والخيل : وكتاب الخراج للفقيه المعتزلي ابي يوسف الذي كتبه الى هارون الرشيد ، وكذلك كناب الأموال لمؤلفه ابي عبيد القاسم بن سلام خير من يوضح هذه الاحكام . 4 - من هذه الثقافة العسكرية جرى استيلاد مفهوم البطولة الذي يؤجج مشاعر عضو القبيلة ويدفعه الى بذل الجهد في معارك الغزو لينال المجد والسمعة الحسنة داخل فضاء القبيلة ، ومنه يتم تصديره عبر قصائد الشعراء الى القبائل الاخرى . وقد منح الشعراء والحكواتية هذا المفهوم جمالية خاصة بجعل القتيل ذا مكانة سامية تعلو به عن افراد القبيلة الآخرين : سيسميها الاسلام لاحقاً : الشهادة في سبيل الله ، ويسمي صاحبها شهيداً . فمفهوم البطولة الذي عممه شعراء الجاهلية : ناتج عن التنويه بالنشاط الحربي للمقاتلين ، وتمجيد مهاراتهم القتالية ، ورفع من يقتل في الغزو الى درجات عليا من المجد والذكر الحسن : ذلك لأن الغزو اصبح مصدراً اساساً من مصادر توفير اسباب العيش في بيئة صحراوية شديدة البخل . 5 - ولأن الغزو يمنح الغزاة ، في الكثير من الأحيان ، الاستيلاء على ثروات ضخمة من قطعان المواشي والإبل ، ومن النساء ، ومن الأسرى الذين سيباعون بأثمان مجزية في اسواق النخاسة : بدأ مفهوم آخر من المفاهيم البدوية الاساسية يتكون في الوعي القبيلي العام : ويتمثل باحتقار غير المقاتلين كالنساء ، وتحويل وظيفتهن في الحياة - عدا النسل - الى إمتاع الرجال ، وقد أصبحت لهن لاحقاً تجارة وأسواقاً عظيمة يعرضن فيها للبيع بعد الفتوحات الاسلامية الكبرى . كما شاع احتقار العمل اليدوي لانه يحرم مزاوليه من التفرغ لبناء قوة دفاع منظمة . 6 - حيازة القوة هي ما يتوقف علبها نظرة البدو للآخرين إيجاباً او سلباً ، وليس ما يملكه الآخرون من مواهب إنتاجية وابداعية . وهذه الحيازة تحكمت بنظرتهم الى الكون والحياة ، والى وظيفة الانسان في الحياة . ومن الطبيعي ان ينظر البدو الى المزارعين بشزر وان يشملوا بهذه النظرة المتعالية : الحرفيين من نجارين وحدادين وحياك ، وجميع الفئات الاجتماعية التي لا تجعل البطولة وامتلاك القوة هي المصدر الاول للحصول على اسباب المعيشة والرزق . وحتى لو امتلك المزارعون قوة دفاع فأنها لا يمكن ان ترتقي الى مستوى القوة المنفصلة المتفرغة لمهام الدفاع والحماية ، وليس بامكانها ان تصمد امام الهجوم المباغت ( الإغارة ) الذي يقوم به البدو : الذين وضعوا توقيتاً سرياً للغزو ، وحددوا الجهة او الجهات التي سينفذون منها الى هدفهم ، وقدروا عدد المقاتلين الذين تحتاجهم الغارة : بناء على معلومات مسبقة كانوا قد جمعوها من خلال إرسال مجموعات للرصد والمراقبة تقوم بجمع المعلومات عن المجموعة الزراعية او القبيلة التي قرروا غزوها . وفي هذه الأثناء يكتشفون الضعف ( المهين ) الذي تعيشه المجموعة الزراعية المستقرة التي لا يمكن لها ، حتى لو حاولت ذلك ، من بناء قوة عسكرية داخلية متفرغة لمهام الدفاع والحماية . ولا بد لها من حماية خارجية لإمارة او دولة تدخل في حمايتها مقابل ضريبة سنوية تدفعها عن انتاجها وعن عدد حيواناتها وعن أشخاصها ، سيسميها الاسلام : بالجزية ، والإسلام هو الدولة البدوية التي ارتفعت بالمفاهيم البدوية الى دائرة التشريع السماوي وأضفت عليها القداسة ... يتبع ..
#اسماعيل_شاكر_الرفاعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حفلات رئيس الوزراء البريطاني وقوانين محاربة - كورونا -
-
محطات
-
هي التي لا يحدها اسم إشارة
-
من يجدد وحدة العراق ؟؟؟
-
مجلس الامة واكفان مقتدى الصدر
-
احذروا هذه الظاهرة
-
هل ستنبت لي اجنحة ؟
-
عبور الازمنة
-
من - ديوجين - الى شنور
-
خطاب وزير المالية البائس
-
الفنان محمد رمضان وموسم كشف الصدور في العراق
-
على طريقة المتنبئين
-
البيت الشيعي العراقي
-
هل العراق واسرائيل دولتان من دول الديمقراطية الليبرالية ؟
-
علي السوداني في مناظره الرائعة
-
الجزء الرابع عشر / الحسبة او هيئة الامر بالمعروف والنهي عن ا
...
-
طالبان : ارهابنا الذي صدرناه - الجزء الثالث عشر / 33
-
وماذا بعد نجاة رئيس مجلس الوزراء ؟
-
طالبان ارهابنا الذي صدرناه . الجزء الثاني عشر / 31 و 32
-
طالبان : ارهابنا الذي صدرناه - الجزء الثاني عشر - 30
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|