اسكندر أمبروز
الحوار المتمدن-العدد: 7148 - 2022 / 1 / 28 - 21:21
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
من أكثر الاشياء التي تتردد في عقول المؤمنين وخصوصاً أمّة بول البعير , هو مؤامرة الماسونية على البشرية , والماسونية الحركة الشريرة الخطيرة التي تريد السيطرة على العالم , والتي فجّرت كل الحروب في الشرق الأوسط , والتي تضع حكّام العالم والعرب تحت سيطرتهم الفضائية المريخية , والتي نسفت الخلافة العثمانيّة التي كانت قلعة الصمود في وجه كل هذه الهلاوس !! ...الخ.
وطبعاً هذا ليس الا امتداد لمرض المؤامرة النفسي الذي يعاني منه بهائم الصحراء خصوصاً والمؤمنون عموماً , ولكن السؤال هنا من هم الماسونيون وما هي الماسونية حقيقةً بعيداً عن الفصام الديني الذي يغذّي هكذا تفكير والعوالم الموازية التي يعيش فيها المؤمنون ؟
وللإجابة , علينا التعرف على مؤسس هذه الحركة أو المنظمة وهو آدم وايسهاوبت (1748-1830) الذي كان أستاذا للقانون الكنسي والفلسفة العملية في جامعة إنغولشتادت. وكان هو الأستاذ الوحيد غير الكهنوتي في مؤسسة يديرها اليسوعيون , حيث بُذلت محاولات عديدة لإحباط ونقد وتحجيم المصداقية للموظفين غير الكهنوتيين كوايسهاوبت وغيره , خاصة عندما احتوت المادة الدراسية على أي شيء اعتبروه ليبرالياً أو بروتستانتياً.
وأصبح بعدها وايسهاوبت مكافحاً قوياً لرجال الدين , وعمل لنشر الامثلة العليا للتنوير ونقد الأديان والكنيسة من خلال صناعة نوع من المجتمع السري أو نادٍ للمثقفين ممن يشاركوه بالفكر نظراً لتعرّض هؤلاء الأشخاص للاضطهاد والقمع الفكري من الكنيسة ومنظومتها المشوّهة وخوف وايسهاوبت ومن شابهه بالفكر من هذا الاضطهاد , في حال يشبه حال من ينتقد الاسلام اليوم في المجتمعات الاسلاميّة والذي قد يتعرّض للقمع بل وحتى للقتل , ونظراً لعدم وجود الأوساط الرقمية في ذلك الوقت لمناقشة الأفكار وطرحها ونشرها , اعتمد وايسهاوبت وغيره من المفكرين على النوادي السريّة والمخفية.
واسم الماسونية مقترن بجماعة اخرى مغايرة عن الجماعة التي اسسها وايسهاوبت وهي حركة Free Masons أو (البناؤون الاحرار) وهي حركة قديمة تتشكل من البنائين والمهندسين التي تأسست بالعصور الوسطى , حيث وضع المؤرّخون مصطلح "guild" أو "نقابة" على زمالات التجار في العصور الوسطى كمثال للنقابات التجارية , والبناؤون أيضاً قاموا بتكوين مثل هذه الهيئات.
وتعتبر مخطوطة هاليويل(Halliwell Manu-script-) , والتي تسمى أيضًا قصيدة ريجيوس , أقدم وثيقة معروفة من أصل ماسوني. حيث تم نشرها في عام 1840 من قبل مجمّع أعمال شكسبير جيمس هاليويل الذي أرّخه إلى عام 1390. ومؤخراً ، أرَّخ المؤرخ أندرو بريسكوت النص إلى الربع الثاني من القرن الخامس عشر.
وهذا النص يروي كيف جاء جميع البنائين في الأرض إلى الملك للحصول على التوجيه فيما يتعلق بالحكم الرشيد الخاص بهم , وكيف قام أثيلستان ملك انجلترا من 927 الى 939 , جنباً إلى جنب مع طبقة النبلاء , بوضع المواد أو القواعد الخمسة عشر لحكمهم. ويتبع ذلك خمسة عشر مقالاً للسيد (رئيس البنائين الأحرار) يتعلق بالسلوك الأخلاقي لأعضاء النقابة الماسونيّة مثل (لا تأوي لصوصاً ، ولا تأخذ رشاوى , واحضر الى الكنيسة بانتظام , وما إلى ذلك) وقواعد العمل في موقع البناء مثل (لا تجعل عمّال البناء يعملون في الليل , تعليم المتدربين بشكل صحيح , لا تأخذ وظائف لا يمكنك القيام بها...الخ). ثم هناك خمس عشرة نقطة للحرفيين الذين يتبعون نمطاً مشابهاً. والتحذيرات من معاقبة من يخالفون المراسيم تليها أحكام خاصة بالتجمعات السنوية. وغير ذلك من أمور تنظيمية للنقابة ومجموعة البنّائين الذين كانوا يعملون مع بعضهم البعض في انجلترا مثلهم كمثل أي تجمّع حرفي في تلك المملكة كنقابة النجّارين والتجّار والصيّادين والحدّادين وغيرهم ممن كانوا يقطنون في المدن بعيداً عن نظام الإقطاع الذي كان يحكم غالبيّة الشعب في انجلترا في ذلك الوقت.
ورأى وايسهاوبت مؤسس الحركة الماسونيّة الحديثة أن حركة البنائين الاحرار مكلفة للانضمام اليها , وليست منفتحة على أفكاره. فارتأى الى تأسيس مجتمعه الخاص الذي كان له نظام متدرج مشابه للماسونية , ولكن بأجندة خاصة , حيث كان اسمه الأصلي هو Bund der Perfektibilisten ، أو جامعة الكمال (Perfectibilists) , وفي وقت لاحق تم تغييره لأنه بدا غريباً جداً للأعضاء الجدد. وفي 1 مايو 1776 أخذ البومة كرمز للجماعة نظراً لرمزها المتعلّق بالحكمة في الثقافة الأوربيّة , وكان على الأعضاء استخدام الأسماء المستعارة داخل المجمع للحماية من التتبع والقمع الكنسي.
وخلال هذه الفترة المبكرة , كان النظام يحتوي على ثلاث درجات من المبتدئ , الى المتوسط , الى المتنور. وفي هذا المجمع أُعطيت علامات سرية وكلمة مرور , ونظام المعرفة المتبادلة الذي أبقى وايسهاوبت على علم بأنشطة وشخصية جميع أعضائه , حيث سُمح لبعض المبتدئين بضم أعضاء جدد.
وتم السعي بنشاط إلى المسيحيين ذوي الشخصية الطيبة والمتنورة , مع استبعاد اليهود والوثنيين على وجه التحديد , إلى جانب الرهبان وأعضاء الجمعيات السرية الأخرى. ولم يسمح للنساء بالانتساب اليهم في بداية الحركة التي اعتبروها حركة خاصة بالرجال فقط. وكان المرشحون المفضلون من الأغنياء وأصحاب السمعة الحسنة , والمستعدون للتعلم ونشر الفكر التنويري المحارب للتسلّط الكنسي في العالم , والذين تتراوح أعمارهم بين 18-30.
ولكن عقلانية وايسهاوبت وأفكاره الراديكالية ومفرداته لم تنجح ولم تخرج وتنتشر للناس بالشكل المطلوب أو الذي أراده هو , حيث تم تفسير كتاباته التي تم اعتراضها وفحصها عام 1784 على أنها تحريضية , وثم حظرت حكومة كارل تيودور , ناخب بافاريا , الجمعية التنويرية الخاصّة بوايسهاوبت عام 1784. ومن ثم فقد وايسهاوبت منصبه في جامعة إنغولشتات وهرب من بافاريا.
وعاش بقية حياته في جوتا (مدينة في ألمانيا حاليّاً) حيث كتب سلسلة من الأعمال حول التنوير , بما في ذلك تاريخ كامل لاضطهاد المتنورين في بافاريا (1785) , صورة من الاستنارة (1786) , دفاع عن المتنورين (1786) , ونظام محسّن للإنارة (1787). وتوفي آدم وايسهاوبت في جوتا في 18 نوفمبر 1830.
وتدّعي العديد من المنظمات الأخوية والحديثة اليوم أنها منحدرة من المتنورين البافاريين الأصليين وتستخدم علنا اسم "المتنورين" أو " Illuminati ". ومع ذلك , لا يوجد أي دليل على أن هذه المجموعات في الوقت الحاضر قد اكتسبت نفوذاً سياسياً أو نفوذاً مهماً أيّاً كان , ومعظمها تعزز الروابط غير المؤكدة مع المتنورين البافاريين كوسيلة لجذب العضوية.
وهذا على عكس مؤسسة البنّائين الأحرار التي كانت ولا تزال علنيّة وواضحة وصريحة لا بل وتتفاخر بعضويّة رجال السياسة كرؤساء أمريكا مثل روزفيلت وترومان وجورج واشنطن وغيرهم أو قيصر روسيا بيتر العظيم (باني مدينة سانبطرسبورغ) والمفكر مارك توين والعالم بنجامين فرانكلين وهنري فورد (مؤسس شركة فورد للسيارات) ولاعب الخفّة هاري هوديني ووينستون تشرشل وغيرهم من المشاهير وأصحاب النفوذ الذين يجتمعون في فكر وأهداف جماعة البنّائين الأحرار القديمة والتي تعتبر منظومة ذات طابع ديني أيضاً والتي تهدف الى "كتويحد الرجال ذوي الخلق الجيد الذين على الرغم من اختلاف خلفياتهم الدينية أو العرقية أو الاجتماعية , يشتركون في الإيمان بأبوة الله والأخوة بين البشر." كما يقول الموقع الرسمي للمجمع الماسوني في ولاية أوهايو والذي يمكنكم الاضطلاع عليه في هذا الرابط https://www.freemason.com/join/what-is-freemasonry/
ومن هنا بدأ الناس بحبك القصص والخرافات حول هذه الجماعة (البنّاؤون الأحرار) وربطها بجماعة وايسهاوبت المسمّاة بالIlluminati وغيرها من الجماعات السريّة , واختلاق نظريات المؤامرة التي لا تنتهي حولها وحول أعضائها وأهدافها , وحتى في الدول الغربية تجدهم يتهمون الجماعة بكوارث مختلفة ويتهمونهم بالسيطرة على العالم وافتعال الحروب والتحكّم بكيانات دول بأكملها لها مصالحها وغاياتها المتضاربة والمتناحرة والتحكّم في كل شيء وكل حدث وكل حكومة.
ولو خلطنا مع هذا , السخف والكره والحقد الديني الأعمى المتعلّق باليهود وشيطنتهم سنرى وبكل وضوح أصل كل هذا التخريف والهلاوس التي يمكن رفضها بشكل كامل طبعاً من قبل أي انسان عاقل نظراً لعدم وجود أي دليل فعلي وحقيقي ملموس عليها , فكيف لمنظّمة بهذا النفوذ والسطوة والحجم أن تفلت من قبضة رجال الأمن والاستخبارات لمئات الدول في العالم اليوم ؟ وهل كل رجل مخابرات في جميع دول العالم متواطئ مع هذه المنظّمة الكونيّة الشيطانيّة الإلحاديّة اليهودية ؟ طبعاً ما أن نضع كل ادعائات هؤلاء الحمقى في ميزان العقل والنقد حتى تسقط سقوطاً حرّاً , وكعادة أي تخريف وادعاء ديني باطل , لا دليل عليه , وبهذا كغيره هو فرضيّة من وحي الهلاوس الدينية وهو فرضيّة ساقطة.
#اسكندر_أمبروز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟