داخل حسن جريو
أكاديمي
(Dakhil Hassan Jerew)
الحوار المتمدن-العدد: 7143 - 2022 / 1 / 22 - 08:43
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
إبتداء أقول أن الغرض من هذه الإستذكارات , هو بيان بعض الحقائق التي يجهلها كثيرون من أبناء الجيل الحالي عن ظروف عمل الجامعات العراقية في زمن يصفه البعض بزمن الخير , ويصفه آخرون بزمن الظلام , ولكل منهم وجهة نظره بحسب ظروفه ومصالحه ومعتقداته . أن ما يهمني هنا تدوين شهادتي للتاريخ من واقع معايشتي الشخصية, حيث شاءت الأقدار أن أتحمل مسؤولية إدارة جامعات ومؤسسات علمية في ظروف إستثنائية صعبة جدا , تخللتها حروب وفتن وصراعات دامية , فقد توليت مسؤولية رئاسة جامعة البصرة في منتصف عقد الثمانينيات من القرن المنصرم , حيث كانت الحرب العراقية الإيرانية مستعرة دون أن تبدو في الأفق أية بارقة أمل بنزع فتيلها . وما أن توقفت هذه الحرب اللعينة بعد ثمان سنوات من إندلاعها , لتنطلق بعدها حرب ألعن منها بغزو الكويت وما نجم عنه من تداعيات أنهكت العراق دولة وشعبا . تقرر بعدها إستلامي مسؤولية رئاسة الجامعة التكنولوجية ببغداد في آب عام 1993 ولغاية 2001 وسط ظروف صعبة يمر بها العراق يومذاك من جراء الحصار الشامل المفروض عليه ,والذي بدت آثاره واضحة على جميع فئات المجتمع العراقي, وبخاصة الفئات الفقيرة من ذوي الدخل المحدود, حيث بدت تظهر للعيان مظاهر لم تكن مألوفة بهذا الشكل الحاد , أبرزها تسول الأطفال في الطرقات بعد تسربهم من مدارسهم , وتنامي حالات تزوير الوثائق والمستندات وجوازات السفر في سوق شعبي ببغداد يعرف بسوق " مريدي", وتنامي حالات الفساد والرشوة في بعض دوائر الدولة بسبب العوز والحاجة, حيث لم تعد رواتب الموظفين تكفي لتغطية حاجاتهم الأساسية لأكثر من بضعة أيام , وبروز حالات السطو المسلح على دوائر ومؤسسات الدولة , وأعمال سلب ونهب المواطنين تحت تهديد السلاح في الطرقات في وضح النهار بما في ذلك العاصمة بغداد, ولم يعد السفر ليلا بين المدن آمنا .
كانت السنوات 1992 – 1995 شديدة الوقع على الناس نظرا لشحة المواد الغذائية وإرتفاع أسعارها حيث لم يعد بإمكان الكثير من الناس سد إحتياجاتهم الأساسية , وإضطرارهم لبيع بعض مقتنياتهم وهجرة الآلاف منهم إلى خارج البلاد طلبا للرزق . لم يتجاوز راتبي الشهري أكثر من عشرين دولار وراتب الموظف نحو دولار واحد .ويذكر أن سعر الدولار الأمريكي مقابل الدينار العراقي بلغ عام 1995 أكثر من ( 3000) آلاف دينار وكان مستمرا بالصعود , ولتوضيح القدرة الشرائية للدينارو,أن سعر طبقة البيض التي تحتوي (30) بيضة أكثر من ( 3000) دينار. أدت هذه الحال إلى تعاطي الكثير من الموظفين وبخاصة العاملين في الدوائر الخدمية ,الرشى تحت مسميات مختلفة, هدية, مكرمة أو رشوة , وقيام البعض الآخر بإختلاس أو سرقة المال العام كسرقة بعض الأدوية وبيعها في الأسواق. تعرضت الجامعة لأكثر من زيارة من فرق التفتيش سيئة الصيت المكلف زورا وبهتانا , بالتفتيش زيفا عن أسلحة دمار شامل.
كما أدت هذه الأوضاع المزرية إلى تفاقم هجرة ذوي الكفايات العلمية بمختلف التخصصات وبخاصة التخصصات الطبية والتقنية والهندسية وأساتذة الجامعات إلى الأردن وسورية ومنها إلى البلدان الأخرى طلبا للرزق والأمن والأمان. كان تأثير الحصار شديدا على الجامعة التكنولوجية بحكم طبيعتها التقنية وحاجتها المستمرة إلى تحديث أجهزتها ومعداتها العلمية المتآكلة بسبب قدمها , وتعويض كوادرها العلمية التي تسربت إلى خارج العراق , مما يستلزم توفير الموارد المالية لتهيئة بعض مستلزماتها الأساسية , والسعي الحثيث أن تبقى الجامعة ملامسة للتطور العلمي والتقني بتوظيف كل الوسائل المتاحة لهذا الغرض. إتخذت الجامعة إجراءات عديدة أبرزها الآتي :
1.إدخال مفهوم الجامعة المنتجة أي الجامعة المتفاعلة مع بيئتها ومجتمعها بتوظيف قدراتها العلمية والتقنية للإسهام الفاعل بحل المعضلات التي تواجهها المؤسسات الإنتاجية المختلفة في التصنيع والإنتاج وصيانة وإدامة المكائن والمعدات , وذلك من خلال عمل المكاتب الإستشارية التي إستحدثت في جميع الأقسام العلمية , بعد أن كان هناك مكتب إستشاري هندسي واحد مرتبط بمركز التعليم المستمر , حيث فك إرتباطه ليعود مكتبا إستشاريا هندسيا مستقلا , وإستحداث مكتب للإستشارات العلمية في قسم العلوم التطبيقية , ومكتب للإستشارات في قسم التعليم التقني ,والمكتب الإستشاري الصناعي في قسم الهندسة الكيمائية , ومكتب نظم المعلومات والحاسبات بقسم علوم الحاسبات ونظم المعلومات , ومكتب خدمات الإنتاج والتصنيع المرتبط برئاسة الجامعة بهدف تنظيم عملية تعشيق عمل طلبة الجامعة التكنولوجية مع حقل العمل بحيث يقوم الطلبة بتصنيع أجزاء معدات أو أجهزة أو المساهمة في صيانة منظومات صناعية وتصليحها لقاء تحقيق فائدة مادية وعلمية لهم، وأعتبار ذلك مجزيا" لمتطلبات التدريب الذي هو أحد متطلبات الدراسة في الجامعة التكنولوجية.أثبتت هذه المكاتب الأستشارية جدارتها ، لابل تفوقها على المكاتب الأستشارية الأخرى ، أذ يندر أن يوجد هذا الكم الهائل من الأختصاصيين في مكتب أستشاري آخر ، أضافة الى أن هذه المكاتب لاتعتمد على مبدأ الربحية بمعزل عن المنفعة العامة.ساهمت هذه المكاتب بتحسين مدخولات الكثير من التدريسيين من جراء الأجور التي كانوا يتقاضونها مقابل تقديمهم الإستشارات للدوائر والمؤسسات والتي لا تقل عن نسبة ( 80%) من قيمة العقود.
2.إستحداث الدراسات المسائية لأول مرة في جميع أقسام الجامعة عدا قسم الهندسة المعمارية الذي لم يكن يرغب بذلك , الأمر الذي ساعد كثيرا هو الآخر بتحسين مدخولات التدريسيين والموظفين بتلقيهم أجورا مجزية عن محاضراتهم وأعمالهم الإدارية , كما ساعد الجامعة على سد بعض إحتياجاتها الأساسية , فضلا عن توفير فرص دراسية لآلاف الطلبة دون الحاجة لتفرغهم التام للدراسة , حيث كان بإمكانهم العمل أثناء الدراسة لتحسين حالتهم المعيشية في ظروف الحصار الظالم .ويذكر أن هؤلاء الطلبة يؤدون الإمتحانات النهائية بما فيها الإمتحانات الوزارية المركزية شكلا ومضمونا وتوقيتا مع طلبة الدراسات الصباحية , وتصحيح أجوبة الطلبة بعد ضمها إلى أوراق طلبة الدراسات الصباحية بصورة سرية كما هو معتاد بنظام إمتحانات طلبة الجامعات.
3.أتيحت فرص محدودة للطلبة العرب للدراسة على النفقة الخاصة بنسبة لا تزيد على (1%) من إجمالي عدد الطلبة المقبولين في كل قسم مقابل دفعهم رسوم القبول بالدولار الأمريكي والتي حددت بمبلغ نحو (2000) دولار سنويا . إستفادت الجامعة من هذه المبالغ بشراء بعض الأجهزة المختبرية والحواسيب والكتب الضرورية جدا .
4.تأجير مرافق الجامعة مثل مطاعم الطلبة ومواقف سيارات الطلبة وضيوف الجامعة إلى متعهدين خارجيين لتوفير مبالغ إضافية لدعم موازنة الجامعة المالية إستثناء من تعليمات وزارة المالية التي تقضي بتسليمها إلى وزارة المالية كون الجامعات ممولة حكوميا .
5.توفير شقق سكنية لأول مرة بتاريخ الجامعة للتدريسيين , حيث تمكنت الجامعة من تأجير بعض المباني الواقعة في مدخل شارع السعدون من جهة الكرادة, التي تحتوي على مجموعة جيدة من الشقق السكنية العائدة لوزارة الأوقاف والتي كانت مشغولة من قبل جامعة صدام الإسلامية . إضطرت الجامعة لتخصيص إحدى هذه المباني بضغط من وزارة التعليم العالي إلى اسكان التدريسيين من الجامعات الأخرى.
6.تأجير عدد من المباني في مناطق متفرقة في بغداد لإسكان طلبة المحافظات , وإعادة تأهيل أحد مباني الأقسام الداخلية الملغاة داخل الحرم الجامعي لإسكان طالبات الجامعة من المحافظات الأخرى.
7.توسيع فرص الدراسة في الجامعة بإستحداث دراسات نوعية وفريدة على مستوى جامعات القطر , أبرزها تخصص هندسة الميكاترونكس وهندسة برمجيات الحاسوب وتكنولوجيا المعلومات والتكنولوجيا الحيوية وهندسة الطرق والجسور وهندسة الموارد المائية وهندسة البيئة وهندسة الأجهزة الطبية وفيزياء الليزر وهندسة المواد, وإعادة تخصصات أخرى ملغاة مثل هندسة السيارات وهندسة الطائرات وهندسة القدرة الكهربائية وهندسة الإتصالات وهندسة الحاسبات والهندسة الصناعية.
8.إستحداث أقسام جديدة , قسم المواد وقسم هندسة برمجيات الحاسوب بعد أن تم تهيئة مستلزماتهما من أجهزة ومعدات وكوادر تدريسية وبقية المرافق الدراسية وذلك بإعادة تأهيل بعض مباني الجامعة القديمة المهملة .ويذكر أن القسم العلمي يعد بمثابة كلية في الجامعات الأخرى.
9.إعادة هيكلة الأقسام العلمية على أساس الفروع العلمية وتعدد التخصصات في كل قسم علمي.
10.إستحداث دراسات الدكتوراه في جميع الأقسام العلمية بحيث أصبحت الجامعة التكنولوجية الرافد الأساس في العراق لرفد الدوائر والمؤسسات بالكوادر الهندسية والتقنية من حملة شهادات الماجستير والدكتوراه.
11.إستحداث مركز نقل التكنولوجيا في الجامعة لرصد حركة التطورات التقنية ومستجدات العلوم في دول العالم المختلفة ومواكبتها والعمل على إدخالها إلى العراق بصورة منهجية ومنتظمة.
12.إستحداث مركز خدمات الإنترنت في الجامعة بالتعاون مع وزارة المواصلات لتقديم خدماته لطلبة الجامعة ومنتسبيها لقاء أجور مخفضة , فضلا عن مركز الجامعة للإنترنت في مبنى المكتبة المركزية.
13.إعادة التأكيد على موضوع التدريب في معامل الجامعة بوصفه يمثل جزءا حيويا في مناهج الجامعة في جميع التخصصات بعد أن أهمل إهمالا شديدا في السنوات الأخيرة.
وبرغم تداعيات الحصار الظالم فقد شهدت الجامعة نشاطا علميا ملموسا تجلت مظاهره بعقدها لأول مرة في تاريخها مؤتمرات علمية دورية منتظمة في إحد التخصصات العلمية , تنشر وقائعها في مجلدات خاصة بكل مؤتمر , وتنشر بعض بحوثها المختارة بمجلة الهندسة والتكنولوجيا المحكمة التي تصدرها الجامعة منذ سنوات , كان آخرها المؤتمر التكنولوجي الثامن المنعقد عام 2000. كما بدأت الجامعة بعقد مؤتمرات علمية سنوية خاصة ببحوث طلبة الدراسات العليا , يرافقها معرض برسائل واطاريح طلبة الدراسات العليا لغرض التعريف بها وتسويقها للمؤسسات المختلفة بهدف الإستفادة من نتائجها
ولغرض تنشيط الحياة الثقافية في الجامعة تولت رئاسة الجامعة دعوة كبار الشخصيات السياسية والفكرية والأدبية والتقنية بالمشاركة بمواسمها الثقافية السنوية وهو أمر لم يكن مألوفا في الجامعة سابقا.كما أعيد تأهيل مسرح الجامعة المهمل منذ سنوات بسبب المياه الجوفية التي أتلفت الكثير من محتوياته , وذلك بتخصيص بعض عائداتها من الدراسات المسائية , حيث أعيدت له حيويته ليكون مسرحا لأنشطة الجامعة في مناسباتها المختلفة . أعلنت الجامعة عن مسابقة لكتابة نشيد مناسب للجامعة , ينشده الطلبة في المناسبات , وقد تم تسجيله من قبل دائرة التلفزيون على شريط كاسيت بعد أن تم توزيعه بشكل موسيقي مناسب.
حرصت الجامعة على تنظيم إحتفالات تخريج طلبتها في حرمها الجامعي بعد أن كانت تعقدها في السنين السابقة في حرم الجامعة المستنصرية حيث وفرت لها كل مقومات نجاحها بهدف تعزيز إرتباط الطلبة الخريجين بجامعتهم وإفتخارهم بها.إتسمت هذه الإحتفالات بالإنضباط وحسن التنظيم بعيدا عن كل أشكال التهريج وبما يعبر عن سمو المناسبة وعلو الغاية ويضفي على الجامعة هيبتها وحرمتها .
تسبب الحصار المفروض على العراق لأكثر من عقد من الزمان بإنقطاع التواصل مع جامعات العالم بما فيها الجامعات العربية , بإستثناء الجامعات اليمنية حيث كانت الجامعات العراقية مصدرها الرئيس بتوفير كوادرها التدريسية بصورة عامة والجامعات الفتية التي إستحدثت في اليمن في فترة حصار العراق , وذلك من خلال إعارة خدمات بعض التدريسيين بموجب برامج العمل المعقودة بينها وبين الجامعات العراقية , أو من خلال عمل الأعداد الكبيرة من التدريسيين الذين غادروا العراق وإتخذوا من الجامعات اليمنية منطلقا للهجرة إلى البلدان الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا ونيوزلندة . كانت الجامعات العراقية مصدر رفد للجامعات الأردنية وبخاصة الجامعات الأهلية والجامعات الليبية بمئات التدريسيين الذين غادروا العراق في عقد التسعينيات بوسائل المختلفة.
إرتبطت الجامعة التكنولوجية بعلاقات وطيدة بجامعتي ذمار وحضرموت اليمنيتين حيث وفرت لهما بعض التدريسيين الذين شغلوا مواقع عمادات بعض كلياتها في مرحلتها التأسيسية , فضلا عن إبداء المشورة العلمية لهما فيما يتعلق ببرامجها ومناهجها الدراسية , ودراسة مخططات مشاريعها الهندسية.أما علاقتها بالجامعات العربية فقد إقتصرت على عضويتها بإتحاد الجامعات العربية ومشاركتها ببعض إجتماعاته والمؤتمرات المصاحبة لها , حيث تتحمل الجامعات العراقية أجور تذاكر سفر وفودها إلى الأردن عن طريق البر فقط,وتتحمل الجهة المضيفة نفقات السكن ,ولا تسمح الحكومة العراقية بتحويل أية مبالغ بالعملة الصعبة للوفود لتغطية بعض حاجاتهم الضرورية بأية صورة كانت. وقد سبب ذلك بعض الإحراجات للجامعات العراقية .
وبرغم كل ما واجهته الجامعة التكنولوجية من صعوبات جمة فرضتها عليها ظروف الحصار الظالم الذي دام أكثر من عقد من الزمان , فقد واصلت الجامعة مسيرتها العلمية والأكاديمية بكل شموخ وثبات , كي لا تحرم طلبة العراق من التزود بالعلوم ومعطيات التكنولوجيا المتطورة, وإعدادهم إعدادا علميا ومهنيا جيدا لتلبية حاجة السوق المحلية من الكوادر الهندسية والتقنية التي تحتاجها لتأمين متطلبات الصناعة العراقية , وتفويت الفرصة على أعداء العراق الساعين لوأد نهضته وتعويق تقدمه , الحالمين بعودته إلى عصر ما قبل الصناعة كما وعد بذلك شياطينهم ودهاقنهم . ما كان لكل ذلك أن يتحقق لولاتضافر جهود التدريسيين الخيرة وكل العاملين في الجامعة التكنولوجية يومذاك , والكثير من الكوادر الهندسية المتقدمة العاملة في دوائر ومؤسسات الدولة المختلفة , الذين آلوا على أنفسهم التفاني لخدمة العراق في ظروفه الصعبة وتحمل شظف العيش , فلهم كل محبة وتقدير وإحترام .
#داخل_حسن_جريو (هاشتاغ)
Dakhil_Hassan_Jerew#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟