أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناصر بن رجب - كتاب صُنِع في الجحيم (2)















المزيد.....

كتاب صُنِع في الجحيم (2)


ناصر بن رجب

الحوار المتمدن-العدد: 7140 - 2022 / 1 / 19 - 23:39
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


محنة سبينوزا ونشأة العَصر العَلماني

يشكِّك بعض الباحثين في مصداقيّة شهادة لوكس (Lucas)، غير أنّ العرض الذي يقدِّمه يصبّ في نفس المنحى الذي تذهب إليه وثيقة أقدَم، حُرِّرت بعد قليل من إصدار الحِرْم، والتي لم يُعثَر عليها في الارشيفات إلاّ في منتصف الخمسينات من القرن الماضي. كان الأخ توماس صولانو إي روبلاس (Tomas Solano y Robles)، وهو راهب أغوسطيني، متواجدا في مدريد عام 1659، بعد عودته بقليل من رحلة قادته إلى آمستردام في أواخر عام 1658. لقد كان رجال محاكم التّفتيش الإسبان يُتابعون عن كثب ما كان يجري عند قدماء المسيحيّين الجدد الذين أصبحوا يعيشون الآن في شماليّ أوروبا؛ وكان معظم هؤلاء قد سكنوا في أراض كانت تحت قضاء هؤلاء المفتِّشين ولا زال لهم فيها أهل أو صلات تجاريّة في شبه الجزيرة الإيبيريّة. قام المفتّشون باستجواب الأخ الرّاهب ورجل آخر سافر هو أيضا إلى الأراضي المنخفضة، وهو الكبتن ميغال بيريس دي ملترانية (Miguel Perez de Maltranilla)، والذي أقام في آمستردام في نفس المنزل الذي أقام فيه الأخ توماس وفي نفس الفترة أيضا. أكّد الرّجلان أنّهما التقيا في آمستردام بسبينوزا ورجلٍ آخر يدعى خوان دي برادو (Juan de Prado) الذي أُقصِي هو أيضا من الطّائفة اليهوديّة بعد مدّة قصيرة من الإقصاء الذي تعرّض له سبينوزا. لقد روى هذان المارقان للأخ توماس أنّهما كانا يتّبعان الشّريعة اليهوديّة ولكنّهما "غيَّرا رأييْهما" فوقع طردهما من الكنيس بسبب تصوّراتهما عن الرّب، وعن الرّوح والشّريعة. فقد كانا، حسب المجمع الدّيني، قد "بلغا حدّ الإلحاد". وحسب شهادة توماس، صرّح الرّجلان أنّ الرّوح ليست خالدة، وأنّ شريعة موسى لم تكن "حقيقيّة" وأنّه لا وجود للرّب إلاّ "فلسفيًّا". أكّد الرّاهب ملترانيا أن سبينوزا وبرادو صرّحا أنّ "الشّريعة [...] كانت مزيَّفة".
آخر شاهد في هذا الموضوع هو دفيد فرانكو منديس (David Franco Mendes)، الشّاعر المؤرِّخ للجالية اليهوديّة البرتغاليّة في آمستردام. فبالرّغم من أنّه كتب شهادته بعد شهادة لوكس بسنوات عديدة فإنّ نصّه يشكِّل خلاصة موثوقا فيها لما جمّعَه من أرشيفات الجالية اليهوديّة وذاكرتها. فهو يؤكِّد، في تقريره المقتضب للقضيّة أن سبينوزا لم يكن فقط قد انتهك حرمة السّبْت (Shabbat) وخرَق الشرّائع التي تنظِّم الشّعائر الدينيّة ولكنّه أيضا كان مليئا بالأفكار "الإلحاديّة" ولذك فقد وقعت معاقبته بناء على ذلك.
"لا وجود للرّب إلاّ فلسفيّا"، "الشّريعة مزيّفة"، "الرّوح غير خالدة". هذه المقولات هي بالأحرى مقولات فضفاضة وغير دقيقة ولا تستوجِب عادة أكثر من مجرّد التّهمة المعروفة والغامضة، تهمة "الإلحاد". غير أنّنا في حالة سبينوزا لدينا، من مصادر أخرى، ما يكفي من المعلومات لكي نفهم ما كان يَقصِد به من وراء هذه التّعابير التي تنمّ بالتّأكيد عن المفاهيم التي على الأقل يكون قد شرع في بلورتها في كتاباته بعد خمسة أعوام من الحِرْم الذي سُلِّط عليه. ليس من المؤكّد على الإطلاق أن نجد في هذه النّصوص ما كان يقوله سبينوزا بالضّبط داخل الجالية اليهوديّة، غير أنّ تقرير لوكس وشهادة الأخ توماس يشيران أنّ سبينوزا، في أواسط خمسينات القرن، كانت تراود ذهنَه ويكاد ينطِق بها لسانُه منذ ذلك الوقت، العقائد الميتافيزيقيّة والأخلاقيّة والدينيّة التي سنجدها لاحقا في أعماله الفلسفيّة التي كتبها زمن نضجه الفكري.
لقد تقبّل سبينوزا، حسب ما رواه لوقس، قرار إقصائه دون أن تطرف له عين. فقد قال سبينوزا حسب كاتب سيرته: "عظيم جدّا، لا يمكن أن أجْبَر على شيء لم أكن قد قمت بفعله من تلقاء نفسي، فلو لا خشيتي من الفضيحة [...]؛ لسَلكتُ الطّريق التي فُتِحت أمامي بكلّ فرح وابتهاج". من المؤكَّد أنّه لم يعد في ذلك الوقت مواضبا على ممارسة الشّعائر الدّينية، وأصبحت تمتلكه شكوك جديّة حول مبدأيْن خاصّين باليهوديّة وبصورة أعمّ حول قيمة الدّيانات التّوحيديّة. يبدو أنّ سبينوزا، بالرّغم من الفرصة التي أُتيحت له لإدارة الشركة العائليّة وتأمين لقمة العيش، والتمتّع بسمعة جيّدة وسط طائفته، لم تكن الأمور الدنيويّة تستهويه كثيرا.
بعد سنوات قليلة غادر سبينوزا آمستردام. في عام 1661 كان يعيش في قرية صغيرة محاذية لمدينة ليدن، وكان يصْقُل العدسات البلّوريّة لكسب عيشه وفي نفس الوقت يشتغل على نصوص مختلفة تدور حول ما كان يسّميها "فَلْسفتَه". وكانت هذه النّصوص، على غرار التّقليد الديكارتي، تحتوي على رسالة في المنهج الفلسفي، عنوانها "رسالة في إصلاح العقل" (Traité de la réforme de l’entendement)، يتناول فيها سبينوزا بعض المشاكل الجوهريّة التي تتعلّق بطبيعة ومختلف أشكال المعرفة الإنسانيّة وكذلك الوسائل الخاصّة للتّوصّل إلى فهم حقيقي؛ كلّ هذا في إطار تصوّر واسع لما يشكّل "الخير" لكائن بشريّ. ألّف أيضا في تلك الفترة كتاب "رسالة قصيرة عن الرّب"، والإنسان والسّعادة" الذي يحتوي، في شكل جنينيّ، عدّة مواضيع وأفكار ستظهر في نُسَخ أكثر نضجا وفي صيغة أكثر ترتيبا ووضوحا، في رائعته الفلسفيّة "الأخلاق". لم يُكمِل سبينوزا أيّا من كتُبه الأولى التي لم يقع نشرها في حياته. ومع ذلك فإنّ "الرّسالة القصيرة" تمثّل أوّل محاولة جادّة عند سبينوزا لعرض ما تشتمل عليه ميتافيزيقا الرّب والطّبيعة، التصوّر الصّحيح للرّوح الإنسانيّة، طبيعة المعرفة والحريّة، منزلة الخير والشّر، علاقات الكائنات البشريّة مع الطّبيعة والوسائل لبلوغ السّعادة الحقيقيّة.
بقي سبينوزا على مرّ السّنين في تواصل دائم مع أصدقائه المقرّبين في آمستردام. وسرعان ما طلب منه هؤلاء أن يكتب لهم مقدِّمة عامّة في متناول الجميع لفلسفة ديكارت، إذ كانوا يعتبرونه بمثابة مختصّ حقيقي في هذا الشّأن. وهكذا ألّف لهم سبينوزا سنة 1663، بعد زمن قليل من مغادرته ريينسبورغ Rijinsburg والتحوَّل إلى فوربورغ Voorburg، وهي قرية صغيرة غير بعيدة عن لاهاي، النصّ الوحيد الذي نشره في حياته وتحت اسمه الحقيقي، "مبادئ فلسفة ريني ديكارت مُبَرهَنه حسب المنهج الهندسي" (Les Principes de la philosophie de René Descartes démontrés selon la méthode géométrique). وهو يلخِّص فيه الدّروس الخاصّة حول موضوع كتاب ديكارت "مبادئ الفلسفة" (Principes de la philosophie) التي أعطاها سبينوزا لشابّ كان قد عاش معه فترة من الزمن في ريينسيورغ. في النّسخة المكتوبة، يعرض سبينوزا الميتافيزيقا، الإبيستيمولوجيا والفيزياء الأساسيّة لفلسفة ديكارت عبر منهجيّة هندسيّة تتضمّن مفاهيم عامّة، تعريفات وأطروحات مبَرهَنة. (لقد كان قد قرّر حينئذ أنّ الشّكل الأوكليدي كان أفضل طريقة لعرض ميادين الفلسفة هذه). وكتاب "مبادئ فلسفة ريني ديكارت" جعل سبينوزا يشتهر بأنّه شارح الفلسفة الديكارتيّة، بل حتّى، وذلك عن غير وجه حقّ، أنّه ديكارتي رائد، وهو الشيء الذي سيسبِّب بعض المتاعب الجديّة لتلامذة ديكارت الحقيقيّين لاحقا عندما تتمرّغ سمعة سبينوزا في التّراب.
غير أنّ تقديم ديكارت وعرض فلسفته في بداية عام 1660 لم ينتج عنه سوى تحويل وجهة سبينوزا عن اهتمامه الرّئيسي المتمثّل في عرضٍ دقيق لأفكاره الفلسفيّة الخاصّة به والأصيلة فعلا. وبعد أن توقّف عن تأليف "الرّسالة الموجَزة"، التي لم يكن حقيقة راضٍ عنها استَلّ سبينوزا قلمه من جديد للشّروع في تحرير ما سيمثّل رائعته وواحدة من روائع تاريخ الفلسفة، ألا وهو كتاب "الأخلاق".
إنّ هذه الرّائعة، حتّى وإن ظلّت نصّا في جوهره مقالة حول الرّب، والإنسان وسعادته، فإنّها محاولة يعرض من خلالها بصورة شاملة، وبأكثر وضوح ومنهجيّة، في "أسلوب هندسي"، مشروعه الميتافيزيقي والأخلاقي الضّخم. بعد مرور سنوات عديدة، وعقب الفراغ من تأليفه، فإنّ هذا العمل الرّائع المتكوّن من خمسة أجزاء سيُقدِّم أنموذجا دقيقا للغاية للسّير في الطريق المؤدّية نحو سعادة الإنسان في عالَم محكوم بحتميّة سببيّة صارمة ومليء بعقبات تحول دون سعادتنا، عقبات نكون مضطرّين فطريّا إلى التّعامل معها باتّباع طرق ليست تماما لصالحنا.
استهلّ سبينوزا كتاب "الأخلاق" مؤكِّدا أنّ الكون، في أبسط مستوى أنطولوجي، هو ماهية وحيدة، فريدة، لامتناهية، خالدة، وموجودة بالضّرورة. وهي الأكثر فعليّة وحقيقيّة، وهو ما يسمّيه "الرّبّ أو الطّبيعة" (Deus sive Natura) [أي في معنى واحد]. إنّ ربّ سبينوزا ليس بكائن مفارِق أو خارق للطّبيعة. بل هو مجرّد من كلّ الصّفات السيكولوجيّة والأخلاقيّة التي تصبغها العديد من الدّيانات الغربيّة التوحيديّة تقليديّا على الرّب. بالنّسبة لسبينوزا، الرّب لا يَأْمر، ولا يُحاسِب، ولا يعقد عهودا ولا ولاءات. كما أنّ العِلم، والقدرة، والرّحمة، والحكمة، والعدل لا تشكِّل جزءًا من ماهيّة الرّب. بعبارات أخرى، الرّب، في فلسفة سبينوزا، لا يتمثّل في تلك العناية الإلهيّة المهيمِنة كما تصوّرها إبراهيم [الخليل]. فهو لا شيء آخر غير الجوهر الأساس، الخالد، اللاّمتناهي للحقيقة والعلّة الأولى لكلّ الأشياء. كلّ ما هو كائن ينتمي للطّبيعة أو هو عَرَض من أعراض الطّبيعة. [يُفرِّق سبينوزا بين طبيعتيْن: natura naturans بمعنى "الطّبيعة الطّابِعة" و natura naturante بمعنى "الطّبيعة المطبوعة"، فأمّا الأولى فهي مُستَعمَلة للدّلالة على الماهية الميتافيزيقيّة للكَون كما يراه سبينوزا، وهي تُعادِل الرّب كما رأينا أعلاه، بمعنى ما يكون كائتا في ذاته ومتصَوَّرا بذاته؛ أمّا الثّانية فهي تُحيل عند سبينوزا إلى العالَم الحِسّي وكلّ الأشياء المألوفة لدينا، وكذلك كلّ الأحداث والقوانين، وهي بمجملها تُسبِّبها الطّبيعة الأولى وتنتمي إليها].
كلّ الأشياء في الطّبيعة الطّابِعة، أي كلّ ما في الكون، هي دومًا وبالضّرورة محدَّدة بالطّبيعة المطبوعة. فلا شيء يفلت من قوانين الطّبيعة الطّابعة، بعبارة أخرى، لا شيء يستطيع أن يشكِّل استثناءً لسُبُل الطّبيعة الطّابعة. كلّ شيء موجود يتبَع بضرورة مطلقة المبادئ الضرّوريّة الكونيّة للطّبيعة الطّابعة (صفات الرّب). إذن، بالنّتيجة لا يوجد أيّ غائيّة للطّبيعة الطّابعة أو فيها. لا شيء في العالَم يحدث لعلَّة أخيرة أو لخدمة هدف مّا أو مخطَّط عام. كلّ ما يقع لا ينتُج إلاّ من السّببيّة العاديّة لنظام الطّبيعة الطّابعة. وبما أنّ الرّب يُطابق المبادئ الفاعِلة والكونيّة للعلّة والمعلول في الطّبيعة الطّابعة، أي جوهر كلّ ما هو موجود، ينتج عن ذلك أنّ مفهوم التّجسيم للرّب الذي، حسب سبينوزا، يحدِّد الأديان التّوحيديّة، وكلّ ما يترتّب عن ذلك من ادّعاءات الثّواب والعقاب الإلهيّة ليست إلاّ محض خرافات وأوهام.
حينئذ يتوجّه سبينوزا نحو طبيعة الكائن البشري ومكانته في الطّبيعة الطّابعة. هذه الأخيرة، باعتبارها ماهية أزليّة، تمتلك صفات أو جواهر لامتناهية، كلّ واحد منها يمثّل ضربا من الطّبيعة الكونيّة للأشياء. ونحن لا نعرف فقط إلاّ صِفتيْن من هاته الصّفات: الفكر (أو الجوهر المفكِّر، وهو ما يشكّل الأنفُس، والإمتداد (الجوهر المادّي الذي يشكّل الأجسام). الطّبيعة الطّابعة لا تسلك إلاّ مسارا وحيدا وذلك لأنّها ماهية، وِحْدة. إلاّ أنّه، ولهذا السّبب بالذّات، فهي تعمل حسب كلّ صفة بالتّوازي مع حدوثها في كلّ الصفات الأخرى. فكلّ شيء أو حَدَث مُنفَرد ليس هو إلاّ "حالة" للطّبيعة الطّابعة يظهر تحت صفات مختلفة. وبالتّالي، فلا يتجلّى في العقل (على أنّه شيئ أو حدث ذهنيّ أو مُفكَّر)، وفي الامتداد (على أنّه شيئ أو حدث جسميّ) سوى شيئ وحيد لا غير أو حدث، وهكذا دواليك في بقيّة الصّفات الأخرى.
وعلى هذا النّحو تكون الرّوح البشريّة والجسم البشري في الطّبيعة الطّابعة شيئا واحدا لا غير يتجلّى على التّوالي تحت صِفَتيْ العقل والإمتداد. إنّ وحدتهما في كائن بشري وتلازمِ حالاتهما على التّوالي هما وظيفتان لماهيتهما الميتافيزيقيّتيْن النّهائيّتيْن في الطّبيعة الطّابعة. وهذا يعني أنّ الكائنات البشريّة هي جزء من الطّبيعة الطّابعة بنفس المقدار بالنّسبة لأيّ شيء آخر، وأنّها لا تسكن "أرضا" منفصلة بحيث يمكنها أن تكون معفاة من قوانين الطّبيعة الطّابعة. فكلّ فرد، إنسانا كان أو شيئا آخر، هو خاضع لنفس الحتميّة السببيّة التي تُسيِّر كلّ أحداث الطبيعة الطّابعة. وهذا ما يفسِّر كيف يستطيع سبينوزا أن يقترِح معالجة الأفكار البشريّة، والانفعالات، والشّهوات والأفعال الإراديّة البشريّة "كما لو كان الأمر يتعلّق بخطوط، ومسطّحات وجوامِد".
الطبيعة البشريّة التي يتحدّث عنها سبينوزا تكون مصحوبة بسيكلوجيا تعكِس مختلف أشكال انفعلات البشر بالعالَم الذي يحيط بهم وتنظر في الجهد الذي يجب الحفاظ عليه في الوجود في وجه هذه القوى الخارجيّة، وهو جهد يحدّد ماهية الكائنات البشريّة كما هو الحال مع كلّ كائنات الطبيعة الطّابعة. الحياة الذّهنيّة البشريّة تتركّب من انفعالات وأعمال مختلفة. فالانفعالات هي ردودنا العاطفيّة للطّريقة التي تؤثِّر بها علينا العِلَل الخارجيّة؛ فالأفعال تُستَمدّ بموجب وسائلنا الدّاخليّة الخاصّة بنا. فهي تمثّل الطّرق التي تزداد بها قدراتنا أو تنقص بواسطة روابط العلّة والمعلول التي في داخلها نعيش وجودنا. إنّ العرض الذي يطرحه سبينوزا عن الانفعالات يُظهِر لوحة مضطَربة للحياة البشريّة يكون فيها الفرد متأرجِحا وجدانيّا وتحت رحمة الأشياء والقوى الخارجة عن سيطرته.
علاجُ مثل هذه الحياة الغارقة في وحل الانفعالات يكمن في الفضيلة، أي في السّعي نحو معرفة الطبيعة الطّابعة وفهمها. لا يمكن أبدا لأيّ كائن بشريّ أن يكون متحرِّرا من الانفعالات بشكل كامل، لأنّ كلّ الكائنات هي بالضّرورة جزء من الطبيعة الطّابعة ودائما خاضعة للتّأثيرات الخارجيّة. وبالرّغم من هذا، يمكن للكائنات البشريّة أن تبلُغ درجة مّا من الاستقلاليّة الذّاتيّة والحريّة بالقياس إلى اضطرابها وذلك من حيث أنّها فاعلة ويقودها العقل، مُكتَسِبة بذلك فهما للطّريقة التي يجب على كلّ شيء في الطبيعة الطّابعة أن يحدث وذلك ما يقوم به بما فيها أعمال الإرادة البشريّة. وبهذه الطّريقة، تجد سلطة الانفعالات السّلبيّة نفسها على الأقلّ تتضاءل:
"إلاّ أنّ قدرة الإنسان محدودة جدّا، وتتفوّق عليها قدرة الأسباب الخارجيّة بصورة لا محدودة؛ وعلى ذلك فليس لدينا قدرة مطلقَة لتسخير الأشياء الخارجيّة لصالحنا. إلاّ أنّنا سنواجه بالصّبر [بهدوء] الأمور المناقضة لمصلحتنا الشخصيّة إذا ما شعرنا انّنا قد أوفينا مهمّتنا وأنّه لم يكن يالإمكان، بما توفّر لنا من القوّة، أن نتحاشى تلك الأمور [الشّر]، وأنّنا لا نعدو أن نكون إلاّ جزءاً [من] الطبيعة [وأنّه يجب اتّباع النّظام الكلّي]. وإذا أدركنا كلّ ذلك بوضوح وتميُّز، كان ذلك الجزء منّا، أعني أفضل جزء، ألا وهو الفهم (intelligentia)، على حالة من الانبساط التّام وكان دؤوبا على الاستمرار فيها" [ترجمة مأخوذة بتصرّف من كتاب علم الاخلاق، ترجمة جلال الدّين سعيد، المنظّمة العربيّة للتّرجمة، بيروت، 2009، الباب 4، فصل 32، ص 311].
يوفِّر الفرد الحرّ العاقل المثالي، الذي يقدّمه كتاب الأخلاق، أنموذجا لحياة بشريّة فاضلة متحرِّرة من أوهام متعدّدة باحثة عن كلّ ما هو حقيقة في مصلحتها (بالتّضادّ مع كلّ الأشياء التي لا تسبِّب إلاّ الشّهوة الزّائلة).
إنّ أعلى درجات المعرفة، "وهي صعبة ونادرة"، هي فهم تامّ للطبيعة الطّابعة ومسالكها. وهذا يتضمّن حدسا عقليّا للطّريقة التي يتولّد بها كلّ جوهرٍ لأيّ شيء مهما كان (بالخصوص جوهرنا الذّاتي بكلّ حالاته الذّهنيّة والجسديّة) من العناصر الأكثر كليّة للطّبيعة الطّابعة، أو، بما أنّ الرّب والطبيعة لا يكوّنان، وبالأحرى ليسا سوى واحد، الطّريقة التي يتطابق بها مع الرّب جوهر أيّ شيء. يُنهي سبينوزا كتاب الأخلاق بفحص كلّ المنافع الكبرى التي يوفِّرها هذا الفهم العميق، مؤكِّدا على أنّ مكافآت الفضيلة الحقيقيّة لا تكمن في الوعد بعالَم آخر للنّفس الخالدة. فالخلود الشّخصي لا وجود له: إنّه وَهْم استخدمه رجال دين دجاجِلة بهدف الإبقاء علينا في حالة أبديّة تتأرجح بين الرّجاء والخوف حتّى تتسنّى لهم السّيطرة علينا ومراقبتنا. بالمقابل، "الغِبطة" و"الخلاص" يكمنان في الهناء وراحة البال اللّذين يقدِّمهما لنا الإدراك في هذه الحياة. المرء الفاضل يرى ضرورة كلّ الأشياء، ولهذا يكون أقلّ انزعاجا ممّا يمكن أن يحلَّ أو لا يحلّ به. وهو ينظر لتصاريف الحياة بروح هادئة وثابتة، وتكون سعادته غير خاضعة للظّروف الخارجة عن إرادته.
لقد اشتغل سبينوزا دون هوادة، طوال سنوات عديدة، في تأليف كتابه "الأخلاق"، أو، كما كان يسمّيه في ذلك الوقت "فلسَفتي" Philosophia، وذلك منذ انتقاله إلى فوربورغ Voorburg عام 1663 إلى غاية صيف 1665. يبدو أنّه بالفعل كان قد أكمل نسخة هامّة معقولة من هذا العمل منذ جوان/حزيران 1665. فقد كان من ناحية أخرى واثقا نوعا مّا في ما كان قد كتبه حينئذ بدليل أنّه سمح لبعض المحظوظين أن يقرؤوه، إذ كانت هناك نُسَخ باللّغتيْن اللاّتينيّة والنيرلانديّة لمخطوطه متداولَة بين أصدقائه في آمستردام. ومن المحتمل أيضا أن يكون سبينوزا قد توخّى إنجاز طَبْعة سريعة للكتاب.
غير أنّ الأمور لم تسر على ذلك النّحو، ففي سنة 1665، وفيما يبدو أنّه تغيير مفاجئ في مشاريعه، قرّر سبينوزا وضع كتاب "الأخلاق" جانبا لكي يركّز اهتمامه أكثر على مسائل أشدّ إلحاحا، مسائل تتطلّب شيئا آخر أكثر من دراسة ميتافيزيقيّة، إبستيمولوجيّة وسيكولوجيّة.
(يتبع)



#ناصر_بن_رجب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كتاب صُنِع في الجحيم (1)
- رَبُّ القَبائل، إسلام محمّد
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (14)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (13)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (12)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (11)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (10)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (9)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (8)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (7)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (6)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (5)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (4)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (3)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (2)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (1)
- سورة الفيل والتّفسير المستحيل!
- مَكّابِيُّون وليسَ مكّة: الخلفيّة التوراتيّة لسورة الفيل(2)
- مَكّابِيُّون وليسَ مكّة: الخلفيّة التوراتيّة لسورة الفيل(1)
- سورة الفاتحة: هل هي مدخَل شعائري لصلاة الجَماعة؟ (2)


المزيد.....




- دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه ...
- في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا ...
- المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه ...
- عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
- مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال ...
- الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي ...
- ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات ...
- الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
- نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله ...
- الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناصر بن رجب - كتاب صُنِع في الجحيم (2)