|
ماركس والنسوية
سيلفيا فيديريتشي
الحوار المتمدن-العدد: 7131 - 2022 / 1 / 9 - 20:46
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
سيلفيا فيديريتشي وجودي راميريز خلال إطلاق “حملة أجور مقابل العمل المنزلي” في كونواي هول، في لندن، 1975| Getty Images نلفت عناية القراء/القارئات إلى تبني المدونة لمقدمة ترجمة مدونة سحماتية لمقابلة مع سيلفيا فيديريتشي، وبالتالي استخدم المترجم نفس عبارات العمل الإنجابي/إعادة الانتاج لترجمة Reproductive وذلك بطبيعة الحال تبدّل وفقاً لسياق العبارة.
يمكن قراءة إلى جانب هذه الورقة الأوراق المنشورة في هذه المدونة، خاصة التالية: كيف ناضل ماركس وإنغلز من أجل تحرير النساء، خارج الظل: البلشفيات والاشتراكية الروسية للكاتبة جودي كوكس، التعاون والصراع بين البلاشفة والنسويات للكاتبة سومة ماريك، كولونتاي والبلاشفة وتحرر النساء: قراءة نقدية للكاتبة جاكلين هينين، روسيا 1917: الجندر، الطبقة والبلاشفة، من هي ألكسندرا كولونتاي؟ للكاتبة ساندرا بلودورث، قراءة ممتعة
نشرت الورقة في موقع triple-c.at بتاريخ 4 أيار/مايو 2018
الكاتبة: سيلفيا فيديريتشي
تركز هذه الورقة على الجوانب النسوية والجندرية في نظرية ماركس. لقد أعطتنا منهجية ماركس الأدوات التي تمكننا من التفكير معاً في الجندر والطبقة والنسوية ومناهضة الرأسمالية. رغم ذلك، تبقى مساهمة ماركس غير مباشرة لأنه لم يطور إطلاقاً نظرية عن الجندر. حيث من المهم أن تشمل دور إعادة الإنتاج والعمل العبودي، والعمالة المهاجرة، والعمالة في جنوبي الكرة الأرضية والعاطلين عن العمل في التحليل النقدي للرأسمالية وتقسيم العمل فيها. العمل الإنجابي هو أكبر نشاط على الأرض وأرضية أساسية للانقسامات داخل الطبقة العاملة.
جرى اكتشاف ماركس مختلف خلال الـ 1970ات من قبل النسويات الباحثات في أعماله عن نظرية قادرة على تفسير جذور اضطهاد النساء من وجهة نظر طبقية. وكانت النتيجة ثورة نظرية غيّرت كلاً من الماركسية والنسوية. ما جرى إعادة تعريفه من خلال إدراك مركزية عمل النساء غير المأجور في المنزل لانتاج قوة العمل لم يكن العمل المنزلي لوحده إنما الرأسمالية نفسها والنضال ضدها. كان ذلك يعني قلب ماركس رأساً على عقب بهدف جعل عمله مهماً للنسوية.
1. المقدمة:
الماركسية والنسوية هما من أهم الحركات الراديكالية في عصرنا الحالي. فَهم علاقتهما هو أمر حاسم لإمكانية التغلب على الانقسام الذي خلقته الرأسمالية بين صفوف البروليتاريا العالمية وللبحث عن الاستراتيجيات والنضالات التي نحتاجها لبناء مجتمع أكثر عدلاً.
سأحاول تقييم أهمية ودلالة أعمال ماركس للنظرية النسوية المعاصرة، وفي الوقت عينه، ما هي حدودها الأساسية؟ وأين نحتاج الذهاب أبعد من ماركس؟
حجتي هنا هي أن ماركس قدم مساهمة مهمة في تطوير مقاربة نسوية وأن النسويات أظهرن حدود تحليل ماركس، الذي ركز فيه على قطاع محدد من العمال، العمال الصناعيين المأجورين، الرجل العامل، والذي تشكلت باسمهم الأممية الأولى، بينما جرى تهميش تجارب الأقل أجراً، الذين غذى عملهم التراكم الرأسمالي ولكن خارج العلاقات التعاقدية. من خلال القيام بذلك، أعطانا صورة جزئية عن العلاقات الرأسمالية.
2. وجود وغياب العلاقات الجندرية في أعمال ماركس
كانت مساهمة ماركس في النسوية غير مباشرة. الأمر موجود في منهجيته وفهمه المادي للتاريخ، وتحليله للاستغلال الرأسمالي للعمل. بالنسبة للنسويات مثلي نحن مقتنعات بأنه لا يمكننا القضاء عل الاضطهاد الجندري ما لم يحصل التغيير في المجتمع ككل، فقد منحتنا منهجيته الأدوات التي تتيح لنا التفكير معاً بالجندر والطبقة والنسوية ومناهضة الرأسمالية.
رغم ذلك، كانت مساهمة ماركس غير مباشرة لأنه لم يطور أبداً نظرية عن الجندر. بدءاً من كتاباته المبكرة، نجد في أعماله العديد من العبارات التي تدل على فهم أهمية العلاقات الجندرية وشجب اضطهاد النساء في المجتمع الرأسمالي، خاصة عند الأسرة البرجوازية.
في المخطوطات الاقتصادية والفلسفية عام 1844، مكرراً فيها ما كتبه فوريه، اعتبر ماركس (1844، 296) بأن العلاقة بين الرجل والمرأة هي مقياس للتقدم الاجتماعي، وهي تقول لنا إلى أي مدى وإلى أي حد “أصبح سلوك الرجل الطبيعي بشرياً”. في الأيديولوجيا الألمانية كتب ماركس عن “العبودية الكاملة في المنزل” (ماركس وإنغلز 1845/46، 33) حيث يسيطر الوالد على عمل النساء والأولاد. في ترجمته لورقة جاك بوشية حول الانتحار، أظهر النتائج المدمرة للأخلاق البرجوازية على حياة النساء، وعادة ما أودت بهن إلى الانتحار (ماركس 1845). في البيان الشيوعي، تهكم من الأسرة البرجوازية لأنها مبنية على الزنا ومعاملة النساء كملكية خاصة (ماركس وإنغلز 1848). استهدفت هذه الكتابات الملكية الخاصة، واقع أن الطبقة الرأسمالية ترى وتعامل النساء كملكية وتستعملهنّ لنقل الملكية الخاصة. في الجزء الأول من كتاب رأس المال حلل ماركس (1867) الاستغلال الرأسمالي لعمل النساء، ولكن تركيزه انصبّ على النساء كعاملات في المصانع.
قلة هم الكتاب الذين وصفوا بدقة وحشية العمل الرأسمالي خارج العبودية كما فعل ماركس في وصف استغلال النساء والأطفال في المصانع. ولكن على الرغم من بلاغته، فإن كتابته تبقى وصفية أكثر من تحليلية، وهي لافتة للنظر بسبب غياب نقاشه لقضايا جندرية تثيرها.
لم نُخبَر، على سبيل المثال، ما هو أثر تشغيل النساء والأطفال على نضالات العمال، وما هي النقاشات التي أثارتها داخل المنظمات العمالية أو كيف أثرت على علاقات النساء مع الرجال، ما عدا بعض التعليقات الأخلاقية حول أثر العمل في ذلك المصنع المشجع على السلوك غير الشرعي، والحط من “السمة الأخلاقية” للنساء، وأن ذلك يؤدي بها إلى تجاهل واجباتها الأمومية. لم يحصل أبداً تصوير النساء على أنهن موضوع للنضال، وعلى أنهن قادرات على النضال بالنيابة عن أنفسهن(1).
تتشكل معاملة ماركس لعمل النساء في نظام المصنع من خلال الاعتقاد بأن الرأسمالية، وخاصة الصناعة الواسعة النطاق، تخلق الأساس المادي لنوع أعلى من الأسرة والمجتمع، ولعلاقات أكثر مساواة بين الرجال والنساء. يحاجج في الجزء الأول من كتاب رأس المال أن الصناعة الحديثة تخلق نوعاً مختلفاً من الناس، المتحررين من الاعتماد الذاتي وغير الثابتين بأي نوع محدد من المهارات، وبالتالي القادرين على الانخراط بمجموعة واسعة من الأنشطة والتطوير المستمر للقدرات البشرية. بالنسبة إلى ماركس، يعتبر العمل الصناعي شكلاً أعلى من أشكال العمل، حيث يتغلب على كل التخصصات (التسفيه يعود إلى ماركس) الأمر الذي يمنح العمال ما سماه ألفرد مارشال لاحقاً “القدرة العامة” على العمل.
وبذلك، في حين أدان ماركس ظروف العمل الوحشية في المصانع، رأى ماركس أن توظيف النساء في العمل الصناعي عامل إيجابي. فهو يحررهن من السلطة الأبوية في المصنع المنزلي، ويوفر لهن علاقات أكثر مساواة، عبر تعاونهن مع الرجال، جعلهن عرضة لشكل أعلى من العمل الذي يلغي كل الفروق الاجتماعية والبيولوجية.
لقد كتبت هذه الملاحظات مستندة إلى كتابات ماركس الموزعة في الجزء الأول من كتاب رأس المال. كما في كتاباته السابقة، تحتل القضايا الجندرية مكانة هامشية في كتاب رأس المال. ضمن كتاب يتألف من ثلاثة أجزاء يتألف من آلاف الصفحات، وجدنا حوالي 100 صفحة فقط يتخللها إشارات إلى الأسرة والجنسانية والعمل المنزلي، وبشكل عام، وفي سياق ملاحظات عابرة.
الإشارات إلى الجندر مفقودة في الأماكن المتوقع وجودها بشكل أكبر، كما هو الحال في الفصول المختصة بالتقسيم الاجتماعي للعمل أو الفصل الخاص بالأجور، في كل الجزء الأول من كتاب رأس المال، نجد إشارتين فقط إلى العمل المنزلي وضمن هوامشه. وحتى عند تحليله لإعادة انتاج قوة العمل، في الفصل “إعادة الانتاج البسيطة” (ماركس 1867، الفصل 23) لا نعثر على أي ذكر لعمل النساء.
3. فهم جزئي لإعادة الانتاج الاجتماعي
يعترف ماركس بأن قوة العمل، قدرتنا على العمل، ليس أمراً مسلماً به. بسبب تعرضها للاستهلاك اليومي خلال يوم العمل، يجب إعادة إنتاجها باستمرار، وإعادة الإنتاج هذه ضرورية لتثمين رأس المال “لتنظيف الآلات” (ماركس 1867، 718)، لأنه انتاج أثمن وسيلة انتاجية عند الرأسماليين: العامل نفسه. رغم ذلك، يضع ماركس تحققها فقط ضمن دائرة الانتاج السلعي. العمال، بحسب تخيّل ماركس، يستعمل العمال رواتبهم لشراء أساسيات الحياة- وعبر استهلاكها فإنهم يعيدون إنتاج أنفسهم. بكلمات أخرى، تنتج قوة العمل، إنتاج العامل، من خلال استهلاك السلع التي أنتجها العمال المأجورون. وهكذا، “إن قيمة قوة العمل هي قيمة وسائل العيش الضرورية لإعالة صاحبها” (ماركس 1867، 274) وهي محددة من خلال وقت العمل الضروري لإنتاج السلع التي يستهلكها العمال.
لم يدرك ماركس في أي مكان من كتاب رأس المال أن إعادة إنتاج قوة العمل تستلزم عمل النساء غير المأجور- لإعداد الطعام وغسل الملابس وتربية الأولاد وممارسة الجنس. على العكس من ذلك، وهو يصر على تصوير أن العامل المأجور يعيد انتاج نفسه بنفسه.
حتى عند النظر في الاحتياجات التي يجب على العمال تلبيتها، فهو يصورهم على أنهم يشترون سلعاً ومكتفين ذاتياً، معدِّداً ضروريات الحياة الطعام والمسكن والملبس ولكنه يتجاهل الجنس بشكل محرج، سواء حصل ذلك ضمن إطار عائلي أو اشتراه، مشيراً إلى حياة العمال الذكور النقية، فقط النساء ملوثات أخلاقياً بسبب العمل الصناعي (ماركس 1867، 275). كذلك ينكر عمل العاملات في قطاع الجنس، ويقدم الأخيرات كمثال على انحطاط النساء، فيصورهن على أنهن ينتمين إلى أدنى رواسب فائض السكان، هي البروليتاريا الرثة التي اعتبرها في الثامن عشر من برومير لويس بونابرت “نفايات كل الطبقات” (ماركس 1852، 149).
حتى حين الإشارة إلى العمل الإنجابي العابر للأجيال للقوى العاملة، لم يكتب ماركس عن أي مساهمة للنساء بها، مستبعداً إمكانية اتخاذ أي قرار مستقل من جانبهن بما يتعلق بالإنجاب، مسمياً ذلك “التزايد الطبيعي للسكان” (ماركس 1867، 788)، معلقاً أن “الرأسمالي يمكن أن يترك هذا الأمر بأمان لدوافع العمال للحفاظ على ذواتهم والتكاثر” (ماركس، 1867، 718)، معتبراً أن الإنجاب هو ظاهرة طبيعية، الأمر الذي يتعارض مع التعليق الوارد أعلاه بأن إهمال العاملات في المصانع لواجباتهن الأمومية يصل إلى مستوى إبادة الأطفال.
كما يشير ماركس إلى أن الرأسمالية لا تعتمد على القدرة الإنجابية للنساء من أجل التوسع الذاتي، بسبب خلقها المستمر “لفائض السكان” من خلال ثوراتها التكنولوجية. في الحقيقة، كان رأس المال والدولة شديدي الاهتمام بالحركات السكانية لدرجة أن ظهور الرأسمالية كان بمثابة امتداد للمنع المفروض على جميع أنواع تحديد النسل، في العديد من الحالات الحاصلة حتى اليوم، تشدد العقوبات على النساء اللواتي يتلاعبن بالإنجاب.
كما تجاهل ماركس أن أهم السلع لإعادة انتاج قوة العمل في أوروبا، أي تلك الثورة الصناعية- السكر والشاي والتبغ والروم، والقطن- كانت منتجات حصلت بواسطة السخرة، وذلك على الأقل منذ أواخر القرن الـ 17 حيث أنشئ نظام دولي لتقسيم العمل، وخط تجميع دولي، بهدف خفض تكلفة إنتاج القوى العاملة الصناعية، وربط العمال المأجورين والمستعبدين، بطرق تنبئ بالتشغيل الحالي للعمال المهاجرة، الأمر الذي أدى إلى خفض تكلفة إنتاج قوة العمل الصناعية. كان نظام المزارع خطوة أساسية لتشكيل تقسيم دولي للعمل حيث دمج العبيد في إعادة انتاج القوة العاملة الصناعية الأوروبية، مبقياً العمال المستعبدين والمأجورين مقسمين جغرافياً واجتماعياً. ولكن لا يوجد تحليل لعمل العبيد ضمن مناقشات كتاب رأس المال ليوم العمل وعملية التراكم، إنما مجرد إشارات عابرة، على الرغم من أن الأممية دعمت مقاطعة القطن خلال الحرب الأهلية.
لماذا هذا التعامي؟ من دون شك في حالة الأعمال المنزلية، يمكننا رؤية ذكورية تعطي طابعاً طبيعياً على إعادة الانتاج ويجعله يظهر، مقارنة مع العمل في الصناعة، كشكل قديم سيحل مكانه تقدم التصنيع في وقت قريب. بالإضافة إلى ذلك، كانت العائلة من الطبقة العاملة تعمل بأكملها في المصنع، ولم يكن يُنجز سوى القليل من العمل المنزلي في البيت. سبب آخر محتمل هو أن ماركس كان يفكر دائماً بطريقة تنظيمية ولم يرَ القوى الاجتماعية القادرة على تحويل العمل المنزلي باتجاه ثوري.
4. وهم الأجور ونتائجه
لكن هناك ما هو أكثر أهمية في عمل ماركس. لا يرى ماركس من هم بلا أجور كموضوعات مركزية لتراكم رأس المال وفي النضال ضد الرأسمالية. معيداً صياغة كينز، كان خاضعاً لـ “وهم الأجور” معتقداً أن العمل الصناعي المأجور هو المسألة الأساسية لتراكم رأس المال وحيث سيخاض النضال من أجل التحرر البشري، في حين أن أشكال أخرى من العمل ستحل مكانها التنمية الرأسمالية وكما أظهرت في كتاب كاليبان والساحرة (فيديريتشي 2004)، ركز تحليله للتراكم الأولي على تكوين العمل المأجور في حين لم يكن هناك أي تحليل للتغيير في تنظيم العمل المنزلي.
وكان لذلك عواقب وخيمة على النظرية الماركسية والسياسة. في فهمه ليوم العمل والنضال طول يوم العمل، تجاهل ماركس أن الأجر لا يحشد العمال المأجورين فحسب، إنما العمل غير المأجور، وأنه يستخرج العمل الفائض من غير المأجور كذلك، ما يعني أن يوم العمل أطول بكثير وأوسع مما جرى احتسابه في مكان العمل. إحدى نتائج تنظير ماركس الناقص للعمل المنزلي هو أن كتابته عن الاستغلال الرأسمالي ومفهومه للشيوعية يتجاهلان أكبر نشاط في هذا الكوكب والأرضية الأساسية للانقسامات داخل الطبقة العاملة.
من الناحية السياسية، النتيجة الأكثر إشكالية لتعامي ماركس عن أهمية العمال غير المأجورين في التراكم الرأسمالي والنضال ضده هي أنه لم يكن قادراً على مواجهة الاعتقاد السائد، في الحركة الاشتراكية، أن مصلحة العامل الصناعي المأجور تمثل مصلحة الطبقة العاملة بأكملها- وهو افتراض دفع بالعديد من المنظرين المناهضين للاستعمار إلى استخلاص أن الماركسية لا علاقة لها بنضالاتهم. لم يكن يرى مدى أهمية احتواء الصراع الطبقي للانقسامات التي كانت الطبقة الرأسمالية قادرة على إقامتها من خلال علاقة الأجر، وخاصة بين العمل المأجور وغير المأجور على أساس الجندر والعرق والعمر. كما لم يتمكن من رؤية أنه بدلاً من توحّد البروليتاريا العالمية، فالتوسع العالمي للرأسمالية، من خلال إنشاء عالم مستعمَر “متخلف”، من شأنه أن يزيد من الانقسامات.
ليس أخيراً، لم يدرك ماركس أن عمل المفتشين والإصلاحيين الذين استشهد بهم كثيراً في رأس المال لم تكن ممارساتهم تنمّ عن خمول أو نفاق، إنما كانوا جزءاً من عملية إعادة تكوين الأسرة البروليتارية- مع إدخال الأجر العائلة، الطرد التدريجي للنساء من المصنع وبدء الاستثمار بإعادة انتاج قوة العمل التي من شأنها أن تمر بطريق طويل لتهدئة الطبقة العاملة والتشجيع على شكل جديد من التراكم الرأسمالي.
من خلال هذه الخطوة، كان رأس المال قادراً على تشتيت تهديد تمرد الطبقة العاملة وخلق نوع جديد من العمال: أقوى وأكثر انضباطاً وأكثر مرونة وأكثر استعداداً لجعل أهداف النظام أهدافهم- في الواقع نوع العامل الذي ينظر إلى متطلبات الانتاج الرأسمالي “كقوانين طبيعية بديهية” (ماركس 1867، 899). كان هذا هو العمل الذي أتاح للرأسمالية البريطانية والأميركية في نهاية القرن من إحداث تحول تقني واجتماعي من الصناعات الخفيفة إلى الثقيلة، من النسيج إلى الفولاذ، من الاستغلال القائم على تمديد يوم العمل إلى ذلك القائم على الاستغلال المكثف. وهذا يعني أن تأسيس عائلة من الطبقة العاملة وربة منزل بروليتارية بدوام كامل كانا جزءاً أساسياً وشرطاً للانتقال من فائض القيمة “المطلق” إلى “النسبي”. في هذه السيرورة، خضع العمل المنزلي نفسه إلى عملية “اكتساب حقيقي”، ولأول مرة أصبح هدفاً محدداً للدولة حتى تربطه بشكل محكم إلى حاجات سوق العمل والنظام الرأسمالي للعمل.
هذه الانتقادات ضرورية إذا أردنا التمييز بين ما هو مهم في أعمال ماركس وما نحتاج إلى التخلي عنه إذا كنا نعتقد أن مهمتنا- وهنا نتفق مع ماركس- ببناء مجتمع يكون فيه الانتاج مدى الحياة، من أجل سعادة المجتمع بدلاً من أن تعمل الحياة وفق متطلبات الانتاج والتراكم الخاص للثروة.
5. النسوية والماركسية ومسألة “إعادة الإنتاج”
كان ماركس مؤيداً لـ”تحرير النساء” من خلال المشاركة في الانتاج الاجتماعي الذي يفهم غالباً على أنه العمل الصناعي قد ألهم أجيالاً من الاشتراكيين. رغم ذلك، اكتشف ماركس آخر خلال الـ 1970ات من قبل النسويات اللواتي، في ثورتهن ضد العمل المنزلي، والتدجين والاعتماد الاقتصادي على الرجال، لجأن إلى أعماله للبحث عن نظرية قادرة على تفسير جذور اضطهاد النساء من وجهة نظر طبقية. فكانت النتيجة ثورة نظرية غيّرت كلاً من الماركسية والنسوية.
تضمنت هذه الثورة تحليل مارياروزا دالا كوستا (1975) للعمل المنزلي كعنصر أساسي في إنتاج قوة العمل أو سلمى جيمس (1975) التي وضعت موقع ربة المنزل إلى جانب (من لا يتقاضى راتباً في العالم)، الذين كانوا مع ذلك محوريين في سيرورة تراكم رأس المال، إعادة تعريف الناشطين الآخرين لحركة علاقة الأجور كوسيلة لتطبيع أشكال الاستغلال وخلق هرميات جديدة داخل الطبقة العاملة. كل التطورات النظرية والمناقشات التي أثارتها أحياناً ووصفت بأنها “نقاشات منزلية”، كلها تركز على مسألة إذا كان العمل المنزلي منتجاً أم لا. ولكن هذا الأمر هو تشويه كبير. ما أعيد تعريفه من خلال إدراك مركزية عمل النساء غير المأجور في المنزل لانتاج قوة العمل لم يكن العمل المنزلي وحده، إنما طبيعة الرأسمالية ذاتها والنضال ضدها.
ليس مستغرباً أن مناقشة ماركس عن “إعادة الانتاج البسيطة” كانت إضاءة نظرية في هذه السيرورة، كتأكيد لشكنا في أن الطبقة الرأسمالية لم تكن حتى تسمح بهذا العدد الكبير من العمالة المنزلية بالبقاء إذا لم تكن قد رأت إمكانية استغلالها. إن قراءة النشاطات التي تعيد انتاج قوة العمل التي هي ضرورية للتراكم الرأسمالي أظهرت البعد الطبقي لرفضنا. فقد أظهر لنا ان هذا الاحتقار الكبير، والذي ينظر إليه على أنه عمل مفروغ منه، والذي يرفضه الاشتراكيون ويعتبرونه تخلفاً، هو في الواقع ركيزة العمل الرأسمالي. حل هذه المسألة المحيرة المتعلقة بالعلاقة بين الطبقة والجندر تعطينا الأدوات اللازمة لمفهمة ليس فقط وظيفة العائلة، إنما عمق العداء الطبقي في المجتمع الرأسمالي. من وجهة نظر عملية، من المؤكد، أنه كنساء، لم يكن علينا أن ننضم إلى الرجال في المصانع حتى نكون جزءاً من الطبقة العاملة وخوض النضال ضد الرأسمالية. يمكننا النضال بشكل مستقل، بدءاً من عملنا في البيت، باعتباره “المركز الأساسي” لإنتاج قوى العمل. وكان لا بد من خوض النضال بداية ضد رجال عائلاتنا، لأنه عبر أجر الذكر، والزواج وأيديولوجيا الحب، مكنت الرأسمالية الرجال من السيطرة على عملنا غير المأجور وضبط زمننا ومكاننا.
اللافت، من ثم، أن مواجهتنا واستحواذنا على نظرية ماركس لإعادة انتاج قوة العمل، بطريقة تؤكد أهمية ماركس للنسوية، قد زودتنا كذلك بالدليل الواضح على أنه كان علينا قلب ماركس رأساً على عقب والبدء بتحليلنا ونضالنا تحديداً من ذلك الجزء من “المصنع الاجتماعي” الذي استبعده من عمله.
أثار اكتشاف مركزية إعادة الإنتاج لتراكم رأس المال كذلك السؤال عما سيكون عليه تاريخ التطور الرأسمالي إذا لم يُنظر إليه من وجهة نظر تكوين البروليتاريا المأجورة إنما من وجهة نظر المطابخ وغرف النوم التي تتكون فيها قوة العمل يومياً وعلى مدى أجيال.
6. تخيل مستقبل مختلف
إن الحاجة إلى مقاربة مجندرة لتاريخ الرأسمالية- بعيداً عن “تاريخ النساء” أو تاريخ العمل المأجور- هو ما دفعني، من بين آخرين/ات، إلى إعادة التفكير في تفسير ماركس للتراكم الأولي واكتشاف صيد الساحرات في القرنين 16 و17، باعتبارها لحظات أساسية في تخفيض من قيمة عمل النساء وظهور التقسيم الجنسي للعمل بشكل محدد.
إن الإدراك المتزامن، وعلى العكس من توقعات ماركس، أن التراكم الأولي قد أصبح عملية مستمرة، يطرح أيضاً تساؤلات حول مفهوم ماركس عن العلاقة الضرورية بين الرأسمالية والشيوعية. إذ يبطل وجهة نظر ماركس للتاريخ حيث يصور الرأسمالية على أنها المطهر الذي نحتاجه للعيش في الطريق إلى عالم من الحرية ويعطي دوراً تحريرياً للتصنيع. هذا التقدير الخاطئ الذي اقترفه ماركس وأجيال أخرى من الاشتراكيين الماركسيين واضح للغاية اليوم. في هذه الأيام، لا أحد يجرؤ على الحلم، كما فعل أغوست بيبل (1904) في كتابه المرأة في ظل الاشتراكية، باليوم الذي ينتج فيه الطعام بشكل كيميائي بحيث نحمل معنا علبة صغيرة من المواد الكيماوية لتوفير الغذاء من الزلال والدهون وهيدرات الكربون، بغض النظر عن الساعة أو الموسم.
إن بروز الحركة النسوية البيئية التي ربطت بين تخفيض ماركس لقيمة النساء وإعادة الانتاج مع وجهة نظره التي تعتبر أن المهمة التاريخية للإنسانية هي هيمنة الطبيعة يعزز من موقفنا. فأعمال ماريا مييس (1986) وآرييل ساليه (1997) مهمة على نحو خاص، حيث أثبتتا أن محو ماركس لإعادة الانتاج لم يكن أمراً عرضياً، مشروطاً بمهام رأس المال، إنما كان عنصراً منهجياً. تؤكد آرييل أن كل شيء في ماركس يثبت أن ما خلقه الرجل والتكنولوجيا له قيمة أعلى. يبدأ التاريخ بأول عمل من أعمال الانتاج. يدرك الناس أنفسهم من خلال العمل. مقياس إدراكهم لذاتهم هو قدرتهم على السيطرة على الطبيعة وتكييفها مع احتياجات الإنسان. ويتم التفكير في كل الأنشطة التحويلية بالمذكر: العمل يوصف بأنه الوالد، الطبيعة كالأم، والأرض كالأنثى- السيدة الأرض، وفق ماركس، مقابل السيد رأس المال.
لقد أظهرت النسويات البيئية وجود علاقة عميقة بين استبعاد العمل المنزلي، وتقليل قيمة الطبيعة، وإضفاء المثالية على ما تنتجه الصناعة البشرية والتكنولوجيا.
بما أن التصنيع يأكل الأرض والعلماء هم في خدمة التطور الرأسمالي يعبثون بإنتاج الحياة خارج أجساد النساء، ففكرة توسيع التصنيع ليشمل كل إعادة الانتاج هي كابوس أسوأ منذ ذلك الذي شهدناه مع تصنيع الزراعة.
ليس مستغرباً، أن نشهد “نقلة نوعية” في الدوائر الراديكالية، حيث يتم استبدال الأمل في الآلة كقوة دافعة لـ”التقدم التاريخي” بإعادة تركيز العمل السياسي على القضايا والقيم والعلاقات المرتبطة بإعادة الانتاج من حياتنا والنظم البيئية التي نعيش فيها.
يقال لنا أيضاً أن ماركس في سنواته الأخيرة أعاد النظر في منظوره التاريخي، وعند قراءته عن المجتمعات المساواتية والأمومية في شمال شرقي أميركا، بدأ بإعادة النظر في مثلنة الرأسمالية والتطور الصناعي وتقدير قوة النساء.
رغم ذلك، إن النظرة البروميثية للتطور التكنولوجي التي دعا إليها ماركس وكامل التقليد الماركسي، بعيداً عن فقدان جاذبيته، بدأت بالعودة، مع لعب التكنولوجيا الرقمية بالنسبة للبعض نفس الدور التحرري الذي أعطاه ماركس للأتمتة، وبذلك يصبح عالم إعادة الانتاج والعمل الرعائي- الذي اعتبرته النسويات على أنه ميدان التحول والنضال- في موضع خطر الهيمنة عليه. لذلك، وعلى الرغم من كون ماركس قد خصص مساحة محدودة لنظريات الجندر في عمله، ومن المعتقد أنه قد غيّر بعض وجهات نظره في السنوات اللاحقة، إلا أنه ما زال من المهم مناقشة كتاباته والتأكيد على أن صمته بشأن ذلك لم يكن مجرد سهو، إنما دلالة على حدود عمله النظري والسياسي لم يتمكن من تجاوزه إنما علينا فعل ذلك.
من المهم، عندما نحتفل بأعمال ماركس إعادة تركيز سياساتنا على انتاج حياتنا المادية، وحياة النظم البيئية التي نعيش وسطها، ونستلهم نضال الحاضر من خبرة أولئك الذين/اللواتي ساهموا/ن في الحفاظ عليها: النساء العاملات في مجال الرعاية، المزارعات والسكان الأصليين، الذين يشكلون أممية جديدة اليوم وغالباً ما يتعارضون للأسف مع أولئك الذين يستمرون في رؤية مستقبلهم في المشاركة بالاستغلال الرأسمالي للأرض (مثل عمال المناجم الذين صفقوا لانتخاب ترامب) أو يعتبرون أن مهمة النضال هي عبر الدفع باتجاه المزيد من التنمية الرأسمالية.
(1): الإشارة الوحيدة إلى نضال عاملات المصانع نجدها صفحة 551، حيث يذكر أن النساجات أضربن عن العمل في ويلتشير حول موضوع ضبط الوقت (ماركس 1867، 551)
المراجع:
Bebel, August. 1904. Woman Under Socialism. New York: New Labor News.
Dalla Costa, Mariarosa. 1975. Women and the Subversion of the Community. In The Power of Women and the Subversion of the Community, Mariarosa Dalla Costa and Selma James, 21-56. Briston: Falling Wall Press. Third edition.
Federici, Silvia. 2004. Caliban and the Witch: The Body and Primitive Accumulation. New York: Autonomedia.
James, Selma. 1975. Wageless of the World. In Sex, Race, and Class. The Perspective of Winning. A Selection of Writings, 1952-2011, 102-109. Oakland, CA: PM Press.
Marx, Karl. 1867. Capital: A Critique of Political Economy: Volume One. London: Penguin.
Marx, Karl. 1852. The Eighteenth Brumaire of Louis Bonaparte. In Marx & Engels Collected Works (MECW), Volume 11, 99-197. New York: International Publishers.
Marx, Karl. 1845. Peuchet: On Suicide. In Marx & Engels Collected Works (MECW) Volume 4, 597-598. London: Lawrence & Wishart.
Marx, Karl. 1844. Economic and Philosophic Manuscripts of 1844. In Marx & Engels Collected Works (MECW) Volume 3, 229-346. London: Lawrence & Wishart.
Marx, Karl and Friedrich Engels. 1848. Manifesto of the Communist Party. In Marx-Engels-Collected Works (MECW), Volume 6, 477-517. London: Lawrence & Wishart.
Marx, Karl and Friedrich Engels. 1845/46. The German Ideology. In MECW Volume 5, 19-539. London: Lawrence & Wishart.
Mies, Maria. 1986. Patriarchy & Accumulation On A World Scale. Women in the International Division of Labour. London: Zed Books.
Salleh, Ariel. 1997. Ecofeminism as Politics. Nature, Marx and the Postmodern. London: Zed Books.
#سيلفيا_فيديريتشي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النهج الديمقراطي العمالي يدين الهجوم على النضالات العمالية و
...
-
الشبكة الديمقراطية المغربية للتضامن مع الشعوب تدين التصعيد ا
...
-
-الحلم الجورجي-: حوالي 30% من المتظاهرين جنسياتهم أجنبية
-
تايمز: رقم قياسي للمهاجرين إلى بريطانيا منذ تولي حزب العمال
...
-
المغرب يحذر من تكرار حوادث التسمم والوفاة من تعاطي -كحول الف
...
-
أردوغان: سنتخذ خطوات لمنع حزب العمال من استغلال تطورات سوريا
...
-
لم تستثن -سمك الفقراء-.. موجة غلاء غير مسبوقة لأسعار الأسماك
...
-
بيرني ساندرز: إسرائيل -ترتكب جرائم حرب وتطهير عرقي في غزة-
-
حسن العبودي// دفاعا عن الجدال ... دفاعا عن الجدل --(ملحق) دف
...
-
اليمين المتطرف يثبت وجوده في الانتخابات الرومانية
المزيد.....
-
طرد المرتدّ غوباد غاندي من الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) و
...
/ شادي الشماوي
-
النمو الاقتصادي السوفيتي التاريخي وكيف استفاد الشعب من ذلك ا
...
/ حسام عامر
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
/ أزيكي عمر
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
المزيد.....
|