أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ياسين النصير - الاسلام السياسي وعنف المواكب















المزيد.....



الاسلام السياسي وعنف المواكب


ياسين النصير

الحوار المتمدن-العدد: 1659 - 2006 / 8 / 31 - 09:57
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


العُنْف لغويا هو " الخرق بالامر وقلة الرفق به" لسان العرب.
1
هذه الحشود المغيبة دينيا وسياسيا لن تبقى هكذا، ستجد طريقها للتحررمن قيود مفروضة عليها باسم الدين تارة،وباسم السياسة تارة أخرى. فالكثير من الشعوب استُغلتْ من قبل السياسيين ورجال الدين استغلالا أضاع شخصيتهم وهويتهم. لكن الجماهير وبحسها الشعبي عرفت اللعبة الكبرى التي وظفت من أجلها دون أن تحصل على ما يوازي تضحياتها،وعرفت أن القيادات الدينية والسياسية تفتعل الأزمات لتبقي عامة الناس في غيبوبة من مصالحها كي تتبعها. إن الجماهير وبحسها الفطري والعملي تتمرد على منظميها ودعاتها، لتؤلف خطابها السياسي والمهني المعبر عن مصالحها وأهدافها، وهو الخطاب الذي يحوّل هذه الجموع المغيبة إلى جموع بناءة وحقيقية،عندئذ تضع مصلحة أوطانها فوق مصالحها الشخصية، وتتفهم أن لعبة الدين أو العشيرة ليست إلا لعبة مؤقتة.
سيجد المغيبون والهامشيون والثانويون في المجتمع العراقي، وهم الأغلبية التي نراها ونسمع صوتها، طريقهم النضالي للتعبيرعن حقوقهم في المواطنة والمشاركة الفاعلة في بناء مؤسسات المجتمع المدني.فلن يكونوا في الغد تابعين او خانعين اومطيعين لمجموعات تثرى بشراء الأرض والنفوس،لتقودهم لمصالحها الذاتية وأهدافها الضيقة. سيكون للثانويين العراقيين الذين نراهم يخرجون في جموع في مواكب مسيّرة وحشود دينية وسياسية، دور كبيرعندما يعون أنهم مسيّرون وغير مخيرين من قبل رجال الدين والسياسة، وإن إرادتهم المغيبة والمجيّرة لمن يفترض أن يكونوا عونا لهم ستجد طريقها للتحرر. أن مفهوم المرجع الديني هو اسمى من ان يجعل التابع له أعمى فكرياً، أو مغمض العينين، فلا يرى إلا مايراه غيره، او مطيعا دون علم أو دراية بأمورالدنيا ومشكلاتها، أوتابعا دون ان يعرف الطريق نحو العدالة والحقوق والواجبات.لكن من يستغلون اسم المراجع هم الذين يعمون بصيرة الجموع وهم الذين يستغلون عاطفتهم الشعبية في العبادة والتضحية. فالدين هوالهداية، وهو الإرشاد، وهوالنصح، وهو البحث عن عمل، وهو الإنشغال بأمورالأسرة والمجتمع،وهو البناء، وهوالخير كل الخيروهوالموقف في الحفاظ على روح الدين. والمرجع هو صوت الله على الارض،في هداية الناس، وإرشادهم إلى الحرية،والعمل، والتكافل الاجتماعي، والمساواة، والعدالة، والحب، والنظافة، والمواطنة، ونبذ العنف .هكذا قرأنا ديننا الحنيف ونؤمن به إلى حد أن نكون حماة له لا أداة تهديم لمبادئه. وعلى العراقيين ان يعوا جيدا أن مظاهر المواكب التي نراها ونعيش حالاتها، السلبية والإيجابية قد وظفت لتصبح جزءامن العنف السياسي الذي تعتمده أحزاب الإسلام السياسي كلها، سنيها وشيعيها. والضحية هو الشعب العراقي بكامل فئاته وطبقاته وقومياته.
2
الموكب / الاحتجاج

نعيش حاليا مرحلة ظاهرة المواكب الدينية،التي احتوت في داخلها كل مظاهر الاحتجاج الأخرى المطلبية والسياسية والدينية، وهي مرحلة تبدو للعيان انها مليئة بالحرية، لكنها تستبطن العنف وتلوّح به، بل وتصبح جاهزة لتلبية أي نداء ديني أو سياسي . فالمنع الذي جوبهت به المواكب الدينية طوال فترة حكم حزب البعث،هونفسه المنع الذي مورس ضد المظاهرات السياسية لأحزاب سياسية غير دينية.وهو المنع نفسه الذي تمارسه الجماعات التكفيرية والإرهابية المسلحة ضد المواكب الشيعية، والضحية دائما هم فقراء العراق. حتى لتبدو المسألة ليست بتوجيه العنف ضد الناس، بل ضد ظاهرة الموكب نفسه. هذه الظاهرة التي بدت الآن قوة في الشارع، وعلى منظمي المواكب أن يعوا أنهم ليسوا قادرين على حماية الناس عندما يتعرضون لعنف الآخر الرافض لمبدأ الموكب نفسه لذا ومن قبيل الفهم للظروف يجب أن تتحول هذه المواكب من التضحيات المجانية إلى مواكب شعبية مطالبة بحقوها المدنية والإنسانية. إن فالحكومات السابقة كانت ترى في ظاهرة اي موكب ديني أو سياسي جزء من الموقف المعادي لها، فتقمعه بشتى الوسائل،ومن بينها تأسيس خطاب مغلف بالدين مضاد لها ولتوجهاتها،وهو ما حدث على مدى ثلاثين سنة عندما أصبحت السلطة كل السلطة من جذور دينية معينة. وقد أدى هذا الخطاب الأحادي إلى تشريع السجن والقتل والأعدام، وجعله مقبولا، وهو ما قد حدث بحق الرموز الدينية والإسلامية في العراق فاعدم الكثير منهم. لذا فنحن نعيش الأن مرحلة العنف المضاد متمظهرا بالمواكب الدينية وبمن يقمع المواكب الدينية على حد سواء، والتي لم يكن العنف يوما من سياقها وهويتها. والمعادلة تبدو الآن مقلوبة، فالعنف الذي مارسه النظام السابق ضد المواكب الدينية، يتحول في المرحلة الحالية إلى مظهر في المواكب الدينية نفسها، ولكن ليس ضد احد، بل ضد توجهاتها الوطنية والثقافية التي كانت المحرك الأساس في تلك المواكب التي قمعت. ما الذي جعل الموكب الديني العظيم لأن يتحول من مقموع إلى قامع؟وما الذي أعطى الحق للناس البسطاء الذين خرجوا في الموكب الدينية كجز من تأدية الشعائر أن يكونوا حكما على قطاعات أخرى؟ وما الذي أعطى الحق لقوى أخرى أن تقمع الموكب من أن يمارس شعائرة الدينية، بالرغم من أن المشاركين في هذه المواكب ليسو مسلحين، ولا هم من فئة عمرية واحدة، ولا هم من مدينة أو نوعيةعمل معينة، ولا هم من نزلاء السجون ولا عرف عنهم أنهم كانوا ضد توجهات الشعب، ولا ممن يمتهنون العنف طريقة للعيش، بل أن جلهم من بسطاء الناس وممن تعودوا أن يلجأوا للأئمة الأطهار في دفع ملمة أو لقضاء حاجة أو لرد معصية. أنهم اولئك الذي يملأوون الشوارع الفرعية بدكاكينهم وبسطياتهم الصغيرة، وهم يواجهون الناس باصواتهم ونداءاتهم للشراء كي يسدون رمق أسرهم،وهم أيضا ممن كانوا جنودا حطبا في حروب لا معنى لها، أوموظفين صغارا وكسبة وأصحاب مهن صغيرة. أنهم مجموعات مختلف من مكونات الشعب العراقي جاءوا ليعبروا عن مشاعرهم في هذه المناسبة الدينية أو تلك بطريقة تليق بمقام المحتفى به وتجعلهم مطمئنين إلى انهم منسجمون روحيا ومبادئهم الدينية.أسوة ببقيةالشعوب التي تمارس هذه الفعاليات بطريقة تزيد من استقرارها الروحي، وتقلل من مظاهر العنف في بنيتها الاجتماعية والوظيفية، لا بل أنها لدى بعض الشعوب ومن بينها الشعب العراقي طريقة لزيادة الإنتاج في المحاصيل، وتأصيل النخوة الجماعية، وزيادة اللحمة بين الناس، وطريقة لتقارب وجهات النظر. كلنا يتذكر الهوسات والعراضات والعونات التي تعملها قطاعات كبيرة من الفلاحين في مواسم الحصاد والزرع والفيضان ومواجهة الكوارث والأعداء والغرباء. الموكب الديني جزء من بنية الألفة بين الناس. فمصاب آل البيت كان يوحد المختلفين ويصفي القلوب وتتزاور المجموعات ويزيد من لحمة الدين. الموكب أو الكرنفال الديني طاقة تعبيرية لزيادة الإنتاج لا لتعطيل الأعمال.. أن ممارسة الكرنفالات الدينية تجعل الإنسان المؤمن بها مستقراً، روحيا وعاطفيا، ويفسر بالتالي كل ما يتصل بحياته نتيجة لمشاركته في هذه المناسبة أو تلك،لا بل ويجعل منها يوما تاريخيا يؤرخ به ما سبقه ومالحقه، وينذر له النذور، ويهدي الهديا، ويكفر عن سيئاته وأخطائه، ويروية كحكاية هو صانعها. انها ايام للغفران وللتوبة وللعمل الصالح. ونحن كعراقيين بحاجة ماسة لأن نبني روح إنساننا العراقي بطريقة جديدة بعد أن غيبت مشاعره وشعائره، فلا نمنع عنه ممارسة الطقوس ولا الشعائر، ولا نضع له قوانين معينة، ولا خطوط يجب أن يسير عليها أو لا يسير، وهو ما كان يرتكبه النظام السابق من أخطاء قاتلة بحق إرادة الناس وحقوقهم، ولكن ما يحدث الآن في العراق يزيد الفرقة ويؤجج العنف والتفرقة وتفصح مواجهات الموكب الدموية من قبل قوى أخرى غير مؤمنة بالموكب عن خلل ما في تركيبة الموكب وأهدافه من جهة، وقصدية أولئك التكفيرين بمنع مثل هذه المظاهر الدينية من جهة أخرى،والمحصلة هو الناس كما اسلفنا. لذا ومن قبيل العمل الوطني،أن يجري توجيه المواكب توجيها وطنيا لا فئويا ولا تلبية لنداء عجول من رجل دين صغير.
أن جزء من بناء الحداثة في أي مجتمع، هو ان نطلق روح الحرية والمبادرة، وان نحميها قانونا وفعلا، وان نسمح لها، وان نوافق على نتائجها إذا كانت تخص فئات واسعة من الناس. ولكن عليها أن تكون مظاهر شعبية خالصة لله، فيها طاقة لبناء الروح بطريقة تتوافق ومسار الحداثة في المجتمع، لا أن تصبح طريقة لتعويق العمل، وتعطيل الناس، وبث التفرقة، وجعلها شعارا يوظفه لصالحه هذا الحزب الإسلامي أو ذاك،أو شعارا تتبناه جهات تكفيرية مجرمة. أو أسلوبا لتخويف نظرائه في الدولة كوسيلة ضغط عليهم كي يقبلوا بما يريده. وما الألعاب الرياضية الاولمبية إلا أحدى المظاهر الاجتماعية العامة للإنسانية كلها، ولما اصبحت كرنفالا عالميا تبنته كل الشعوب على اختلاف أديانها وقومياتها ومعتقداتها لما فيها من شد أواصر الناس والبحث عن الجمال في الفن والعمل.
إذن ما الذي يجعل مثل هذه المواكب الدينية في العراق تبدو عنيفة؟ ثمة خرق في مفهوم الموكب الديني نفسه، بحيث أصبح ظاهرة تعبر عن موقف سياسي آني سرعان ما يتغير فتتغير أهداف الموكب وساحات تواجده والشعارات التي ينطق بها؟ هل يكمن العنف في المظهر الذي عليه الموكب وهو يسيّر هذه الجموع الهادرة اللاطمة وبيدها أدوات لتعذيب ذاتها؟ أم هو في الكتلة البشرية التي تجسد قوة ضاغطة بصريا وصوتيا؟ أم هو التعبير العجول عن موقف الأحزاب السياسية التي تسير هذه الجموع بعد أن تضع على السنتها شعارات سرعان ما تتغير، وترديدات سرعات ما تنحرف عن أهدافها؟ أم هو مبدأ العنف الذي يكمن في اللباس الأسود والرايات السود والخضر والاكفان البيض بحيث نجد الطفل مع الشيخ، المرأة الكبيرة مع الشاب وهم يتحلقون في موكب لا يردد شعارات وطنية بقدرما يردد ما لقن به؟. الموكب كشكل بحد ذاته ليس عنفا، أنه كرنفال للناس جاءوا ليعبروا به عن مشاعرهم، لكنه يحمل العنف عندما يخرق الأمر الذي تكون من أجله.

3
طرائق العنف المبطنة

لنقرأ الصورة كاملة؛ كانت طرائق العنف التي مارسها النظام ضد المواكب الدينية سابقا جزء من فلسفة النظام القمعية، وهو شكل يدل وبوضوح على أن النظام يخشى تجمع الناس فكيف إذا كان التجمع ناطقا بشعارات لا تنسجم وفكره؟ النظام السابق ولما لم يستطع أن يواجه المواكب الدينية بعد تحولها إلى مواقف سياسية، بمواكب دينية مضادة، استخدم القوة النظامية لقمعها: الشرطة والمخابرات والحرس الجمهوري وأجهزة أخرى بما فيها أبناء من الجهة المقموعة نفسها عندما وظفهم ضد ابناء جلدتهم. وهو خرق لمفهوم المواطنة ولكن هذا الخرق يتلاءم وسياق نظام فاشي لا يعطي الحرية لغير منتسبيه. أما طريقة العنف التي تمارسها المواكب الدينية الآن ضد الناس، فهي الأخرى لاتقل تعبيرا عن فلسفة النظام القديم وإن كانت بأسلوب آخر، فباسم حرية التجمع وشيوع ظاهرة العنف والتخريب لجأت هذه المواكب إلى الرد السياسي على الأوضاع بطريقة التحشيد الجماهيري تحت لافتة الموكب الديني الذي كان لا يظهر إلا في المناسبات المعينة، بل أصبح اليوم جاهزا تحت أمرة هذا الزعيم الديني أو ذاك لمجرد أنه يرغب لأن يظهر قوته في الشارع، أو أن يبلغ رسالة ما لخصمه السياسي، أو لجعل مناسبة وفاة ولي أو أمام طريقة لاظهار قوة الأكثرية. أما طرق العنف التي تمارسها المواكب الآن ضد الناس فهي مختلفة،لا بل أنها توحي بعنف مبطن قلما نجده ظاهرا فيها قبل الآن.فقد جرى استغلالها سياسيا،بعد أن كانت تعبيراعن موقف أيماني خالص.ثم جرى التحشيد لها أعلاميا،لا بل خصصت بعض الفضائيات المحلية حملات إعلامية لمثل هذه المظاهر العنيفة، بعد إن كانت تمارس كجزء من بناء الروح. ثم حولت إلى مظاهر القوة المضمرة في الاحزاب السياسية نفسها عندما جيرت الفعل المضاد للسلطة السابقة لها وحدها.ثم تحولت هذه الجماهير إلى عطالة مفرغة من أهدافها الإنسانية عندما تتجمع في المواكب ولا تذهب للعمل، ثم وهذا شيء مهم أنها حولت عطالتها وفقرها إلى صوت مؤجر لاحزاب الإسلام السياسي وحدها بحجة أنها مرجعياتهم الدينية وقيمهم ووجودهم مستهدفا، في حين أن الاحزاب السياسية تغض النظر عن مصالح الجماهير الفعلية وحاجاتها، باعتبارها هي التي تقود المجتمع، وهي التي يمكنها أن تحل مشكلات العطالة والامن والوظائف والكهرباء والعمل والآمان والصحة والخدمات، والاخطر هو تحويل أجزاء منها إلى مليشيات لا تسهم في توفير الأمن، بل في زيادة الاضطراب والتوتر لدى جميع المواطنين.ما الذي جعل شخصا بائسا سياسيا أن يصرح ويقول في قناة الجزيرة عن علماء المرجعية الشيعية بانهم حاخامات شيعية!! يدينون لأيران بالولاء فيكون تصريحه البائس حجة لاحزاب الإسلام السياسي لأن يتظاهروا بالآلاف ويفشلوا عملية انتخاب دستورية، لولا ذلك التوظيف السياسي لمقابلة يمكنها أن تمر بدون ضجة؟ لاسيما وان الشخص نفسه قد صرح بأسوأ منه للقناة نفسها قبل اشهر ولم يتحرك الاسلام السياسي بإدانته أو الاعتراض عليه؟. ان الشعائر غير الدينية التي يحملها الموكب الديني كمظهر احتجاجي غير مدروس.هو أحد اساب وجود العنف وإن توظيف المواكب وظاهرة الاحتفال سياسيا هو الذي يجعل مفهوم الموكب يأخذ منحى آخر، بل ويجعله مظهرا من مظاهر العنف الجديدة،لا يتوجه هذه المرة ضد مخلفات النظام السابق كما يجب أن يكون، بل ضد من يشتركون بالموكب نفسه عندما يعطلون عن مطالبتهم بحقوقهم.كما حدث في حادثة جسر الأئمة الأليمة. إن وراء تحشيد الناس لغايات سياسية من خارج سياقاتها النظامية والدينية والبرلمانية، تستبطن العنف وتعلنه وتهدد به.

4
سايكولوجية المواكب

تبدو ظاهرة المواكب والاحتفالات والمظاهرات في المجتمع العراقي جزء من سايكولوجية مترسخة في اللاوعي الجمعي للعراقيين، وهم كأي شعب حي لابد من التعبيرعن الحياتي بصيغ مختلفة مهما كان انتماء ومبادئ الذين يشرفون أو يؤسسون لها. الموكب مهما كان هو احتجاج وهو مطلب جماهيري،ويجري الاستعداد له وفق بيان يؤسس للفعالية طريقة لتوصيل خطاب ما لجهة معينة. فهو رسالة جماهيرية معلنة الهيكل والتشكيل، لقد رسخت الحركات الثورية في وعي الناس مثل هذه الممارسة التقدمية و جعلتها جزء من مشروع حضاري تحديثي يتوافق مع حقوق الإنسان في العمل والحرية والتعبيير.ولذا فهي متحولة من الأحتجاج العشوائي إلى الاحتجاج المنظم الخاضع لعملية تنظيمية تشرف عليها قيادات مسئولة عن تصرف الجماهير العشوائي فتلزمها بشعارات وأهداف وتحدد لها مسارات الطرق والشعارات وعدد اللافتات ومركزية الهتاف ومن يهتف ومن يسند، وثمة قوة ثانوية تحمي المظاهرة من أي اعتداء أو من أي خلل ينشأ في داخلها.ولم يقف شكل التظاهر على المطلبيات بل أنه شكل حضاري حديث استثمر في مناسبات وفعاليات كثيرة وقدم باشكال جديدة. المهمة الاساس له هو جعل الناس جميعها مشاركين فيه كل حسب ما يرتأيه. كأن يكون المشاركة لعبة لكرة القدم، أومظاهرة تطالب بحقوق أو موكبا لعزاء ديني، أو تجمعا تلبية لنداء يوجهه زعيم سياسي للتعبير عن موقف ما، أو تجمعا لأناس كي يركبوا باصا ينقلهم لمكان آخر، اوتجمعا لعمال بانتظار اصحاب العمل...الخ. لذا فظاهرة المواكب الدينية التي تتحول إلى تظاهرة سياسية ليست جديدة، بل هي جزء من تاريخ النضال السياسي العراقي. كلنا قرأ عن مظاهرات ثورة النجف عام 1918 وثورة العشرين عام 1920 وما سبق ثورة تموز عام 1958فكانت التظاهرة صوتا للشعب،بلغة سياسية مفهومة، وبطريقة معلنة الأهداف والمقاصد.ولكنها لم تكن يوما ضد القائمين بها،ولم تكن يوما معطلة لإرادة المشاركين لتصرفهم عن مطالبهم، وقد تكون بالمقابل ضد من أنتخبوهم عندما لا يجدون حلولا لمشكلاتهم الفعلية في برامجهم التي وعدوا الناخبين بها. فالإسلام السياسي الذي قُمع لفترات طويلة في العراق، اصبح من حقه ان يمارس طقوسه وعاداته بالطريقة التي يرى انها معبرة عن مشاعره ومواقفه وحاجاته، وهو أسلوب يلتقي مع الكثير من مظاهرالاحتجاج والمعارضة في المجتمعات الديمقراطية. لكن ما يحدث الآن في ظاهرة المواكب الدينية شيء اخطر من التعبير عن المشاعر والمطالب، وعلى المعنيين من القادة أن يتفهموا الظروف التي يمكنها أن تؤدي إلى مواقف مغايرة لمفهوم الموكب الديني ، هو أن يتحول من التعبير عن مشاعر المسلم تجاه ما يعتقده ويؤمن به ، إلى التحكم بالشارع والتهديد بالقوة. وهو موقف لايرتبط بتلك المشاعرالإنسانية العظيمة التي جعلت حادثة كربلاء ليست حكرا على المسلمين الشيعة وحدهم، بل هي احدى رموز النضال الإنساني عبر التاريخ.. المشكل ليس في الذين يعبرون عن مشاعرهم وهم عامة الناس، بل هو في الجهة التي تسيس الجموع لأغراض غير دينية.




4
الموكب والمدينة

على الجانب الآخر يشكل الموكب كتلة بصرية هائلة،فالتحشيد يؤلف مظهرا للقوة مهما كان شكله أو غاياته. فمن حيث المظهر الخارجي للموكب نرى ثمة كتلة صخرية صلبة ذات ثقل بصري مؤثر تباشر تأثيرها على الناس بفعل معلن، هو أنها تريد أن تحقق شيئا خاصا بها. وهذه الكتلة تنطلق من مكان محدد لتصل إلى مكان محددة آخر، وثمة تكوين بصري يوحي بالقوة حتى لو كان التجمع سلميا. ثمة شيء ما منقول من الطبيعة الجبلية للمدينة، هذا ما تحاول كتل الناس تكوينه بصريا.فالمدينة تمنح الموكب قوة مضافة لذا هي افضل مكان له بوصفها نتاجا متقدما للسلطة وممثلتها على كل العصور. الناس المتجمهرة والمتجهة لمكان ما والرافعة للافتات الكبيرة والمصحوبة بهتاف تتحول إلى كتلة الجليد التي تكبر بالدوران. فأي حشد هو تعبيرعن عنف ما، حتى لو لم يصحب الحشد عنفا.
شخصيا أجد تمثال الحرية في ساحة التحرير مثلا، وهو النصب الممتلئ بالحرية والفن والجمال، تعبيرا لمظاهرعنف التراث الاتي إلينا من العصور القديمة، ولكنه عنف الفن والجمال والوطنية، وحضوره في المدينة العاصمة بغداد، يكسب التاريخ المعاصر قوة التاريخ القديم. فليس كل عنف مرفوض خاصة إذا كان يجسد حدثا عظيماويؤدي إلى أغراض إنسانية. يقول نصب الحرية لنا، وبحس جمالي فريد، وببنية ثقافية صخرية، وبصوت بصري عال أن : تاريخنا كان قويا، يستوجب أن يكون حاضرنا كذلك. ومن هنا كان قيام ثورة 14 تموز عام 1958 له ما يبرره تاريخيا. كنت أتمنى أن يكون لأبي الشهداء الحسين " ع " تمثال يجسد عنفوان الثورة والمبدأ والشهادة، وينصب في الساحات لما يعبر عن المبادئ الإنسانية الكبيرة التي حملتها ثورته ضد الظلم والاستبداد. فحادثة الطف في كربلاء مثلا واحدة من أحداث التاريخ التي يجب أن تكون حاضرة في وجدان وضمائر الناس، ولكن بطريقة تنسجم وروح الحداثة وطبيعية المدينة وقدرة الناس على توظيف الجميل والإنساني من أجل تقدمها ورفعتها. ولكن التصوير كما هو معروف محرم عندنا نحن المسلمين، وهوتفسير قاصر لما ورد في القرآن لمعنى الفن، الأمر الذي يشكل ضياعا حقيقا للشاهد الحي في وجدان الناس. فلو كان التمثال موجودا ويشبع رؤية الناس بمرآه وقوته لخف العنف، قليلا ولتمثل الناس بصريا بالقوة الكامنة فيه ،وليس بالقوة التي تظهرها الخطبة وقصائد الشعراء المتعجلة.هذه التظاهرة التي تصافحنا يوميا تؤلف سياقا ثقافيا لتأكيد مبدأ القوة في التراث، ومن يستقرئ كل نصب التراث العراقي الحضارية يجد ان قيمة النصب هي في القوة والعنف الباديين عليها. لعل ما قدمه حمورابي في بنود قانونه يصبح عاديا إن هو دون على حجر يتلف بعد حين. لقد كسب قوته من الحجر الصخري المدون عليه ليصبح الحجر نفسه قوة مضافة لبنود القانون ودلالة على أن القانون هو التنظيم. كما أن كل تماثيل فن النحت السوفيتي المنصوب في الساحات والمعبر عنه بنصب " تل ممايف وبتمثال الأم الوطن تنادي" يؤكد على القوة والمتانة والضخامة على حساب الجمال، في حين تحولت قوة حضارة اليونان في بناء المسارح والقلاع وأماكن الأعياد.وهي أمكنة توحي متانتها بالعنف الحضاري المنظم. فالمنفعة البصرية تضفي نوعا من القوة على التماثيل، هذا ما لجأ إليه مصممو تماثيل صدام حسين في الساحات حينما وضعوا في اعتبارهم القوة المظهرية معيارا جمالياً للقوة والعنف.في حين أن عنف هذا الرجل كان أكبر من أن يعبر عنه بتمثال يمتلك اي فنية جمالية يمكن أن تعبر الزمن المعاصر للمستقبل. فالحضارات لا تبنى بالسلم وحده، مهما كانت طبيعتها وأهدافها، بل تحتاج أحيانا إلى ترجمة فنية لقوة مبادئها.وما القوة والعنف اللتان نراهما في حضارة القرن العشرين الصناعية والامبريالية إلا مظهرا مكملا لها،ولكنه عنف بناء. لعل تغيير النظام في العراق وإشاعة الديمقراطية ومكافحة الإرهاب يشكل جزء من قوة الحضارة، وليس من حضارة القوة.فالمدينة تضفي على أفعالها قوتها الدينية باعتبار أن المدينة لغويا من جذرالدين، حتى لو كانت هذه الكتلة تعبيرا عن قصيدة غزل.
ثمة قوى أخرى تعتمدها المواكب الدينية، إضافة إلى قوة المدينة والشارع،وهي الشعار الذي يرفع، واعنف الشعارات هو ذلك الذي لم يعلن للناس.فالشارع العام والكبير الذي يمثل عصب المدينة يضفي على شكل الموكب قوة مكانية قادرة على توسيع الرؤية البصرية، خاصة إذا كان الشارع مهما مثل شارع الرشيد في بغداد. وهو المكان الأكثر حضورا في كل التظاهرات التي مرت في تاريخ العراق. لكن الشارع سيكون فارغا من معناه إلا تعدد الشعارات وتغيرت ونودي باكثر من واحد منها وهذا يعني أن الشارع إذ يضفي على الموكب قوة وحضورا يفسد الموكب إن انحرف عن أهدافه المعلنة ويصبح ضده بل والقوة المادية لقمعه. وهو ما يعطي مبررا للقوى المضادة أن تقمع اي موكب غير معلن الأهداف. فالمدينة تمنح هويتها المكانية والتعبيرية لكل الأفعال الواضحة بوصفها قادرة على اسباغ قواها الإقتصادية والبشرية والسياسية على الموكب وتوظفها جماليا.
على الجانب الآخر،لامعنى لأي مظاهرة تحدث في الريف أو القرية، فسيكون فعلها محدودا وهويتها قاصرة عن تبليغ رسالتها. ولا معنى لموكب او مظاهرة تكون مطاليبه مختصة بجزئية صغيرة كأن تطالب باستقالة قائمقام أو مدير ناحية أو حتى محافظ لمدينة ثانوية من مدن العراق. فالقرية أو القائمقامية لا تمنح المتظاهرين القوة الكافية، فهي جزء صغير من بنية الدولة وما يحدث فيها يتبع قوة منطقتها لا موقعها، فالقوة تبحث دائما عن مكان تعبر فيه عن وجودها ودلالتها، لتجد في التعبيرالمكاني صيغة لاستيعاب فعلها.عنف الريف هو تصريف للمشكلات الفردية الذي يتحول لاحقا إلى بنية العشيرة والعشيرة ضمن تركيبة البنية الاجتماعية فرد ايضاً. كلما كانت الاحتجاجات في مراكز القوة أي في شارع المدينة الرئيسي، اعطت نتائج إيجابية، حتى لو كانت قليلة العدد. لذا يختار المتظاهرون الساحة المواجهة للبيت الأبيض في واشنطن، وساحة الكرملين في موسكو، وساحة النصر في برلين، وشارع الرشيد في بغداد، وميدان التحرير في القاهرة، وشارع الحمراء والسراي في لبنان، وجامع الحسين في عمان، والبيت الحرام في السعودية.وكل مكان يواجه أن يحيط بمركز الحكم في المدن الصغرى.
كانت بغداد قبلة المتظاهرين طوال عقود امتدت من 1918 إلى بداية السبعينات، وكان شارع الرشيد عين هذه المدينة وصوتها فالمظاهرة التي تحدث في شارع الرشيد تكتسب معنى القوة والتحدي بوصفه المكان البؤرة والمحرك للدولة العراقية. لذا كان القمع للمظاهرات يحدث فيه أيضا وقد دلت لنا المشاهدات على أن شارع الرشيد يمتلك أمكنة مهمة،لها دالالة مضافة على الموكب واهدافه - حتى أن أغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم تم في شارع الرشيد وهو المكان الذي أكسب عملية الاغتيال قوة مادية ومعنوية جعلت مجرما كصدام حسين يفتخر باغتيال عبد الكريم قاسم بينما يتبرأ من قتل الألاف من العراقيين في حلبجة والانفال والاهوار والدجيل وهو موضوع سنعود إليه لاحقا-.. يبدأ الموكب من الباب المعظم أو من جامع الحيدرخانة ليسير باتجاه الشرق مارا بكل منعطفات شارع الرشيد وصولا إلى ساحة التحرير التي ستكون الفسحة التي تتسرب منها الناس إلى بيوتها. تتغذى مواكب المظاهرات بالفروع التي تتحول إلى مصبات في نهر الشارع، ثم لما تصل المظاهرة لرأس القرية تضرب وتبدأ الصدامات، والقليل منها يصل لساحة التحرير، بانتظارأن تلقى الخطب، وساحة التحرير ظاهرة مكانية عالية الحضور عندما تكون الخطبة في ساحة دائرية وكبيرة وذات فضاء واسع ويمكن أن يرى الخطيب فيها من كل الجهات فظهره وجهه، ووجهه قفاه.عندئذ تكون المظاهرة قد حققت أهدافها المعلنة والمضمرة. ولما تبدل موقع القرار بعد 9 نيسان 2003، تغيرت وجهة المتظاهرين من شارع الرشيد إلى ساحة الفردوس وكأنها تستبدل تاريخ ساحة التحرير التي كانت نهاية المظاهرات وقمة الصوت وشعبيته إلى ساحة شهدت سقوط تمثال الطاغية. فعمر السقوط لا ينشيء مكانا أثريا بل ينشء مدونة. لعل النصب الجميل والمعبر الذي اقامه الفنانون بعجالة بمكان سقوط الطاغية لم يمنح ساحة الفردوس قوة كما لم تمنحه الساحة قوة ايضا، كما منحت مواكب المتظاهرين عبر الزمن العراقي شارع الرشيد وساحة التحرير.ومنح شارع الرشيد وساحة التحرير قوة لتلك التظاهرات.



#ياسين_النصير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإسلام السياسي وعنف المقال
- فشل أحزاب الإسلام السياسي في العراق؟
- المقال الثاني : العنف وتخطيط المدن
- العنف وتحطيط المدن
- الطائفية مصطلح بغيض
- مرايا المقهى
- الثقافة والمرحلة العراقية
- الصين وافق الحداثة في العراق
- سوق هرج
- الرؤى السردية
- كتاب شعرية الماء
- حوار مع الدكتور كاظم الحبيب
- عن المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي العراقي
- مكونات الطبقة الوسطى العراق نموذجاً
- قراءة في رواية الضالان
- أدباء عراقيون - الشاعر سعدي يوسف
- أدباء عراقيون -ابو كاطع: شمران الياسري
- أدباء عراقيون- غائب طعمة فرمان


المزيد.....




- المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرة اعتقال نتنياهو بارقة ...
- ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم ...
- عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
- المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي ...
- المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي ...
- المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي ...
- ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات ...
- الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ ...
- بن كيران: دور الإسلاميين ليس طلب السلطة وطوفان الأقصى هدية م ...
- مواقفه من الإسلام تثير الجدل.. من هو مسؤول مكافحة الإرهاب بإ ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ياسين النصير - الاسلام السياسي وعنف المواكب