أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - نزار حمود - الأوهام القاتلة ! الوهم الثاني : الخلافة الإسلامية















المزيد.....


الأوهام القاتلة ! الوهم الثاني : الخلافة الإسلامية


نزار حمود
أستاذ جامعي وكاتب

(Nezar Hammoud)


الحوار المتمدن-العدد: 7117 - 2021 / 12 / 25 - 22:48
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


الأوهام القاتلة
الوهم الثاني : الخلافة الإسلامية *

للوهم تعاريف مختلفة ومتنوعة .بعضها يحمل أبعاداً فلسفية وبعضها الآخر يميل للتوصيف العلمي الفيزيولوجي الحسي. ويبدو صحيحاً تماماً بالنسبة لي أن نقول إن الوهم هو الحكم المغلوط أو المشوه على شيء ما أو حالة معينة. ويمكن أيضاً القول إنه التصديق والإيمان بمظهر مخادع غير واقعي وغير معبر عن حقيقة الأشياء. كما يقدم قاموس اللغة الفرنسية المعروف لاروس تعريفاً بسيطاً آخر يبدو مطابقاً للمعنى الذي سيجري عنه الحديث في هذه المقالة. فالوهم وفقاً للتعريف اللاروسي هذا هو وببساطة عبارة عن رأي أو حكمٍ متناسبٍ مع ما يرغب به المرء ويشتهيه لكنه غير مطابق للواقع والحقيقة.
طبعاً وفقاً لهذه التعاريف يبدو واضحاً أن الوهم قد يكون بسيطاً ساذجاً غير ذي نتائج خطيرة مؤذية للنفس أو للغير كما أنه وبنفس الوقت قد يكون خطيراً ومدمراً للغاية. والأمثلة على ذلك كثيرة أدع لقارئ هذه السطور أن يقدح زناد خياله ليجدها حوله في كل مكان وزمان فهي موجودة بالفعل حوله في كل زمان ومكان.
الوهم الذي أرغب بالحديث عنه هنا هو الوهم الجمعي أو المجتمعي. الوهم أو الأفكار الخاطئة البعيدة للغاية عن الواقع والمنطق السليم القويم ونتائج تجارب البشر، التي تحولت بسبب القراءات المغلوطة والمقصودة للتاريخ إلى شعارات كبيرة وأهداف لامعة جرت على الاطمئنان لها والإيمان بها أجيالٌ من شعوبنا المغلوبة على أمرها والمغيبة عن اتخاذ قراراتها المصيرية بنفسها مع ما تبع ذلك من دمار وضياع وهدر دماء! عند هذا الحد تتحول الأوهام شكلاً وتتحد مع اللغة لتغدو جملاً قاتلة. ولا أعتقد أن أحداً منا قادرٌ على الاستهانة بقدرة الكلمة على الفعل والتأثير على مصائر الشعوب والأمم. ألم يقل الله في كتابه الكريم "كُـنْ" فكان له الأمر كما يبغي ويشتهي. أو لم يرد في الكتاب المقدس أن "في الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ". من منا يستطيع أن ينكر فعل الكلمة والفكرة في الفعل والتغيير وصناعة التاريخ والمستقبل. إن الأحرف والكلمات والشعارات قادرة على القتل وصنع الموت كما هي قادرة على بعث الحياة في الأجساد والناس والمجتمعات.
لم تكن فكرة الخلافة الإسلامية لتشكل قلقاً معاصراً أو خطراً وجودياً حداثياً بالنسبة للعديد من الشعوب العربية وغير العربية لو كانت بقيت في بطون كتب التاريخ مستقطبةًاهتمام الباحثين الأكاديميين المختصين في علوم التاريخ والتاريخ الأركيولوجي وحسب. إلا أن هذه الفكرة الديناصورية خرجت وللأسف من بطون الكتب منذ بداية القرن العشرين، ربما مع ظهور ما بات يعرف اليوم بالإسلام السياسي، وأصبح لها اليوم والآن، أتباعٌ لهم أنيابٌ وأضراسٌ ونواجذٌ يحاولون من خلالها وبها فرض رؤاهم ومعتقداتهم الدنيوية والغيبية بالقوة على العالم الإسلامي وغير الإسلامي سواء بسواء. منشأ هذه الفكرة يتلخص في الإيمان الهاجسي الحصري بمقولة إن الإسلام "دين ودولة" وأن الحكم كان ويجب أن يكون قائماً على نظام "الخلافة الإسلامية" وأن العرب ما أصبحوا سادة العالم إلا عندما تسلحوا بالإيمان تحت راية الخلافة المؤمنة الرشيدة ثم أن لا بد للمسلمين إن أرادوا تسيد العالم مرة أخرى من العودة لهذه الخلافة والانضواء تحت رايتها المظفرة.
في الحقيقة ولسوء طالع كل من يؤمن بهذا الكلام، إن الواقع أكثر تعقيداً بما لا يقاس من هذه النظرة التسطيحية المزيفة لأحداث التاريخ. إن مقولة "الخلافة الإسلامية" بعيدة كل البعد عن الحقيقة. إن هي إلا وهمٌ قاتلٌ خطيرٌ سُكبت من أجله الدماء الغزيرة وتأخر بسببه نمو وتطور وتحضر العديد من الشعوب وبخاصة الشعوب العربية المسلمة. فالإسلام دينٌ كغيره من الأديان قائم على مبادئ وقيم أخلاقية عامة تؤكد على مكارم الأخلاق التي تشكل الأساس الجمعي العميق للسلم الأهلي في كل مجتمعات الأرض. كأن نقول في الإسلام مثلاً بضرورة العدل والرحمة ورعاية اليتيم وأن لا إكراه في الدين وأن لا تقتل ولا تسرق ولا تزني إلخ. أما الحكم وطريقة أو منظومة الحكم فهي أشياء أخرى مختلفة كلياً عن هذه المبادئ الأخلاقية الإنسانية الشمولية. كأن نقول أن مثلاً إن نظام الحكم هذا ملكي أو ملكي دستوري أو رئاسي أو رئاسي تشاركي أو جمهوري إلخ. هذا ويخطأ كثيرون عندما يقولون أن مفاهيم أو أنواع الحكم هذه هي مفاهيم عصرية فقط وأنه لم يكن هناك للحكم السياسي مدارسٌ وأنواعٌ وممارساتٌ في زمن نزول الوحي وولادة الإسلام. صحيح أن أنظمةَ الحكم في تلك الأيام كانت مختلفة عنها في أيامنا هذه لكنها كانت موجودة ومختلفة تبعاً للبيئات والمجتمعات التي احتضنتها. من منا يستطيع أن يقول إن الإمبراطورية الرومانية لم تكن تمتلك نظام حكم خاص بها لا بل وأن نظام الحكم فيها كان يتطور مع حيثيات تطورها وتوسعها وتجمع رأس المال والثروة فيها. من منا يستطيع أن ينفي وجود نظام حكم واضح المعالم لدى اليونان والفرس والمصريين والصينيين القدامى إلخ. يكفي أن نقرأ كتاب الجمهورية أو المدينة الفاضلة لأفلاطون كي نضع يدنا على تنوع وغنى الأفكار التي شكلت أسس ودساتير الحكم في الحضارات والدول القديمة.
إذاً فلنتفق أنه كان هناك مدارس وأنواع وطرق حكم وقت ظهور الإسلام. فما هو إذاً نظام الحكم الذي تركه لنا الإسلام أو طريقة الحكم "الإسلامية" التي ذُكرت في القرآن والسنة النبوية؟ الجواب وببساطة هو أنه لم يكن هناك أي إشارة أو توجيه مكتوب أو شفهي عن طريقة الحكم التي يجب أن يسير عليها المسلمون بعد وفاة النبي. لقد ورد في القرآن وفي سورة المائدة تحديداً أن "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإٍسلام دينا" فالدين هو الذي اكتمل ولم يذكر القرآن أي شيئ عن شكل الحكم السياسي التي يجب أن يتبعه المسلمون بعد عصر النبوة. ورد أيضاً في غير موضع آخر من القرآن آيات عن مبدأ "الشورى" اعتمدها أصحاب الإسلام السياسي والخلافة الإسلامية للتأكيد على أن هذا هو نظام الحكم في الإسلام متناسين أن حديث القرآن عن الشورى والمشورة ينطبق على كل مناحي الحياة الفردية والأسرية والمجتمعية وأنه ليس إلا مبدأ آخرٌ من مبادئ الأخلاق العامة التي تنطبق على كل زمان ومكان ولا علاقة لها بالدلالة على منظومة الحكم هذه أو تلك. فهل "أمرهم شورى فيما بينهم" تعني أن الحكم يجب أن يكون ملكياً كسروياً مطلقاً كالحكم في فارس أم جمهورياً إمبراطورياً كما هو الحال لدى الرومان أم جمهورياً ديمقراطياً نخبوياً كما هو الحال في أثينا؟ ما نوع وتفاصيل الحكم الذي أوصى به الإسلام ؟ لا أحد يعرف بالضبط ! تبقى الإجابات على هذا السؤال الهام للغاية لدى أهل الإسلام السياسي غامضة ومشوشة وتبريرية وتفسيرية ومتناقضة لسبب بسيط للغاية وهو أن الإسلام وكتاب الإسلام ورسول الإسلام لم يتركوا أي توجيه يخص طريقة ونوع الحكم الواجب اتباعه.
لكن وبعيداً نوعاً ما عن البحث عن الأساس النظري لأسلوب وطبيعة الحكم التي أوصى بها الإسلام أو بالأحرى لغياب أي أساس نظري لأسلوب الحكم الذي أوصى به الإسلام ، فلنمعن النظر قليلاً في المسلمين وأولي أمرهم ونوع الحكم الذي طبقوه بعد وفاة الرسول العربي محمد. ترى هل كان هذا الحكم يستند على مبادئ الإسلام الأخلاقية العامة واحترام حدود الله التي ذُكرت بوضوح في القرآن والتي سار عليها الرسول العربي؟ مهمٌ هنا أن نذكّر أن الأحداث التي سيتم ذكرها لاحقاً هي أحداثٌ مجمعٌ عليها في عشرات ومئات بل آلاف الكتب المرجعية الإسلامية المعتمدة في العالم الإسلامي بأسره.
تذكر أمهات الكتب ما حدث في سقيفة بني ساعدة والخلاف الكبير الذي وقع بين الأنصار أهل المدينة وعلى رأسهم سعد ابن عبادة والقرشيين المهاجرين وعلى رأسهم أبو بكر الصديق وعمر ابن الخطاب وأبو عبيدة ابن الجراح من جهة أخرى. هذا الخلاف السياسي الصرف المبكر على السلطة لم يكن له أية علاقة بالدين الإسلامي أو حتى بتطبيق تعاليم الإسلام الأخلاقية الشمولية من حيث تطبيق مبدأ الشورى و مبدأ المساواة بين المسلمين بغض النظر عن تبعيتهم القبلية ما قبل الإسلام. الذي حصل أن القرشيين المهاجرين فرضوا على الأنصار بقوة السيف إمارة أبي بكر الصديق إذ انقضوا على سعد ابن عبادة ومناصريه وذبحوا زعماء أهل المدينة الذين كانوا قد رفضوا مبدأ "منكم الوزراء ومنا الأمراء". يقال إنه كان هناك ثلاثة قتلى وفي رواية أخرى أكثر من سبعين قتيلاً. لا شك في ثبات وقوة إيمان كل من كان حاضراً في سقيفة بني ساعدة إلا أن طريقة وصول الخليفة الأول للسلطة تثبت وبوضوح أن الإسلام لم يقدم أي تدبر خاص أو آلية واضحة للخلافة بعد وفاة الرسول العربي وإلا لما كان قد وقع هذا الخلاف الدموي.
إذا تركنا جانباً فترة الخلفاء الراشدين الأوائل التي كانت عامرة بالأحداث الدموية ذات الطابع السياسي الواضح الدنيوي الهادف للاستيلاء على السلطة والثروة وافترضنا أن هؤلاء الخلفاء الأربعة كانوا قد حكموا الأمصار والشعوب التي سيطروا عليها بما يرضي روح الإسلام وجوهر تعاليم رسول الإسلام، لقد دامت هذه الفترة زمنياً مدة لا تزيد على الثلاثين عاماً. إذا تركنا هذه الفترة الزمنية ونظرنا إلى ما حصل بعدها مما بات يعرف بفترات "الخلافة الإسلامية" الأموية والعباسية والمملوكية والعثمانية لوجدنا أن ممارسات الحكام في ذلك الزمن كانت بعيدة كل البعد عن جوهر ومظهر الإسلام الذي نعرفه ولتبين لنا وبكل وضوح أن مصطلح الخلافة الإسلامية ما هو إلا وهمٌ آن لنا أن نتخلص منه نهائياً كي نزيل عن أعيننا هذه الغشاوة القاتلة.
بعد معركة صفين الرهيبة التي قتل بها وبسببها المئات من الصحابة وعلى رأسهم علي ابن طالب وعمار ابن ياسر، حصل معاوية ابن أبي سفيان على ما كان قد فعل المستحيل من أجله ألا وهو الوصول إلى مبايعته خليفة للمسلمين والجلوس على كرسي العرش في دمشق. ولقد حفلت فترة حكم معاوية بوضع الأسس لدولته وتوسيعها و بترجمة الدواوين من اليونانية والسريانية وسواها وإنشاء القصور والتمتع بمباهج الحياة والمطبخ الدمشقي السوري والفن والموسيقى والشعر. إلا أنه كان أول من أرسى مبدأ حق التوريث في الخلافة أي أن يرث ابنُ الخليفة عرشَ أبيه بالفرض والتغلب دون أي اعتبار لأخلاقيات ونواهي الإسلام. لقد قام معاوية بفرض البيعة لابنه يزيد من خلال الحادثة الشهيرة التي تصف ما حصل أثناء المشاورات حول من سيخلف أمير المؤمنين. إذ قام شاعرٌ أمويٌ مفوهٌ اسمه يزيد ابن المقفع بإيضاح ضرورة تسمية يزيد ابن معاوية أميراً للمؤمنين بعد موت أبيه حيث قال "أمير المؤمنين هذا وأشار إلى معاوية، فإن هلك فهذا، وأشار إلى يزيد، فمن أبى فهذا، وأشار إلى سيفه". أي أن تسمية أمير المؤمنين الثاني بعد معاوية كانت مجرد عملية "بلطجة" و"زعرنة" واضحة المعالم لا تمت لروح الإسلام ومبادئه الأخلاقية وعدله ورحمته بصلة. أمير المؤمنين يزيد، شاء من شاء وأبى من أبى. السيف والبطش كان فيصل الحكم. وبالتالي لا يصح أبداً، لا بل يصبح من باب الإهانة والإساءة للإسلام، أن نقول إن هذا الأمير أو إن هذا الخليفة كان خليفة إسلامياً. هو ملكٌ للمسلمين بالفعل لكنه لا يحكم ولن يحكم باسم دولة تسيرها مبادئ الإٍسلام الأخلاقية الإنسانية الشمولية أبداً.
يزيد ابن معاوية هذا واجه بعد ذلك معارضة شديدة من بعض من لم يقتنع بطريقة المبايعة هذه ولشربه الخمر وارتكابه الفواحش، وبالأخص من أهل المدينة المنورة الذين رفضوا بيعته وطردوا واليه عليها. فما كان منه إلا أن أرسل لهم جيشاً كبيراً على رأسه مسلم بن عقبة المري فدخل المدينة المنورة وأباحها ثلاثة أيام حصل فيها من القتل والاغتصاب والنهب الشيء الكثير بما عرف فيما بعد باسم موقعة الحرة. عند بلوغ خبر الانتصار العظيم هذا ليزيد ابن معاوية قال شعراً تقشعر له الأبدان ذكر فيه البيت التالي : ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل. أي أنه كان يتمنى لو أن أجداده "المشركين" الذين خسروا معركة بدر أمام الرسول كانوا قد عرفوا بانتقامه لهم من الخزرج. لا اعتقد أن هناك مسلماً واحداً في أيامنا هذه يقبل أن يقول إن هذه الأحداث ممكن أن تصدر عن دولة تحكم وفقاً لمبادئ وأخلاقيات الإسلام لكن هذا ما حصل بالفعل !
يصلي المسلمون اليوم ميممين وجوههم اتجاه الكعبة، بيت الله في مكة، لكنهم لا يعرفون أن بيت الله الأقدس هذا كان قد قصف بالمنجنيق والحجارة والنار وهُدم مرتين في التاريخ وفي المرتين كان القصف يتم على يد جنود "الخلافة الإسلامية" الوهمية المفترضة. الأولى كانت على يد جيش الحصين ابن نمير الكندي أثناء حصاره لعبد الله ابن الزبير ابن العوام وأسماء بنت أبي بكر، لرفضه بيعة يزيد ابن معاوية أما الثانية فكانت على يد الحجاج ابن يوسف الثقفي أيام حكم عبد الملك ابن مروان الذي أعاد قصف الكعبة وهدمها وأخذ رأس عبد الله ابن الزبير نفسه وقدمه كهدية لأمير المؤمنين في دمشق. الصراع طبعاً كان سياسياً بحتاً على السلطة والنفوذ والمال مرة أخرى ولا علاقة له بالإسلام والإيمان أبداً. لا أعتقد أن أحداً من المسلمين اليوم يقبل أن يقال إن هذه الأعمال يمكن أن تصدر عن دولة تحكم بأحكام الله وكتابه وأخلاقياته الشمولية. لا يمكن تخيل أن دولة يُطلق عليها اسم دولة أو خلافة المسلمين يمكن أن تقوم بهدم الكعبة لأسباب دنيوية سياسية بحتة. ولو صدر مثل هذا العمل عن جيشٍ غازٍ أجنبي لبقينا نلعنه في صلواتنا حتى اليوم!
إذا ابتعدنا عن يزيد ابن معاوية وعبد الملك ابن مروان ودخلنا في تفاصيل حياة خلفاء، والأصح أن نقول، ملوك الأمويين العامرة بالفواحش المنافية لأخلاقيات الإسلام لوجدنا الكثير مما لا يتفق أبداً مع تسمية هذه الدولة بدولة الخلافة الإسلامية. ربما كان من الأفضل للجميع تسميتها بالإمبراطورية العربية أو إمبراطورية الأمويين القريشيين لكن أن نسميها بالإسلامية ونكنيها بخلافة الإسلام فهذا يتنافى كلياً مع المنطق ويسيء أيما إساءة للإسلام نفسه أولاً وقبل كل شيء.
بعد الأمويين أتى العباسيون. فاتحة "الخلفاء" أو ملوك العباسيين كان أبي العباس السفاح ولقب السفاح هذا لم يأتي عن عبث بل كان له ما يبرره تماماً بل يقال إن أبو العباس هذا هو نفسه من أطلق على نفسه هذا اللقب. بعد الانتصار على الأمويين طارد العباسيون وعلى رأسهم أبو العباس السفاح فلولهم وقتلوا منهم ومن نسائهم وأطفالهم العدد الكثير. لا بل وقد بلغ الحقد بالعباسيين أن نبشوا قبور الملوك الأمويين وأحرقوا رفاتهم. ثم وبعد أن هدأت حمأة القتال والقتل تصادف أن كان لأبي العباس صديقٌ شاعرٌ من الأمويين اسمه سليمان ابن هشام الأموي وكان أن طلب هذا الصديق من أبي العباس أن يعطي الأمانَ لمن بقي من أمراء الأمويين المتخفين خوفاً من القتل والتنكيل فأعطاهم الأمان. وفي حفلة عشاء أقيمت احتفالاً بهذه المناسبة جلس الأمراء الأمويون في بلاط أبي العباس يستعدون للطعام حتى دخل عليهم فجأة شاعرٌ عباسيٌ ملتهبَ الرأس اسمه سديف ابن ميمون، ساءه ما رأى من وجوه أمراء الأمويين الذين مُنحوا الأمانَ وأتوا لإنهاء مرحلة جنون الدم، فما كان منه إلا أن ألقى أمام أبي العباس شعراً محكماً حماسياً طويلاً كانت فاتحته البيتين التاليين
لا يغرنك ما ترى من رجال إن تحت الضلوع داء دوياً
فضع السيف وارفع السوط حتى لا ترى فوق ظهرها أموياً
تُجمع المراجع كلها على أن أبو العباس ثارت حميته وتذكَّر جرائم الأمويين الكثيرة فأمر بقتل كل هؤلاء الأمراء الأمويين وفوقهم الشاعر الأموي المقرب منه سليمان ابن هشام الأموي الذي كان الداعية لجلسة الصلح هذه. ثم أمر بطعام وأكلَ فوق الجثث التي كانت مازالت ساخنة تنتفض وختم هذه المجزرة الرهيبة بقوله : والله ما أكلت أشهى من هذا الطعام قط ! أين حكم الإسلام في هذا؟ أين أخلاقيات الإسلام من هذا التصرف؟ هل يصح أن نسمي مثل هذه الخلافة بالخلافة الإسلامية؟ أيعقل ذلك؟ هذه ربما كانت طريقة وصول أباطرة روما وملوك فارس للحكم لكن أن يكون هذا حال الخلافة الإسلامية فهذا أمرٌ بعيد كل البعد عن المنطق الذي ينادي به كل من يقول إن الإسلام كان في يوم من الأيام "ديناً ودولة". لوتتبعنا أخبار ملوك العباسيين، بعد أبي العباس اللطيف هذا، لوجدنا من الممارسات اللاأخلاقية المنافية لمبادئ الإسلام وأدبياته العامة الشيء الكثير. جواري ومجون وخمر وشذوذ جنسي وسواه. يكفي أن تقراً النسخة الأصلية من ألف ليلة وليلة أو كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني لتعرف الكثير عن أوضاع الرعية المسلمين والملوك المسلمين أيام حكم العباسيين وكي تؤمن أن هذه الخلافة لم تكن تمت للدين الإسلامي بصلة سوى بالاسم "الوهم" الذي يتغنى به اليوم أهل الإسلام السياسي من الأخوان المسلمين وأشباههم. مثالٌ واحد فقط يمكن أن يعطي فكرة واضحة عما كان يجري. معروف أن هارون الرشيد كان لديه ولدان اثنان اسم الأول الأمين واسم الثاني المأمون. الأمين هذا كان مثلي الجنس وكان له عشيق اسمه كوثر. كان الأمين يتغنى دائماً بجمال كوثر ومحبته له لدرجة أنه كان يتناسى كل شؤون الحكم والخلافة لإرضاء نزوات ورغبات كوثره هذا. طبعاً انتهت الأمور بقتل المأمون، إبن الفارسية لأخيه الأمين إبن العربية القريشية واستيلاء هذا الأخير على الحكم على دماء أخيه الأمين وعشيقه كوثر فهل يمكن أن يكون خليفة المسلمين مثلي الجنس؟ ضروري هنا أيضاً أن نذكر أيضاً أن كل ملوك امبراطورية العرب بدءاً من يزيد ابن معاوية وصولاً إلى آخر ملوك الأندلس كانوا يشربون الخمر ولديهم عشرات بل مئات الجواري والحريم بما يتنافى كلياً مع فكرة أنهم كانوا يقيمون لتعاليم الإسلام أية حرمة أو اعتبار. فهل هذا كله يتوافق مع مبدأ أن الإسلام كان في يوم من الأيام "ديناً ودولة" كما تريد لنا أن نصدق جماعات الإسلام السياسي متعددة الوجوه والأسماء.
سقطت بغداد على يد المغول بداية القرن الثالث عشر ميلادي وبدأ رسمياً العصر المملوكي الذي لم يكن إلا استمراراً لكل ما ذكر أعلاه. وبالإمكان هنا أخذ حيثيات تنصيب شجرة الدر زوجة الملك الصالح أيوب على رأس السلطنة الأيوبية وما رافق ذلك من قتل وتنكيل وتآمر في سبيل وصولها للسلطة وتكتل المماليك من حولها، منهم من كان معها ومنهم من كان ضدها، بالإمكان أخذ كل ذلك كنموذج لما سيحدث طيلة العقود أو القرون التالية. مؤامرات وقتل وظلم وظلام وتحالفات مؤقتة فيما بين الدول المملوكية ضد بعضها البعض وبينهم وبين ممالك الصليبيين دعماً لبعضهم ضد بعضهم الآخر. لم يكن هذا الأسلوب في الحكم يمت بصلة لأخلاقيات الإسلام المفترضة! إنه المُـلكُ العضوض الذي يعض عليه أصحابه بالنواجذ والقواطع كي لا يضيع مهما كان الثمن الأخلاقي أو الديني. لم يبقى من أثر للإسلام لدى ملوك المماليك إلا الأسماء اللماعة من نوع الملك السعيد "ناصر الدين" و الملك الظاهر "ركن الدين" والملك العادل "سيف الدين" إلخ !
نصل الآن إلى "الخلافة العثمانية" التي بدأت عند دخول سليم الأول العثماني بداية القرن السابع عشر ميلادي لسوريا ومن بعدها لمصر والتي يتغنى بها ويتمنى عودتها أصحاب الإسلام السياسي عامة. يصف ابن إياس المصري في كتابه بدائع الزهور في وقائع الدهور فظائع ما حدث عند دخول جيوش سليم الأول إلى القاهرة. عشرة آلاف قتيل مدني غير مقاتل في اليوم الأول لدخول قوات "الخلافة الإسلامية العثمانية". قتل وشذوذ جنسي وسكر وعربدة في شوارع القاهرة وفي أيام صوم شهر رمضان. إذلالٌ هائل للشعب المصري، المسلم بأغلبيته العظمى، وتنكيلٌ وخطف واغتصاب وسرقة وإفقار. لم تتوانى هذه الدولة العثمانية يوماً ما عن ارتكاب الفظائع بحق الشعوب العربية المسلمة وغير المسلمة التي خضعت لها. ولمن يعتقد أن هذه الدولة كانت تشكل الحصن المنيع ضد المستعمر الغربي "الصليبي" يجدر أن نذكّر بما حصل عند قيام الزعيم أحمد عرابي المصري بثورته ضد الاحتلال الإنكليزي وموقف الأستانة "المسلمة" من مقاومة الشعب المصري المسلم ضد المستعمر المحتل الإنكليزي "الصليبي". لقد تم احتلال مصر في العام 1882 من قبل الإنكليز بعدما خسر أحمد عرابي معركة التل الكبير. عندها كان السلطان عبد الحميد متحالفاً مع الإنكليز في معركته ضد روسيا القيصرية. عندما أطلق عرابي إنذاره الشهير للإنكليز بعدم احترام أية معاهدات معهم عند أول إطلاق نار من طرف الإنكليز قام السطان عبد الحميد، بهدف إفشال حركة عرابي التحررية الوطنية المصرية "المسلمة"، بإصدار فرمان سلطاني رسمي عنوانه "عصيان عرابي" يقول فيه للشعب المصري ما معناه "إن أعمال عرابي باشا مخالفة لإرادة الدولة العليا العثمانية فقد هدد أساطيل دولة حليفة للدولة العليا السلطانية وبناء عليه يُحسَب عرابي باشا وأعوانه عصاةً ليس على طاعة الدولة العليا السلطانية فحسب ولكن حركة عرابي باشا مخالفة للشريعة الإسلامية الغراء". تلى ذلك مباشرة حركة صياح جماعية نكراء لمشايخ السلطان في مصر تشيع بين الناس أن عرابي وكل من يتعاون معه هم من الكفار المارقين ما أدى مباشرة إلى انسحاب الكثير من عناصر جيشه المكون أساساً من الفلاحين البسطاء الذين خرجوا دفاعاً عن مصر ضد المحتل الإنكليزي وفشل حركته التحررية.
بعد كل ما ورد أعلاه يتبين وبوضوح لكل من يريد أن يرى ويعتبر ويتدبر أمران اثنان :
الأول أنه لم يكن هناك أي أساس نظري أو عملي لطريقة الحكم في الإسلام منذ البدايات الأولى وحتى الآن. وأن طريقة الوصول إلى سدة الحكم لم تكن من خلال اتباع قانون أو تركيبة سياسية مجتمعية معينة واجبة الاحترام بل كانت مجرد عمليات بطش وعنف وإكراه وإجبار.
الثاني هو أن "الخلفاء المسلمين" لم يكونوا يتقيدون بالإسلام ونواهيه الأخلاقية الإنسانية الشمولية. كان هؤلاء الخلفاء جميعاً، باستثناء الأربعة الأوائل كما أسلفنا وربما عمر ابن عبد العزيز من بعدهم الذي دام حكمه عامان فقط قتل بعدها أيضاً، يعاقرون الخمر ويسفكون دماء المسلمين من دون وجه حق ويرتبكون المعاصي والفواحش.
الخلافة الإسلامية وهمٌ قاتل. لم تكن يوماً موجودة حتى نعود إليها. لم تكن يوماً السبب في انتصارات جحافل المسلمين في سوريا والعراق وفارس ومصر وبلاد الأمازيغ والبربر والأندلس وسواها. أسباب ذلك كثيرة لا تمت بصلة لفكرة الخلافة الإسلامية !
كي نتقدم يجب أن نتطلع إلى تحليل الواقع ومن ثم النظر إلى الأمام لتفحص القادم ومحاولة اللحاق بقطار المستقبل وتطويعه لمتطلبات مجتمعاتنا وخصوصياتها. لا مناص من أن نتحول إلى مجتمعات منتجة للثروة والعلم والفكر والحرية عوضاً أن نكون مجتمعات منتجة لطلبة اللجوء للغرب والمهاجرين ركاب قوارب الموت. أن نتوقف، وربما هذه هي النقطة الأهم في مقالنا هذا، عن التطلع للخلف بهدف التقدم نحو الأمام!
= = = = = = = =
* هذا المقال مستوحى بخطوطه العريضة من محاضرة للروائي المصري الكبير علاء الأسواني بعنوان "حقيقة الإسلام السياسي"
https://www.youtube.com/watch?v=fnxrg2phQJw



#نزار_حمود (هاشتاغ)       Nezar_Hammoud#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نترات، نتريت، نتراتات !
- الأوهام القاتلة ! الوهم الأول : أمة عربية واحدة
- كابوس
- عتَه الإسلام السياسي
- الإسلاموفوبيا في العيون الكيبيكية ...
- نقاط على خارطة الخلاص
- المعركة ... بالألف واللام
- في فقه المعصية
- أن نعترف ...
- إيلان لن يستيقظ ...
- أن تكون طائفيا ً !
- أنا أتهم
- هكذا تكلم فيكتور هيجو ... (في الشأن السوري)
- إنهم يقتلون الشارلي !
- رسالة مفتوحة إلى العالم الإسلامي
- لماذا يخافون منا ؟ البتروإسلاموفوبيا !
- محاكمة السلاح !
- في رثاء أنسي الحاج ...
- رسالة إلى أخي الثائر السوري ... 5
- رسالة إلى أخي الثائر السوري ... 4


المزيد.....




- مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال ...
- الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي ...
- ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات ...
- الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
- نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله ...
- الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
- إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
- “ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في ...
- “ماما جابت بيبي” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 بجودة عالي ...
- طقوس بسيطة لأسقف بسيط.. البابا فرانسيس يراجع تفاصيل جنازته ع ...


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - نزار حمود - الأوهام القاتلة ! الوهم الثاني : الخلافة الإسلامية