في الوقت الذي وضعت فيه الحرب أوزارها في العراق ، فإن آثارها وتداعياتها لا تزال تتفاعل على أكثر من صعيد ، حيث تنكبّ مختلف الجهات المعنية على تقييم الحدث العراقي وتقدير انعكاساته واستخلاص العبر من دروسه . فالتغيرات الحاصلة هناك ، خلقت مناخاً سياسياً جديداً يتميز بالتحرك في جميع الاتجاهات ، وتمثلت أولى النتائج في تكريس هيمنة القطب الواحد الأمريكي الذي لاقى في مجلس الأمن محاولات تنافسية قطبية موازية قبل الحملة العسكرية الأمريكية من قبل كل من روسيا وفرنسا وألمانيا التي تمكنت من إفشال الجهود الدبلوماسية الأمريكية لتوفير غطاء دولي للحرب ، لكنها لم تستطع منع اندلاعها ، وجاء انهيار نظام صدام حسين بهذه السرعة وما تلاه من المباشرة بتحضيرات نحو إقامة نظام ديمقراطي تعددي والدعوة لرفع الحصار عن العراق ، والإشراف على استثمار وتصدير البترول العراقي باحتياطه الهائل واستثماره السهل ونوعيته الجيدة ليعزز تلك الهيمنة الأمريكية من خلال التحكم بمنظمة الأوبك وبأسواق النفط وأسعاره وتوزيعه .
وعلى الصعيد الإقليمي ، فإن الوجود العسكري الأمريكي في العراق أطاح بالحلقة الأساسية في المحور الرباعي الممتد من إيران إلى لبنان عبر العراق وسوريا ، ومحاصرة الحلقات الأخرى ، وتضييق هامش المناورة أمامها ، والعمل بنفس الوقت على منع عودة المحور الثلاثي التركي – السوري – الإيراني ، الذي دأب على التنسيق كلما بدت في الأفق بوادر إيجابية من شأنها تمكين الشعب الكردي في كردستان العراق من تأمين حقوقه القومية ، وهو ما حصل في الفترة من 1992 – 1994 م ، لكن هذا المحور لم يلتئم حتى الآن بعد انهيار النظام العراقي بسبب الضغوط الأمريكية على الأطراف المعنية ، وخاصة تركيا ، ولم تستطع تلك الأطراف تحقيق أهدافها في مؤتمر الرياض الذي شاركت فيه مع بقية دول الجوار العراقي ، في محاولة فاشلة لفرض الوصاية الإقليمية على مصير هذا البلد ومستقبل نظامه .
وكانت التغييرات التي أصابت هيكلية السلطة الفلسطينية إحدى النتائج المباشرة لانهيار نظام صدام ، حيث تم إقرار وتحديث منصب رئيس الوزراء الفلسطيني ، وتحديد صلاحياته على حساب تقليص صلاحيات رئيس السلطة السيد ياسر عرفات ، تمهيداً لتنفيذ خارطة الطريق المقدمة من قبل اللجنة الرباعية ( المجموعة الأوروبية – روسيا – الولايات المتحدة – الأمم المتحدة ) ، والتي تتلخص في إقامة دولة فلسطينية نهاية عام 2005م إلى جانب دولة إسرائيل ، وتحجيم دور المنظمات الفلسطينية المتهمة بالإرهاب ، مما قد يتسبب في تصعيد التوتر بين السلطة وتلك المنظمات .
ومع انهيار النظام العراقي ، انطلقت التهديدات الأمريكية لسوريا المتهمة أمريكياً بلجوء رموز نظام بغداد إلى أراضيها ، وامتلاكها أسلحة الدمار الشامل ، وحماية الإرهاب ودعم المنظمات الإرهابية ، مستهدفة في ذلك التزام سوريا بالاستجابة لبعض المطاليب ومنها : عدم الاعتراض على الخطط الأمنية والسياسية في العراق ، الذي يعتبر أمنه شأناً أمريكياً ، ومتابعة التعاون الأمني على الحدود المشتركة بين البلدين ، ووقف دعم حزب الله وتحسين مناخ العلاقات مع إسرائيل ، واتخذت تلك التهديدات شكلاً خطيراً بعد التلويح باستخدام ورقة العقوبات الاقتصادية والسياسية ، والعمل بقانون محاسبة سوريا لعام 2001م ، في ظل المحيط السياسي الجديد الذي تشكل بعد سقوط نظام صدام الشمولي الذي يستدعي استخلاص الدروس والعبر في أية مواجهة جدية وفعالة لأي تهديد خارجي وتحدّ داخلي ، ومن تلك الدروس : أن مهمة الدفاع عن الوطن أكبر بكثير من إمكانيات حزب أو جهاز ، وأن الشعوب هي المؤهلة دوماً للدفاع عن بلدانها ، لكنها بالمقابل ، يجب أن تكون متحررة ومتمتعة بحقوق ومكاسب تجعل منها صاحبة مصلحة حقيقة في الدفاع عنها ، والتضحية في سبيلها . ومن هنا فإن المستلزمات الداخلية للمواجهة تتطلب تمكين الجماهير من المشاركة في التصدي لأي تهديد بدلاً من الرضوخ له .
ومن المفارقات النادرة أن تخوف الجماهير من هذه التهديدات يوازيه انتعاش آمال التغيير التي قد ترغم السلطة عليه تحت الضغط الخارجي الذي سيتواصل طالما استمرت هشاشة الموقف الداخلي الذي يمكن تدعيمه من خلال الإسراع في إطلاق الحريات الديمقراطية والإفراج عن المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي ، والسماح بعودة المنفيين طوعياً ، وإصدار قانون عصري للمطبوعات وآخر لتنظيم عمل الأحزاب وإعادة الاعتبار للقانون وصيانة استقلالية القضاء ، وإلغاء كل التدابير التي تعيق قيام دولة القانون والمؤسسات ، والمباشرة بإصلاحات اقتصادية وسياسية وإدارية ، يتصدرها تبني الإصلاح السياسي بين السلطة والمجتمع ومكافحة الفساد ، والتعامل بجرأة ومسؤولية مع القضية الكردية ، وإنهاء العمل بالسياسة الشوفينية المتبعة بحق الشعب الكردي ، وإلغاء المشاريع العنصرية المطبقة بحقه ، وتعويض عشرات الآلاف من ضحايا الحزام العنصري والإحصاء الجائر ، مادياً ومعنوياً ، واعتماد الأسماء التاريخية الأصلية للمراكز البشرية والمعالم الطبيعية في المناطق الكردية ، وتصحيح التركيب السكاني الذي شوهته عمليات التعريب في محافظة الحسكة ، والاستفادة من الدرس العراقي ، حيث عجز النظام هناك عن حل القضية الكردية في كردستان العراق التي أراد قادتها ، لها ولغيرها من قضايا العراق ، حلاً وطنياً ، تطالب به الحركة الكردية في سوريا أيضاً ، خاصة في هذه المرحلة الدقيقة ، بدلاً من اعتبارها مشكلة لا تزال السلطة تتعامل معها بطرق كواليسية ، بهدف احتوائها بمختلف الأساليب ، ومنها التوغل داخل المجتمع الكردي عن طريق بعض الرموز الاجتماعية ، في محاولة للشطب على الحركة السياسية المنظمة ، والعزف على أوتار الوحدة الوطنية التي لا يمكن صيانتها على حساب حقوق شعبنا ... فقد آن الأوان لإنهاء سياسة التجاهل المتعمد للوجود الكردي في سوريا ، والاستعداد لدفع استحقاقاته ، واعتماد القضية الكردية كإحدى القضايا الوطنية التي تتطلب حلاً عادلاً . وبالمقابل ، فإن القوى والفعاليات الديمقراطية في سوريا مطالبة الآن بموقف واضح ومبدئي تجاه القضية الكردية لتسهيل مهمة اندماج الشعب الكردي في المجتمع السوري دون ذوبان ، وتحريره من قيود الغبن والاغتراب والاضطهاد في مواجهة الأخطار التي تهدد وطن العرب والأكراد وبقية القوميات والفئات المتعايشة .
وعلى الصعيد الكردستاني ، فإن ما تشهده بغداد حالياً من تحركات ونشاطات بهدف تشكيل حكومة عراقية ، يراعى فيها التمثيل الديمقراطي لمختلف القوى والفعاليات، بما فيها ممثلي الحركة الكردية ، وما يمكن أن تشهده كردستان العراق على ضوء القرارات الصادرة عن مؤتمرات واجتماعات المعارضة العراقية قبل الحرب ، من إقرار واضح بصيغة الفيدرالية والتنسيق الفعال بين الحزبين الكرديين الرئيسيين ، وتطوير جهودهما باتجاه توحيد الإدارتين ، سوف يكون من شأنه تنشيط النضال التحرري الكردي في بقية أجزاء كردستان التي تحيط بالعراق الذي تغير موقعه السياسي الآن ، ليتحول من دولة ذات نظام معزول كانت تجمعه علاقات عدم الثقة مع الجيران ويخضع الجزء الكردستاني منه لإدارتين كرديتين بدون مرجعية مركزية ، إلى نظام جديد مدعوم دولياً وقادر على حماية وصيانة أرض العراق ، بما فيها كردستان ، من أي تهديد أو تدخل إقليمي ، خاصة من جانب النظامين الإيراني الذي تجمعه علاقات متوترة مع الإدارة الأمريكية ، والنظام التركي ذو التوجه الإسلامي الذي وقف عائقاً في طريق السماح بانتشار القوات الأمريكية أثناء محاولة فتح الجبهة الشمالية . وفي الحالتين ، فإن مواجهة التدخلات المحتملة لهذين النظامين من خلال امتداداتهما العراقية ( الشيعة – التركمان ) في شؤون العراق ، يمنح التعامل الدولي مع القوى الكردية الفاعلة على ساحة كردستان تركيا وإيران أبعاداً جديدة تضغط باتجاه انتزاع الاعتراف بواقع وجود الشعب الكردي ، ليشكل ذلك مرتكزاً أساسياً لتعميق التحولات الديمقراطية في بلدانها ، خاصة بعد سقوط النظام الشمولي في بغداد ، ويتيح المجال أمام تلك الأنظمة لمراجعة حساباتها على ضوء الواقع الجديد ، كما يتيح فرصة جديدة لبناء علاقات إقليمية قائمة على أساس المصالح المشتركة لشعوب المنطقة . ومن جهة ثانية ، فإن إنهاء الوضع الاستثنائي في كردستان العراق ، وإعادة ارتباطها بالعاصمة بغداد ، سوف يساعد في تحرير العلاقات القومية للحركة الكردية هناك مع بقية أجزاء كردستان من القيود الإقليمية التي كان يفرضها الموقع الجغرافي والعلاقات غير المتكافئة مع الدول المجاورة .
أواسط أيار 2003م
اللجنة السياسية
لحزب الوحدة الديمقراطي الكردي في سوريا
(يكيتي)