|
قراءة ثانية للآية الكريمة (إِنَّ أَوَّلَ بيت وضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى للعالَمِينَ)
جلال معلّم
الحوار المتمدن-العدد: 7113 - 2021 / 12 / 21 - 16:34
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
قراءة ثانية للآية الكريمة (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍۢ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَٰلَمِينَ) سورة آل عمران، الآية 96 جلال معلّم فلسطين ديسمبر 2021
موضوع هذه الدراسة هو محاولة لقراءة ثانية للآية 96 من سورة آل عمران: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍۢ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَٰلَمِينَ) من خلال تسليط الضوء على عبارة (لَلذي) (1) في الآية الكريمة، ومحاولة إيجاد جواب واضح لوجود هذه العبارة في نصّ الآية وعن معناها ودلالاتها. تشير الآية إلى أن أول بيت وضع للناس هو ببكّة، وهذا مفهوم وواضح تمام الوضوح، لكن السؤال الذي يُطرح هو حول دلالة ومكان عبارة (للّذي)، حيث أن مضمون وصياغة الآية يفترضان عدم وجود هذه العبارة ضمن نصّ الآية. وما يزيد الوضع تعقيداُ تشكيل حرف اللام بالفتح، ما يمنع اعتبار حرف اللام المضاف الى الاسم الموصول (الذي) حرف جرّ، وما يشير الى أنه قد يكون للعبارة هذه معنى أو معانٍ أخرى. إذن ما هو تفسير وجود عبارة (للّذي) ضمن هذه الآية؟
معنى كلمة بكّة
من أجل الإجابة على هذا السؤال، كان لا بدّ من البحث عن معنى كلمة (بكّة)، فما هو أصل هذه الكلمة؟ تكاد تجمع معظم التفاسير على أن بكّة هو اسم آخر لمكة. وحسب تفسير القرطبي (2)، فإن أحد أسباب تسمية مكة بهذا الاسم أنها كانت تدق (أو تبكّ) أعناق الجبابرة، إذا ألحدوا فيها بظلم.
إذن، لماذا أضيفت كلمة للّذي إلى كلمة بكّة؟ وماذا أفادت؟
ألله ذو بكّة
لعلّ الإجابة تكمن بين صفحات كتاب أو أكثر من كتب التاريخ، نذكر منها كتاب "تاريخ مكّة المشرفة والمسجد الحرام" لابن ضياء (3)، والذي جاء فيه ما يلي: ((جاء في باب الفضائل، (المقصود فضائل مدينة مكّة- الكاتب) عن ابن إسحق، أن قريشاً وجدت في ركن مكة كتاباً بالسريانية وفيه: أنا الله ذو بكّة خلقتها يوم خلقت السموات والأرض إلى آخره. وعن الزهري قال: إن قريشاً حين بنوا الكعبة وجدوا فيها حجراً وفيه ثلاثة صفوح، في الصفح الأول: أنا الله ذو بكّة صنعتها يوم صنعت الشمس والقمر، إلى آخر الكلام)). ويؤكد على القصة ذاتها، وعلى النصّ نفسه، مع اختلاف في توصيف الأثر الذي تم العثور عليه، الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه "القضاء والقدر"(4)، حيث يشير إلى أن ما عثر عليه (هو حجر فيه ثلاث صفوح فيها كتاب من كتب الأٌوَل ، فدعي رجلٌ فقرأه، قال: "أنا الله ذو بكّة، خلقت الخير والشر، فطوبى لمن كان الخير على يديه، وويلٌ لمن كان الشرّ على يديه"). والنتيجة التي نخرج بها مما ذكره ابن الضياء والزهري والبيهقي، أنه كان هناك في مكّة، في الفترة التي سبقت ظهور الإسلام، إله باسم "الله ذي بكة"، وأن هذا الإله كانت تربطه علاقة وثيقة بمكّة، فهو قد خلقها، حسب الاعتقاد القديم، يوم خلق السماوات والأرض، وإنه قد تم العثور على ما يوثق ذلك في كتابٍ باللغة السريانية، في مكان الكعبة عندما كانت قريش، تقوم ببنائها، كأول بيت وضع للناس.
بئر بكّة وبئر مكّة
لكن ماذا تعني عبارة "ذي بكة" ذاتها، ولماذا سمي ذلك الإله بهذا الاسم؟ سنعتمد في تفسيرنا هنا على بحث ذكيّ قام به الكاتب زكريا محمد في كتابه "الطائر المخمور"، والمنشور ضمن كتابه الأشمل "ذات النحيين" (5)، حيث يخلص الكاتب إلى أن "ذا بكة" هو إله مرتبط ببئرٍ تدعى "بكة"، تسكنها حية محددة، وربط زكريا محمد استنتاجه بأسطورةٍ مصريةٍ قديمةٍ، لها علاقة بالإله أوزيريس الذي يقوم عرشه على بئرٍ، يدعى (بكّ، بقّ، بقا)، تذهب إليه أرواح الموتى، على ظهر حيّة. فبكّة هي بئر في مكة، ومن المعقول والممكن أن يكون اسم البئر قد انتقل إلى اسم المدينة، وأن يكون البئر هو نفسه بئر زمزم، إذ لم تتطرق كتب التاريخ حول مكة إلى أسماء آبارٍ أخرى.
أين حصل التصحيف؟
وعليه، فأن هناك ما يربط مكة وقريش وقيام هذه القبيلة ببناء الكعبة، وهناك ما يربط مكّة وقريش بإلهٍ وثنيٍ قديمٍ باسم "الإله ذي بكّة"، أو "الله ذي بكّة" كما أشار اليه الكتاب القديم، والذي عثرت عليه قريش في مكّة والمكتوب باللغة السريانية. وقد تكون قريش، على الأغلب، ممن آمنوا بهذا الإله أيضاً. إذن لعلها العلاقة، بين أول بيت وضع للناس والله ذي بكة، وهو ما تشير إليه الآية رقم 96. لكن تظل هناك ملاحظة: أن الآية لم تذكر عبارة (لله ذي بكّة)، بل ذكرت عبارة (للّذي ببكّة)، وهو ما يدفعنا للاعتقاد بأن تصحيفاً (6) قد حصل هنا، نتج ربما عن إرباكٍ وقع فيه الناسخ في حينه بسبب التناقض الحاصل بين كتابة لفظ الجلالة "الله"، وإتباعه بعبارة ذي بكّة، لتصبح "الله ذي بكّة"، ما قد يخلق إرباكاً قد يمسّ قدسية اسم الله الخالق، أو بسبب خطأٍ بشريٍ، أو ربّما لأسبابٍ أخرى لا نعرفها. وملخّص التصحيف الحاصل هو أنه قد تم إسقاط حرف الهاء من كلمة "الله" وتم دمج ما تبقى من الكلمة الى كلمة ذي، لتتحوّر الى كلمة للّذي، ولتتم إضافة حرف الباء الى بكّة، ولتصبح الآية بالصيغة التي هي عليه الآن. والله أعلم.
---------------------------- هوامش (1) جرى وصفها بالعبارة لأنها تتكون من حرف هو حرف اللّام واسمٍ موصول وهو الذي. (2) الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله محمد القرطبي، تفسير سورة آل عمران، (النسخة الرقمية). (3) "تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام". المؤلف: ابن الضياء. مصدر الكتاب: موقع الوراق على الانترنت والكتاب مرقم آلياً. (4) "كتاب القضاء والقدر" للإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين بن موسى البيهقي، صفحة 178، (النسخة الرقمية) 5) كتاب "ذات النحيين – الامثال الجاهلية بين الطقس والاسطورة". الكاتب: زكريا محمد. إصدار "الأهلية للنشر والتوزيع سنة 2011. صفحة 359. (6) التصحيف هو اصطلاحٌ يقصد به التشابه في الخط بين كلمتين فأكثر، حسب جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع للسيد أحمد الهاشمي، صفحة 330، (النسخة الرقمية).
#جلال_معلّم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة ثانية للآية الكريمة (إِنَّ أَوَّلَ بيت وضِعَ لِلنَّاسِ
...
المزيد.....
-
خلال لقائه المشهداني.. بزشكيان يؤكد على ضرورة تعزيز الوحدة ب
...
-
قائد -قسد- مظلوم عبدي: رؤيتنا لسوريا دولة لامركزية وعلمانية
...
-
من مؤيد إلى ناقد قاس.. كاتب يهودي يكشف كيف غيرت معاناة الفلس
...
-
الرئيس الايراني يدعولتعزيز العلاقات بين الدول الاسلامية وقوة
...
-
اللجوء.. هل تراجع الحزب المسيحي الديمقراطي عن رفضه حزب البدي
...
-
بيان الهيئة العلمائية الإسلامية حول أحداث سوريا الأخيرة بأتب
...
-
مستوطنون متطرفون يقتحمون المسجد الأقصى المبارك
-
التردد الجديد لقناة طيور الجنة على النايل سات.. لا تفوتوا أج
...
-
“سلى طفلك طول اليوم”.. تردد قناة طيور الجنة على الأقمار الصن
...
-
الحزب المسيحي الديمقراطي -مطالب- بـ-جدار حماية لحقوق الإنسان
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|