أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - علي المقدادي - ما الذي قدّمه الفيلسوف يحيى محمد من فكر؟















المزيد.....



ما الذي قدّمه الفيلسوف يحيى محمد من فكر؟


علي المقدادي

الحوار المتمدن-العدد: 7110 - 2021 / 12 / 18 - 20:20
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


تميّز الفيلسوف العراقي يحيى محمد بالتنظير وانشاء المفاهيم وصياغة المناهج مع تعدد الاهتمامات العلمية. وظهر له اكثر من عشرين كتاباً مع عشرات المقالات العلمية. وله ثلاثة مواقع على الشبكة الالكترونية هي:
1ـ فهم الدين https://www.fahmaldin.net/
2ـ فلسفة العلم والفهم https://www.philosophyofsci.com/
3ـ موقع باللغة الانجليزية بعنوان:Philosophy of Science & Religion https://www.thephilosophyofscience.com/

نظرياته المبتكرة:
ابتكر الفيلسوف يحي محمد العديد من النظريات في الفلسفة والعلوم الدينية وغيرها. وقدّم عدداً من المكتشفات والتأطيرات المنهجية، كما اضاف بعض المناهج والعلوم الجديدة في الفهم الديني، مع تحليلات كاشفة عن الاسس المعرفية لبناء منظومات التراث الاسلامي. وتقدّر في مجملها بأكثر من ثلاثين اضافة نوعية واطروحة جديدة تتوزع بين النظريات والمكتشفات والتأطير المنهجي، مع بناء بعض المناهج والعلوم. وحديثاً نشر الغالب منها على هيئة حلقات موجزة ضمن عنوان (خلاصة فكر) لدى موقع فهم الدين (https://www.fahmaldin.net/index.php?id=2555). وسنتعرف اليها وفق تقسيمها الى المجالات الفلسفية والعلمية والمنهجية والدينية، وذلك بحسب الفقرات التالية :

نظرياته في الفلسفة الخالصة:
1ـ لقد قسّم القضايا العقلية الى ستة اقسام، منها اربعة اصناف تتصف بالضرورة المعرفية وان اختلفت في نوعها وطبيعتها، وهي كل من: 1ـ المعرفة المنطقية البحتة، مثل مبدأ عدم التناقض (المنطقي). 2ـ المعرفة الإخبارية غير القابلة للتكذيب، مثل مبدأ السببية العامة وعدم التناقض (الوجودي). 3ـ المعرفة الاحتمالية، مثل ان احتمال ظهور وجه الصورة في عملة النقد المتماثل الوجهين يساوي نصفاً بالضرورة. 4ـ المعرفة القيمية، كالحسن والقبح العقليين. 5ـ المعرفة الحضورية الوجودية، كمعرفتنا المباشرة لأنفسنا. 6ـ المعرفة الإخبارية الوجدانية، مثل الإعتقاد بوجود واقع خارج الذهن. وقد أشار الى ان هذا التمييز بين القضايا العقلية غير معهود لدى الفلاسفة .
2ـ كشف عن نوع جديد من السببية عبّر عنه بالسببية الاعتقادية، ووصفها بانها سببية ابستيمية تضاف الى السببية الانطولوجية، واعتبرها الاساس في اثبات الاخيرة، بل واثبات وترجيح جميع اصناف المعرفة قاطبة، بما فيها مبدأ عدم التناقض. وعرّفها بانها لا تمثل في حد ذاتها قضية معرفية، بل وظيفة ذهنية تعمل على تعليل القضايا وتفسير الاعتقادات بجعلها تتخذ طابعاً ابستيمياً، وبدونها تنعدم الابستيمولوجية كلياً، فتصبح المعرفة لا تتعدى الحالات النفسية والفسيولوجية الصرفة .
3ـ اعتبر القضية المعرفية الواحدة تنطوي على جانبين متحدين ومختلفين، فالأول منهما معرفي بحت، أما الآخر فهو موضوعي إذ يتوقف على طبيعة الموضوع المدرك. ويمثل الجانب الأول الرؤية المباشرة الحضورية لماهية الشيء، ومن هذه الرؤية المرآتية المباشرة تبدأ المعرفة والكشف من دون توقف على شيء آخر سوى جهاز الحس الصوري. واعتبر ان هناك جسراً للتحول من الرؤية المرآتية المباشرة إلى التصديق، وهو الجسر الذي سمّاه (السببية الإعتقادية) .
4ـ كشف عن سلطة معرفية ارادية توازي سلطة السببية الاعتقادية، اذ رأى ان المعرفة البشرية تخضع لسلطتين مختلفتين، احداهما ابستيمية (عقلية اعتقادية)، والاخرى ارادية (نفسية). لكن الحكم النهائي يكون من نصيب السلطة الثانية لا الاولى. فمن حيث الواقع ان الخيار النفسي هو من يصدر القرار الحاسم النهائي. وتختلف الارادة المعرفية عن العقل المنتج للافكار بانها عارية عن المفاهيم خلافاً للعقل المغلف بها، فهي «فعل نفسي» بلا كيف؛ مؤثر في النشاط المعرفي العقلي ومتحكم به تماماً، بغض النظر عن النتائج التي تتوصل اليها.
5ـ له وجهة نظر تخالف المذهبين العقلي والحسي في تفسير علاقة السببية الطبيعية، اذ اعتقد ان هذه العلاقة تتضمن عنصراً ميتافيزيقياً هو (التأثير) خلافاً للمذهب الحسي، لكنها في الوقت ذاته تخلو من الضرورة خلافاً للمذهب العقلي. واشار الى ان من الممكن الاستدلال على عنصر التأثير بالدليل الاستقرائي، كما قدّم تبريراً لهذا الانفصال في الموقف .
6ـ اعتقد بان التحليل الفيزيائي للسببية الطبيعية يجعل علاقة التأثير بين السبب والمسبب تردّ الى القوانين الاحتمالية لا الحتمية، فهي وان بدت للمراقب بانها دالة على المعاصرة والضرورة، لكن من الممكن تفكيكها وجعلها تتضمن حادثتين تتصفان بالسبق الزماني دون المعاصرة، ومن ثم دون الضرورة والحتمية، وفق زمن بلانك المايكروي. وهذا التحليل يخالف النسق الاتصالي كما يصوره المذهب العقلي في المعرفة. كما يخالف النسق الاقتراني كما يصوره المذهب الحسي .
7ـ عمل على تقسيم العقل ثلاثياً، بدل التقسيم الثنائي المتعارف عليه، فهو نظري وعملي وطريقي، وأن العقلين الأوليْن يعبّران عن «عقل مضموني»، في حين يعبّر الثالث عن «عقل صوري». لذا اختزل هذه العقول الثلاثة إلى عقلين: مضموني (نظري وعملي) وصوري، وأن علاقة العقلين المضموني والصوري هي علاقة عدم استغناء، فأحدهما لا يستغني عن الآخر .
8ـ له نظرية حول أصالة الشيء الخارجي إن كان ماهية أو وجود، فقد اعتبر الاصالة لما سماه الوجود الصيروري، وهو مؤلف من ثلاثة عناصر، هي: الشيئية الوجودية، والصيرورة، والذات المركبة من هذين العنصرين. فالشيئية الوجودية هي الأصل الذي تتوارد عليها صيرورة التجددات. أما الصيرورة فهي تجدد كينونة الشيئية ووجودها بلا انقطاع. في حين تتركب الذات من الشيئية الوجودية وصيرورتها، ولو ان أحد هذين العنصرين كان مفقوداً لما تمّ للذات ان تكون كما هي عليه. وبذلك انتهى الى ان الأصالة ليست للوجود أو الماهية بمعناهما التقليدي .
9ـ تأطيره لأوهام بيكون الاربعة ضمن نوع محدد سماه الاوهام التصديقية، واضاف اليها نوعاً جديداً اوسمه بالأوهام الصورية. والاخير اشتمل على صنفين من الأوهام، فأصبح مجموع الاوهام ستة. والأوهام الصورية التي أضافها عبارة عن أوهام ثابتة أولية وطارئة خلّاقة، فالأولى تعبّر عن الامتزاج بين الطبيعة الذهنية للإنسان والأشياء الحسية المدركة، وهي مشتركة بين البشر كافة، اذ أصلها يعود الى جهاز الحس الصوري المركب فينا. أما الثانية فهي غير متأصلة بل تحدث لأسباب طارئة كثيرة، وقد اعتبرها يحيى محمد بأنها أحد مصادر أوهام الكهف التصديقية لبيكون .
10ـ قدّم اطروحة جديدة في حل معضلة الشر سمّاها نظرية عجز المادة الأصلية. اذ اعتبر أن هذه المعضلة لم تُعالج كقضية لها علاقة تحليلية بما جرى من خلق من حيث المبدأ. فحدد خمسة افتراضات بهذا الشأن، هي: 1ـ أن يعود مصدر الخلق إلى منفعل من دون وجود فاعل مستقل. 2ـ أن يعود مصدر الخلق إلى فاعل تام من دون وجود منفعل مستقل. 3ـ أن يعود مصدر الخلق إلى فاعل قاصر رغم عدم وجود منفعل مستقل. 4ـ أن يعود مصدر الخلق إلى فاعل قاصر مع وجود منفعل مستقل. 5ـ أن يعود مصدر الخلق إلى فاعل تام مع قصور في المنفعل المستقل.. ومن بين هذه الافتراضات رجّح الافتراض الاخير، حيث اعتبر مصدر القصور عائداً الى المادة المستقلة الأصلية. وقصَدَ بها انها ابسط مشترك وجودي في الكون وان لم يكتشف علمياً بعد. فعلى ضوء هذه النظرية قام بتفسير علة وجود الشر، ومثل ذلك علة تطور العالم واستحالة ان يتحقق الخلق دفعة واحدة. وأشار الى ان التطور الكوني وطبيعة القوانين ومشكلة الشر كلها مناطة بالمادة المشتركة. فلو ان هذه المادة مخلوقة لما احتيج الى التدرج والتطور، ولما ظهر الشر .
11ـ قدّم حجة منطقية لصالح الايمان ضد الالحاد عبر ظاهرتي الفوضى والشر، وتعتمد على قياس الخلف كالتالي: 1ـ ليس في الوجود إله قط.. 2ـ الفوضى هي السائدة دون النظام.. 3ـ من لوازم الفوضى سيادة الشر في الحياة.. 4ـ لكن من حيث الواقع فإن الشر والفوضى ليسا سائدين. وهو ما يعني نسف المقدمات السابقة، أو جعلها تنقلب إلى أضدادها وفق قياس الخلف، ومن ثم فالإله موجود .
12ـ كشفه عن ركائز الجهاز المعرفي للتفكير، فحددها بخمسة أركان كما في علم الطريقة، هي: المصدر المعرفي، والأداة المنهجية، والمولّدات والموجهات القبلية، واستنطاق الموضوع كما في حالة فهم النص الديني، والانتاج. وحدد المصدر المعرفي بانه المنبع الذي تصدر عنه مضامين المعرفة بالنشأة والتكوين والتأسيس، كالنص والعقل والواقع والإلهام الغيبي. كما عرّف الأداة المنهجية بأنها منهج استكشاف المعرفة وتوظيفها إعتماداً على المصدر المعرفي، كما في الاستقراء والقياس وغيرهما. وقصد بالمولّدات بانها الأصول القبلية التي تعوّل عليها الأداة المنهجية في استنطاق موضوع البحث والتوليد، أو الكشف والإستنباط، والتي بواسطتها يتم توليد المعرفة وإنتاجها، وعلى شاكلتها الموجهات. أما الاستنطاق فعرّفه بانه ممارسة ذهنية تعنى بالتعرّف على موضوع معين، كالنص الديني والكون وما الى ذلك، واصطلح على ممارسة استنطاق النص بالفهم، تمييزاً لها عن عمليات الاستنطاق الاخرى كما في حالة علوم الطبيعة.
13ـ لقد اعتبر الاستنطاق، سواء في الفهم الديني أو العلم أو غيرهما، مأخوذاً على نحوين متلازمين: ممارسة وحصيلة. لكن يبقى الأساس في ذلك هو الممارسة لا الحصيلة. مع الأخذ بعين الاعتبار أن الممارسة العامة، سواء في الفهم أو العلم أو غيرهما من ضروب الاستنطاق المعرفي، لا تقبل التقييم، خلافاً للحصيلة؛ حيث أنها قابلة للخطأ والشك والصواب. وينطبق ذلك ايضاً على الانتاج المعرفي، وهو الركن الخامس من أركان الجهاز المعرفي.
14ـ اعتقد ان المرتكزات الثلاثة الأولى من الاركان الخمسة للجهاز المعرفي أساسية بعضها يتوقف على البعض الآخر ويستكمل به، ولكل منها وظيفته الخاصة، وبفعل هذا الترابط والتكامل يتمكّن الجهاز المعرفي من القيام بوظيفته الكلية كما تتمثل بالعنصرين الآخرين، أي التوليد والاستنطاق. فالحال هنا أشبه بما يحصل مع الأجهزة والآلات الميكانيكية، حيث تتألف من عناصر مترابطة ولكل منها وظيفته الجزئية، ومن خلال هذا الترابط يقوم الجهاز بوظيفته الكلية، كما في التلفاز والراديو والسيارة... الخ .
15ـ لقد اعتبر الأصل المولد أهم ركائز الجهاز المعرفي للتفكير، فهو المسؤول المباشر للبناء المنطقي للمعرفة. وحدده بأنه قضية قابلة لتفسير أكبر عدد ممكن من القضايا العائدة إلى ذات المنظومة المعرفية، سواء من حيث التوليد أو التوجيه أو الإتساق. لذلك فهو مرجع معرفي يستند اليه كل من التوليد المعرفي واستنطاق الموضوع؛ كالفهم الديني مثلاً. ووصفه بانه بمثابة البداية المنطقية لسائر المعارف، مقارنة بالبداية التاريخية وما ينشأ عنها من تطورات. لهذا اعتبر كل علم هو الذي يحدد شروط ما سيأتي من منطق، مثلما أن كل منطق يحدد بدوره شروط ما يُعتمَد عليه من علم، خاصة فيما يتعلق بالأصل المولد كشرط منطقي لقيام العلم، لا سيما وانه يمثل الآصرة التي تربط الرؤية بالأداة .
16ـ كشف عن ان الذهن البشري يخضع لثلاثة انماط من العلاقات، حددها بالقوانين والسنن والقواعد العامة، سواء في علاقته بمعرفة الواقع الموضوعي، أو بعلم الطبيعة وسائر العلوم، أو الفهم الديني. ومايز بين هذه العلاقات بان القوانين ترتبط بالنشاط الذهني إرتباطاً ذاتياً، فيكون كل من الإدراك والعلم والفهم محكوماً بها ذاتياً وبشكل ثابت، وبدونها ليس بمستطاع الذهن ممارسة دوره الوظيفي في الادراك الموضوعي. وذكر منها في مجال الفهم الديني أربعة هي: قانون العلاقة العكسية، وتحكم فهم الكل بفهم الجزء، وتداخل المناهج المعرفية، والافتقار النسبي. وتختلف السنن العامة عن القوانين، فهي تؤثر في الذهن تأثيراً عارضاً لا ذاتي، كما في تأثير الواقع على الادراك الذهني المسبب لتغاير الثقافات والعلوم والآيديولوجيات والأفهام الدينية. أما القواعد العامة فهي طرائق يختارها الذهن البشري للتحكم في عملية الادراك الموضوعي، ويمكن استبدال بعضها بالبعض الاخر حسب المطلوب، لكن من المحال ان يجري ذلك خارج نطاق ما تحدده القوانين، لأن القواعد إنما تعمل وفقاً لطبيعة هذه الأخيرة، وتعتبر قاعدة الاستقراء القائمة على منطق الإحتمالات العقلية أهم القواعد المعتمدة في الادراك والاستنطاق الموضوعي .
17ـ من اهم القوانين التي أشار اليها في التحكم في الادراك الموضوعي للذهن ما سمّاه قانون العلاقة العكسية للادراك ومنه الفهم الديني. فهو قانون يشير إلى وجود علاقة عكسية بين القبليات والنص في تأثيرهما المحتّم على الفهم، فكلما زاد تأثير القبليات كلما ضعف تأثير النص، والعكس بالعكس. لكن مع الاخذ بعين الاعتبار ان فعل القبليات هو الذي يحدد فعل النص من غير عكس. فالعلاقة بينهما هي علاقة فعل وانفعال، فالفعل نتاج القبليات وعليه يتحدد انفعال النص عكسياً. واستكشف في هذا القانون ثلاثة انواع من العلاقة، فقد تكون الاخيرة ضعيفة اذا ما كان تأثير القبليات ضعيفاً على الفهم مقارنة بتأثير النص، وعلى عكسها العلاقة القوية، كما قد تكون العلاقة متوسطة، حيث يتصف تأثير القبليات والنص على الفهم بالتوسط. وطبّق هذه العلاقات على أنماط القراءة الثلاثة (الإستظهارية والإستبطانية والتأويلية). فقانون العلاقة الضعيفة ينطبق على القراءة الإستظهارية، وقانون العلاقة القوية ينطبق على القراءة الإستبطانية، كما إن قانون العلاقة المتوسطة ينطبق على القراءة التأويلية. كما اعتبر هذه القوانين تصدق على نتاج العلوم الطبيعية، مثلما تصدق على الفهم الديني .
18ـ كشف عن ان المعرفة الموضوعية تتشكل من ثلاثة عناصر متفاعلة، أحدها القبليات المعرفية، وثانيها الادراك الاستنطاقي، وثالثها الشيء في ذاته، حيث تعمل القبليات على تصوير (ما في ذاته) ليتشكل (ما لذاتنا) .
19ـ لقد تجاوز المفهوم الفلسفي للقبليات التي يُقصد بها كل معرفة عقلية سابقة للحس والتجربة. فاعتبر ان من الممكن لهذه القبليات ان تكون من البعديات اعتماداً على دراسة الموضوع المطروح. فمثلاً إذا كانت القضايا الحسية تعتبر من البعديات لدى التفكير الفلسفي أو العقلي بإطلاق؛ فإنها تعتبر في الوقت ذاته من القبليات لدى قراءة النص الديني وفهمه. وبالتالي قد تكون القبليات دينية بيانية، أو واقعية إخبارية، أو عقلية صرفة، أو حدسية كشفية. فهذه البنى الأربع هي موضع التعويل المنضبط لدى ممارسة التفكير الذهني في القضايا المطروحة. ويقابلها البعديات، فلكل من القبليات السابقة بعدياتها، وكل منها يتصف بالنسبية، فالقبليات بالنسبة لقضايا معينة قد تكون بعديات بالنسبة لقضايا أخرى مختلفة، والعكس بالعكس. فالمعارف المستمدة من ذات الموضوع المطروح للبحث والدراسة تتصف بالبعديات، فهي تنتمي إلى ذات الإطار المرجعي للموضوع المبحوث أو المقروء دون أن تستمد من أُطرٍ مرجعية أخرى، لكنها يمكن ان تتخذ دور القبليات بالنسبة لحقول معرفية خارجة عن الإطار المشار إليه. لذلك صرّح بأن ما هو قبلي هنا بعدي هناك وبالعكس .
20ـ صنّف القبليات الى صورية وتصديقية، وحدد الأولى بشكلين حدسي وجهازي، فالحدسي يعبّر عن الحساسية الصورية كما تتمثل في صورة الواقع المجمل وقالبي الزمان والمكان، والجهازي يعبّر عن جهاز تشكيل الصور المدركة بهيئة معينة دون أخرى. أما القبليات التصديقية فصنّفها الى منضبطة وغير منضبطة. وقصد بالاخيرة انها قبليات ذاتوية (نفسية)، في حين اعتبر الاولى اساس ما تُبنى عليه المعرفة بشتى اصنافها، وقسّمها إلى منطقية محايدة، ومضمونية (غير محايدة). وتعبّر الأولى عن جهاز مركب للإدراك بعضه موظف للكشف عن العالم الخارجي من دون تحديد مسبق، إذ تتصف الممارسة الكشفية بالمنطقية والحياد بإعتبارها آليات، كما في مبدأ الإستقراء وإعتباراته الإحتمالية، فهو معيار كاشف عن الأشياء بلا تحديد سابق، لهذا يعد من المبادئ المنطقية لعدم تضمنه مادة الكشف. في حين تتصف القبليات المضمونية بكونها قضايا تحمل مضامين خاصة دون حياد، وهي تنقسم إلى ما هو مشترك بين الناس كافة مثل مبدأ السببية العامة، وما يخص طوائف منهم مثل القبليات المنظومية. وطبقاً لما سبق حدد القاعدة العامة التي تعمل على تمييز المعرفة العلمية الدقيقة عن غيرها استناداً الى تأثير تلك القبليات، فـ «كلما كان تأثير القبليات غير المنضبطة كبيراً؛ أصبحت المعرفة غير علمية بالقدر الذي تؤثر فيه هذه القبليات، والعكس بالعكس. كذلك كلما كان تأثير القبليات المشتركة كبيراً كلما ازدادت المعرفة دقة، وعلى العكس؛ كلما ضعف تأثير هذه القبليات كلما تقلصت دقة هذه المعرفة» .
21ـ قام بتحليل الفهم الديني وفق تصنيفه للقبليات الى صورية وتصديقية، فاعتبر ان الذهن يتعامل مع معنى النص بعنوانين: تصور المعنى وحكم المعنى، ولكل منهما قبلياته، كالذي يجري مع أصناف المعرفة الاخرى. اذ تعمل القبليات الصورية للنص على اظهار المعنى في الذهن على شاكلة ما يحدث في حالة إدراك الأشياء الخارجية، وسمّاه بالظهور المعنوي للنص، وهو ظهور ذاتي غير متوقف على الإرادة التصورية للذهن. في حين إن وظيفة القبليات التصديقية هي الحكم الذي من أبرز مصاديقه الفهم والقراءة، إذ تعتمد على ما يتحقق من الظهور المعنوي للنص. ويمتاز الحكم في هذه الوظيفة بأنه متوقف على الإرادة التصورية للذهن خلافاً لما يجري في ذلك الظهور. ومن حيث الآلية يتوقف الظهور المعنوي على كل من القبليات الصورية والنص المجهول، أي كما هو في ذاته. أما الفهم أو القراءة فإنه يعتمد على هذا الظهور مضافاً إلى القبليات التصديقية. وقد عبّر عن هذه المعاني بجملة من العلاقات الرياضية .
22ـ تضمّن كتابه الاستقراء والمنطق الذاتي تحليلاً جديداً لنظرية الاحتمال استناداً الى نوعين اساسيين له سماهما: الاحتمال السوي وغير السوي، واشتق منهما جملة من الاحتمالات الفرعية بتوسط نوع ثالث هو الاحتمال الرياضي. وميّز بين الاحتمالين السوي وغير السوي، فاذا كان الاول ينشأ عند عدم تمييز الحالات بعضها عن البعض الآخر، فان الآخر ينشأ على العكس من ذلك عند عدم وجود تماثل بين الحالات الممكنة للحدوث، ويبرره مبدأ التمييز .
23ـ انتهى الى انه لولا الاحتمال غير السوي لما أمكن تبرير بناء الدليل الاستقرائي ومن ثم اثبات الاشياء وتفسيرها. بل واستدل على ان الاختلاف هو أساس إثبات التماثل لا العكس. واعتبر ان سبب فشل الاطروحات التي توسلت بنظرية الاحتمال لتفسير بناء الدليل الاستقرائي يعود الى انها استندت الى الاحتمال الرياضي السوي، كما في نظريات الفكر الغربي، ومثلها نظرية الصدر في العلم الاجمالي. وأوضح بأن الدليل الاستقرائي إنما يعتمد على اكتشاف التماثل ليطبق عليه (الإحتمالات السوية)، لكنه أثبت بأن التماثل لا يمكن اكتشافه وإثباته إلا من خلال (الإحتمالات غير السوية) للقرائن المتباينة، لذلك يصبح الدليل الاستقرائي قائماً على هذه الاخيرة .
24ـ عمل على تقسيم القيم الاخلاقية الى علاقتين مترابطتين ومختلفتين، تنضوي احداهما تحت اطار العقل النظري؛ أوسمها بالمعنى الوجودي (الواقعي الاجتماعي)، فيما تنضوي الثانية تحت اطار العقل العملي، واطلق عليها المعنى المعياري. وحدد العلاقة بينهما بتحكم احداهما في الاخرى. وأشار الى ان الغالب في الاصل المتحكم في العلاقة الاجتماعية للبشر؛ هو المعنى الوجودي لا المعياري للقيم، الى درجة اعتقد فيها انه لو تم رفع العرف والقانون الاجتماعي الذي يدين الى المعنى الوجودي لفسدت العلاقات الانسانية وتحولت الى وحشية لا تطاق. واعتبر انه لكي يحصل شيء من الرقي والتقدم في هذه العلاقة لا بد من قلب التحكم القيمي مما هو وجودي الى معياري. فوضع معياراً لما سيحدث من تطور قادم، اذ يصبح البُعد المعياري هو ما يحدد البُعد الوجودي لا العكس .
25ـ قام بتحليل بنيتي الفلسفة التقليدية والعرفان النظري بردهما الى أساس موحد سمّاه «السنخية». واستغرق هذا العمل من التحليل كتاب (النظام الوجودي) مع قسم كبير من (نُظم التراث)، حيث تتبع نشأة السنخية وتطوراتها التاريخية والدور الذي لعبته في الربط بين الفلسفة والعرفان، ثم اعقب ذلك بتفصيل العلاقة التي تربطها بمفاصل الرؤية الوجودية وما ترتب عليها من فهمٍ للإشكاليات الدينية .

نظرياته في العلم وفلسفته:
1ـ اعتقاده بان الكون ينكمش لا يتوسع، كما في كتابه انكماش الكون، وقد استند في ذلك الى اساس منطقي يقول ان البسيط هو اساس المركب ومتقدم عليه لا العكس. وان هذه القاعدة تتنافى مع ما يذكره العلماء من وصف الكون في بدء نشأته وفق نظرية الانفجار العظيم. فقد اعتقد ان المنطق يفرض ان يكون الكون البدئي بارداً أدنى درجات البرودة، مع بداية حركة هي أدنى حالات السرعة، ومثل ذلك عموم الطاقة، ومنها بدأ الازدياد لعوامل معينة حتى وصل الحال إلى الاشتباك والتفاعل وتوالي الانفجارات. واستنتج من خلال هذه النشأة الباردة ان الفضاء الكوني غير متناه، وان شموليته العامة تتصف بالتجانس، إلا ان فيه بؤراً من تموجات الكثافة المادية وخلخلاتها ما يجعلها غير متجانسة. كما اعتبر الفوتونات هي ابسط الجسيمات الاولية، وانها الاساس في سائر الجسيمات وقوى الطبيعة. وهي فكرة مخالفة للتصور الفيزيائي الحديث الذي يبحث عن اتحاد للقوى الأربعة ليفترض ان هذا الاتحاد كان سابقاً زمنياً على ظاهرة الانفصال التي نشهدها لهذه القوى .
2ـ تضمن كتابه منهج العلم والفهم الديني تحليلاً جديداً لمبدأ البساطة العلمي، فقد اشتق منه مفهومين مختلفين، احدهما شمولي عائد الى الدليل الاستقرائي، حيث من خلاله تكون النظرية العلمية بسيطة عندما تفسر اكبر عدد ممكن من الظواهر. أما الآخر فهو اقتصادي، حيث فيه توصف البساطة بأنها تحمل أقل حد ممكن من المقولات الإستدلالية طبقاً لما يعرف بحد اوكام، فالنظرية البسيطة هي تلك التي تكون خالية من الحشو الزائد، اذ تمتلك أقل عدد ممكن من المقولات مقارنة بغيرها. وأشار الى ان من الممكن لنظريتين علميتين ان تكونا متعاكستين في حمل هذين المفهومين، حيث تتصف احداهما بالبساطة الشمولية، فيما تتصف الاخرى بالبساطة الاقتصادية، كما في نظريتي نيوتن وأينشتاين في الثقالة. وفي هذا التعارض ترجّح النظرية ذات البساطة الشمولية على الاخرى ذات البساطة الاقتصادية. وقد طبّق يحيى محمد هذا المفهوم على المجالين الفلسفي والفهم الديني .
3ـ كشفه عن معيار التصميم الذكي طبقاً للاحتمال النوعي لا الشخصي، او وفق ثلاثة شروط هي: التعقيد، والاحتمال النوعي المتباعد ثنائياً، وتحقق احد افراد المنطقة الضيقة لهذا الاحتمال. واعتبر ان هذه الشروط تنطبق على اشكال مختلفة من البنى المعقدة، فقد تكون البنية المعقدة حقيقية، او مصطنعة، او مفترضة تخيلية، او رياضية مجردة، وذلك اعتماداً على تقسيمه للنظم التي تتقبل هذا المعيار بشكل او بآخر، وهي كما ذكرها اربعة: تكراري ووظيفي وضبط عددي دقيق ورياضي تجريدي. وأشار الى انه لا يمكن للبنية المنتظمة ان تنتج سوى الوظائف البسيطة، ومن ثم فالعلاقة بين البنية المنتظمة والوظائف المعقدة عكسية. كما اعتبر ان البنية العشوائية ترتبط بالنظام الوظيفي المعقد بعلاقة طردية. كذلك توصل الى ان كلاً من النظامين المعقدين الوظيفي والضبط العددي الدقيق يقعان ضمن دائرة بنيوية ضيقة جداً؛ هي بمثابة (منطقة الرفض) مقارنة بسائر الحالات الممكنة، لذا اعتقد انهما بحاجة الى تفسير غير طبيعاني قائم على عنصر التوجيه الذكي. ويشار الى انه صنّف الظواهر الكونية والحيوية الى خمسة اصناف تتمثل بكل من: العلاقات الصارمة والاحصائية والصدف العشوائية واللاتحدد الجسيمية وصنف العلاقات المتعمدة الذكية .
4ـ اعتقاده بنوع من الأثير يتصف بالبرمجة الذكية التي تعمل على خلق الظواهر المعقدة ودفع العمليات الكونية والحيوية لغايات محددة، وسمّاه أثير الذكاء، وهو على شاكلة الذكاء البشري، حيث لا يعتبر طبيعاني رغم انه غير مفارق للطبيعة، وكذا على شاكلة المادة والطاقة المظلمتين اللتين تتحكمان بالكون بحسب الافتراض الفيزيائي المعاصر، ومثل ذلك أثير الضوء، وموجة الاحتمال، والشيء المنبسط بين الجسيمات الاولية من دون ان يمثل واحداً منها. وبحسب هذه المعطيات احتمل ان يتقبل المجتمع العلمي التفسير اللاطبيعاني الخاص بأثير الذكاء اذا ما توفر شرطان محددان، اضافة الى وجود شاهد حسي داعم يتعلق بالذكاء البشري، الأول: هو ان ترتقي البايولوجيا بمثل ما حصل مع الفيزياء في تقبل الافتراضات غير المادية، والثاني: هو ان الذكاء المفترض في تفسير الظواهر الفيزيائية والبايولوجية، وخاصة الاخيرة، هو ذكاء غير مفارق او ميتافيزيقي، بمعنى انه ليس بالذكاء الالهي وما شاكله مما تدعو اليه الاديان السماوية .
5ـ تنبأ بان التطورات القادمة لما بعد البشر ستستهدف بالدرجة الرئيسة التحولات الخاصة بالقيم الاخلاقية والروحية فضلاً عن التطور العقلي والارادي. حيث قدّم عدة مبررات تدعم هذه الفكرة، أهمها ان صيرورة التطور البايولوجي قد انتهت الى خلق خصائص نوعية جديدة تختلف عما عليه من قبل، فلأول مرة تنشأ مع الانسان اشياء ليست مادية مثل ارادته الحرة وقواه العقلية التجريدية واللغوية المعقدة وقابليته على التفكير الاستبطاني وفضوله في فهم الظواهر الطبيعية، يضاف الى قدراته على التصنيع واحساسه بالجمال وتذوق الفنون، وصلاته بالقيم والروابط الروحية. لذا ان التطور القادم بحسب يحيى محمد سيتخذ من البشر اولى الخطوات، فوضع معياراً لهذا التقدم يقوم على القيم الاخلاقية، فتوقع بأن الميزة الاساسية التي سيحملها الكائن الجديد هي انه لو تُرك وشأنه لكان قد فعل الخير وتمسّك بالقيم الحسنى؛ على عكس ما يتصف به البشر. واحتمل ان تكون الفارقة بينهما احصائية لا لزومية. بل ورجّح ان تكون الحكمة من كل هذه العمليات والسلاسل التطورية هي ايجاد كائنات صوفية ذات معارف حضورية ذوقية مع روح وقيم عالية يجعلها قريبة من صفات المصمم اكثر فاكثر .

نظرياته في الدراسات المنهجية:
1ـ أضاف علماً جديداً نحتَ له مصطلح علم الطريقة، او علم منهج الفهم الديني. وأول استخدام له جاء عند تأليفه لكتاب مدخل الى فهم الإسلام سنة 1994. ويشكل بذات هذا العنوان المجلد الأول من مشروع المنهج في فهم الاسلام. ووصفه بانه قائم على مسلمة أساسية هي ان الفهم هو نتاج مشترك لكل من النص وذات القارئ. كما وصفه بأنه يتضمن الجمع بين الهرمنوطيقا والإبستيمولوجيا. وبحسب علم الطريقة يكون الفهم الديني مسبوقاً بالمنهج أو الطريقة. وكذا هو الحال في سائر المعارف الموضوعية، اذ يتعذر نشوء هذه المعارف من غير أدوات وتأسيس للنظر القبلي. وبقدر ما تختلف هذه الأدوات والتأسيسات القبلية؛ بقدر ما تتباين طرق المعرفة، وبالتالي يحصل ما سمّاه (الأجهزة المعرفية) لما تحمله من إمكانات التوليد والفهم تبعاً لهذه الطرق. وكشف عن ان لكل جهاز معرفي قواعده الخاصة للفهم، وهي على نوعين: صغرى وكبرى. فالفهم متوقف على القواعد الصغرى، ومنه تتشكل العلوم الدينية وغيرها من العلوم التي تستهدف الفهم الديني، لكن هذه القواعد تتوقف بدورها على القواعد الكبرى، وتمثل هذه الأخيرة أصولاً مولدة للفهم والانتاج المعرفي، وهي التي تشكل موضع دراسة علم الطريقة. لذا يتصف هذا العلم بالشمول والكلية، إذ تختلف القوانين والقواعد التي يبحثها عن تلك التي تتناولها الاجهزة المعرفية بالفهم والتحليل. كما اعتبر ان لعلم الطريقة مستويات ثلاثة من البحث: الأول: التحليل، حيث يُرصد فيه نتاج العلماء من الفهم وتحليله من خلال ارجاعه إلى القبليات والأصول المولدة وطرق الفهم المختلفة. الثاني: ضبط المعايير الخاصة بالترجيح بين المناهج والنظريات. الثالث: السعي نحو تأسيس معايير منضبطة لإنتاج نظريات وأنساق ذات كفاءة عالية للفهم .
2ـ اعتبر البحث الطريقي واحداً من ثلاثة انماط للبحث في الفهم الديني، احدها الاستنباطي، وهو نوع من المعرفة المباشرة للنص. وثانيها التاريخي، ويُعنى بتطورات الفهم الديني عبر التاريخ. أما البحث الطريقي فيختص بدراسة مناهج الفهم الديني ويوضح العلاقة فيما بينها وبين تأسيساتها القبلية، ومن ثم بين هذه التأسيسات وبين الفهم. فهو يمارس التفكير في المنهج لا بالمنهج. ومن مميزاته انه يتضمن البحث التاريخي من دون عكس، وكلاهما يتعاملان مع النص مباشرة، أما البحثان الآخران فيتعاملان مع الفهم لا النص. فالبحث التاريخي معني بدراسة الفهم سطحياً من الخارج، فيما يقوم البحث الطريقي بحفر جواني للوصول إلى بنيات الفهم الأساسية من الداخل، لذا يقع موقع البنية الأساسية للفهم، فالأخير مدين في تأسيسه وبنائه الى القبليات التي تتيح لنا الفهم والتفكير حتى وإن لم نتعقلها، فنفكّر بها وإن لم نفكّر فيها، وهي التي تشكل صلب الموضوع الذي يعالجه علم الطريقة بالبحث والتحقيق. وبذلك حدد هذا الفيلسوف ثلاث بنى مختلفة: سطحية ووسطى وأساسية عميقة، واعتبر قبليات الفهم ودوائره المنهجية تتميز بالبنية الاساسية العميقة، فهي شرط إمكان المعرفة وإن لم يعِها الباحث، وان العلم الدقيق هو ذلك الذي يتدرج من هذه البنية إلى السطحية مروراً بالبنية الوسطى .
3ـ وضع قاعدة لفحص المنظومات المعرفية المغلقة التي لا تقبل الاختبار االقائم على المعايير الخارجية المتفق عليها كمعيار الواقع ومنطق الاحتمالات، فاشترط أن تكون للمنظومة قابلية على التجزئة والتفكيك، بحيث يمكن تقسيمها إلى منظومتين: مفتوحة ومغلقة، ومن ثم الاستعانة بالأولى على الثانية، أي الكشف عن حقيقة ما تتضمنه المنظومة المفتوحة من قيم معرفية وتطبيقها على المنظومة المغلقة، على شاكلة إختبار الغائب بالشاهد. وطبّق هذا الاختبار على نموذجين معرفيين مختلفين، أحدهما مقتبس من علم الرواية والحديث، والآخر من منظومة الفلسفة التقليدية .
4ـ كما وضع قاعدة رجّح فيها حالة النفي على الإثبات في المنظومات التامة الإغلاق، أي تلك التي لا يمكن تفكيكها والتحقيق فيها مباشرة وغير مباشرة. وخلاصة هذه القاعدة هي أنه عندما تكون هناك إمكانات متعددة، أكثر من إثنين، فإن نفي أي من هذه الإمكانات سيكون أكثر توقعاً من إثباته، ويزداد توقع هذا النفي باضطراد كلما زاد عدد الإمكانات المحتملة. وطبّق هذه القاعدة على مجالات متنوعة من الحياة والفكر، كما في حالة الثقة الاجتماعية واختبار النصوص الدينية وغيرها .
5ـ في معالجته للتراث المعرفي تعامل مع كل من الفلسفة والعرفان والفقه وما شاكله من الاتجاهات البيانية، إضافة إلى المدارس الكلامية كالمعتزلة والإمامية والأشاعرة. واعتبر ان لكل منها قبلياتها المتعلقة بالمصدر والأداة والأصل المولد. فالدائرة الفلسفية تعتمد على العقل الوجودي كمصدر، وعلى العقل الاستدلالي كأداة، وعلى السنخية كأصل مولد. والدائرة العرفانية تعتمد على القلب الوجودي كمصدر، وعلى الكشف الذوقي كأداة، وعلى السنخية كمولد. أما الدائرة البيانية فتعتمد على النص الديني كمصدر، وعلى اللغة كأداة، وعلى الفهم العرفي كمولد. في حين ان المعتزلة والإمامية يعتمدان على العقل المعياري كمصدر، وعلى العقل الاستدلالي كأداة، وعلى منطق الحق الذاتي كمولد. كذلك ان الأشاعرة تعتمد على العقل المعياري كمصدر، وعلى العقل الاستدلالي كأداة، وعلى منطق حق الملكية كمولد .
6ـ اكتشف عنصراً ثالثاً في تكوين النص الى جنب اللفظ والسياق، سماه (المجال)، وقصد به نوعاً من المحور النصي يدركه كل من أراد فهم النص، سواء استطاع تحديد القراءة أم لم يستطع، فهو يعبر عن معرفة ما تدور عليه الاحداث اللغوية بالاجمال والعنوان العام. لذا اعتبر للنص ظهورين لفظي ومجالي، والاخير يعبّر عن الإدراك المجمل للكل، وهو يستبق إدراك الأجزاء، وحضوره شرط في تحديد الدلالات اللفظية، رغم ان وجوده متوقف على وجود الألفاظ والسياق. كما حدّد للمجال ظهوراً بحسب الحقيقة أو المجاز؛ مثلما الحال في اللفظ، وعلامة هذا الظهور هي التبادر في كلا الأمرين. مع هذا فقد ميّز بين هذا النوع من المجال الظاهر عن مجال آخر مضاد أطلق عليه المجال التأويلي أو الباطني، فالأخير يقطع الصلة بين الدال والمدلول، ولا يجد ما يدل عليه بحسب القرائن الدلالية للنص وايحاءاتها. وفيه يكون القارئ متوجهاً نحو ربط كل شيء بأي شيء. وهو أمر شائع إستخدامه لدى الباطنية والعرفاء عند قراءتهم للنص الديني .
7ـ وعلى فكرة المجال الانفة الذكر بنى يحيى محمد ثلاثة انماط للقراءة بدل الاثنتين المتعارف عليهما، وهي: استظهارية وتأويلية واستبطانية رمزية. فاستظهار النص هو ذلك الذي يحافظ على الظهور المجالي وتكون فيه الدلالات اللفظية معلومة بالتبادر. وتأويل النص هو ذلك الذي يبتعد عن هذه الدلالات الظاهرة، وإن التزم بالظهور المجالي. أما إستبطان النص فإنه على خلاف كل من الإستظهار والتأويل حيث يتصف بعدم الالتزام بكل من الظهورين اللفظي والمجالي. لذلك اعتبر ان للآلية الاستظهارية شرطين هما المجال والظهور اللفظي. وعلى الضد منها ما تعمل به الآلية الاستبطانية، حيث تتخلى عن كلا الشرطين السابقين. أما الآلية التأويلية فهي وسط بين السابقتين، حيث تحتفظ بالمجال دون الظهور اللفظي. وعبّر عن هذه الفوارق بين الآليات الثلاث بالصيغة الرياضية كما يلي :
الظاهر + المجال ← الإستظهار
- المجال – الظاهر ← الإستبطان
المجال – الظـاهـر ← الـتـأويـــل
8ـ قام بتحليل قراءة النص اللغوي الى مستويين: اشاري وايضاحي. فالقراءة الاشارية تبحث عن المعنى، لكن القراءة الايضاحية تبحث عن شرح هذا المعنى وفق عدد من الشروط، ووصفها بأنها معنى المعنى وفهم الفهم. بل واعتبرها تمثل نصاً لنص الاشارة التي هي نص اول للنص الاصلي الذي وصفه بالمجهول كشيء في ذاته. وبذلك يصبح الايضاح عبارة عن نص نص النص. ومن ثم توصل الى نتائج هامة حول قراءة النص ومنه النص الديني، وطرح جدولاً ليقارن بين هذه الرؤية الجديدة والرؤية التقليدية كما يلي :
الموقف التراثي الرؤية الجديدة
اللفظ + السياق ← النص اللفظ + السياق + المجال ← النص
الظهور اللفظي ← ظهور النص الظهور اللفظي + الظهور المجالي ← ظهور النص
أنواع القراءة = إستظهار + تأويل أنواع القراءة = إستظهار + تأويل + إستبطان
مستويات القراءة = واحد مستويات القراءة = إثنان (اشارة + إيضاح)
تأثير القبليات المعرفية = 0 أو 1 تأثير القبليات المعرفية = 1

9ـ أظهر العديد من التأطيرات المنهجية العامة على الصعيد المعرفي للتراث الاسلامي، ومثل ذلك على صعيد العلوم الطبيعية وخاصة الفيزياء. اذ صنّف التراث الى نظامين مختلفين سماهما النظام الوجودي والنظام المعياري، واعتبر لكل منهما منهجين معرفيين. فالأول منهما يحمل الفلسفة والعرفان، والثاني العقل (المعياري) والبيان. وبهذا يكون التراث حاملاً لأربع دوائر مختلفة تتمايز منهجياً بأدواتها وأصولها المعرفية. وقد شمل البحث حول هذين النظامين ثلاثة مجلدات من مشروعه الخماسي (المنهج في فهم الاسلام)، هي كل من: نُظم التراث والنظام الوجودي والنظام المعياري، وسبق نشرها بعناوين مختلفة، فالاول قد شكّل القسم الاعظم من كتاب مدخل الى فهم الاسلام، أما الثاني والثالث فقد جاءا بعنواني الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية، والعقل والبيان والاشكاليات الدينية .
10ـ ميّز بين النظامين المعياري والوجودي من خلال المباحث الفلسفية العامة لكل من: المعرفة (الإبستمولوجيا) والوجود والقيم. فقد إستند البحث في النظام المعياري إلى إشكالية (القيم) كما في نظرية التكليف، ومنها تعدى إلى إشكاليتي المعرفة والوجود. في حين دار البحث في النظام الوجودي حول إشكالية (الوجود)، ومنه تعدى إلى المبحثين الآخرين، فأصبحت القيم لدى هذا النظام مجازية لخضوعها تحت سلطة الحتمية الوجودية، كما أصبحت المعرفة ذات أبعاد مطلقة وضرورية بفضل التطابق مع الواقع، لا سيما وأنها مستلهمة من العقل السماوي الفعال. وفي قبال هذين النظامين اشار إلى اشتغال الفكر الغربي الحديث على (نظرية المعرفة)، ومنها تعدى البحث إلى إشكالية الوجود والقيم .
11ـ مثلما قدّم تأطيراً منهجياً للتراث المعرفي؛ أضاف تأطيراً آخر لعلوم الطبيعة فعزاها في (منهج العلم والفهم الديني) الى ثلاثة نُظم مختلفة قارن بينها وبين نُظم التراث، وهي النظام الاجرائي والافتراضي والتخميني الميتافيزيائي، وذلك بعد نقده لجملة من التأطيرات التي قدمها عدد من العلماء وفلاسفة العلم. فالنظام الاجرائي يعتمد على التجربة والإستقراء من دون افتراضات معلقة وميتافيزيقية، خلافاً للنظام الثاني الذي عوّل على الإفتراضات والتجارب الخيالية، بل والصيغ الرياضية المفترضة، كما يظهر لدى نظرية النسبية وميكانيكا الكوانتم. وقد اعتبر النظام الثاني قد خلّف نظاماً ثالثاً أخذ يتعلق بموضوعات غير قابلة للإختبار والتحقيق، وهي أقرب إلى القضايا الفلسفية منها إلى العلمية. كما اعتبر عامل الإفتراض هو ما يشترك بين هذين النظامين، الامر الذي يجعلهما غارقين في مسبح التأويل المفتوح والهرمنوطيقا خلافاً للنظام الأول .
12ـ قام بتحليل النظام الثاني (الافتراضي) لنُظم العلم، فاعتبر ان له منهجين متعاكسين بحسب السير المعرفي والسلوك، أحدهما قائم على الخيال، والآخر على الرياضيات، والغالب فيهما التشابك والاندماج والمزاوجة. فالأول يمتاز بالتأمل الخيالي وبقدر واسع من الحرية واطلاق العنان للخيال دون الإعتماد على منهج محدد في تكوين الفروض. أما الآخر فهو صوري رياضي مجرد. ومن الناحية الإبستيمية اعتبر المنهج الخيالي يبدأ بالخيال ليصنع صورة هرمنوطيقية حول الواقع الفيزيائي، ومن ثم يلبسها القالب الرياضي المناسب، لذا سمّاه المنهج (الخيالي-الرياضي). وعلى عكس ذلك المنهج الرياضي، فهو يبدأ بالبعد الصوري الرياضي لينتهي إلى صورة خيالية هرمنوطيقية، وسمّاه المنهج (الرياضي-الخيالي). وبالتالي فالأول يبدأ من الهرمنوطيقا لينتهي إلى الإبستمولوجيا، في حين يبدأ الثاني من الإبستمولوجيا لينتهي إلى الهرمنوطيقا، وكلاهما يمارسان نوعين مختلفين من الهرمنة أو التأويل .
13ـ أمدّ جسوراً تربط بين العلم والفهم الديني استناداً الى علم الطريقة، كما في كتابه منهج العلم والفهم الديني. فقد كشف عن ان لنُظم العلم تشابهات كثيرة مع نُظم التراث الديني، وانتهى الى أن التفاسير العلمية كما في الفيزياء هي أشبه بتأويلات النص المختلفة، فكل تفسير هو تأويل، وكل تأويل يقابله آخر، ويمكن تفسير أي شيء بتأويلات مختلفة. وهذا ما جعله يُخضع النُظم الفيزيائية لآليات القراءة كما تمارس في الفهم الديني وفقاً لعلم الطريقة. فمثلما في الفهم ثلاث آليات للقراءة، هي الإستظهار والتأويل والإستبطان، فكذا هو الحال في العلم، وكلاهما يخضعان لقانون العلاقة العكسية الذي يشير الى التأثير العكسي المحتم للقبليات والشيء الموضوعي على الادراك (الاستنطاقي)، فكلما زاد تأثير القبليات كلما ضعف تأثير الشيء المدرك او المستنطق، والعكس بالعكس .
14ـ أضاف عدداً كبيراً من التقسيمات المنهجية والمفاهيم الحيوية الجديدة اغلبها وردت في كتاب علم الطريقة، وقد وصفها بأنها تمتاز بالدينامية والفاعلية والثراء المعرفي والفلسفي دون ان تكون من النوع الساكن البسيط الذي لا يفيد ولا يثري ولا يثمر شيئاً. فبالاضافة الى ما سبق عرضه ثمة تقسيمات هامة مثل ان: الادراك فاعل ومنفعل.. واليقين مستقل ومشروط.. وقواعد الفهم محايدة ومضمونية.. والحيل العلمية رياضية وخيالية.. والفكر متحقق وما في ذاته.. والآيديولوجيا مؤسسة وموظفة.. والمعرفة محققة وغير محققة.. والتحقيق الذهني مطابق ومبرر ومخمّن.. وقوانين الفهم المستنبطة بسيطة ومثمرة.. ومعايير التقييم مقيدة محدودة وتأسيسية شاملة.. والنص مجهول ومعلوم، او شيء في ذاته ولذاتنا، او نص اصلي واشاري وتوضيحي، او نص ونص نص ونص نص النص.. وكذا الفهم فهم وفهم الفهم وفهم فهم الفهم.. والاضمار النصي مفهوم وغير مفهوم.. والفهم الديني تعبدي وقصدي.. وللنص مستوى افقي وعمودي.. وللفكر مصادر ذاتية وعارضة... الخ .

نظرياته في الفهم الديني:
1ـ أسس منهجاً جديداً للفهم الديني سماه النظام الواقعي كبديل عن نظم ومناهج التراث الاسلامي، ويعتمد على أربعة أركان، هي: الواقع والوجدان العقلي والمقاصد العامة والفهم المجمل للنص. وأهم ما في هذا النظام هو انه جعل الواقع أساس التفكير والتكوين المعرفي بعد البديهات العقلية والمنطقية. كما اعتبر ان له أدواراً متعددة في علاقته بالنص الديني، كالجدلية والحاكمية، حيث جعل من الواقع حاكماً على النص عند تعارض دلالاتهما الإخبارية أو الخاصة بالحقائق الكونية والموضوعية. كما له تأثير على فهم النص وتغيير هذا الفهم. كذلك من أولويات هذا النظام هو ان الواقع يتقدم على غيره من مصادر الكشف المعرفي وانه معيار لترجيح النظريات الدينية وانساق الفهم، بل وانه يساعد على التحقيق في أصول العقائد ومعرفة ما يتضمنه النص من معنى، فما لم يؤخذ الواقع الخاص بالتنزيل بعين الإعتبار؛ لا يمكن التعرف على دلالة النص. أيضاً انه يساعد على الكشف عن طاقة النص وإمكاناته للتطبيق .
2ـ وضمن النظام الواقعي قدّم مسلكاً جديداً للفهم الديني سمّاه مسلك الفهم المجمل، وذلك في قبال مسلك الفهم المفصل كما هو معمول به لدى المذاهب الاسلامية. وخصص له الفصل الاخير من كتاب النظام الواقعي. وفيه قسّم المجمل الى متشابه ومبيّن ولكل منهما تقسيماته الفرعية، وركّز على المجمل المبيّن وقسّمه الى ثلاثة أنماط، هي العارض والإستقرائي والأصلي. ثم عمل على تشخيص الفروق بين مسلكي الفهم المجمل والمفصل ضمن عدد من الفقرات، منها انهما يفترقان بحسب علاقتهما بالمقاصد، فالفهم المجمل يتسق معها من غير معارضة، في حين يعمق الفهم المفصل حالة الإنفصال والتعارض معها. كما انهما يفترقان تبعاً لطريقة معالجة قضايا الواقع، فالمسلك المجمل يولي الواقع أهمية كبرى للمعالجة خلافاً لما يعمل به الفهم المفصل. كذلك يفترقان من حيث المنزلة المعرفية التي يحتلها النص. فللنص لدى المسلك المجمل صفة توجيه الفكر، ولدى المسلك المفصل صفة تكوين الفكر. أيضاً يفترقان بحسب التخفيف من حالات الخلاف المعرفي والعلمي. فالخلاف بحسب الفهم المفصل يكاد يكون كما هو من غير تناقص، وليس الأمر كذلك مع الفهم المجمل. كما يفترقان بحسب اضفاء القداسة على نتائجهما الإجتهادية. فالفهم المجمل يجعل القداسة تلوح المجملات المستلهمة من النصوص، خلافاً لما يقوم به الفهم المفصل من جعل القداسة مبسوطة على المجملات المعلومة والمفصلات الظنية بلا فارق جذري بين المجموعتين. كذلك يفترقان بحسب علاقتهما بالأمة المسلمة. فالمسلك المجمل هو مسلك توحيدي خلافاً للمسلك المفصل الذي يعمل على التفريق والتنازع لإرتباطه بالمقدس حتى على مستوى الظنون المنبعثة عن المفصلات. يضاف الى انهما يفترقان من حيث التخفيف والتشديد وحدود التزامات الأفراد في قضايا الأحكام والعبادات. فالمسلك المجمل يميل إلى التخفيف والتقليل، خلافاً للمسلك المفصل الذي يتجه صوب التشديد والتوسيع .
3ـ له اطروحة في الاجتهاد سماها اطروحة الاجتهاد الواقعي، وهي تستند الى مسلك الفهم المجمل، وتعترف بان دائرة المبين في الدين ضيقة جداً، لكن بقدر ما تُضيّق دائرة الدين بقدر ما يُضمن الصواب. وكتعويض عن هذا التضييق تنشط دائرة الاجتهاد في الواقع المفتوح بلا حدود، خلافاً للاجتهاد في النص. فقد حدّد مظاهر الاجتهاد الواقعي بعدد من النقاط، منها انه أوسع قدرة في التعامل مع قضايا الواقع وحقائقه المتغيرة مقارنة بالاجتهاد النصي. كما ان نتائج الاجتهاد الواقعي لا تُعزى إلى الشرع وحكم الله تعالى، لا ظاهراً ولا واقعاً، إلا عندما يكون الأمر قطعياً بحسب الوجدان العقلي دون أدنى ريب. كذلك غالباً ما يكون الاجتهاد الواقعي أقوى ترجيحاً من الاجتهاد النصي إن لم يفضِ إلى القطع .
4ـ طرح مسلكاً يتجاوز فيه التمذهب، وهو منطق جديد لا يعمل بنفس الآلية المشتركة بين المذاهب. واعتمد في اطروحته على أمرين، هما النقد الجذري وتقديم البديل دون الخضوع لسلطة المذاهب، فهو تعبير آخر عن اللامنتمي، اذ قد يتفق مع بعضها بأمر ويختلف معها بأمور، وبالتالي لا يمكن تحديده ضمن مذهب معين. والأهم من ذلك انه يخالف جميع المذاهب استناداً الى التزامه بمسلك الفهم المجمل لا المفصل للدين .
5ـ أضاف نوعاً من المقاصد العامة سمّاه المقاصد الغائية، اذ اعتبر ان ما ذكره علماء اصول الفقه لا يتعدى المقاصد الشرطية، لذلك اضاف اليها ما اعتبره مقاصد حقيقية هي غاية التشريع، وهي تشتمل على مجموعة من القيم؛ مثل التعبد والتعقل والتحرر والتخلق والتوحد والتكمل، ولكل منها ظاهر وباطن. كما كشف عن ان الأصوليين قد وضعوا نظرية المقاصد لتبرير ما هو كائن وليس لتأسيس ما ينبغي أن يكون، أي لتبرير الأحكام الشرعية، دون استهداف تجديدها. وهذا ما جعله يراها متناقضة .
6ـ تنظيره لمرتبة ثالثة في الفقه تقف بين مرتبتي الاجتهاد والتقليد، وسمّاها (النظر)، ووظيفتها النظر في ادلة المجتهدين وترجيح بعضها على البعض الاخر. اذ رأى ان النهج الفقهي العام في تقسيم المكلفين الى مجتهدين ومقلدين ليس سليماً وفقاً لذات الاسس والاصول الفقهية المعترف بها، حيث يتجاهل فئة ثالثة هي فئة الناظرين، فهم قادرون على التمييز بين الادلة الفقهية وترجيح بعضها على البعض الاخر. لهذا قدّم عدداً من الادلة الفقهية والاصولية والعقلية على هذا المسلك. بل واشار الى ان النظر هو من المباني العقلية الواضحة، بحيث لا يحتاج المرء إلى البحث في أدلته، وعادة ما يستخدمه الناظرون في قبول ورفض المذاهب الفكرية والعقائدية المختلفة وإن لم يكونوا مختصين. واعتبر ان له مرتبتين تفصيلية واجمالية، ففي الاولى يكون صاحب النظر على مستوى دقيق وواضح في إستبعاده لبعض الأفكار وقبول الأخرى؛ اعتماداً على تمييزه بين الأدلة المفصلة. وفي الثانية يعتمد الناظر على ما يرد إليه من اجمال في الأدلة فيطمئن لبعضها دون البعض الآخر؛ مستعيناً في ذلك بما له من قدرة عقلية فطرية يميز فيها ما هو أقرب إلى الصواب .
7ـ قدّم تحليلاً لمشكلة القضاء والقدر؛ فجمع بين الفكرتين المتعارضتين الجبر والاختيار بما يتفق مع الواقع والنص القرآني. فمثلما ترد دلالات كثيرة في القرآن تؤيد هاتين الفكرتين، كذلك يشير الواقع الى تلاحم الأمرين معاً، حيث لا اختيار من غير جبر، إذ تخضع عملية الاختيار لقانون الارتفاع والانخفاض المعاكس طبقاً لتفاعل الإرادة مع سنن الجبر الطبيعية، فتنخفض الإرادة مع زيادة الضغط المعاكس لهذه السنن، وبالعكس، كما هو واضح من السلوك القائم على العادة مقارنة بالسلوك الابتدائي، إذ تكون قوة الجبر في الأول مرتفعة طبقاً للعادة والتطبع، في الوقت الذي تكون نسبة الإرادة فيه منخفضة. وعليه فالإنسان محكوم بقدرين: إرادته من جهة، والسنن الكونية والإجتماعية من جهة ثانية. ونشير الى ان هذا التحليل جاء في اول مقالة نشرها هذا المفكر عام 1981 لدى مجلة الغدير اللبنانية بعنوان القضاء والتطبع، العدد (5) .



#علي_المقدادي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفيلسوف العراقي يحيى محمد


المزيد.....




- الحزب الحاكم في كوريا الجنوبية: إعلان الأحكام العرفية وحالة ...
- عقوبات أميركية على 35 كيانا لمساعدة إيران في نقل -النفط غير ...
- كيف أدت الحروب في المنطقة العربية إلى زيادة أعداد ذوي الإعاق ...
- لماذا تمثل سيطرة المعارضة على حلب -نكسة كبيرة- للأسد وإيران؟ ...
- مام شليمون رابما (قائد المئة)
- مؤتمــر، وحفـل، عراقيان، في العاصمة التشيكية
- مصادر ميدانية: استقرار الوضع في دير الزور بعد اشتباكات عنيفة ...
- إعلام: الولايات المتحدة وألمانيا تخشيان دعوة أوكرانيا إلى -ا ...
- نتنياهو: نحن في وقف لاطلاق النار وليس وقف للحرب في لبنان ونن ...
- وزير لبناني يحدد هدف إسرائيل من خروقاتها لاتفاق وقف النار وي ...


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - علي المقدادي - ما الذي قدّمه الفيلسوف يحيى محمد من فكر؟