|
الثمن الباهظ للاختلاف.. إعادة قراءة تروتسكي
فرحان قاسم
الحوار المتمدن-العدد: 7104 - 2021 / 12 / 12 - 00:03
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
تم تغييب تروتسكي سياسة وفكرا اكثر من أربعة عقود سواء من قبل المنظومة الفكرية والسياسية الستالينية السوفيتية ومن كان يسير تحت عباءتها ام من قبل المنظومة الراسمالية . ولم تستطع الأممية الرابعة التي أسسها تروتسكي عام 1938 وباحثون مستقلون من خارجها ، من كسر طوق تلك العزلة وذلك التغييب . ورغم ادانة الستالينية في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي كظاهرة غريبة وشاذه في الفكر الماركسي الا ان الموقف الرسمي من تروتسكي لم يتغير وظل الكثير من منجزه الفكري حبيس الادراج حتى انهيار التجربة السوفيتية عام 1989 .
ولغرض تحليل الظاهرة التروتسكية بشكل موضوعي ، لا بد من الإجابة على عدد من الأسئلة : هل موقف ستالين من تروتسكي نابع من خلافات شخصية او من اختلافات فكرية او هو صراع على السلطة والمواقع ؟ هل تروتسكي مفكر امتلك منظومة مفاهيمية متكاملة ونظرية في الممارسة ساعدته في انتاج نظرية جديدة اعتبرها اتباعه فتحا معرفيا في الماركسية واعتبرها اعداؤه تحريفا وخطرا على الماركسية وتطبيقها في الاتحاد السوفيتي ؟ هل تروتسكي مفكر او رجل سياسة ودولة او خطيب لامع ام الاثنان معا ؟
سيرته والثمن الباهظ دفع تروتسكي لقاء إصراره على الاستمرار في مشروعه الذي تبناه مبكرا اثمانا غالية قلما نجدها عند اقرانه من المفكرين والمناضلين. فعلى المستوى الشخصي فقد اغلب عائلته ؛ ابنتيه وولديه واحفاده وازواج بناته وزوجته الأولى ، ولم يبق معه في اخريات أيامه من اهله سوى زوجته الثانية التي رافقته في رحلة هروبه ولجوئه الطويلة . وعلى مستوى اتباعه فقد سحق ستالين المعارضة التروتسكية داخل الاتحاد السوفيتي باشد أساليب التنكيل والعنف بحيث لم يحضر منها أي ممثل لها في الأممية الرابعة ، وعانى اتباعه في أوروبا شكلين من العنف ؛ عنف الشرطة الستالينية السرية التي كانت تقوم بعمليات اغتيالات مستمرة لهؤلاء من جهة ومن إجراءات الملاحقة والضغط التي تقوم بها أجهزة القمع البرجوازية من جهة أخرى .
لن اخوض في تفاصيل سيرته النضالية ، وساقتصر على المحطات الأساسية منها حرصا على التركيز في موضوع المقالة . ولد تروتسكي في أوكرانيا عام 1879 ، تبنى الماركسية حينما كان في الصف المنتهي من الدراسة الثانوية ، اعتقل ونفي مرتين الى سيبريا ، الأولى عام 1899 والثانية عام 1907 وفي المرتين هرب الى أوروبا . تزوج في نفيه الأول من ( الكسندرا سوكولوفسكايا ) وانجبت ابنتين ( نينا ) و ( زينا ) . ثم تزوج من زوجته الثانية وانجبت ولدين ( ليون ) و ( سيرجي ) . التقى لينين في لندن واشترك معه في مؤتمر حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي عام 1903 الذي حصل فيه الانشقاق بين البلاشفة والمناشفة ، انضم تروتسكي الى جانب المناشفة ، ما سبب قطيعة بينه وبين لينين دامت ( 12 ) عاما . انفصل تروتسكي عن المناشفة واتخذ موقف الداعي الى توحيد الجناحين بدعوى الحرص على وحدة الطبقة العاملة ، ثم غير رايه واتخذ موقفا صلبا ضدهم . في عام 1915 عقد مؤتمر زمروالد الذي ادان الحرب العالمية الأولى ودعا الى موقف اممي ضدها ، وكتب تروتسكي بيان المؤتمر وعادت العلاقة بينه وبين لينين بسبب اتفاقهما على الموقف الاممي من الحرب ، وتطابق وجهتي نظرهما حول الثورة الاشتراكية ، وتراجع تروتسكي عن موقفه السابق من المناشفة واشترك في الحملة المناهضة للانتهازية والاصلاحية في الاشتراكية الديمقراطية .
لعب تروتسكي دورا قياديا في ثورة 1905 الروسية ، واصبح رئيسا لأول سوفييت في التاريخ وهو سوفييت سانت بطرسبيرغ . انتمى الى البلاشفة قبيل ثورة أكتوبر واصبح وزير الحرب فيها وقاد الجيش الأحمر الى انتهاء الحرب الاهلية بهزيمة أعداء الثورة . كان عضوا في المكتب السياسي وحضر مؤتمرات الأممية الثالثة وكتب بياناتها الختامية . قاد المعارضة ضد ستالين منذ 1920 بسبب بيروقراطيته وطريقته الفوقية التكتلية في إدارة شؤون الحرب وتهميشه الطبقة العاملة ، ونقل بيروقراطيته الى العمل الحزبي . عارض نظرية ستالين " الاشتراكية في بلد واحد " . طرده ستالين من الحزب ونفاه الى تركيا عام 1929 ثم اسقط جنسيته السوفيتية . انتقل الى فرنسا عام 1933 ولم تقبله اية دولة أوروبية فاضطر الى اللجوء الى المكسيك. أسس الأممية الرابعة عام 1938 وكتب برنامجها الانتقالي ثم تم اغتياله في بيته عام 1940 .
كان تروتسكي مخلصا لقراره المبكر في تبني الماركسية منهجا فكريا له ، فرغم الظروف المعقدة التي أحاطت في حياته ، فقد ظلت الماركسية هي البوصلة التي حافظت على توازنه ومنحته تلك القوة والصلابة والصبر والثقة في المستقبل . وكان يجمع في داخله روحا حانية تضعف الى درجة النواح والبكاء الحارق حين يسمع بموت ابنته نينا بعيدا عنه في الاتحاد السوفيتي وانتحار الأخرى زينا في المانيا ، وتصفية ابنه سيرجي في اقبية التعذيب الستالينية ، وموت ابنه ليون في باريس بفعل مخطط له من قبل الشرطة السرية الستالينية، كان موت ليون شديد الوقع عليه ، لانه كان ساعده الأيمن في إدارة شؤون ما تبقى من مناصرين لتروتسكي في أوروبا . وما زاد من شدة وقع الخبر عليه ان ليون الح على والده لكي يرحل معه الى المكسيك ، ولكن تروتسكي اصر على بقائه في باريس . والى جانب تلك الروح الحانية ، كان يمتلك روحا وثابة شجاعة تدوس على اشد الاوجاع وتمضي قدما الى امام . كما كان غزير الإنتاج رغم ظروف الهجرة والعزلة وانشغاله بامور العمل التنظيمي اليومية ورسائله التي لا تنقطع مع أنصاره الموزعين على بلدان كثيرة . فقد كتب نظرية " الثورة الدائمة " عام 1905 في مقالة " نتائج وتوقعات " وكتب " الادب والثورة " و " العهد الجديد " و " الى اين " و" نقد مشروع الكومنترن " ومقالات عن الثورة الدائمة . وكتب " تاريخ الثورة الروسية " و " حياتي " وكتب " الثورة المغدورة " وسيرة حيياة ستالين و مؤلفات أخرى .
تقويم تروتسكي تعددت توصيفات تروتسكي بين من يشوه اراءه ويحط من سمعته ، وبين من يهمله ويقلل من شانه ، وبين من يرفعه بتوصيفات تخلو أحيانا من الأمانة التاريخية . وجميع تلك التوصيفات انطلقت من الموقف السياسي المسبق بعيدا عن روح البحث السليمه ، فقد وصفه ستالين ب " قائد طليعة الثورة المضادة " و " حليف هتلر " و " مشعل الحرائق " و " رجل متوحش " و " عدو الفلاحين " و " المذهبي الجامد " ، ووصفه تشرشل بان تقطيبة من حاجبيه كانت تعني الموت للالاف اما الان فهو هناك فاقد للعزاء شبيه بصرة اسمال بالية على سواحل البحر الأسود " . بينما وصفه اخرون بانه مفكر وصانع ثورة أكتوبر ، وانه مبدع نظرية " الثورة الدائمة " . ونجد مقابل تلك التوصيفات تحليلات فيها الكثير من الموضوعية لشخصية ومنجز تروتسكي ، وعلى راس أولئك اسحق دويتشر الذي اخضع تروتسكي لرؤية نقدية ، اذ ذكر بان تروتسكي اغرق نفسه في متطلبات الممارسة اليومية والنضال السياسي والتنظيمي بدل الدراسات النظرية والتاريخية وانه افتقد الى الواقعية في بعض ارائه مثل " الثورة السياسية " كافق لتطور الصراع داخل الاتحاد السوفيتي ، واخطا حين توقع ان الحرب العالمية الثانية ستنتج نفس الاشكال التي افرزتها الحرب العالمية الأولى من صراعات طبقية وانتفاضات عمالية . كما وصفه اخرون بانه " مفكر المستقبل " أي ان عقله وارادته وحيويته موجهة نحو المستقبل وهو يراهن على التغيير والانقلاب .
بعد توفر مصادر كثيرة عن تروتسكي لم يعد معقولا او مقبولا ان نعيد انتاج المواقف السابقة منه ، والمستندة الى الفكرة المسبقة المصممة ضد او مع تروتسكي . وساحاول في هذه المقالة تناول اغلب المسائل الخلافية على ضوء الحقائق التاريخية للإجابة على الأسئلة التي طرحتها في المقدمة.
أولا :
حول موقف تروتسكي من المناشفة في المؤتمر الثاني لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي وما بعده : اختلف المناشفة مع البلاشفة على اربعة محاور وهي ؛ المسالة الزراعية والموقف من الأحزاب البرجوازية والموقف من النزعة البرلمانية ومسالة الانتفاضة المسلحة . انضم تروتسكي الى المناشفة ثم انفصل عنهم لاختلافه معهم حول الانتقال من الثورة البرجوازية الديمقراطية الى مهمات الثورة الاشتراكية، على ضوء ما هو خاص في التجربة الروسية وليس على أساس استنساخ التجربة الأوروبية او التمسك بالنصوص النظرية التي تخص التجربة في أوروبا خلال القرن التاسع عشر . وكان في البداية يرى ان الفريقين يعتنقان المبادئ السياسية والتنظيمية نفسها وكان يعتقد ان هذا الانشقاق غير المجدي يصبح مصدر ضعف للحزب والطبقة العاملة ، الا انه غير موقفه منهم تماما واصبح الد اعدائهم حينما تبنوا فكرة إصلاحية تدعو لتاجيل حدوث ثورة اشتراكية الى المستقبل البعيد ، وعلى الطبقة العاملة ان تلعب دور التابع للبرجوازية . بينما كان تروتسكي يرى ان النضال الثوري ضد النظام القيصري سوف يؤدي الى تعبئة الطبقة العاملة التي يمكنها قيادة الفلاحين نحو النصر واسقاط الدولة القيصرية وإنجاز مهام الثورة الدمقراطية البرجوازية ، ولن تنتهي الثورة عند ذاك ، اذ ستجد حكومة العمال والفلاحين نفسها مجبرة على تطبيق تدابير اشتراكية منذ اليوم الأول لتوليها السلطة . وهذا الموقف يتطابق مع موقف لينين ، الا ان تروتسكي عرف متاخرا انه لا يمكن تحقيق وحدة الطبقة العاملة الا بعد القطيعة التامة مع جميع التيارات الانتهازية . بقيت سبة علاقة تروتسكي مع المناشفة تلاحقه في المحافل المختلفة طيلة صراعه مع ستالين .
ثانيا :
حول دوره في الثورة الروسية الأولى عام 1905 لم اجد أحدا يزاود تروتسكي على دوره في هذه الثورة ، اذ انه حال سماعه بالاضرابات العمالية الأولى غادر أوروبا والتحق بالعمال الثائرين واصبح رئيس مجلس سوفييت سان بطرسبرغ . بسبب خصائص تطور الراسمالية في روسيا ادرك تروتسكي إمكانية انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا قبل انتصارها في أوروبا الغربية .وكانت وجهة النظر هذه قريبة من وجهة نظر البلاشفة . اعتقل تروتسكي الى جانب عدد من أعضاء مجلس سانت بطرسبيرغ وتم ترحيلهم الى سيبريا ، وفي منفاه الثاني وضع نظرية " الثورة الدائمة " التي يجب ان تتعدى حدود روسيا الى انحاء العالم .
ثالثا :
الثورة الدائمة : ان اول من استخدم مفهوم " الثورة الدائمة " هو ماركس وانجلز بعد دراستهما للنتائج التي تمخضت عن ثورات 1848 . فقد فكر ماركس في نتائج التطور غير المتكافئ بين الدول الراسمالية والذي يسمح بفهم كيف تتشابك الثورة البرجوازية التي لم تكتمل بعد ، مع الثورة البروليتارية التي أصبحت حتمية " وهي عند ماركس ثورة ضد كل اشكال الحكم الطبقي الاستغلالي ولا تقف عند حدود مرحلة الديمقراطية البرجوازية بل تتجاوزها الى الإجراءات الاشتراكية ولا تنتهي هذه الثورة الا بعد تصفية المجتمع الطبقي تصفية تامة . فهي اذن ثورة ضد التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية الراسمالية أينما حلت على الكرة الأرضية وهي ثورة تتجاوز حدودها المكانية والزمانية أي انها لا تنكفئ على نفسها ، فهي حلقة في سلسلة طويلة من الثورات المتواصلة تنتهي بالخلاص من مملكة الضرورة نحو فضاء الحرية الفسيح .
في عام 1906 عرض تروتسكي نظرية " الثورة الدائمة " مستخدما مفهوم ماركس نفسه ومعتمدا على جوهر ما عرض ماركس عن الثورة الدائمة ، فالبروليتاريا حينما تنتصر في بلد معين فان نصرها هذا ليس الا بداية لثورة شاملة تنتقل من بلد الى اخر ، وستستمر الى ان تحل الاشتراكية محل التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية الراسمالية . وعرض تروتسكي ما هو خاص في تطور الراسمالية الروسية المركب الذي يعني ان الراسمالية الروسية الضعيفة ستصل بالثورة الى طريق مسدود . وان هذه الثورة ستتخطى وستجرف ليس القيصرية فقط وانما الراسمالية الروسية نفسها ، لان القوة المحركة الرئيسية لهذه الثورة هي الطبقة العاملة المدعومة من قبل جماهير الفلاحين ، وستكون هذه الثورة مقدمة لانتفاضة شاملة للعالم . فالاشتراكية كما قال ماركس " تبتدئ حيث تنتهي الراسمالية " ، واعتبر ان الاشتراكية والدولة القومية على طرفي نقيض ليدحظ بهذا الفهم نظرية ستالين " الاشتراكية في بلد واحد " .
في عام 1924 ابتكر ستالين شعار " الاشتراكية في بلد واحد " في مقالة كتبها للهجوم على نظرية " الثورة الدائمة " لتروتسكي . ان فكرة الاشتراكية في بلد واحد تعود الى الإصلاحي الألماني ج فولمار الذي طرحها قبل برنشتين بعشرين عاما أي عام 1863 واطلق عليها " دولة اشتراكية معزولة " ولكنها تختلف عن دولة ستالين التي ربطها بمجتمع متخلف حيث اشترط فولمار ان تكون دولة متطورة مثل المانيا . ان ستالين لجأ الى نظرية " الاشتراكية في بلد واحد " بسبب الحصار الذي فرضته البلدان الراسمالية وانهيار الصناعة والزراعة ، والتدمير الذي لحق بما تبقى بفعل الحرب الاهلية الطاحنة ، لكن هذا الواقع لا يبرر في الممارسة عددا من الظواهر وكأن فكرة ماركس عن اممية الثورة الاشتراكية قد عفا عليه الزمن ، كما ان هذه الضرورة لا تبرر اتجاه ستالين الى التجميع القسري للفلاحين ، وسيطرة الدولة على أراضي الفلاحين ، وإدارة عملية تصنيع سريعة على حساب حياة العمال في المدن ومصالح الفلاحين في الريف ودون اتخاذ هذه القرارات بمشاركة أصحاب الشأن انفسهم . وان بناء الاشتراكية في بلد واحد لا يبرر استخدام التنكيل والعنف والابتعاد عن العلاقة العضوية بين الاشتراكية والديمقراطية .
رابعا :
ثورة أكتوبر: ادرك تروتسكي متأثرا بما طرحه لينين والبلاشفة ، بان انتصار الثورة في روسيا وبناء المجتمع الاشتراكي في روسيا " سيتوقف على الظرف العالمي وامتداد الثورة الى البلدان الراسمالية الأكثر تقدما " ، وهذا التحليل يستند أساسا الى ما عرضه لينين في كتابه " الامبريالية اعلى مراحل الراسمالية " تطويرا لنظرية ماركس في الثورة التي ظهرت في مرحلة المنافسة الحرة ، اذ ربطت انبثاق الثورة الاشتراكية في البلدان الراسمالية المتقدمة ، وقد تم تجاوزها بتحول الراسمالية الى مرحلة الامبريالية ، قال لينين " لقد حطمت ثورة أكتوبر الحلقة الأضعف في السلسلة الامبريالية العالمية وليس لجمهوريتنا الديمقراطية أي احتياطي دعم سوى البروليتاريا الاشتراكية في الغرب " ، كما ادرك تروتسكي والبلاشفة بان انتصارهم يتوقف على قدرتهم على جر الفلاحين الفقراء والمتوسطين الى صفوف الثورة . فاما ان تنتزع البروليتاريا السلطة وتنشأ دولة عمالية متحالفة مع الفلاحين او ستنتصر الثورة المضادة .
ان ما قرب بين لينين وتروتسكي بعد خصومة دامت عقدا من الزمن هو اتفاقهما على ثلاث قضايا أساسية : القضية الأولى هي الموقف الاممي الصلب ضد استمرار الحرب العالمية الأولى . والثانية هي اتفاق تروتسكي مع لينين في تحليله مفهوم الثورة في ظل الامبريالية ونضج عواملها الموضوعية والذاتية في الوضع الروسي الملموس والثالثة هي تراجع تروتسكي عن دعوته الى توحيد المناشفة مع البلاشفة ، وتحول تروتسكي الى اشد المناوئين للاصلاحيين الداعين الى التوافق الطبقي .
خامسا :
الأممية الرابعة : لم يكن تروتسكي الى عام 1933 ينوي شق الحركة الشيوعية بتاسيس اممية جديدة ، وكان يوصي أنصاره بان يبقوا مخلصين للاممية الشيوعية رغم انهم مطرودون منها ، فهو ما زال يعتبر الاتحاد السوفيتي دولة عمالية رغم تشويهات البيروقراطية . اتخذ تروتسكي قراره بالقطيعة مع الأممية الشوعية واحزابها بعد الاجتماع الأخير للاممية الثالثة عام 1935 والذي تبنت فيه سياسة الجبهات الشعبية ضد الفاشية . ورغم ان النضال ضد النازية الألمانية في الثلاثينات كان القضية الكبرى بالنسبة للطبقة العاملة والاممية الشيوعية والمعارضة اليسارية ، الا ان الستالينية رفضت أي شكل من اشكال التعاون مع الاشتراكية الديمقراطية ضد النازية واعتبرتهم الجناح اليساري للنازية والفاشية . وفرض ستالين هذا الموقف على الأممية الثالثة مثلما فرضه على الحزب الشيوعي الألماني ومنعه من التحالف مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي خلال الانتخابات التي مهدت لصعود هتلر الى سدة المستشارية لاحقا ، ولو حصل ذلك التحالف لفاز اليسار بالأغلبية ولسارت الأمور بغير ما آلت اليه من خسائر جسيمة لليسار الألماني أولا وللطبقة العاملة وجميع شعوب الأرض بسبب النزعة العدوانية للنازية الألمانية علما ان الحزب الاشتراكي الألماني والحزب الشيوعي يملكان ضعف الأصوات التي ذهبت للحزب النازي. بعد عام 1933 دعا تروتسكي الى ثورة سياسية بديلة وليس ثورة اجتماعية تتولى إزاحة السلطة البيروقراطية وإعادة الديمقراطية العمالية الاشتراكية الى الاتحاد السوفيتي ، وهذا يعني تغيير النظام السياسي فقط دون تغيير في المنجزات الكبرى لثورة اكتوبرالمتعلقة بالملكية العامة لوسائل الإنتاج . كما دعا الى تأسيس اممية رابعة تكون بديلا للاممية الثالثة التي اعتبرها أداة تنفذ رغبات ستالين وتفرض سياساته على الحركة الشيوعية العالمية .
في عام 1938 اجتمع في باريس حوالي ( 40 ) مندوبا لم يكن بينهم أي مندوب عن المعارضة الروسية في الداخل بسبب تحطيمها ، ليعلنوا تأسيس الأممية الرابعة التي صاغ تروتسكي برنامجها الانتقالي ، ولم يحضر تروتسكي الى المؤتمر لاستحالة دخوله فرنسا من المكسيك. وجاء في تسبيب التاسيس " انه من دون الثورة الاشتراكية القادمة تتعرض الحضارة الإنسانية لخطر الكارثة " وان الازمة التاريخية التي تعاني منها الإنسانية تتلخص في ازمة القيادة الثورية .
بالرغم من عقد ( 15 ) مؤتمرا وكونفرنسا للاممية الرابعة منذ تاسيسها ، فقد عانت هذه الأممية من تعثرات كثيرة عللها البعض بالقمع الفاشي والستاليني ، إضافة الى انتصار الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية ، ومقتل تروتسكي عام 1940 . وكان تروتسكي على وعي ودراية بالصعوبات التي تحيط بالاممية الرابعة بسبب تردي معنويات الكثير من أنصاره وتفشي حالة الانقسام بينهم ، وقلة اعدادهم وتفرقهم في مناطق متباعدة ، وعوامل متعلقة بالامكانات المالية . لذلك راى دويتشر ان الأممية الرابعة منذ تاسيسها كانت حركة لا معنى لها وهي اقتراف عمل جنوني .
سادسا :
دكتاتورية البروليتاريا ان مفهوم " دكتاتورية البروليتاريا " هو من ابداعات ماركس وانجلز ، وهي تعني إحلال كتاتورية البروليتاريا وحلفائها محل دكتاتورية مستغليها التي كانت سائدة قبل ثورة البروليتاريا ، ولذلك كان تروتسكي يصر على وصف النظام البرلماني الغربي بانه دكتاتورية البرجوازية . . وهي بهذا المعنى تعني ممارسة البروليتاريا وحلفائها للسلطة السياسية والتي هي الشكل الوحيد الذي تقيم عليه سلطة حكومية ، وهي نظام يضمن للطبقة العاملة التفوق الاجتماعي . ولا يعني هذا المفهوم طريقة الحكم المؤسس على القمع والتعسف وفرض الإرادة كما تروج له الأيديولوجيا البرجوازية مستغلة الحكم البيروقراطي القمعي الستاليني الذي لا يمت بصلة الى مفهوم الاشتراكية . وما جرى في الاتحاد السوفيتي تحت سطوة ستالين هو إحلال دكتاتورية البيروقراطية والسلطة المطلقة وفسادها بدل دكتاتورية البروليتاريا ، فغيبت الطبقة العاملة وذاب الحزب بين حنايا البيروقراطية . حسم ماركس هذا الامر برسالته الشهيرة الى فيديماير عام 1852 " ان الصراع الطبقي يقود بالضرورة الى دكتاتورية البروليتاريا ، على ان هذه الدكتاتورية ذاتها لا تشكل سوى الانتقال الى الغاء كل الطبقات والى مجتمع بلا طبقات " و " في الظرف الثوري لا مفر للطبقتين المتعاديتين من ان يبلغ الصراع بينهما اقصى مداه فاما دكتاتورية البرجوازية واما دكتاتورية البروليتاريا .
سادسا :
محاور الصراع بين تروتسكي وستالين وقف تروتسكي ضد سياسات ستالين البيروقراطية . فمنذ 1920 -1923 قاد تروتسكي اول حركة معارضة ضد ستالين مستنكرا تهشيم الديمقراطية السوفيتية وتفاقم البيروقراطية في الحزب والدولة . كما وجه تروتسكي نقدا حادا لنظرية ستالين " الاشتراكية في بلد واحد " .
جاءت الستالينية لتقتل الروح النقدية للماركسية ولم يبق منها سوى الشكل اما روح الماركسية فقد قتلها الجمود وخنقت البيرةقراطية الحزب الشيوعي وحولته الى أداة سياسية لستالين وجعلته قائدا للأحزاب الشيوعية في العالم ، ما افقد تلك الأحزاب استقلاليتها ودراسة ما هو خاص في تجربتها.
ان سلوك الستالينية يثبت الطابع المزدوج لها ، فمن جهة يظهر الطابع غير الراسمالي للبيروقراطية الستالينية عبر ملكية الدولة لوسائل الانتاجومن جهة أخرى أظهرت الطابع المعادي للعمال في الوقت ذاته .
حينما طرح تروتسكي مشروعه الاقتصادي " التجميع الزراعي والتسريع الصناعي " بهدف تجاوز المجاعة وزيادة الإنتاج وتحسين الأداء ، اقام ستالين الدنيا واقعدها ، وحرض العمال والفلاحين ضده وادعى ان تروتسكي سيسبب لهم الدمار الشامل . وبعد ان طرد ستالين تروتسكي من الحزب والدولة تبنى هو نفسه سياسة تروتسكي ولكن بالمقلوب ،اذ قام ستالين في عام 1928 بالتجميع القسري للفلاحين وسيطرت الدولة على أراضي الفلاحين وادارت عملية تصنيع سريعة كان لها اثار شديدة القسوة على حياة العمال في المدن لانه نفذها بقوة السلطة والبيروقراطية على عكس خطة تروتسكي التي كانت تستند في التطبيق الى الموافقة الطوعية والواعية للعمال والفلاحين على الخطة بعد القيام بحملات توعية باهدافها .
ادان تروتسكي موقف ستالين تجاه اضراب عمال المناجم البريطانيين عام 1926 لصالح تحالف البيروقراطية النقابية البريطانية في اطار اللجنة الإنجليزية الروسية ، وشجب فرض ستالين سياسة المهادنة على الحزب الشيوعي الصيني خلال ثورة 1925-1927 مع تشين كاي شك وعرض الانتفاضة للذبح على يد الكومنتانج . وادان تروتسكي سياسة ستالين الاقتصادية التي شجعت الفلاحين الأغنياء عام 1924-1928 ، الى حين انقلب هؤلاء ضد الدولة العمالية، وجوعوا المدن بتوقفهم عن تسليم المحاصيل .
هاجم تروتسكي توجه الكومنترن الذي تحول من اليمين الى اليسار ، فبدلا من تحليله السابق عن استقرار الراسمالية النسبي ، بدأ يتحدث عن نهاية الاستقرار والانهيار الوشيك للراسمالية .
استنتاجات : اذا كان مفهوم " المفكر " يعني المنظر وخالق المفاهيم ، ولديه منظومة مفاهيمية مفاهيمية متكاملة تساعده في انتاج معرفة جديدة اثبتت الممارسة صحتها وتحولت من نظرية افتراضية الى حقيقة يستند اليها الباحثون في دراساتهم . فهل ينطبق مفهوم " المفكر " على تروتسكي ، لم اجد الا مفهوما واحدا استخدمه تروتسكي في توصيف المشهد الاقتصادي الاجتماعي الروسي قبل ثورة أكتوبر وهو مفهوم " التطور المركب " ارتباطا بتعدد الأنماط الاقتصادية في ان واحد ، والتمايز الكبير بين الريف والمدينة واستخدام تكنولوجيا متخلفة في الزراعة والصناعة وتمايز اجتماعي بين السكان ، وبعثرة الفلاحين في الأرياف البعيدة . وهذا التوصيف ليس جديدا فقد وصف لينين المشهد الاقتصادي الروسي في احد كتبه المشهورة المبكرة عن القضية الزراعية عام 1893 " تطور الراسمالية في روسيا " نشر عام 1899 .
اما مفهوم " الثورة الدائمة " الذي كرس الاعلام الستاليني كل جهوده لتشويهه فهو ليس من ابداع تروتسكي وانما هو مفهوم استخدمه ماركس وانجلز في بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر ؛ كتب ماركس في اذار عام 1850 لرابطة الشيوعيين يحلل الوضع في المانيا آنذاك " في الوقت الذي يريد فيه البرجوازيون الديمقراطيون الصغار انهاء الثورة في اقرب وقت ، يكون فيه من واجبنا ان نجعل " الثورة دائمة " الى ان تطرد كل الطبقات المالكة الى هذا الحيز او ذاك من السلطة وحتى تستولي البروليتاريا على السلطة وان تنجح ليس في بلد واحد فقط ، بل في كل البلدان الأخرى في العالم " واعتبر تروتسكي هذا المفهوم هو جوهر الماركسية ، لانه يستمر بالتاثير والفعل الى ان تتجاوز البشرية التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية الراسمالية . وكان لينين احد دعاتها والمتحمسين لها ، وبنى نظرية " الثورة الاجتماعية " في ظل الامبريالية على أساس هذا المفهوم وربط بين مستقبل ثورة أكتوبر بانتصار الثورات البروليتارية في أوروبا . وهذا لم يتحقق فادخل التجربة السوفيتية في نفق مظلم .
ان اغلب كتب تروتسكي تدخل في حقل الدراسات التاريخية مثل " تاريخ الثورة الروسية " ، " الثورة المغدورة " ، " روسيا بعد ستالين " ، " الأممية الثالثة بعد لينين " ، الرهاب والشيوعية " ، الاشتراكية في بلد واحد " ، " مع كاوتسكي " ، حول الإرهاب والشيوعية " . تحضرني الملاحظة اللماحة والذكية من قبل اسحق دويتشر عاتبا على تروتسكي " ان تروتسكي اغرق نفسه في متطلبات الممارسة اليومية والنضال السياسي والتنظيمي بدل الدراسات النظرية " .
انا أرى ان تروتسكي رجل دولة ورجل سياسة وخطيب وباحث من الطراز الأول لانه اثبت انه يمتلك ذاكرة قوية وعقلية فعالة في القيادة وقدرة نادرة في الإدارة والاقناع ، والا كيف استطاع ان يدير وزارتين مختلفتين تماما في الوظائف ، وزارة الخارجية ووزارة الحرب ، وفي وزارة الحرب نجح نجاحا باهرا في تأسيس الجيش الأحمر واختار عبرة القطار المتحرك على طول الجبهات الواسعة لتكون مكتبا لهيئةاركانه يدير الحبهات ميدانيا طيلة خمس سنوات مريرة من الحرب الطاحنة وكان خلالها يؤدي أيضا دوره في المكتب السياسي واللجنة المركزية ومؤتمرات الأممية وهو الذي كان يصوغ بياناتها . وفي فترة نفيه وتشرده بين البلدان كان شغله الشاغل هو في تاليف الكتب التي يقض بها مضاجع ستالين ويتابع بتفصيل كل ما يجري من نشاط يقوم به اتباعه في اكثر من 28 بلدا دون ملل ، يساعده في مهمته العصية هذه فريق اممي من المتطوعين الشباب ، تعلموا منه الكثير وكانوا حريصين على تلبية كل ما يحتاج اليه . ولكنه مع ذلك لم يرتق الى مستوى المفكر صانع المفاهيم ومبدع النظريات .
المصادر :
ثورة أكتوبر اسحق دويتشر دار الحقيقة بيروت
روسيا بعد ستالين اسحق دوي ترجمة مضطفى الفقير المؤسسة العربية للدراسات بيروت
الاممية الرابعة فرانسوا مورو ترجمة كميل داغر دار التنوير
الثورة المغدورة تروتسكي ترجمة رفيق سامر دار الطليعة بيروت
الثورة الدائمة نتائج وتوقعات تروتسكي ترجمة بشارة ابو سمرة دار الطليعة بيروت
الارهاب والشيوعية تروتسكي ترجمة جورج طرابيشي دار دمشق
معجم الماركسية النقدي جورج لابيكا – جيرار بن سوسان
الاشتراكية في بلد واحد تروتسكي دار الحقيقة بيروت
نضال الحزب البلشفي ضد التروتسكية ترجمة اديب خضور دار دمشق للنشر
النبي المسلح اسحق دويتشر ترجمة قيصر داغر بيروت
النبي الأعزل اسحق دويتشر ترجمة قيصر داغر بيروت
النبي المنبوذ اسحق دويتشر ترجمة قيصر داغر بيروت
تروتسكي مانديل هدى حوا الحوار المتمدن انترتيت
تروتسكي والثورة الدائمة عبد الحفيظ حافظ انترنيت
تروتسكي البرجوازي الصغير فؤاد النمري انترنيت
حياة تروتسكي صلاح الامام انترنيت
مقالة عن التروتسكية والإرهاب وليد نويهض انترنيت
من هو ليون تروتسكي أسماء سعد الدين انترنيت
من هو ليون تروتسكي الحوار المتمدن انترنيت
من هو تروتسكي ويكيبديا انترنيت
من تاريخ البلشفية غرانت انترنيت
#فرحان_قاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ملاحظات على مشروع النظام الداخلي الذي سيقدم إلى المؤتمر الحا
...
-
رؤية في النظرية والتطبيق على هامش الاحتفال بالذكرى المئوية ل
...
-
التحليل الخاطئ والنتائج المعكوسة
المزيد.....
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
-
رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51
...
-
العمال يترقبون نتائج جلسة “المفاوضة الجماعية” في وزارة العمل
...
-
أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع
...
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|