يدور جدل مستفيض في السودان حول دور منظمات المجتمع المدني. وقبل تحديد هذا الدور تثار قضايا ساخنة حول ماهية هذه المنظمات وطريقة تكوينها وهل هي منظمات تهدف لخدمة قضايا المجتمع ام للاسترزاق. كما يثير البعض العديد من النقاط الخاصة بتجربة السودان وتكوين هذه المنظمات وظهورها للعلن منذ مؤتمر الخريجين في نهاية النصف الاول من القرن الماضي.
وفي هذا المقال يطرح محمد ابراهيم نقد السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني رأيه في هذا الموضوع كمقدمة لبحث متكامل حول قضايا المجتمع المدني.
وكتب نقد هذه الاطروحة خلال الفترة 1990م ـ 1991م، ما بين الاعتقال والاقامة الجبرية، ضمن ثلاث اوراق ارفقها باثنتين اخريين في منتصف 1994م، واعتبرت في مجموعها تدشينا لأطول مناقشة عامة من نوعها انتظمت الحزب بقرار صادر من لجنته المركزية في اغسطس 1991م، ولاتزال مستمرة حتى الآن. وتتناول المناقشة جملة قضايا مهمة بالنسبة للشيوعيين السودانيين، ابتداء من مستقبل الاشتراكية ـ في ظروف الزلزال الذي تعرضت له بانهيار حائط برلين واختفاء الاتحاد السوفييتي وما كان يعرف حتى مطالع تسعينيات القرن المنصرم بالمعسكر الاشتراكي ـ وانتهاء باسم الحزب نفسه في السودان.
وحسب مصادر «بيان الاربعاء» فقد ساهم نقد، المختفي في قيادة العمل السري للحزب منذ ثماني سنوات، في هذه المناقشة العامة مرتين: المرة الاولى بإصداره عام 1998م ورقة بعنوان «مباديء موجهة للمناقشة العامة»، اما المرة الثانية فبهذه الورقة التي عرض فيها تصوره لمفهوم «الدولة المدنية ـ المجتمع المدني ومنظماته» اضافة الى ورقة اخرى حول موقف الحزب من مفهوم العلمانية كان «بيان الاربعاء» نشرها قبل اشهر. وقد حصل «بيان الاربعاء» على نسخة من هذه المساهمة، وننشرها فيما يلي، نظرا، من جهة، للمكانة السياسية والفكرية المتفردة التي يشغلها كاتبها بين القيادات التاريخية للحركة السياسية في السودان والمحيطين العربي والافريقي، ومن الجهة الاخرى لما يشكله موضوعها نفسه من اهمية بالنسبة للمحللين والباحثين حول مستقبل هذا الحزب، بحكم موقعه من خارطة القوى السياسية الفاعلة، وكذلك حول اجندة الصراع السياسي ومساراته ومآلاته في هذا البلد خلال المرحلة المقبلة.
وفيما يلي نص الاطروحة:
لعلك قرأت ملهاة «البرجوازي النبيل» للكاتب الفرنسي الساخر، موليير «1622 ـ 1673» ويجوز تعريبها «مستجد النعمة». اغتنى المسيو جوردان، بطل الملهاة، ولامس المجتمع المخملي للنبلاء وعلية القوم والاثرياء، وريحانة مجالسهم من أدباء وشعراء، فانبهر بأحاديثهم وذرابة السنتهم وسلاسة مصطلحاتهم العصية على قاموسه العامي العاجز عن مجاراتهم. فاستأجر معلماً ـ معادل «مؤدب الامير» في تراث الارستقراطية العربية الاسلامية، او «مثقفاتياً».. وكان الدرس الاول: يصنف الادب الى نثر وشعر، وما لا ينضوي تحت لواء الشعر فهو نثر! فانفجر مستجد النعمة ضاحكاً في حبور طفولي، حتى ألجمت الدهشة لسان الاستاذ، ثم افاق من دهشته وسأل تلميذه عن دافع الضحك، فأجاب: ما كنت اعلم انني ظللت طوال حياتي اتحدث نثراً، حتى عندما طلبت من خادمي ان يحضر لي حذائي.
كاد حالنا ان يتماهى مع حال المسيو جوردان، اذ ظللنا ولما يزيد على نصف قرن نتداول مصطلحات: الجمعيات الادبية، الاندية الرياضية الثقافية الاجتماعية، اندية الخريجين، اندية العمال، الاحزاب السياسية. الحركة النقابية، حركات المزارعين والطلبة والنساء والشباب. اتحاد الصحفيين، اللجان الشعبية للدفاع عن الحريات، اللجان القومية للتضامن مع شعب مصر، كينيا، العراق، الكنغو، الروابط الادبية في عطبرة وسنار وكوستي والابيض ومدني، التجمع النقابي، التجمع الوطني الديمقراطي، مجالس الآباء والأمهات، الروابط القبلية والاقليمية، تضامن قوى الريف، اتحاد الكتاب، الجمعيات الخيرية.
لكنا تمايزنا عن مستجد النعمة، كوننا لم تحوينا دهشة ولم يشل تفكيرنا ارتباك، عندما قيل لنا: مصطلحاتكم على تكاثرها يحيطها ويؤطرها مفهوم او مصطلح المجتمع المدني، والمنظمات الطوعية ـ بين حاصرتين ـ غير الحكومية!
طفقنا نستحث مخزون الذاكرة ونستزيد من الاطلاع، بعضنا التقى مصطلح المجتمع المدني في الوافد من مؤلفات المفكر الايطالي الماركسي، قرامشي «1891 ـ 1937» في ترجمة انجليزية او عربية خلال ستينيات القرن العشرين. ثم اتسعت الدائرة بفضل ترجمة انجزها مثقفان سودانيان، لم يشغلهما ضجيج الصراع السياسي عن قضايا الفكر والثقافة: الراحلان هنري رياض والجنيد علي عمر ـ دار الجيل بيروت.. ثم طرق المصطلح سمعنا في النصف الثاني من السبعينيات، في ثنايا ظاهرات التحولات السياسية والاجتماعية الجديدة في البلدان الاشتراكية، وحصرا نقابة التضامن في بولندا ـ ارهاصاً ونواة لنشاط جماهيري قاعدي، خارج الاطر التنظيمية القانونية الرسمية، ومن بعدها بيان الكتاب في تشيكوسلوفاكيا، وأشكال جنينية في بعض جمهوريات الاتحاد السوفييتي، ودول اخرى. تحسست تلك التحركات خطاها بذكاء وحكمة، مستوعبة تجارب الاخفاقات السابقة. فلزمت جانب القانون، للافلات من عصفه وعسفه، واستعصمت بأطروحة: ما لا يمنعه القانون مباح! ثم اعلنت تمسكها بالدستور وحقها في ممارسة حقوقها الدستورية، واستظلت بحماية الدستور من القوانين التي تنقصه نصاً وروحاً. لم تتصف تلك الحركة بمصطلح المجتمع المدني، انما أضفته عليها مدارس وجماعات اليسار الجديد التي تبلورت خلال ثورة الشباب العاصفة في فرنسا وغرب اوروبا في الستينيات ثم تسرب الى بعض منابر شرق اوروبا.
صرف النظر عن المصطلح او الاسم «What is in a name?»، شكسبير: روميو وجولييت ـ كانت الحركة موجات متصاعدة من قاع المحيط الاجتماعي، متدافعة نحو اصلاح سياسي اجتماعي شامل للتجربة الاشتراكية، وتحريرها من آثار الشمولية وانفراد حزب واحد بالسلطة، وهيمنة الدولة ومؤسساتها على المجتمع ـ كان المجتمع قد عقد عزمه ان يستعيد تمايزه واستقلاله عن الدولة: ما للدولة للدولة، وما للمجتمع للمجتمع! وبذات المعادلة: ما للمجتمع الاشتراكي للمجتمع الاشتراكي ـ مستقلا عن هيمنة مؤسسات الدولة الاشتراكية، وما للدولة الاشتراكية للدولة الاشتراكية. اشتراكية المستقبل لن تكون جديرة بالصفة، ودع عنك الاسم، ان لم تتقيد بهذه المعادلة!!
استقبلنا عقد التسعينيات تحت القبضة الخانقة المتخلفة لانقلاب الجبهة القومية الاسلامية، وفرض الشمولية الاصولية الاسلامية ـ ومن يومها بدأ مصطلح المجتمع المدني يتمدد حتى أطبق الآفاق، ظاهرة أحسن تفسيرها حسن عبدالعاطي ـ الناشط في هذا المجال ـ في ورقة تقدم بها لورشة عمل جمعية بابكر بدري العلمية، ونقلتها صحيفة الصحافة: «ضرورة سد الفراغ الناجم عن غياب الديمقراطية، والصحافة الحرة التي تحمي الحقوق العامة، والنقابات التي تحمي حقوق المجموعات، وغياب القوانين والمؤسسات التي تحمي حقوق الحرية الفردية ولهذا ارتفع بشدة عدد وصوت وتأثير المنظمات العاملة في مجال حقوق الانسان والمرأة والطفل والمجتمعات المحلية «ثم تناول المنظمات الطوعية او غير الحكومية َّداخ وأشار الى انها نشأت لسد الفراغ الذي نشأ نتيجة عجز الدولة والافراد والجماعات عن تلبية احتياجات اغفلها النظام السياسي والاجتماعي في السودان..»
ما لم يذكره حسن، ان تلك المنظمات نشأت وتكاثرت كحلقات في شبكة مراكز ومؤسسات عالمية داعمة وممولة.
دلفنا الى الألفية الثالثة وقد تحصنا بمصل المعرفة ضد دعوى دهشة المسيو جوردان ـ اذ لا يندهش الا غافل! كنا نتعامل بمصطلحات بسيطة وعفوية، ولكنها دالة، أشبه بتعاملنا مع داء «ابعديلات» وظل الداء داء، بعد ان أسماه الطبيب «التهاب الغدة النكافية».
عدنا للأصول والمراجع، وتابعنا كلاسيكيات اوروبا منذ القرن الثامن عشر، وابهاء عصر التنوير الآسرة، المفعمة انسانية وتفاؤلا، وتابعنا ما تلاه من عصور، نقرأ ونقارن ونستزيد ولا نزال، حتى ندوة: «الديمقراطية في السودان» 4 ـ 6 يونيو 1993 ـ مركز الدراسات السودانية، ومركز الأهرام ـ القاهرة. ثم ورشة بابكر بدري العلمية ـ امدرمان ـ 2002 ـ ثم منتدى المجتمع المدني ـ مركز الدراسات السودانية، وصحيفة الصحافة ـ نوفمبر 2002 ـ الخرطوم. ثم ملف لا يزال ينفتح بقصاصات ما نشر وما ظل وما سوف ينشر في الصحف السودانية، عن هذا الكائن العجيب وهو بين ظهرانينا لأكثر من نصف قرن!ظل دفق وعطاء الدوريات ودور النشر العربية غزيرا طوال التسعينيات: ندوة مركز الوحدة العربية ـ «المجتمع المدني في الوطن العربي» بيروت ـ 1992 ـ مجلة المستقبل ـ عدد 4 ـ 1992 ـ «نشأة وتطور مفهوم المجتمع المدني».
بضعة كتب من بين المراجع التي امكن الحصول عليها، جديرة بالاشارة: الاول باللغة الانجليزية: Civil Society: Theory, History, Comparison - Polity Press والثاني: دراسة نقدية، اقرب الى رسالة الدكتوراه، وفق التقاليد الكلاسيكية الصارمة للجامعات الالمانية، منذ ان كان هيجل استاذا، وتلميذه ماركس طالباً.. المؤلف ـ عزمي بشارة ـ «المجتمع المدني: دراسة نقدية ـ مع اشارة للمجتمع العربي» ـ مركز دراسات الوحدة العربية ـ 1998 ـ بيروت يحتوي الكتاب مقدمة وخمسة فصول: حدود المفهوم وتاريخه ـ من الليفثان الى يد السوق الخفية ـ انفصال المجتمع المدني عن الدولة لكي يعود اليها ـ الامة والقومية والمجتمع المدني ـ واقع وفكر المجتمع المدني حوار عربي.
احتفظ د. بشارة بنظرته الناقدة، وهو يطوف بنا من توماس هوبس، الى جون لوك، ثم ديفد هيوم ومنتسكيو وروسو وآدم سمث وجون ستيوارت ميل وتوكفيل، ثم يتوقف عند هيغل الذي لخصت فلسفته واستوعبت ما قبله، ثم عرج على ماركس وانجلز، ما كان له، وهو يعالج قضايا ومعضلات المجتمع المدني في القرن العشرين ان يتفادى قرامشي.
في ظهر الغلاف، لم ينشر المؤلف ـ او الناشر ـ سيرة ذاتية او صورة، انما فقرات موحية من مدخل الكتاب، ص7: «يهدف هذا الكتاب الى تحويل مقولة المجتمع المدني الساكنة، والتي تثير الرضى والاسترخاء عند بعضهم، والنقمة والسخط عند البعض الاخر الى مقولة تاريخية متحركة تظهر الطاقة الكامنة فيها من خلال بحث طريق تطورها التاريخي وهي مفيدة في المعركة العربية من اجل الديمقراطية اذا ما تم فهمها فهماً تاريخياً، اي نقدياً، يكشف حدودها التاريخية، وبالتالي الطاقة الكامنة فيها، وضارة بقضية الديمقراطية وتحرر الانسان العربي اذا ما تحولت الى أداة لتحييدها سياسياً.
فالمجتمع المدني دون سياسة، وخارج سياق المعركة من اجل الديمقراطية، هو عملية اجهاض.. ان الديمقراطية العربية المتعثرة في مرحلتها الراهنة في امس الحاجة الى مفهوم المجتمع السياسي الديمقراطي، والا تحول المجتمع المدني العربي الى شاهد زور يبرر الغياب عن ساحة المجتمع السياسي!
والثالث: د. كريم ابو حلاوة: اشكالية مفهوم المجتمع المدني ـ النشأة، التطور، التجليات ـ دار الأهالي، 1998 دمشق.. حدد الكتاب منهج تعامله ودراسته لمفهوم المجتمع المدني في فقرة مفصحة: «اعادة صياغة المفهوم وتحديد مدلولاته النظرية والعملية، مما يستدعي رصد مكوناته المعرفية، والعودة الى الفضاء الزماني الذي شهد ولادته، ورسم الملامح العامة للتطورات والتمايزات التي طرأت عليه في سياق صعود اوروبا البرجوازية الصناعية باقتصادها وفلسفتها والحركات والثورات الاجتماعية التي ساهمت في تكريس قطعية متعددة الوجوه مع عالم العصور الوسطى.. التقاط الجوهري والدال في مسيرة تمتد ثلاثة قرون.. حيث تكون المفهوم في اطار الفلسفة الليبرالية ومفرداتها: الميثاق او العقد الاجتماعي، مقابل نظرية الحق الالهي للملوك ـ التعددية السياسية مقابل الحكم المطلق ـ الحريات العامة في الحياة والملكية والعمل والرأي والمعتقد، مقابل حرية الأقلية الارستقراطية.. حق المواطنة تجاوزاً للانتماء الضيق: ديني، مذهبي، اثني، عرقي السيادة للشعب فصل السلطات.. الخ».
اوغل د. كريم بعيدا في تاريخ المجتمع الاوروبي وارهاصات تحولاته بدءا بالاصلاح الديني، لوثر ثم كالفن، ومن بعدهما اسهامات العلماء: نيوتن وهارفي وديكارت وباسكال وكيبلر وغاليليو، والثورة التي احدثتها اسهاماتهم في دحض التصور المتوارث عن الكون من بلطليموس والكتاب المقدس ثم اسهام ديكارت وبيكون في تأسيس الفلسفة الحديثة، واسهام ميكافلي وهوبس في بلورة العلوم السياسية الاجتماعية، وتابع اسهام مفكري عصر التنوير ثم توقف ملياً لدى هيغل وماركس، وما كان له ان يتخطى قرامشي: وظل كريم اميناً لمنهجه والتقط الجوهري والدال في مسيرة المفهوم.
الرابع: المجتمع المدني والصراع الاجتماعي ـ ترجمة لمجموعة اوراق بحث لمفكرين واكاديميين من مجلات ودوريات ـ الناشر: مركز الدراسات والمعلومات القانونية لحقوق الانسان ـ القاهرة ـ ,1997. في ص14، قال مسكننر، استاذ علوم سياسية ـ جامعة يورك، كندا: اصبح مفهوم المجتمع المدني شعاراً متعدد الاغراض ليسار ما بعد الماركسية، اصبح طائفة من التبريرات للتراجع السياسي، وهناك خطورة ان يصبح ذريعة لتبرير الرأسمالية وفي ص119 اشارت اليزابيث جيلين، من حركة «الذاكرة» في الارجنتين وهي الحركة الواسعة التي تواصل الضغط على الحكومة للكشف عن المناضلين الذين اغتالتهم الدكتاتورية ودفنتهم في قبور مجهولة او ألقتهم من الطائرات في عرض المحيط، والاصرار على محاكمة الجناة.
وتتصدى الحركة لدعاة «عفا الله عما سلف» كي لا يلجأ كبار قادة الجيش لتدبير انقلاب جديد حتى لا يتعرضوا للمحاكمة. تقول جيلين: الخوف من ردود فعل الجناة في الجيش، محاولة لتضميد جراح المجتمع بالنسيان والتراضي وعدم تذكر الماضي، سفاحو الذاكرة هم مزيفو المستندات والموسوعات، امراء الصمت، ان ما تحتفظ به الذاكرة الجماعية هو ذلك الجزء من التاريخ الذي يمكنه الاندماج في نظام القيم السائد، لقد أصبحت حركة حقوق الانسان اساساً لبناء ثقافة ديمقراطية جديدة يسود فيها التسامح وقبول التعددية واقرار القيم الانسانية.
تعاملت المراجع المنتقاة اعلاه تعاملا جادا وناقداً لظاهرة المجتمع المدني كمفهوم ومصطلح نظري مجرد، وفي تجلياته المتعينة، في بيئة ومجتمع المنشأ، وواصلت تعاملها الناقد تجاه تجارب استنباته في بيئة مجتمعاتنا المتخلفة ونمائها المعاق، وفي الحالتين، تتجلى المصداقية في منطلقاتها ومواقفها الداعمة لمنظمات المجتمع المدني، شريطة ان لا تصبح استنساخاً شأنها من الاصل في مجتمعات المنشأ، او فرعاً تابعاً خاضعاً، او جهاز استقبال وارسال.
في ذات السياق تعامل د. حيدر ابراهيم، مدير مركز الدراسات السودانية، مع سلبيات منظمات المجتمع المدني حديثة النشأة في السودان وفق ما جاء في مداخلته في منتدى اعلام المجتمع المدني ـ الصحافة 6112002: «انحرف كثير من المنظمات عن أهدافه وأصبح ميداناً لصراعات داخلية قائمة على اسس ذاتية وشخصية، وهي خصومات لا ديمقراطية في الاسباب ووسائل ادارة الصراع، تميزت هذه المنظمات بصراع المكانة والوجاهة والامتيازات المادية والمعنوية. وغالباً ما تتحول ديمقراطية هذه المنظمات الى تحكم شلة نافذة تستولي على فائض القيمة المتمثلة في المال والسفر والعلاقات العامة، انها حضرية او نخبوية، وهذا يعني ان العضوية محصورة وقليلة التأثير، اولويات الممولين قد تؤثر في تحديد الاولويات الوطنية والمحلية، بالاضافة الى ان اساليب العمل التي يتوقعها الممول حرمت المنظمات من ابتداع طرائق جديدة، الوضع الحالي لمنظمات المجتمع المدني لا يبشر بمستقبل واعد».
لم يترك د. حيدر زيادة لمستزيد، لولا ظاهرة الغموض التي اكتنفت العديد من منظمات المجتمع المدني.
واسطع مثال ما نشرته صحيفة أخبار اليوم السودانية 7/12/ 2002 وثيقة تحمل عنوان: اعلان كمبالا لمنبر المجتمع المدني لجبال النوبة وجنوب النيل الازرق 21 ـ 24 نوفمبر 2002 فندق قراند امبيريال ـ كمبالا، اوغندا، بدعوة واستضافة كريمة من منظمة عموم افريقيا، وبتنظيم من منظمات العدالة الافريقية لحقوق الانسان، ووكالة التنمية الدولية البريطانية للتمويل، ويعبر المنبر عن اسفه لعدم مشاركة الحركة الشعبية ومنعها لمنظمات المجتمع المدني العاملة في مناطق سيطرتها من الحضور! شمل الاعلان 44 بنداً تحت العناوين التالية: المشاركة في السلطة، قسمة الثروة والتنمية، معالم ومباديء الدستور، الدين والدولة، حق تقرير المصير وخيار الوحدة، حدود منطقة جبال النوبة وجنوب النيل الازرق، دور مؤسسات المجتمع المدني في تحقيق السلام.
سؤال واحد ظل يتبادر لذهن القاريء: من هم مندوبو المنبر وما هي المنظمات التي انتدبتهم؟ غياب الاجابة يفسد مشاعر الابتهاج ان مناطق جبال النوبة قد استعادت امنها وعاودت منظمات المدني نشاطها خلال الفترة الثانية من اتفاقية السلام الموقعة بين الحركة الشعبية قطاع جبال النوبة وحكومة السودان برعاية واشراف مراقبين دوليين، وان منطقة جنوب النيل الازرق على مشارف اتفاقية مماثلة! في اقترابنا من التعرف على المنظمات الطوعية ـ غير الحكومية، اعانتنا مجلة الاكونومست، البريطانية ـ عدد الاسبوع الاول من فبراير 2002 عربته ونشرته صحيفة الايام السودانية ـ كادت المجلة المحافظة الوقورة ان تنفي عن هذه المنظمات صفة غير الحكومية، مؤكدة انها تعتمد في تمويلها على الحكومات،
وساقت بعض النماذج والامثلة: منظمة الاغاثة اوكسفام، ميزانيتها لعام 1999 ـ كانت 98 مليون جنيه استرليني حصلت على 24 مليون استرليني من الحكومة البريطانية والاتحاد الاوروبي ـ اي ربع ميزانيتها، منظمة ورلد فشن ـ اكبر منظمة مسيحية غير حكومية، تسلمت من الحكومة الاميركية عونا غذائياً قيمته 55 مليون دولار، منظمة أطباء بلا حدود، حائزة جائزة نوبل، 46% من دخلها من الحكومات، من مجموع 120 منظمة غير حكومية تعتمد 111 منها كليا على الحكومات، ثم تؤكد المجلة ان الدعم الحكومي يزداد، ويتناقض او ينحسر الدعم الشعبي.
وتفسر المجلة دوافع الدعم الحكومي بصعود افكار وبرامج وسياسات الليبرالية الجديدة وتراجع الدولة عن واجباتها والتزاماتها تجاه المجتمع وسياساتها في تخفيض تكاليف الادارة، فألقت بأعبائها على المنظمات غير الحكومية. مثال ذلك، ان الحكومات اصبحت توجه معوناتها للدول الافريقية عبر تلك المنظمات، واصبح قيمة ما توزعه من اغاثة ومعونات يفوق ما ينفقه البنك الدولي في السنة، وتتولى المنظمات الاشراف على صرف النسبة الأعلى من المعونة الاميركية السنوية، وحجمها 117 مليون دولار. ووصفت المجلة تلك المنظمات بأنها المتعهد او المقاول نيابة عن الحكومات.
ووصفت المجلة بعض مناشط ومهام المنظمات غير الحكومية بما يمكن ان يوصف بالجاسوسية، مثل جمع المعلومات وكتابة التقارير التي ترفعها لحكوماتها حول اوضاع البلدان التي تعمل فيها. وبعضها يتلقى اموالا من الوزارات الاوروبية مقابل جمع المعلومات من بلدان بؤر التوتر والحروب، مثال ذلك، تابعت منظمة قلوبال وتنس، الصراع في انجولا وأعدت تقارير مفصلة بتمويل من وزارة الخارجية البريطانية. وتنشر منظمة «ادارة الازمات» تقارير مفصلة ذات طبيعة تحليلية وسياسية عن البلدان التي تعمل فيها وتستفيد منها الحكومات والدبلوماسيون والصحف. تؤدي منظمة ادارة الازمات، مع ثلاث منظمات اخرى، وظيفة المستشار لوسطاء محادثات ماشاكوس.
المباديء التي تحكم نشاط المنظمات غير الحكومية:
ـ تزاول نشاطها في حيز محدود، وليس لها دور سياسي مباشر.
ـ لا تعني بتغيير الحكومات، انما تضغط كيما تحترم الحكومات حقوق الانسان.
ـ ممنوعة بحكم تكوينها وقانون تسجيلها من الفعل السياسي او التغيير السياسي.
ـ يلتزم العاملون فيها الحياد والابتعاد عن النشاط الحزبي او الحزبي الصارخ.
ـ يلتزم مركز المنظمة التمويل وكورسات التدريب، ومرتبات المتفرغين.
تعريف مفهوم المجتمع المدني:
ـ كل تعريف وان قارب الاحاطة والكمال، يبقى ناقصاً، ومن ثم منفتحاً على المتغيرات والمستجدات، والتي قد تتراكم في بطء كسول، اوتسارع نشط، حسب وتائر عطاء العلوم والممارسة. وقد استقر التقليد المنهجي على العودة للتعريف الام، الكلاسيكي، ومساءلته قبل استكماله وربطه بما استجد، او تجاوزه.
ـ تتعامل غالبية المؤلفات والمقالات حول المجتمع المدني مع تعريف هيغل: تحتل مؤسسات المجتمع المدني الفضاء بين العائلة والدولة، وهي مؤسسات تلبي حاجيات الناس الاقتصادية وتؤدي مهام ضبط مساعي الناس لقضاياهم ومسائلهم الخاصة.. الخ و«تتحفظ المؤلفات المعاصرة على انحياز هيغل للدولة باعتبارها الفكرة الالهية كما تتجسد على الارض».
ـ يليه في التداول تعريف قرامشي: تمايز منظمات وكيانات المجتمع المدني عن الدولة الاتحادات والكيانات والتنظيمات الاجتماعية الطوعية، والمؤسسات المدنية من نقابات واحزاب والمؤسسات الثقافية والتعليمية المدنية والنوادي وغير ذلك، وينفي قرامشي صفة الحياد عن المجتمع المدني، ويعتبره ميداناً للصراع من اجل الهيمنة الفكرية والثقافية والسياسية.
ـ لم يفرد ماركس معالجة خاصة مكتملة لمفهوم المجتمع المدني عدا اشارات او تصورات ضمن معالجة قضايا اخرى، وتنتقده بعض المؤلفات بأنه لم يخرج من عباءة تعريف استاذه هيغل، او انه طابق بين المجتمع المدني والمجتمع البرجوازي، او بينه ومفهومه لقاعدة المجتمع، وما يعلوها وينبثق عنها من هياكل التركيب العلوي او الفوقي. وحتى لو صح ذلك، افتراضاً، فليس صحيحاً ولا دقيقاً الادعاء ان ماركس بقي حبيس تعريف استاذه هيغل. لكن يبدو ان منتقدي ماركس ظلوا حبيسي الفقرة التي وردت في مؤلفه الاول المشترك مع انجلز «الايديولوجيا الالمانية» عام 1844 وكلاهما يتحسس طريقه نحو منهج التفسير المادي للتاريخ، وقد أشارا فيما بعد الى اوجه القصور في بعض استنتاجاتهما، او عدم الدقة في صوغ بعض المفاهيم والمصطلحات، ولم يتيسر لهما استكمال او تصحيح مواطن القصور، لان الناشر الذي تعهد بطباعته في اميركا لم ينجز وعده بسبب افلاسه او شيئا من ذلك ما علينا ما يهمنا هنا ان الفقرة الواردة في هذا الكتاب تقول:
المجتمع المدني مسرح كل التاريخ ومصدره ومقوم وأساسي، يستوعب التبادل والتعامل المادي والتجاري والصناعي بين الافراد، وفي اطار مرحلة تاريخية معينة من تطور القوى المنتجة، يعبر عن ذاته في شكل امة في العلاقات الدولية، وينظم نفسه في شكل دولة في الداخل، تبلور مصطلح المجتمع المدني في القرن الثامن عشر، وعندما انسلخت علاقات التملك في المجتمع المشترك القديم والوسيط، وبهذه الصفة ينمو المجتمع المدني مع البرجوازية، التنظيم الاجتماعي المنبثق مباشرة من الانتاج والتجارة، والذي يشكل في كل المراحل قاعدة الدولة وبقية التركيب الفوقي.
ـ في الفقرة الواردة اعلاه، يلحظ القاريء الذي اطلع على مؤلفات ماركس وانجلز، غموض بعض المفاهيم والمصطلحات، التي اكتمل وضوحها ومدلولها في مؤلفاتهما اللاحقة خلال نضج تفكيرهما، مثال ذلك: علاقات التملك التي تحولت لاحقا الى علاقات الانتاج. والتعامل والتبادل تحولا الى علاقات السوق، والصيغة المبهمة عن التنظيم الاجتماعي، ثم اكتمل مدلولها في مقولة التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية، كواحدة من المقولات الاساسية في منهج التفسير المادي للتاريخ.
ـ رغم ذلك يصعب الاتفاق مع الادعاء ان ماركس ظل حبيس تصور او تعريف استاذه هيغل، حيث بدأ التمايز اكثر وضوحاً في وقت مبكر في طروحات ماركس حول فوير باخ ـ 1845 ـ فويرباخ مثل هيغل يتبنى مفهوم المجتمع المدني التقليدي، ماركس يتبنى المجتمع الانساني، او الانسانية التي تتسم بطابع اجتماعي. اما التصور الاكثر وضوحاً فقد ورد في كتاب ماركس «انقلاب لويس بونابارت» 1852 الفصل رقم 4 الفقرة الخامسة حيث اسهب في ما آلت اليه الديمقراطية تحت ظل الانقلاب وسطوة جهاز الدولة: «تصطاد الدولة المجتمع المدني في شباكها، تكبح حركته، تضبط ايقاعه، ترشد خطاه وسلوكه وحتى واجفة الاعين، وتتحكم في حياة الفرد بمركزية متسلطة». ثم تقدم ماركس بحزمة اصلاحات برامجية لاصلاح اثار البونابارتية، او الشمولية،
تطرح: «تبسيط ادارة الدولة وخفض وتقليص جيش البيروقراطية للحد الادنى، وان يترك للمجتمع المدني والرأي العام خلق منابره الخاصة به مستقلة عن سلطة الحكومة». هكذا بين عام 1844 وعام 1852 استكمل ماركس استيعابه وتصوره المجتمع المدني، وعبر عنه في الفقرة المقتطفة، وبعد ان كاد يتجاهله تماماً، وفي فقرة عابرة عام 1842 في كتابه الذي انتقد فيه فلسفة هيغل الحقوقية، وفي جملة اعتراضية: ما يسمى بالمجتمع المدني، هذا ما كان من بقاء او خروج ماركس من عباءة تعريف استاذه هيغل لمفهوم المجتمع المدني. صحيح ان ماركس، مثله مثل مفكري عصره، وسابقيه من مفكري عصر التنوير، اعتبر المجتمع المدني وليد المجتمع البرجوازي ـ اي، الرأسمالي ـ لان المجتمعات السابقة للرأسمالية لم تعرف ظاهرة المجتمع المدني ومؤسساته.
ومازال الصراع واختلاف وجهات النظر بين المنشغلين بأمر المجتمع المدني في زماننا هذا محتدماً حول مفهوم منظمات المجتمع المدني والمنظمات الاهلية والمتوارثة في مجتمعاتنا قبل سيطرة الاستعمار وغرس العلاقات الرأسمالية وأجهزة الدولة الحديثة في مجتمعاتنا، هذه معضلات لا تحل او تحسم بالقطعيات الوثوقية، انما بالدراسة المتأنية لكل مجتمع، وما كان عليه، وما آل اليه، ثم المقارنة والمضاهاة مع مجتمعات مماثلة قبل استخلاص ما هو عام ومشترك ـ مع مراعاة ان كيانات سابقة للرأسمالية تواصل تماسكها الباطني ونسيجها الخاص، وتتعامل وتتعايش وتتأقلم مع الرأسمالية في أخذ وعطاء، مثل ذلك التكوينات القبلية والطائفية والطرق الصوفية، او محافظة الخلاوي على طابعها الخاص رغم استيعابها في هياكل التعليم النظامي، او الادارة الاهلية في السلك الاداري للدولة، او بقاء التاج والعائلة المالكة في بلدان رأسمالية متطورة مثل انجلترا، هولندا، السويد.. الخ، وترعى العائلة المالكة العديد من منظمات المجتمع المدني!
ـ نظل نسعى للمعرفة والاستنارة من الفكر الانساني، الطارف والتليد، ونستزيد معرفة بما يتاح من تجارب شعوب العالم في معاناتها الذهنية لحل معضلات الدولة والمجتمع المدني. لكن منهجنا ان ننطلق من واقع المجتمع السوداني وتجليات تطوره عبر العصور، وخصائص تشكل دولته ومجتمعه المدني، ما قاله مونتسكيو او توكفيل، ابن خلدون او المقريزي، ستيورات ميل او هيغل، ماركس او قرامشي، ليس فصل الخطاب.
ولا نغفل او نزاور عن استخدام منهج التفسير المادي للتاريخ ـ نستخدمه، ولا يستخدمنا ـ ولا نعوم مفاهيمه ومقولاته في بحر من الكلمات او اغفال متعمد للمصدر، نسعى ونجتهد علنا نتوصل لاستنتاجات سليمة وننتج معرفة تليق بمضاء هذا المنهج وتسهم في تطوير ادواته وآلياته، وتلقيحها بأساليب وطرائق البحث العلمي المعاصرة والمتجددة ـ علنا نضيء مسافة ما من اظلام مسرح المجتمع السوداني! لابد من التفاتة وفاء لمن اشعلوا ثقاب المعرفة، فأناروا الطريق امام الانسانية نحو الاستنارة:
ـ دم فيرجسون المفكر الاسكتلندي «1717 ـ 1802» اول من صك مصطلح المجتمع المدني ـ قبل 22 عاما من الثورة الفرنسية ـ في كتابه: ٌُّّميكُس ٌيًّى نُ ٌَُُّّّْيب موُّ َُ ٌّفََّّ َء حيث استشعر تمركز السلطات السياسية في قبضة الدولة، وخطورة الاستبداد السياسي، وكيف يحمي المجتمع نفسه من التسلط السياسي والاستبداد.
ـ امانويل كانط «1724 ـ 1802».
«كن جريئاً في استخدام عقلك، الكسل والجبن سبب بقاء البشر في حالة اللارشد طوال حياتهم».
«يأمره الضابط: لا تفكر، بل تدرب على القتال!».
«يأمره الممول: لا تفكر، بل ادفع!».
«يأمره الكاهن: لا تفكر، بل قل آمين!».
«يأمره السيد: فكر كما تشاء، لكن طع!».
ـ الكواكبي «1854 ـ 1902»: «المستبد لا يخاف من العلوم الصناعية. ترتعد فرائض المستبد من علوم الحياة، مثل الحكمة النظرية، والفلسفية العقلية، وحقوق الأمم، وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنية والتاريخ والخطابة الأدبية نحو ذلك من العلوم التي تكبر النفوس وتوسع العقول، وتعرف الانسان ما هي حقوقه، وكم هو مغبون فيها، وكيف الطلب، وكيف النوال..».
ـ سكرتير عام الحزب الشيوعي السوداني
جريدة البيان 14 مايو 2003