|
رأي سابق في المقتلة السورية
منير المجيد
(Monir Almajid)
الحوار المتمدن-العدد: 7091 - 2021 / 11 / 29 - 12:14
المحور:
سيرة ذاتية
في قائمة أصدقائي القصيرة في الفيسبوك من يشتم النظام في سوريا ليل نهار، وهناك آخرون مغرمون به ويكتبون عنه القصائد ويُحمّلون فيديوهات وأغاني. ثم الفئة الثالثة التي تُسمّى بالرمادية. هذه الفئة يتفق عليها رأي مؤيدي النظام ومعارضيه، وهما، بالتأكيد يتشاركان، للمرة الأولى والأخيرة، في هذا الأمر: منافقون، متذبذون وخارج منطق الأشياء. الفئة الرمادية ليس بوسعها إعلان موقف واضح ثابت، لأنها لا تؤيد النظام ولا المعارضة. الأسباب عديدة جداً ومتضاربة، لذلك لا يمكن إعتبار هذه الفئة ككتلة لها جسد واحد، كما هو حال المؤيدين والمعارضين.
لماذا هذه المقدمة؟ بينما أنا في اليابان، أرسل لي صديقان لا يعرفان بعضهما البعض، وبمحض المصادفة، رسائل نصية حول الشأن السوري: لماذا لا أتطرق أبداً إلى الوضع في بلادي. أسمّي سوريا بلادي رغم أنني عشت في بلدي الحالي سنوات أطول من تلك التي عشتها في سوريا. وكي لا أُفهم على نحو خاطئ، أعتبر الدانمارك بلدي أيضاً. الشخص الثاني أراد أن يعرف الخندق الذي أتمترس فيه هذه السنوات! هاه؟ بجد؟ السؤال مُربك في الواقع. دعوني أشرح: أنا سوري وكردي، ومن هنا تبدأ المفارقة-المشكلة الأولى، فمنذ سنواتي الأولى اتحدت سوريا مع مصر في وحدة عفوية بدائية ليُصدّر لنا عبد الناصر نظام فهم العسكر لحكم الأوطان. كل من لم تعجبه رومانسية الرجل الكاريزمي بخصوص الوحدة العربية من المحيط إلى الخليج، والقومية العربية، لوحق وعُذّب وسُجن. في القامشلي طال الأمر الأكراد أكثر من بقية الأطياف. والأكراد كانوا إما شيوعيين أو پارتيين (قوميين أكراد)، وليس كما هو الأمر الآن.
شخصياً عرفت القمع في أول يوم من بداية دراستي في الصف الأول الإبتدائي: ممنوع التحدث بالكردية حتى في باحة المدرسة. كنّا الأغلبية في الصف ومعظمنا لا يعرف التحدث بالعربية، ولطالما سادت اللغة الكردية لعْبنا في شوارع حيّنا الموحلة شتاءً والمُغبّرة صيفاً. وأثناء ذلك كان لدي وضع خاص لدى زملائي الأطفال: «دعه، فهو يتيم». هكذا كانوا يبررون هفواتي العديدة. لماذا؟ لأنني ببساطة لم أعرف والدي الذي توفي وأنا مازلت في الأقمطة.
في سن المراهقة أغرمت بفتاة سريانية لم تبخل عليّ بابتسامة بين الحين والآخر، لكنها صدّتني حينما أردت التقرّب منها. أنا مسلم! في فترة الدراسة الجامعية في دمشق، أضيفت مشكلة جديدة: من محافظة نائية بعيدة وألفظ حرف القاف. صحيح أنني ارتبطت بصداقات وثيقة مع الدمشقيين، إلا أنها كانت قليلة جداً. صداقاتي العريضة والمتعددة كانت مع الساحليين وحفنة من الجزراويين، ولم يكن هناك أي مصيبة في لفظ القاف. في الواقع ساعدني هذا الحرف الغليظ الثقيل في عدد لا يُحصى من المواقف، مثلاً حين كان سائق التاكسي يطلب مبلغاً يزيد عن المتعارف عليه، فأعترض وأحرص على إستعمال جملة يظهر فيها حرف القاف بوضوح. كيف له أن يميّز بين لهجتي القامشلاوية ولهجة أهل الساحل؟ وقبل أن أبلغ منتصف الثلاثينات هاجرت إلى الدانمارك، كي أورّط نفسي في مرحلة جديدة من الإنتحار الجغرافي. فأنا هنا غريب وسأظل غريباً بقية عمري. مثال بسيط: يصدف أحياناً، في حفل أو تجمع ما، أن أجلس مع مجموعة من الناس لأول مرة. أراهم ينظرون إليّ، ليس بريب، لكن بفضول. بعد جملة أو جملتين يأتي السؤال: من أين أنت؟ والسؤال الثاني: هل تعودت على طقس الدانمارك؟ تصوروا! كيف لم أتعود بعد ست وثلاثين سنة؟ أي إحباط هي هذه الحياة؟ ذهبت في زيارة إلى دمشق منذ عشر سنوات، وفي سوق الحميدية كلمني الباعة بالفرنسية والإنكليزية والألمانية، والنبهاء منهم كلموني بالفارسية. لقد حُكم علي أن أكون أقليّة في هذا العالم، فأي موقف يجب أن أتخذه ممّا يجري في سوريا؟
كلمة «سُلْطة» مزعجة. قد يكون هذا سبب أنني لا أستطيع تجرّع السلطات التي جاءت عن طريق الديمقراطية، فكيف أتقبل سلطة استولت على شؤون البلاد، فقط بسبب بدلات رجالاتها الكاكية؟ الأولى مزعجة والثانية ديكتاتورية، لأن الوصفة لم تتغير بسبب اللغة أو التاريخ أو الجغرافيا. علاقتي بالسياسة تشبه علاقتي بالدين، أو لنقل بالأديان على نحو عام: علاقة مقطوعة الأوصال. وربما يعود الأمر إلى سن مبكرة جداً، وبالتحديد حين كنت في الصف الخامس الإبتدائي. معلمي الحموي في درس الديانة كان يتحدث عن الجنة وما فيها من أنهار وملذات وحوريات. وحين استفاض في شرح كومة الحوريات اللواتي يصرن من حق وملكية الرجل، فكرّت بوالدتي، وأنا الذي لا أعرف أباً. عقلي الصغير البسيط خشي عليها وهي التي كانت تصلّي على مدار اليوم، فسألت المعلم وعلى ماذا تحصل النساء؟ إستشاط الرجل المربوع اللاهث أبداً (صورته لم تغب عن ذاكرتي) غضباً وأمرني أن أذهب إلى المدير حالاً، دون أن يجيب عن سؤالي. هناك بدأت القطيعة. الدين ليس دولة، كما أن العسكر ليسوا دولة.
موقفي من كل الأديان في الحقيقة، واضح لدى أصدقائي: يجب أن يكون البشر مخيّرون وليس مسيّرون. حرية أن تكون دينياً أم لا، تعود إليك فقط. إن جاء أحدهم وأجبرك على إتباع عقيدة، سياسة، منهج، أو أي شيء آخر بقوة الترهيب والسلاح، فلا بد أن يكون ذاك الشخص عضواً في منظومة شمولية، فاشية، نازية وما تبقى من مصطلحات، حتى دون أن يدري ذلك. وعلى سيرة والدتي: في مطلع الثمانيات كنتُ مُدرّساً مغموراً وبراتب مغمور في القامشلي لمادة الفنون، التي لم يعرها أحد أي اهتمام، حينما أرادت الوالدة أن «تُكمل دينها» بالذهاب إلى الحج. أول ما تبادر إلى ذهني، أنني بتمويل رغبتها، أدعم أيضاً الميزانية المالية السعودية. كيف أقوم بهذا، وأنا أعتبرت، وما أزال، أن السعودية هي السبب الرئيسي في مصائبنا، لا بل في جزء من مصائب العالم أيضاً؟ والدتي رحلت عن هذا العالم وهي حاجّة. هذا يُشير ببساطة قامشلاوية، إلى أنني لست ضد الدين مطلقاً، لكنني مع حرية إعتناق المعتقد. يجب أن يكون صدر الدين، أو الله، واسعاً وقوياً إلى حد أن يرفضه البعض، تماماً كما رفضتني تلك السريانية الجميلة أيام مراهقتي، وإن كان هناك جهنم، فعلى نفسها جنت براقش. فاز المؤمنون، والآخرون أكلوا «هواءً». والدة صديقي خلدون عنتابي (توفيت عن عمر ناهز الخامسة والتسعين)، أقامت في سنواتها الأخيرة في دار عجائز خاص، قالت في تحقيق تلفزيوني عن الدار: أنا هنا بفضل أولادي الذين يدفعون النفقات العالية، لكن هناك آخرون كثُر لا يستطيعون تحمّل دفعها، أليس حريّاً أن تُبنى دور مجانية مثل هذه عوضاً عن بناء هذا الكمّ من الجوامع التي يرتادها الناس يوماً واحداً في الأسبوع؟ منطق حكيم وجميل. البلاد التي عدد دور عبادتها يفوق عدد مكتباتها بمئات المرات هي بلاد في أزمة جدّية.
دعوني أعود إلى الذي جعلني أكتب هذا النص. عن موقفي مما يجري في سورية. حين احتج بعض الناس وقاموا بمظاهرات تدعو إلى التجديد بالتركيز على سلميتها ووحدة تراب الوطن، بعد أن احترقت المنطقة بالربيع العربي، سارع بعض المكتسبين والأفاقين ومتسلقي الأكتاف وقلة من الشرفاء بامتطاء الموجة، لتتحول إلى مواجهة مسلحة. وكما في كل مرّة في شرقنا الحزين، جاء الملتحون أيضاً وشكّلوا عصابات ونصبوا أنفسهم أمراء، حتى مُهّد الطريق لزمرة من أسوأ حثالات العصور الحديثة، فجاء مجرمون ولصوص وقتلة من كل بقاع المعمورة، بحثاً عن اقتتال وحرب ونكاح وجنة حوريات. انقسمت العائلات بين مؤيد لطرف وآخر، أباح الجار قتل جاره لأنه ينتمي لطائفة أو دين أو مذهب لا يعجبه. سوريا غمرها طوفان الدم. لا أعرف إن كانت المقتلة السورية مؤامرة كونية، أو صفقات تطبخ أو تُقلى، أم إضعاف البلاد لمصلحة إسرائيل، أو تقسيمها إلى دويلات إثنية وما إلى ذلك! الأيام والأشهر والسنوات القادمة ستجيب عن هذه الأسئلة. الذي أعرفه أنني أؤمن بسوريا موحّدة ذات دستور ديمقراطي علماني. سوريا تسودها المساواة وحرية الأديان واحترام ثقافة القوميات والطوائف والأعراق المختلفة. ومن يُطالب بأن يدين رئيس البلاد بديانة مُعينة فهو، وعلى نحو آلي، ضد الديمقراطية بمفهومها الواسع.
(٢٠١٦ في اليابان)
#منير_المجيد (هاشتاغ)
Monir_Almajid#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الزطّ (الغجر)
-
الشيطان والحمار
-
الزيزان
-
النمل
-
العتائق ونشأة الحياة
-
فوتبول
-
لونا وروبيرت
-
الحمار
-
ورد جوري دمشق
-
المتّة
-
صابون
-
الخنزير
-
سپاگيتي
-
ليس «هاپي اندينغ»
-
ثقافة التواليت اليابانية
-
ماكس، الكلب
-
نهر التمساح
-
صفصاف مازدا
-
جلد عميرة
-
النبيذ
المزيد.....
-
من قوته إلى قدرة التصدي له.. تفاصيل -صاروخ MIRV- الروسي بعد
...
-
نجل شاه إيران الراحل لـCNN: ترامب و-الضغط الأقصى- فرصة لإنشا
...
-
-لقد قتلت اثنين من أطفالي، فهل ستقتل الثالث أيضا؟-: فضيحة وف
...
-
كيم: المفاوضات السابقة مع واشنطن لم تؤكد سوى سياستها العدائي
...
-
الوكالة الدولية للطاقة الذرية تعتمد قرارا ينتقد إيران لتقليص
...
-
ZTE تعلن عن أفضل هواتفها الذكية
-
مشاهد لاستسلام جماعي للقوات الأوكرانية في مقاطعة كورسك
-
إيران متهمة بنشاط نووي سري
-
ماذا عن الإعلان الصاخب -ترامب سيزوّد أوكرانيا بأسلحة نووية-؟
...
-
هل ترامب مستعد لهز سوق النفط العالمية؟
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|