|
لقاء مع إبليس
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 7088 - 2021 / 11 / 26 - 23:56
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ضجيج وأصوات خفيضة تحت أضواء خافتة. في مكان بارز شيء يهتز، كمن يفحص هندامه ويحضر نفسه استعداداً لحدث وشيك. وهو يتمتم في سره [أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يا رب استرها يا رب وعدي الليلة هذه على خير. قل أعوذ برب الفلق.... أعوذ بكلمات الله التامات.... أعوذ بالله من الخبث والخبائث...]. ثم واصل الاستعاذة والاستغفار والاستتابة بما أسعفته الذاكرة. وأكمل، مواسياً نفسه، [معلش.... أكل العيش. لازم يعني إبليس بالذات؟! يعني ضاقت الدنيا ولم يعد هناك غيره؟! أم المسألة تجارة وفلوس ونسب مشاهدة وسبق إعلامي وزفت! ياللا... في الآخر الدنيا مصالح وكل واحد يدور على لقمة عيشه. ودا مش عيب.]
ثم، فجأة، تضيء الأنوار وتكشف عن بضع مئات من الأفراد المتراصة بطريقة منظمة فوق مقاعد وثيرة من الإسفنج والجلد الفاخر. وعند صدر القاعة، فوق منصة مرتفعة قليلاً، كرسيان. على أحدهما، يجلس مقدم البرنامج ومسلط عليه بالكامل ضوء وهاج متدفق من مصباح كاشف قوي؛ بينما الكرسي الآخر مظلم، لا نستطيع أن نجزم إن كان شاغراً أو مشغولاً، لكنه بالتأكيد موجود هناك.
المقدم، بعد أن استعاذ سراً بربه من شر الشيطان الرجيم: السيدات والسادة، طاب مساؤكم. معنا ومعكم اليوم ضيف من نوع خاص. نوع خاص بمعنى الكلمة، ليس مجازاً ولا إطراءً. هو ليس من طينتنا، وليس من الطين أصلاً. ضيفنا وضيفكم من عالم آخر خلق من نار، كائن ناري بحق. والنار أطهر وأكرم من الطين. لكنه للأسف تكبر ولم يشكر النعمة، أبى وعصى، ليجلب لنفسه المذلة والخزي والعار وسط أهل السماء والأرض، واللعنة أمد الدهر. رحبوا معي بالرجيم الأكبر، السيد إبليس.
[صمت تام. صرخة مكتومة وهمس متقطع: يا ليلة سوداء....إبليس...؟!]
السيد إبليس، أرحب بك أولاً في برنامجنا وندخل في صلب الموضوع مباشرة. نعلم أنك كنت تحيا نزيهاً مكرماً في الفردوس الأعلى ضمن الحاشية الإلهية المصطفاة. لكن حين أمرك الله أن تسجد لآدم، استكبرت وأبيت وعصيت، لتطرد من ملكوت السماء العلى وتنفى إلى أرض الدنيا ملعوناً حتى يوم الدين. حجتك أنك خُلقت من نار وآدم من الطين، وأنك لن تسجد لمن خلق من الطين. فهل تعتقد أن النار أكرم من الطين، ولماذا؟
إبليس: معذرة، اسمح لي أن أختلف معك. هل تعتقد حقاً أن ثمة فرق جوهري بين النار والطين؟! كلاهما مادة خام طبيعية تستخدم وتسخر فيما يشاء المرء لها من أغراض. فمن أين إذن يأتي التفضيل القيمي لإحداهما على الأخرى؟ في الواقع، أنا شخصياً لا يعنيني ولا يهمني ولا يشغلني على الإطلاق كيف أتيت إلى الوجود، من خلقني أو المادة المستخدمة في عملية الخلق. هذا كله لا يخصني ولا حتى يعنيني أو يشغل تفكيري مثقال ذرة. ما يهمني حقاً هو أنني وجدت، ووهبت قدرات وطاقات مادية ومعنوية معينة. من هذه النقطة لا قبلها يأتي دوري، وظيفتي في الحياة، كيف أوظف قدراتي وأحقق طاقاتي لأقصى درجة ممكنة؟ كل ما سبق ذلك لا علاقة لي به ولا أسأل عنه أبداً.
المقدم: صحيح. أنا شخصياً لا أجد فرق جوهري بين الاثنين. إذن أنت تظن أننا متساويان من حيث القيمة، أنا البشري المخلوق من الطين، وأنت المخلوق من النار. هل ما فهمته صحيح.
إبليس: بالضبط. هذا ما اقصده. نحن، أنا وأنت، متساويان تماماً كمخلوقات، حتى لو كنا غير متساويين في المادة التي قد خلقنا منها. ما أقصده هو أننا متساويان تماماً ما دام خالقنا هو نفس الخالق، حتى لو اختلفت مادة الخلق. فالمنطق يقول إن المخلوقات تستمد قيمتها من خالقها، وليس من المادة التي خلقت منها. لذلك، إذا كنت صادق في دعواك أن الله هو من خلقك من الطين، إذن ينبغي عليك أن تتوجه بشكرك وعبادتك إلى هذا الإله الخالق فقط، وليس إلى الطين. واضح؟
المقدم، ضاحكاً: واضح جداً، وهل يعقل أن أعبد الطين حتى لو كنت قد خلقت منه. هكذا كان يفعل عبدة الأصنام والأوثان- شرك والعياذ بالله.
إبليس: هناك نقطة أخرى مهمة.
المقدم: تفضل، أكمل.
إبليس: أنتم يا معشر البشر، لأغراضكم السياسية والاجتماعية وخلافه، كذبتم كذبة كبيرة على أنفسكم وصدقتموها وتعيشونها. فعلى صورة الملك في الأرض، خيل إليكم أن هناك إله في السماء، له حاشية من الملائكة تعبده وتخدمه تماماً كحاشية بلاط ملككم الأرضي، وله حتى عرش وكرسي يجلس عليه تماماً مثلما يفعل عاهلكم. وحتى تكتمل الصورة، خلقتم له مخلوقات مطالبة بشكره وطاعته دئماً وأبداً، تماماً كما تريدون من رعية ملككم أن تفعل. بل وصل بكم الشطط إلى حد أن جعلتموه يملي عليكم دستوراً مثل الذي تكتبونه لتنظيم شؤون حياتكم، ثم نسبتموه إلى السماء. كل هذا غير صحيح في الواقع. كله من نسج خيالكم، تحقيقاً لأغراضكم ومصالحكم الذاتية في الأرض وليس له علاقة بالسماء أو بغيرها.
المقدم: هل أفهم من كلامك أنك تنكر صحة الرواية التي جمعت بينك وبين آدم أمام الله حين أمرت بالسجود ورفضت؟
إبليس: جملة وتفصيلاً. دعني أوضح لك. أولاً، أنا لم ألتقي يوماً بكيان اسمه الله. وكيف لي أن التقي بمثل هذا الكيان وأنت ذاتك تزعم أنني من مخلوقاته، وإن كنت من النار وليس من الطين مثلك؟ هل يعقل أن يقدر مخلوق على الالتقاء بخالقه، ناهيك عن التواصل المباشر معه وجهاً لوجه وعصيان أوامره؟ هل هذا منطقي؟
المقدم: نعم، ممكن. نحن البشر نصنع روبوتات وكثير من الأجهزة والآلات الذكية الأخرى ونستطيع التواصل معها بلغة مفهومة عبر أوامر وبرمجيات محددة.
إبليس: كلامك صحيح. لكن اسمح لي، هل يملك هذا الربوت الذكي أن يعصي لك أمراً إلا أن يصيبه عطل أو عطب ما؟ مخلوقك هذا لا يملك من أمر نفسه شيئاً، بل أنت تملكه بالكامل. معنى هذا أنه يفتقر تماماً للاستقلال الذاتي والإرادة الحرة، ومن ثم لا يتحمل مسؤولية أخلاقية على الإطلاق عن أفعاله وتحركاته. أنت من تحركه وتتحمل بالنيابة عنه المسؤولية الكاملة. فعلى شاكلة المواد الخام الطبيعية مثل النار والطين، هو أيضاً مجرد مادة لكن مصنعة ومجهزة لاستخدامات وأغراض بعينها.
عزيزي، إذا كان من خلقني إله حقاً كما تزعم، فمن المنطقي تصور أن يعيش هذا الإله وسط كائنات من جنسه، آلهة مثله، يستطيعون الاختلاط والتواصل معه، حتى لو كانوا من رتبة أدنى منه، وليس مع مخلوقات مثلي أو مثلك. وأنا لست إله خالق ولا أدعي ذلك. أنا مجرد مخلوق تماماً مثل آدم، ولو من مادة خام مختلفة. فكيف لنا نحن مخلوقات الله كما تدعي أن نجلس في حضرة الله ونخاطبه ونتواصل معه على هذا النحو كما لو كنا آلهة مثله، من جنسه؟! هل هذا كلام معقول؟
المقدم: يعني حضرتك تنفي عن نفسك الكبر، وتنفي ملكوت السماء، ومن ثم تنفي مثولك في حضرة الله وتلقيك أمراً صريحاً منه بالسجود لمخلوقه الطيني آدم، بل حتى تزعم أن مثل هذا المشهد مستحيل أن يتحقق نظراً لتعارض الأجناس بين آلهة وملائكة وبشر. ماشي. بس أنا سأظل معك حتى النهاية ولن أستسلم. ماذا لو طلبت منك في التو واللحظة، على مسمع ومرأى من الحضور هنا وعبر الشاشات، أن تخر ساجداً الآن تحت أقدامي، أنا أحد بني آدم؟ الجواب بعد الفاصل.
معذرة أيها السيدات والسادة الأفاضل، ابقوا معنا. الآن إلى فاصل إعلاني قصير. وأجدد التذكير أن كل من لديه استفسار يريد أن يطرحه على ضيف حلقتنا اليوم أن يكتب إلينا في المكان المخصص أسفل صفحتنا. لا تذهبوا بعيداً سنعود بعد قليل.
#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كيف أصبحت الكلاب من أعز أصدقائنا: رحلة ممتدة منذ القدم حتى ا
...
-
الاحتكار وابن عمه الشرير
-
جنرال الكتريك والإيمان بسحر الإدارة
-
سفاح الحمير
-
أحياة بلا خطة هي؟
-
عذاب الوعي
-
دين وثلاث دول
-
مدينة لكن بعقل قرية
-
قرويون على أرصفة المدن
-
إنصافاً للتجربة الديمقراطية في العراق
-
نحن البشر لن ننعم أبداً بالحياة على كوكب المريخ، أو أي مكان
...
-
لا غنى عن حقوق الإنسان حتى في أوقات المحن
-
شرعية حقوق الإنسان
-
إلى أين أنت ذاهب يا سعيد؟
-
إسلام الطالبان
-
دول ثلاث جربت الاشتراكية ثم نبذتها- الصين
-
دول ثلاث جربت الاشتراكية ثم نبذتها- المملكة المتحدة
-
دول ثلاث جربت الاشتراكية ثم نبذتها- الهند
-
دول ثلاث جربت الاشتراكية ثم نبذتها- إسرائيل
-
دول ثلاث جربت الاشتراكية ثم نبذتها
المزيد.....
-
خلال لقائه المشهداني.. بزشكيان يؤكد على ضرورة تعزيز الوحدة ب
...
-
قائد -قسد- مظلوم عبدي: رؤيتنا لسوريا دولة لامركزية وعلمانية
...
-
من مؤيد إلى ناقد قاس.. كاتب يهودي يكشف كيف غيرت معاناة الفلس
...
-
الرئيس الايراني يدعولتعزيز العلاقات بين الدول الاسلامية وقوة
...
-
اللجوء.. هل تراجع الحزب المسيحي الديمقراطي عن رفضه حزب البدي
...
-
بيان الهيئة العلمائية الإسلامية حول أحداث سوريا الأخيرة بأتب
...
-
مستوطنون متطرفون يقتحمون المسجد الأقصى المبارك
-
التردد الجديد لقناة طيور الجنة على النايل سات.. لا تفوتوا أج
...
-
“سلى طفلك طول اليوم”.. تردد قناة طيور الجنة على الأقمار الصن
...
-
الحزب المسيحي الديمقراطي -مطالب- بـ-جدار حماية لحقوق الإنسان
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|