رعد مطشر
الحوار المتمدن-العدد: 1654 - 2006 / 8 / 26 - 07:46
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
إستقراء في مساقط الضوء لـ (جاسم العاصي) :
هي ذاتها تبتدئ من نقطةٍ لا محددة لتنتهي بذاتها ، دائرة ذلك الماضي القريب البعيد الذي يطارد القاص ، المتأكّد ( كراوٍ عليم ) مِن إنَّ كلَّ شيءٍ مصيرُهُ الإنطفاء ثمَّ تقسيم التركة وإنَّ البداية هي النهاية في سوداويتها ، وإنَّ الميتات تتشابه وإنْ اختلف زمانها ومكانها ؛ فالأب هو الإبن في ميتته تحت المطر النازل على عينيه المطفأتين ، والرجل هو الصبي وما يربطهما قاعة ملأى بالتوابيت ، هو قرينه وإنعكاس مرايا طفولته الآيلة إلى خشبٍ ومسامير وأصوات نداءاتٍ مبهمة وطَرَقات تترك أنينها على جدار المدينة لتنطفئ أخيراً حالمةً بالبحر والصحراء والمطر ، تلك الفكرة التي تجمع قصص ( مساقط الضوء ) للقاص المبدع ( جاسم عاصي ) الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب ( دمشق / 1999 ) .... والمجموعة تنقسم إلى قسمين بينهما خيط رقيق وفكرة واضحة ألا وهو ( الموت ) بكلّ أشكاله وأزماته وأمكنته . فالقسم الأول : ( الإنطفاء ) يقودنا إلى القسم الثاني: ( التركة ) , وإستهلال القسم الأول يبدأ بصيغة المنادى المعرف ( أيُّها الـ ...) ( كَمْ تعددت مراياك أيُّها الموت / لكنها تؤول جميعاً إلى الإنطفاء الأبدي ) عابراً بنا إلى إستهلال القسم الثاني ( التركة ) : ( هم حاصروك أيُّها الرأس / ولمْ يبقَ بين يديك غير القلم ) ... ليؤكّد القاص بأنَّ ( الموت ) في القسم الأول يكون معادلاً ( للرأس ) العاطل والمعطّل عن وظيفته ، المؤجّر للآخر ( هم ) وإنَّ ( الإنطفاء ) سيكون معادلاً ( للقلم ) المودّع لدى الآخر أيضاً والمقيّد بتوجيهاته ومقاضاته إذا ما خالف شروط بيع ( الرأس ) وعهدته , كلُّ شيء ميّت أو... آيلٍ إلى زوال في هذه المجموعة حتى الشمس المنطفئة الحارقة الشاحبة المائلة إلى غروبها دوماً وكلّ شيء منطفئ في ذاكرة القاص ( الراوي العليم ) الذي يتمنّى أنْ يتوهّج ولكن دون فائدة فالنتيجة الطبيعية لنهاية الصراع .... لافتاتٌ سود مثبّتة على جدار المدينة ، وزمنٌ مقيّد بأغلال ( زمن يسابقه كي يكون بموازاة ما يقذف نحوه من المستطيلات الخشبية المتشابهة الشكل المتناسقة والمتناظرة أيضاً ، بزمن يقوده عبر قطع الخشب هذه وبخطوات متواصلة من التفكيك والخلع ) أمّا المكان فعبارة عن جوفٍ مظلمٍ وقبوٍ ومسرح عريض , أو بالأحرى ورشة نجارة تملؤها التوابيت التي إحتوت أجساداً طرّية ، والبطل ( اللاّبطل ) هو ذات الصبي والوجه الآخر للرجل الذي يسمع أنين الموتى المتواصل ، وطرقاتِهم ، نداءاتهم وذبذبات تشرع باب الموت وتنشر قطعاً موشومة بالكتابات والتواريخ وأسماء الأماكن والذكريات ( المنطفئة ) والرسائل التي وصلت إلى نفسها ... كلّ هذه الأشياء تسدّ ( مساقط الضوء ) على القاص ؛ الرائي المتكلـّم ، المحضَّر لَحْدَ موتِهِ وتابوتِه القادم . ولنقف قليلاً عن هذا الإنثيال السوداوي ونتساءل : هل كان القاص ( جاسم عاصي ) يكتب مرثيته الأخيرة ؟! أمْ هل كانت ( مساقط الضوء ) جداراً عالياً يحجب الرؤية والرؤيا ويحيل القاص إلى قلمٍ ( معطّل ) مصيره ( الإنطفاء ) ؟! أمْ أنَّ قصص المجموعة هي قصة واحدة لرجلٍ واحدٍ محاصرٍ بالموت والإنطفاء ، ولزمنٍ ومكانٍ متشابهين ؟! لنتابع معاً قصص القسم الأول ( الإنطفاء ) عبر تواريخها المتقاربة وترابطها العضوي ونسقها الداخلي المتناغم وسردها بلسان القاص الخائف أو الراوي الذي يقاوم خوفه بآخر رؤيا له :
* آخر الرؤيا / 67 قرية لقيط / تنتهي ( بموت الأب ) الحالم بالبحر دوماً الراحل بعينين مطفأتين دون أن يبلّلهما المطر النازل بعد الرحيل عن الصحراء ؛ عنصر الإنفتاح والحنين ، والمأهولة بالجفاف.
* جدار المدينة /كانون الثاني 1994¬ / المدينة الممثلّة بجدارٍ عريض ومرتفع إفترشته الإعلانات المختلفة / تتراكم عليه اللافتات السود ( كألبوم كبير ) وإعلان عن ( الموت الجماعي ) الذي يعانيه الشعب العراقي تحت ظروف الحصار والحروب.
* الحصان / شباط 1994 / حصان الرجل ( ناقل الموتى ) / المهرول في أزقة المدينة والمكلّف بعمله هذا كواجب يومي يضطره - أحياناً - إلى النوم في ( التابوت ) الفارغ المدّد على ظهر العربة ( الزمن ).
* نداءات /كانون الثاني 1994 / جميع ( الشهداء ) و ( الراحلين ) يتناوبون النداءات من خلال ( الرفوف ) التي تحمل كتب القاص ؛ الرفوف التي صنعت من خشب ( التوابيت ) تأريخ القصة نفس تاريخ قصة ( جدار المدينة )!
* المرأة / آذار 1994 / ( موت الأمّ ) ونداؤها الذي يلاحق القاص , وطلب المستشفى بإحضار ( تابوت ) لها / ثم إنعكاس وجهه في وجه الأمّ الميّتة / ليهرب من طلب المستشفى بإحضار تابوتين أحدهما للراحلة والآخر ( له ) تأريخ القصة لاحق لتأريخ قصة ( الحصان ).. الراكض في أزقّة المدينة الشبيهة بهذا الرجل الفاقد والدته والهارب من ( موتها ) المتكرّر.
* طـَرقات / شباط 1994 / نجّار محترف يصغي لطـَرقات ( الموتى ) المتتالية / والمنشغل بـ ( التوابيت ) التي تلاحقه وتطّوقه أخيراً / لاحظْ تاريخ القصة هو ذات التأريخ لقصة ( الحصان )...
* مساقط الضوء / آذار 1990 / جوفٌ مظلمٌ وقبوٌ أشدُّ ظلمةً ووحشةً , وورشة نجارة نجّارُها قرينٌ لصبي منهك / رابطهما الخشب والمسامير ونداءات آتية من أماكن بعيدة نائية تسدّ ( مساقط الضوء ) والبطل ( اللاّبطل ) هنا محاصرٌ بين رفوف الخشب والعلب والتي سدّت باب الجوف وحالت دون حركته / نستطيع أنْ نسمّي هذه القصة مركز الدائرة الممتدة من سنة (1967) إلى سنة (1997) والسنتان تأريخ قصة ( آخر الرؤيا ) وقصة ( المدفن ) المسافة هي إنطفاءٌ ثم مدفنٌ , والزمن ثلاثون عاماً بالتحديد.
* الردهات / أيار 1987 / ( فقدان ) الزوج ( الأب ) لزوجته وفقدان ( الإبن لأمّه ) وإلتقاؤهما في ردهة ذات حيّز ضيق / كلُّ شيء يضيق فيها حتّى ما يقع خارج القاعة من ردهات وصحراء / والحلم بالهروب من تلك القاعة نحو حرّية تنتهي بالقمع وإعادة ( الموت ) من جديد.
* العائد / تشرين الثاني 1996 / العائد المشاهد ( لموته ) المركون في زاويةٍ ، في بيت لا ينتمي إلى مدينته ؛ مدينة دخولها يشبه الخروج منها والإغفاء فيها إدراكٌ لفقدان الأبناء وأنصارهم في لا شيئية التحلّل والتحوّل ( التحوّل من مكانٍ إلى آخر ) ليغدو ( فخاخاً ينصبها أصحاب البيوت والعقارات والسماسرة )... إنّه هروبٌ آخر بلا تخطيط.
* المدفن / شباط 1997 / موت الإبن / وكأنَّ القسم الأول يبدأ بموت ( الأب ) وينتهي بموت ( الإبن ) المستبدل إجازتَهُ بآخر ليموت بدلاً عنه داخل المدينة , وبالتالي هو موت ( الأب والأمّ والأخوة المنتظرين ) وتصاعد السرد المأساوي بعد تحوّل البيت إلى ملجأ للموت بدل أن يكون حامياً للعائلة ، وتحوّل المكان إلى ساحة قتال تفرّ منها العوائل ( إلى الباحات المكشوفة في الليل المظلم ) , وكذلك يبتدئ القسم الأول بمخاطبة ( الموت ) لينتهي بـ ( صوت الموت المرتقب ؛ الموت الزاحف ببطئ نحو أجسادنا المهدّدة ) حتى يغدو ( الموت ) المفاجئ ( حالة إعتيادية ) وتغدو نداءات القاص عويلاً لجميع ( الموتى ) إذْ ( لا مساحة للأحلام في رؤوسنا ، عدا تلك الصور المتشبّثة بالإخلاص لبقعةٍ من البرّية ، أو حقل أو مقبرة ، نلوذ بها كما فعل الجميع وسط زمهرير الصقيع نلمُّ أحلامَنا وسرَّ وجودنا ) ... ويختتم القاص دفن الإبن ( إمتداد الأب الميّت دون مطر في صحراء قاحلة ) في حديقة البيت المزهرة بالموتى تحت ضوءٍ كليل كيما يزهر مدفناً آخر ، أو موتاً آخر يقودنا إلى سلسلةٍ أُخرى وقسمٍ آخر ... هو القسم اللاحق..
* حيث يبدأ القسم الثاني بذات الخطاب الموجّه للموت : (أيُّها الرأس ...) الذي يقودنا إلى عنوانات القصص :
* الإيداع / آذار 1996 / ( رهن ) رأس الكاتب مقابل ثمن بخس , وموت ( القلم )..
* المقبرة / آذار 1996 / رجلٌ ميّت يحمل إضبارته ( جثّته ) وزمنه مركّز ضمن أوراق تضمّها إضبارة , وكلّ الذي يريده الرجل هو طمر جثّته ( التي تنتظر في الخارج فما عليكم إلاّ إكمال أوراق التصريح والدفن والترحيل نحو المدفن الصحراوي ) ؛ والجثّة هنا ترقد على ظهر الباص وتشبه التابوت الراقد على ظهر العربة في قصة ( الحصان ) , وشبيه بقصة ( جدار المدينة ) , بأوراقها وألبومها الذي يكتبه الآخرون ... أو السيرة التي يؤلّفها الآخرون كذلك , تأريخ القصة نفس تأريخ القصة التي قبلها.
* 3895610 / شباط 1996 / رقم غريب ( ومميت ) لأنه يساوي خدمة 30 سنة ، وتساوي هذه السنين - أخيراً – ثَمَن ( كُم ) قميصٍ واحدٍ ( فقط ).
* المدفن الصحراوي / نيسان 1996 / رجلٌ يبحث في زوايا النفايات عن قصاصة صحيفة أو مجلة يستطيع قراءَتها , ثم يركب هارباً من المدينة نحو ( المدفن الصحراوي ) مستقلاً سيارة يقودها رجل يتحوّل إلى ( كلب ) ؛( كلب حقيقي ) , ومتحوّلاً في ذلك المدفن إلى رجلٍ يجري على أربع ونلاحظ إنَّ هذا ( المدفن ) هو ذاته في قصة ( المقبرة ) وهذا التحوّل الإنساني إلى هيئة أخرى ( حيوانية ) هو تمهيد لإختتام القسم الثاني والمجموعة كلّها بقصة ( ما حدث في المدينة ).
* ما حدث في المدينة / مايس 1996 / تحوّل الإنسان إلى هيئة أُخرى وهذا التحوّل قريب من المسخ والمسخ ؛ أبشع صورة للموت الإنساني في عصر التقدم حيث يلبس القاص جلد ( غوريلا ) ليداعب الأولاد والأطفال ويثير فضولهم هكذا , وحيث يراقب ( الزملاء ) جميعاً ، ( وهم يضجّون داخل أقفاص الحديد سواء في بدءِ العمل أو أثنائه ) , وهكذا ( يندّس كلّ منهم داخل جلده ) إبتدءاً من جلد القرد والغوريلا وإنتهاءاً بجلدٍ لا مسمّى ... وكذلك الإبتداء من صحراءِ القسم الأول ( آخر الرؤيا ) إلى قفصٍ كبير في حديقة ملآى .. بالمسوخ ! ( لا تشبه حديقة المدفن ) وما يحدث في هذه المجموعة إنَّ المبدع ( جاسم عاصي ) ابتدأ رثاءَه من صحراء الأمس وخيباتها ( 1967 ) وعواء ليلها ونداءاتها وتوابيت موتاها وفقداناتها المتكرّرة لينتهي برثاءٍ أخير للقلم المتحوّل إلى ( مسخ ) يسيّر الآخرُ في حديقةٍ ملآى ( بالزملاء الآفلين ) فيتقلّص عدد القصص في قسمها الأول ( عشر قصص ) إلى النصف في قسمها الثاني حتّى التلاشي والعودة من جديد ..!
#رعد_مطشر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟