امل فؤاد عبيد
الحوار المتمدن-العدد: 1654 - 2006 / 8 / 26 - 11:00
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
إن الطريق إلى الثقافة .. هي في الاستقلال الاقتصادي .. وإقامة المجتمع المنتج لا المستهلك .. وفي استيعاب شروط التطور ومعطيات العصر وتطوير التراث .. وامتلاك الأدوات التي تؤهلنا لتشكيل وعي جماهيرينا وصقل سلم قسمنا والتأثير في أنماط سلوكنا .. إن الطريق الصحيحة الموصلة لثقافة جديدة هي : الحرية " .
من المفترض أن هذه الفقرة التي أوردها الكاتب توجز ما في الكتاب من مضامين ثرية تؤكد على أن الحرية المدنية أو الاجتماعية تتأكد في وجه لها .. من خلال التفاعل الحر بين الفرد ومفردات مجتمعه وتاريخه ومن ثم يتيح ذلك حرية الإبداع أو القدرة عليه .. بخلاف مفهوم حرية الإرادة وتعارضها مع الضرورة الحتمية في تحقيق الوقائع ووجودها .. كما أنها تعتبر فاتحة منطقية لما سوف نطرحه من رؤى متنوعة لوجهة نظر الكاتب " ماجد السمرائي " في كتابه " سؤال الحرية " .
أولا / الكتابة ورهان التغيير
يركز الكاتب على محور رئيسي وهو الثقافة ونصيبها من التغيير الحادث اليوم على جميع الأصعدة .. على اعتبار أن الثقافة ليست بالمادة الصلبة .. إنما هي كائن مثل الكائنات الأخرى قابلة للتغير .. وأيضا للفناء والزوال والتدمير .. أو التحديث والتطوير .. لذا نراه يطرح سؤالا في غاية الأهمية والذي يعتبر في حد ذاته من أصعب الأسئلة التي يواجهها العالم العربي اليوم .. فيقول : " لمن نكتب ؟ وماذا ينبغي أن نكتب .. ؟ وما هو الأصل في خطابنا هذا .. ؟ وإلى أين الامتداد .. ؟ "
يرى الكاتب أن فعل الكتابة فعل إنتاجي في حقيقته .. كما أن له بعديه الأساسيين وهما المكان والزمان .. فالأول لمنح الخصائص وتكوين السمات وتأكيد الملامح .. والثاني لتعميق المسار والدخول في أساسيات حركة الحياة والتاريخ .. وأن فعل الكتابة , في حقيقة .. ما هو إلا انتماء أو انحياز .. يؤكد قيمة الفردية .. ومن حيث أن سمات الرؤية الفكرية الذاتية أو الشخصية تتمثل لنا من خلال فعل الكتابة وتشكل هويتها النهائية ذلك أن هذا الفعل ما هو إلا تعبيرا عن قيمة ننتمي إليها في حقيقة الأمر , ومن ثم تكون قدرتنا على الكتابة ما هي إلا تأكيد على وجود مفهوم ما أو قضية ما .. لذا فإن القضية الحقيقية هي التي " تطرح سؤالا و / أو تعمق دورا , أو تنهض بمسؤولية " وهو الفعل الذي " يؤسس لقاعدة أو أرضية تمكننا من الانطلاق نحو أهدافنا التاريخية والوجودية الواقعة .. مما يؤدي بالتالي إلى نوع من التجاوز ليس بالقفز على الآني أو المرحلي .. وإنما من خلال محاولة الارتفاع بهما وتوظيفهما لما هو أوسع حركة وأشمل رؤية وأوسع مدى .. " فالكتابة تحمل في داخلها القدرة على الفعل " في أن تكون وأن يكون لها تأثيرها
.. وهو شيء يخالف الكتابة التي تحمل في داخلها عامل الموت .. " ومن ثم يكون سؤال الحرية من أهم الأسئلة التي تتصل بفعل الكتابة بما أنه فعل حر ينم عن انتماء لقضية ما أو إيمان بفكرة ما .. فبغيرهذه الحرية لا يمكن للكاتب أن يحقق ذاته على نحو موضوعي من خلال الكتابة ..
أو تكون له القدرة على الكشف والاكتشاف و المكاشفة .. أو بلغة الكاتب نفسه " أن يكون ضمير عصره .. وليس مجرد شاهدا على العصر فحسب " .. على اعتبار أهمية دور الكاتب .. كدور مرهون بالمعرفة والتغيير والتجاوز , وهي من المهام الصعبة والتي يرتهن وجود الكتابة بها .. ذلك أن المعرفة هي وسيلتنا في التعرف على الواقع ومن ثم القدرة بعد ذلك على تحقيق التغير المطلوب .. إن كان ذلك على صعيد البنية الفوقية أو التحتية على حد قول الكاتب ,, من خلال فعل الكتابة .. والذي هو في حقيقة " مواجهة للنفس والواقع والآخر , ومواجهة للحاضر كما هي مواجهة للتاريخ والمستقبل معا .. " .
وإذا نحن اليوم نعاني شتى الهزائم الفردية والجماعية والانحطاط المتبدي لنا في كل أوجه الحياة .. لنا أن نعيد طرح سؤال الحرية .. الذي طرح في مرحلة سابقة من تاريخ الأمة .. " لا برغبة الإعادة والتكرار , بل بشعور يقوم على الرفض في التأسيس , وتقديم البديل الذي يمكن أن يساعد في بناء أمة على أسس جديدة من الحياة والتفكير .. " وهو ما يتيح لها الفرصة في أن يكون لها في الحياة والفكر دور تاريخي واضح وبناء .
من هنا يرى الكاتب أن سؤال الحرية مرتبط أشد الارتباط بفعل الكتابة كدور له أحقيته في إثبات الوجود .. وذلك أن ممارسة الحرية أكثر ما يظهر من خلال فعل الكتابة كنوع من التأثير والتأثر .. وأن هذا الدور قد انتابه كثير من " الخلل في البناء والتوجه , بما يجعل الدور ناقصا .. أو من شأنه الانتقاص منه .. " لما ينازع كتابنا ومثقفينا " كثير من الاتجاهات المتناقضة والمتباينة , ومن ثم تقتسمهم الطرق والسب دون أن يكون هناك رؤية موضوعية تعينهم على كشف الحقائق ورصد الواقع " دون زيف أو ضبابية .. ذلك أن الكتاب والمثقفين اليوم تتنازعهم انتماءات المتباينة ما بين الماضي والمستقبل .. تاريخ ماض " يجدون فيه الذاكرة " والتي يسعون دوما إلى استعادتها وذلك لارتباطها " وجدانيا " بهذا التاريخ .. خاصة وأن التاريخ عندهم له " صفة المقدس " من حيث أنه تراث ثري بالشخصيات التي يجدون فيها " المثل الأعلى الواجب احتذائه والسبر على منواله .. " لذا فإنهم يتفاعلون مع هذا الماضي على أنه " متحقق " وهو الشيء الذي يدفع بكل كاتب أو مثقف لأن " يكتشف نفسه في هذا الماضي تراثا وتاريخا " على اعتبار أن هذا التاريخ ما هو إلا مرجعية ذاتية .. مما يستلب وجوده في بعدي الزمان الآخرين وهما الحاضر والمستقبل .
أما من هم يركنون إلى " الرؤية المستقبلية " هذه الرؤية " التي تتطلع بنظرة حيية , وكأنها تخجل مما سيأتي , أو من وضعها في هذا المستقبل " ومن ثم يمثل المستقبل بالنسبة لها " زمن غامض الدلالة " ولا يمكنها تحديد موقعها بالنسبة له ذلك أنها " لا تستبقه بشيء من المواقف والمفاهيم , ولا تتبعه ولا تنفصل عنه .. " كما أنها لا تتمكن من رؤيته .. " إنه عالم سديمي , ولكنه ليس وهميا أو أسطوريا .
ثانيا / سؤال الحرية والمشروع الثقافي
من ناحية أخرى يطرح الكاتب عدة مناهج لتفعيل السؤال " سؤال الحرية " حيث يرى أنه يشتغل على ثلاثة مستويات : المستوى الأول هو تلك الصيغة التي تنادي " بتثوير التراث " بمعنى " محاولة إرساء قواعد جديدة من خلاله " وهي التقاليد التي لا تلغي التراث أو تمتثل له .ز إنما هي التقاليد التي تفترض العودة إلى السؤال الأساسي وهو : " إلى أي مدى يمكننا التفاعل مع هذا التراث ؟ ! "
أما المستوى الثاني فهو مطروح بصيغة " اكتشاف _ من نحن _ في عالم مفتوح على آفاق الهيمنة والصراع " وهو المستوى الذي من المحتمل أن يقودنا إلى " الاكتشاف " , كما أنه من الممكن أن يقودنا إلى " الانقراض " , إذا أن ذلك مرتهنا بما لدينا أو بما لنا من " قوى ذاتية " تعتبر هي الأساس في أي توجه أو اختيار .
في حين أن المستوى الثالث هو محاولة " تحطيم النموذج والبحث عن نموذج بديل " يمكن تأسيسه على مبدأ أو تحقق غير مرهون " لا لماضيه ولا للآخر " , إذ أن هذا المستوى يرفض " القمع كما يرفض الوصاية " ومحاولا استشراف معنى وجوده من داخله , ومن ثم يرى الكاتب أن في هذا المستوى قد يكون هناك احتمال " الانطلاق " نحو التأسيس وبناء صياغة التفاعل الحر أو أن يكون فيه احتمال " الصراع " .. وفي هذا المستوى قد يكون للمشروع الثقافي " طبيعة استراتيجية " لها بعدها الفكري الخاص بها .. والذي يحتاج إلى " قراءة معينة للواقع , كما للتاريخ " وهي القراءة التي تتأسس من خلال " التفاعل الحي بين الإنسان وكل من العصر والتاريخ والتراث " مما يتيح القدرة في النهاية على تكوين أو تشكيل " رؤية مستقبلية " تعتمد " إلغاء جميع الظواهر المرتبطة بفكرة الانحطاط وعقلية الانحطاط " .. والتي بدورها تبعدنا " عن واقع الهيمنة " وتعيننا على الانفلات من إطار أو إسار " التابع " .. وكل ذلك مرتبطا في الأساس " بالرؤية النقدية والموقف النقدي " الذي من خلاله يمكن تجاوز طبيعة الكتابة وفعلها اليوم الذي يقع ما بين اثنين هما كتابات " لجأت للتبرير " و عندئذ لم يكن لديها إمكاناتها في امتلاك يقين الحياة والتطور .. وكتابات " تمركزت حول مقولات محددة لم تتجاوزها ولا هي خرجت عليها " .. وهي بذلك قد دفعت إلى إرساء واقعا جديدا من " التقاليد " كما أكدت فكرة " الثبات " التي بدورها تقف عائقا أمام تشكيل أي بنية جديدة في فكر الإنسان .. من هنا تظهر لنا مسؤولية أي مشروع ثقافي عربي في أن يجد له " النقطة المركزية " التي لا بد أن ينطلق منها .. وهي " الوعي بالحقيقة في وجهها التاريخي , والإنساني المعاصر " .. إلى جانب ضرورة عدم إغفال الوضع الراهن لما له من حضور وواقعية دون " الحالات الكاذبة التي تحاول استيعاب حقيقته الرافضة " وبهذا يمكننا فقط خلق " قاعدة واعية يمكن أن تكون التأسيس لمرحلة تاريخية جديدة .. لا نستسلم فيها لا لقوى التاريخ الماضوي .. وما كان لنا فيه .. ولا لأية قوى أخرى يمكن أن تفرض وجودها عن طريق هزيمتنا " .
ثالثا / سؤال الحقيقة
إن كان كل سؤال هو في حقيقته إبداع جديد .. أو لا بد أن يكون كذلك مادامت الأسئلة هي التي تمهد لأولى خطواتنا نحو النور والوعي المستنير يقول الكاتب : " فالسؤال ¬¬ ـ كل سؤال ـ لا يكون حقيقيا ما لم يكن إبداعا لا إتباعا أو استتباعا " .
من هنا يأخذنا الكاتب إلى تلك الحالات التي ضاع فيها السؤال أو بلغته هو : " كان هناك اغتيار للسؤال على كل ما له من أهمية وخطورة .. " فقد شهدت العقود الأخيرة تغيرات أضحت بالعقل العرب يعاني ضياع السؤال والغاية المرجوة منه " .. حيث أنه يرصد بعضا من هذه التغيرات على مستوى الفكر والإبداع على وجه الخصوص فمنها مثلا :
1- ابتعاد الفكر العربي عن " أية مغامرة مصيرية في تمثل الحقيقة أو البحث عنها والسير في طريقها " .. الشيء الذي انحرف بالفكر في متاهات من الضياع .
2- استبدال " العقلية الثورية " في كثير من مواقعها وممارساتها بحركات لا هدف لها .. مما نتج عنه " جمودا وانغلاقا " على مختلف المعطيات الفكرية للحياة الإنسانية .. " فمن المعاصرة والحداثة إلى التراثوية ومحاولة توريث الواقع " أي تكوين " بنية ذهنية يحتمي بالموروث لتحاصر به رؤيتها العصرانية .. مستبدلة المضمون المتقدم بالمضمون المكرر " .. فقد ظل الإنسان العربي " في تكوينه الفكري والنفسي .. محكوما ذهنيا بذلك البيان الذي ربط شخصيته بالكثير من الصور الإبداعية " فكان أكبر أثر عليه هو ما لتلك الشخصيات التراثية من " مقدرة فذة في بيانها التعبيري " مما جعلها محل ثقة .. ومن ثم ازداد العربي ثقة " بما له من تراث .. متخذا من نماذجه مقياسا لكل أداء جديد .. مخضعا كل نص جديد للمنطق نفسه " .. وهذا له نتائجه السلبية : حيث يصبح العقل يمارس فعله الوجودي والإبداعي من خلال ذلك " السحر القديم .. حتى ولو كان وهما " .. وكان من نتيجته أيضا أن سيطرت اللغة على التفكير .. فنجد مثلا أن هذه " البلاغة الأسلوبية واللفظية الكلامية " قد أغرقت " الموقف إلى حد تمويهه أو إضاعته وتبديد ملامحه " مما أدى على انعدام وجود " وجه واضح لعمل الفكر ومسار المفكر " .. حتى أصبح الفكر أسيرا لحدود هذه البلاغة لا يخرج عنها .. من هنا نستطيع القول أن العقل العربي قد أخذ له أكثر من وجه في تناوله لأبحاثه .. فمنها تلك التي كانت تسعى لأن تبحث " عما يتطابق والواقع لا عما يغاير الواقع ويغيره .. " وهناك الأبحاث التي ذهب أصحابها بنزعاتهم التبريرية " التي تحاول اللجوء إلى التاريخ مرة , والهرب إلى التراث ثانية " سواء كان ذلك " توافقا أو معارضة " ليصبح فيها المفكر فاقدا للسان حاضره ومتحدثا بلسان الغائب .. " .
كل ذلك قد جعل الفكر عاجزا " نتيجة الخشية والخوف من " التواصل مع الحياة " , ومن ثم أصبح المفكر العربي في هذه الحال " محاصرا " إلى جانب أنه قد تخلى عن " منطق ثوريته .. ورافضا الإعلان عن انخلاعه صراحة من المنطق الحقيقي للثورة ومفهوم التغيير , وبطبيعة الدور التاريخي والحضاري له .." .. ولم يبق من دوره سوى " اللعب على الواقع من خلال اللغة " .. وهو في هذا الفعل يحاول طرح " نموذجا آخر لتأويل وضعه .. وإن كان في مسراه ومجراه تأويلا يتهدد الحقيقة والتزييف " , حيث أن الفكر يتحول من " وجهة " ليصبح " وجهة نظر " لا هدف لها سوى " تأكيد المعنى الشائع أو السائد " .. ومن هنا تبدأ صعوبة الحياة الثقافية , من وجهة نظر الكاتب , إذ إنها " تسعى إلى ترويض الأداء جاعلة من الواقع مسلمات .. لها ما للمسلمات التاريخي من امتداد ووجود .. وتسعى إلى طرح البدائل والترويج لها ليصبح المرحلي بديلا للتاريخي , والشعائري بديلا للجوهري .. ويصبح الفكر وسيلة أكثر منه غاية .. " .
ويؤكد الكاتب على أن هذا الانقطاع .. أي انقطاع " الحوار بين الإنسان وواقعه " قد سبب في ضياع السؤال .. حيث " ازدادت الهوة عمقا واتساعا بين الأديب وذاته .. وبينه وبين الحقيقة .. وأصبحت رؤيته للواقع رؤية مبنية على أسس غير موضوعية " .. وكانت النتيجة أن تجلت ظاهر غريبة .. " وذابت فكرة الصراع في تشييدات شكلية .. وأخرى لغوية .. حتى أصبحنا أمام نصوص بلا فكرة .. " .
3- ومن جهة أخرى يرى الكاتب أن هناك تغييرات قد اصابت الكتابة العربية ذاتها .. فقد ساهمت تيارت تمثل بنماذجها الأساسية " صورة أخرى من صور إضاعة السؤال .. وفي أحيان تبديده أو القفز عليه " .. فقد توزعت الكتابة العربية ما بين نزعات مختلفة ومتباينة منها مثلا :
- " النزوع الاغترابي الذي غالبا ما يعتمد المضمون السلبي من الواقع والحياة والرموز والأساطير .. بهدف الإذعان لها واليقين الضارع بها " .
- النزعة " العدمية اللغوية التي تنطوي على تكريس لتلك الرؤيا العدمية .. " وهي النزعة التي تؤكد على " نزوع استسلامي وركون إلى الغربة .. والتي تأخذ بعدا روحيا تنزلق إليه جميع المواقف ويتلبس بكل الحالات ".
- وهناك " النزعة الشكلانية والردة الرومانسية " هاتين النزعتين اللتان تمثلان نوعان من الاغتراب .. فالأولى هي اغتراب " في الحداثة من داخل حركة الحداثة " والثانية اغتراب " في الواقع وانفصالا عن الواقع وبناء الصلة بما هو ذاتي بحت أو جواني محتشدا بأسرار الباطن .. " وهذا كله أدى إلى ظهور " التيار التقليدي " بكل ما فيه من اعتماد على " لفظية الأداء .. وتكرار التجربة .. " .
ومن ثمة يرى الكاتب في هذه المرحلة من الإنتاج الإبداعي العربي .. أن هذا الإبداع أصبح
" يستسلم اليوم لأشد وراثات عقلية الانحطاط خطورة " .. من إذعان واستسلام لليأس والاغتراب بكل أشكاله .. وما هذا إلا نوعا من الانسحاب " من الحاضر " والخوف بدلا من " المواجهة والكشف " .. والإحساس " بالقهر الذي يسوق الإنسان إلى العزلة والاعتزال .. والتي لا تقود غلا إلى شلل الحياة في الإنسان .. وتوطنه في حالات من الاستلاب العنيف الذي يفقد معه انتماءه العفوي إلى الحياة .. " .
ومن خلال إعادة " قراءة فكر النهضة العربية .. وفي مواجهة واقع لم يتشكل على الصورة المأمولة " .. يؤكد الكاتب على ضرورة طرح أو إعادة صياغة سؤال يعبر في حقيقته " عن هذه الفترة الحرجة من تاريخنا الفكري .. " وهو : " كيف نجعل للفكر دورا في الحياة .. حياتنا نحن .. في مسار التاريخ .. بحيث نساعد على إحداث التحولات في الواقع ؟ .. بل كيف يمكن أن ننهض بهذا الواقع .. ؟ " .. وهو السؤال الذي جاء في " أعقاب فشل أول تجربة وحدوية عربية"خاصة وأن أحداث " نكسة حزيران 67 كانت قد عمقت السؤال وإعادته على نحو أعنف وأكثر تخصيصا .. " .
ومن جهة أخرى يرى الكاتب أن الوقوف عند حد الأسئلة وخاصة سؤال الحرية ما هو إلا دليل على " البحث عن المعنى الضائع ومحاولة استعادته .. أو هو إعادة السؤال ذاته والذي هو القضية المحورية في فكرنا الحديث والمعاصر .. منه تنبع و به تتصل أسئلة وجودية أخرى على كبير علاقة بأزمة الواقع العربي الراهن " إذا وجد الفكر النهضوي العربي في ذلك السؤال " بشير بعث حضاري " .. كما أن فكرنا اليوم .. " يرى في إعادة السؤال تواصلا فعليا بين ذلك الأمل والرغبة في التعبير .. وبين مغايرة الواقع .. " , وبالرغم من تباين واختلاف ما يقدمه فكرنا اليوم من طروحات تتباين مصادرها إلا أنها .. " جميعا تكاد تميل إلى الإعلاء من شأن الإنسان والفكر .. وترى أن المستقبل .. وهو ما يعنيها .. حتى وإن كانت تتحدث عن الأجيال الماضية وفكرها .. " .
رابعا / إرادة التغيير والتواصل
من جهة أخرى .. ومن خلال تأمل حاضرنا اليوم .. يمكننا أن نطرح مع الكاتب سؤالا في غاية الأهمية ألا وهو : " هل نحن في ما نفكر فيه ونعمل من اجله .. نضع مستقبلنا أمامنا أم نتركه وراءنا .. محتكمين إلى سلفية عقلية ترتد , في كثير من الأحيان إلى ضرب من يقينية زائفة تحركها حالات ومواقف تلغي العقل لتسير نحو غاياتها بغريزية متوارثة ترتد مرجعا – ميثولوجي – أو – ما قبل الثقافي – أكثر من رجوعها إلى ما سواه .. ؟ " وهو يعني بالارتداد هنا تموضع " فعل الإنسان – وكل فعل إنساني – في قطبين : القطب الأول هو : القاعدة السلفية المنافية لكل منطق عصري , بينما القطب الآخر وهو : تراجع الفكر العربي التقدمي عن كثير من أطروحاته التي كان قد أسس لها خلال عقود الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من هذا القرن .. بكل ما كان لها من عمل ثوري حاملا إمكانات التغيير ومواجهة ضغوط الواقع بإرادة اكتسبت قوتها من إيمانها بالغد الذي عملت له .." كما أنه وبسبب " ضياع المستقبل المنظور بالنسبة للعرب " أن تساءل الكثير منهم " من أين نبدأ ؟ وما العمل ؟ "
وهي الأسئلة التي لخصت " حيرة الفكر العربي والمفكر العربي في مواجهة الواقع ومحتمل الوقوع " ليتحول بنا السؤال بعد كثير من المتغيرات التي جابهها العقل العربي عن " الكيفية التي نقدم بها جوابنا عن طبيعة العلاقة بين فكرنا والواقع , وموقع هذا الفكر بين الأطروحات الفكرية الأخرى " .. إلى ما هي الكيفية التي نستطيع بها تجاوز الهوة بين " فكر متقدم في أطروحاته وواقع متراجع في مساراته ؟ " كمحاولة لخلق تفاعل حي مثمر وبناء .. خاصة وأن المرحلة التي يعايشها العديد من المفكرين والمثقفين العرب التقدميين هي " تغلب الواقع على الفكر وفرض هذا الواقع بأطروحاته المتخلفة على حياة الإنسان اليومية انطلاقا من تعميمات غيبية خادعة .. تستغل في الناس عفوية حسها وبساطة استجابتها .. فقد استدعيت إلى هذا الواقع أنماطا من الفكر المتراجع تاريخيا .. وأشيعت أيديولوجيات تعتمد جماعة التخلف مستغلة الإخفاقات من جانب .. ومستثمرة حالات القصور من جانب آخر على حساب اللحظة الأخرى المغايرة والتي يمثلها الفكر العربي التقدمي في مختلف تياراته " .. مما تشكل عنه " ترسانة ميثولوجية للفكر ألا علمي يشمل واقعنا ويفرض نفسه على قطاع كبير من فكر إنسانيتنا " .. فهذا الإنسان العرب يدخل المستقبل .. " من خلال ما نعتبره منظومة متخلفة في الفكر والرؤية والموقف التاريخي " .. والتي هي في نفس الوقت : " منظومة مهيمنة " كل الهيمنة .
هنا يتساءل الكاتب : " هل تخلى الإنسان العربي عن إرادته – كإرادة وجود – بما هو فكر إنساني متقدم ؟ وأين هي إرادة الإنسان المفكر : هل أضحت في عداد القوى المعطلة .. ؟ أم أنها اندفعت أو دفعت إلى واقع يحتجزها ..؟ أم تراها غدت قوة خاضعة فاستلبت منها القدرة على الإمساك بالواقع وإمكانية تعديله .. ؟ ".
في حقيقة الأمر أن الكاتب يأخذ على الفكر العربي انقسامه على نفسه من خلال تيارين متناقضين .. ففي حين أن هناك فكرا .. " قد اشنغل زمنا بالبحث عن مفاتيح المستقبل .. وأنه في عملية البحث هذه صاغ أسئلته ووضع مشروعات أجوبته من خلال موقف اتسم في العديد منها بالتوفيق " .. كان هناك " الفكر الآخر " والذي اتخذ له منهجا أو منحا آخر فقد " قطع صلته بجذرية الرؤية والموقف من خلال المراجع التي يستوحيها والمرتكزة أساسا إلى – أصولية .. سلفية _ من شأنها انتزاع الواقع والمرجع من فعاليتهما الحضارية " .
في حين أن الفكر العربي كان يحتاج أكثر ما يحتاج إليه في الواقع ليصبح فكرا فعالا من وجهة نظر الكاتب هو " الطابع الثوري الحاسم والمغير الذي يكتسب على ديمومته من وضوح الرؤية والموقف فيه .. وأيضا الموقف الجذري في الفكر والنظرة إلى التاريخ بما من شأنه تحويل الأطروحات الفكرية إلى أداة فعالة في الواقع انطلاقا من مفهوم التقدم وليس من سواه . "
خامسا / النهضة والمثقف الاستراتيجي
ومن القضايا المثيرة للاهتمام هو ما كان قد أثاره المثقفون العرب في الخمسينيات من القرن الماضي فيما يخص وضع المثقف ذاته .. أو المثقف " الاستراتيجي " ذلك المثقف الذي ربط بين " حضوره وفاعلية الدور المنوط به في الحياة العربية " .. وأن ذلك ممكنا في حال :
أولا / إقامة بناء ثقافي قادر على تحقيق التوازن بين عدد من الثنائيات .. بين " الغايات والوسائل " .. و" الأهداف والمبادئ " التي تقوم عليها .. و"الإنسان والمستقبل " .. ولن يمكننا تحقيق هذا التوازن دون الحرية باعتبارها الوسيلة الفعالة في بلوغ الإنسان غاياته متجاوزا الخوف والاغتراب .
ثانيا / بناء المجتمع على أساس ثقافي له أطروحاته الفكرية الواضحة والمؤكدة لطبيعته .. وهو المجتمع الذي " يحتل فيه العقل بما له من خصائص معرفية متقدمة , ومكانة يستطيع من خلالها الدفع باتجاه إقامة كيان حضاري جديد ذي أبعاد إنسانية واضحة " ومن خلال ذلك استطاع المفكرون العرب رسم مسارات كانت تلتقي رغم تعددها واختلافها على أهداف واحدة أو متقاربة جوهرا .. وهي : " محاربة الجهل والتجهيل .. وكسر قوانين التخلف , ورفض مصادرة حرية الإنسان , والمثقف بوجه خاص " .. أي بكلمة واحدة : " الانتصار لحرية الفكر " .. وهو الذي جعل من " المثقفون العرب " خلال النصف الأول من هذا القرن وما تلاه من عقود يمثلون قوة فعالة في الحياة العربية .. " قوة قائدة ومؤثرة في مسار هذه الحياة " .. وهو الشيء الذي جعل من " المشروع النهضوى العربي " مشروعا " واضح المسار على طريق الغد المأمول " .. وهو الشيء الذي ألمح إلى مفهوم " المثقف الإستراتيجي " من حيث هو : " المثقف العضوي – حسب مفهوم غرامشي " وهو : " الذي ترتبط فعاليته الثقافية بتكوين المجتمع ووجود الأمة .. " كما أنه يؤكد على أنه : " إذا كان هذا المثقف وحده هو المؤثر في فعالية العالم فينبغي أن يكون لمثقفنا العضوي العربي تطوره الخاص والمختلف , ومنطلقا جوهريا , عن نمط التطور الذي تدفع إلينا روح النهضة الغربية بنزعتها الاستعمارية ونزوعها الإمبريالي " .. كما أن ما نؤسس له :" من ثقافة ونبني من فكر يكون مرآة لإرادتنا وسبيلا نحو مصيرنا الذي نختار ونحدد .. " .. ولن يتوفر لنا إلا إذا أصبح " مثقفا عضويا .. ذا نظرة إستراتيجية إلى الثقافة " .. بمعنى أن تتحدد نظرته إلى العالم من خلال وعي : " لشخصيتنا الحضارية والثقافية بين الشخصيات الحضارية والثقافية التي يتكون منها العالم المعاصر .. " أي بمعنى آخر : " مفارقة حالات الاستلاب الثقافي الفكري والحضاري التي تطبع بعض تفكيرنا وفكرنا الراهنين " .. والتي تصل على حد " إلغاء الشخصية القومية لهذا المثقف , والانطواء في شخصية الآخر بكل ما لذلك من بعد استلابي " .. خاصة وأن : " الغرب الثقافي يقطع اليوم كل جسر للحوار مع الآخر , غير الأوروبي , معتبرا حضارته الغربية حضارة متغلبة , وكذلك ثقافته , ولذلك فهو يرى أن على الحضارات الأخرى والثقافات الأخرى .. أن تنمو نموا مقلدا له .. أو تابعا " .
وهذا هو مفهوم الاستعمار الثقافي في أكثر وجوهه العدوانية .. " فهو لا يريد لأسئلة أخرى غير أسئلته أن تنهض .. بما تعمل على بنائه من نهضة تشمل حياتها وفكرها .. " .
إلى جانب ما يؤكد عليه الكاتب على أن إدراك الواقع الراهن بكل ما فيه من حقائق : " ينبغي أن نعيها وعيا كليا وشاملا مدركين ما قد يتولد عنها من مخاطر فيها التهديد لوجودنا منها أن الإمبريالية العالمية لا تقبل بغير الهيمنة الكلية والمطلقة على الآخر خارج منظومتها .. كما أنها تطرح مسألة الصراع بديلا لقضية الحوار بين الثقافات والحضارات الإنسانية والتي طرحها وتبناها وبشر بها بعض المفكرين الغربيين التقدميين المناهضين للنزعات الاستعمارية " .. وهذا الوضع المتردي أو هذه الحال التي نعيشها تفرض علينا " التمسك بتاريخنا القومي في بناء ثقافتنا الجديدة ..والتي علينا فيها أن نوحد تيارات فكرنا النابعة من حركة مجتمعنا العربي .
يأخذنا الكاتب لفكر الستينيات من القرن الماضي .. ذلك الفكر الذي " وضع الإنسان في مركز العالم .. وأصبح للافكار التي يحملها عن المستقبل ويبشر بها .. قوتها الفاعلة " .. حيث أن هذا الإنسان كان يتواصل من خلال فكره .. " مع الواقع من خلال بنائين متوازيين هنا : بناء الفكر على أساس حي , له فاعلية التأثير .. وبناء الواقع بما يجعله يمضي على مسار التغيير والتحويل.. " .
كما كان للإنسان المثقف إيمانه القوي لما لكلماته من قوة على الفعل والتغيير إذ إنه كان : " يحس بامتلاك القوة الداخلية التي تدفعه إلى تحدي الواقع .. والتفكير بقدرته على بناء العالم وفقا للصورة التي يريد .. " , مما جعل من هذا الفكر العربي بكل ما فيه من حركات تجديد ورؤى مستقبلية يمثل : " ثورة تحول جذري أقامت التوازي وقامت عليه : بين الفكر والحياة , وبين الإنسان ورؤياه .. لتكون الولادة لفكر عربي جديد يحمل أكثر الصور عمقا عن عالم مختلف جوهرا عن العالم القديم .. " .. لذا نرى أن الإنسان العربي قد امتد " برؤاه نحو المستقبل بحركية الفكرة المجددة .. بجدلية لا منتهية تدفع بروح التمرد على العالم القديم على أن تأخذ مداها .. " ,مما تحول بحركات التجديد لأن تكون : " طاقة عملية واعية حية في صيغة من صيغ الإرادة التي تنظر إلى صيرورة العالم من خلال صيرورة الفكرة .. " , وهي في حقيقة منطلقاتها وما اتخذته من مبادئ ومسارات نجد أنها قد أكدت على الصلة القائمة " بين الإنسان والعالم " إلى جانب ما أكدت عليه من مفاهيم مثل : " الأساس المشترك بين الضرورة والحرية " مبتعدة عن كل ما عملت على ترسيخه الرومانسية من عزلة للإنسان .. " وبناء استقلاله الذاتي المجرد " .. وذلك من خلال طرح البديل الفكري الذي " يعقد الصلة بين الفكر والوعي , وبين الوعي والواقع في بعده الإنساني " فكان لحركات التجديد هذه دورها الهام لما كان من " موقف استراتيجي في الثقافة والفكر " .. وهو الموقف الذي عبرت عنه من خلال ما امتلكته من قوة عملية .. " أعادت للذات الخلاقة دورها وعملت على ربط الفكر بما اختطته من مسارات التغيير .. وعمقت مفهوم الحرية والمسؤولية في ما وجدت لهما من أبعاد تاريخية مرتبطة بالثقافة وبما للمثقف من دور تاريخي , مؤكدة على أن الوعي لا يمكن أني كون شيئا آخر غير كينونته الواعية " .
ولم يتأت هذا الدور المنوط بهذه الحركات إلا من خلال الوعي بأن " الانتماء فيها كان قد انبنى على وعي بالمهام التاريخية المنوطة بالمثقف " .. كما أن التاريخ كان تاريخ صراع ومن ثم كان " جدل التناقضات في هذه الحقبة هو المحرك الفعلي لتاريخانية جديدة وضعت الأساس للتطور وكانت التعبير عن معانيه .. " .
وقد كان المفكرون والأدباء يحاولون لأن تكون " رؤيتهم التجديدية قائمة على سؤال المغايرة " الذي يشترط " قدرة الأفكار الجديدة والفكر الجديد والرؤيا الجديدة على تغيير نمط الحياة والعلاقات ومسارات التفكير بما في ذلك رؤيتنا للمستقبل .. " , من هنا كان قد تشكلت من خلال " عدد من المفكرين العرب , بفكرهم التنويري .. منطقة تحولات " , منحتهم القدرة على تأسيس مفهوما جديدا للنهضة التي من خلالها : " تحددت قيم الفكر العلمي , ومنها استمد العقل معاييره في موقفه العصري الحديث .. وقد كان الإقصاء الكلي والشامل لكل ما هو مناف للعقل , والرفض التام للأيديولوجيات الإرتكاسية والرجعية " .. خاصة وأن النهضة ما هي إلا " رؤية وعمل : رؤية شاملة لعالم يتكون ويتحدد به ومن خلاله مشروعها الذي هو مشروع كلي ’ يتداخل فيه ويتفاعل وعي الماضي – كتراث وتاريخ وكبعد تكويني لذات الأمة – بقضايا الحاضر , واستشراف المستقبل " .
وإذا كان هذا هو مشروع النهضة بكل ما فيه من أمل للتواصل الفعال بين الإنسان وواقعه الحي .. وماضيه التراثي ومستقبله المأمول فلا بد من متطلبات أساسية أو شروط لا بد من توافرها أهمها :
- احترام حقوق الإنسان , وإتاحة فرص المشاركة الفعالة أمامه .. أي تفجير حيويته المحركة للتاريخ .
- فتح آفاق الحرية أمامه بحيث لا يعود معطلا عن إدراك العالم إدراكا سليما .. ومشاركته مشاركة فعالة في حركة التقدم بالإنسان والمجتمع والحياة . " .
سادسا / النهضة والفكر المضاد
في المقابل نجد أن الفكر الزائف أو المضاد لهذه الحركة النهضوية والتي يسميها الكاتب بـ " مضادات النهضة والمشروع النهضوي " ,, ,التي من أبرز سماتها " العقل التجزيئي الذي يتبنى منظورا أحاديا " .. والذي لا تتاح له النظرة أو الرؤية الشاملة والمتكاملة للعالم مما يحد من فاعلية الفكر وتواصله البناء والمؤثر , إلى جانب وجود : " التصور المطلق والأخذ بالمسلمات بكل ما ينبني عليها من ثوابت أو يصدر عنها من حالات الإلغاء والنفي .. مما يعطل جدلية النهضة مع ذاتها والعصر " .. أو بمعنى آخر الارتكان إلى الثوابت والمسلمات اليقينية التي يتسم بها الفكر السلفي , والذي لا يتصور " التقدم ولا يتبناه إلا إذا كان باتجاه الماضي , حيث النفي لكل من الحاضر والمستقبل .. الأمر الذي يحد من حركة التاريخ .. إن لم يعمل على تعطيلها " .. إلى جانب ذلك أيضا " رفض الفكر العلمي " وهو الأمر الذي يمثل ارتجاعا واضحا عن مقتضيات العصر ومنطلقاته .. ومن ثم " الاستبعاد لكل رؤية عملية للواقع والمجافاة للحقائق الواقعية " .. ولكل ذلك سلبياته التي من أهمها : " التبعية بكل أشكالها " والتي يرى فيها الكاتب نوعا من القمع لكل ما يمثل " رؤية تقدمية للواقع " أو هي " عنصرا إرتكاسيا في تاريخ " وذلك من خلال وضع مشروع الآخر كقاعدة بصفته :" صيغة متحققة ومشروعا متكاملا " .
كما أن هذا العقل المنافي للنهضة أو مشروع النهضة لا يعتمد " النزعة الإصلاحية " في توجهه .. إنما هو فكر يرتكن لكل ما هو قائم ومتحقق دون أي نظرة نقدية فعالة .. فالوعي الزائف الذي يرفضه الكاتب ويرى فيه أساس لوعي مبناه " اعتبارات آنية ظرفية وليس له بعدا تاريخيا , ولا يحمل من المسؤولية ما يقوم على أساس تاريخي .. فيه يتم تغييب الذات والتاريخ معا " .. فهذا الفكر في حقيقته وفي جوهره يستسيغ " الإذعان والاستسلام لما هو سائد " .
أما المشروع النهضوي فهو لا يقوم إلا على " رؤية تاريخية , وقاعدة مادية , وأساس علمي لا يفصل بين الواقع والشروط الموضوعية للتكوين " .. والذي يحتاج لتفعيله إلى مبدأين أساسيين هنا : أولا : " تأصيل الكيان الثقافي والتاريخي والحضاري , والذي من شأنه أن يمنح العقل العربي قوة الوجود وفعل الحضور " .
ثانيا : " الانفتاح على العصر واعتبار مسارات المعرفة فيه تعني الإنسانية كلها . " .
سابعا / الحرية وتشكيل الوعي
يتساءل الكتب كيف يتم تشكيل الوعي اليوم على " أرضيتنا الثقافية " , وعن أي فكر يجب أن نبحث , والذي نستطيع من خلاله أن " نكون هذا الوعي " , وكيف يمكننا " بناء وعي جديد في واقع دولي قائم على محاصرة الآخر غير الأوروبي " .
يقول الكاتب أنه لا بد من إتاحة الشروط الواجب توافرها لتحقيق ذلك الفكر والتي من أهمها " الحرية " والتي هي " عماد كل تفكير سليم " .. ولا يكون الفكر في تكوينه " جوهرا " من دون حرية .. فالحرية في الفكر وفي حياة المفكر ووجوده ضرورة اجتماعية .. فهي وحدها التي تنهض بالوعي وتقيمه على أسس صحيحة .. خاصة وأن كل نهضة تعتمد على اعتقاد مسبق بأن " المشكلة ليست في الطرح إنما هي في الممارسة والعمل ذاته " .. من هنا لنا أن نسأل عن مكان ودور المثقف ومكان الفكر العربي في عالمنا المعاصر ؟ .. وكيف " ينظر هذا العالم المعاصر إلى فكرنا العربي .. والمفكر العربي في ما لهما من دور خلاق وفاعل في الحياة العربية الحاضرة .. وعلى أي نحو يتحدد المشروع الثقافي العربي الراهن في أبعاده الفكرية والإنسانية عميقة الفعل .. بعيدة التأثير في بناء الواقع .. وفي حفز رؤية الإنسان فيه إلى رسم الطريق إلى المستقبل .. " .. وهي الأسئلة التي أثارها الوضع الحالي .. والذي كان نتيجة حتمية لتلك المحاولات التي سعى إليها " الاستعمار الغربي " , " الاستعمار الوطني المتمثل في الأنظمة والسلطات الرجعية " لضرب الفكر النهضوي العربي من خلال " تفتيت البنى الأساسية لهذا الفكر .. وذلك بحرف اتجاهاته وتزييف أطروحاته والعمل على استلاب عناصر الفعل الثوري منه .. وتزوير الحقائق أمامه " .. ومحاصرة " البؤر الفكرية الخلاقة .. " من خلال " تمكين القوى الرجعية والظلامية من الواقع ومحاربة الفكر العلمي وإشاعة الفكر الغيبي .. وتحويل مؤسسات العلم ومراكز المعرفة إلى بنايات يسكنها كل شيء إلا العلم والمعرفة .. ومحاصرة العقول المبدعة وتهميشها وضرب الثقافة في ما لها من بنى تأسيسية .. " . من ناحية أخرى لا بد من وعي ضرورة وأهمية تلك الأسئلة .. خاصة وأن المثقف والمفكر العربي اليوم .. يتحرك وسط تيارات جديدة مغرية في الفكر والثقافة .. تيارات تجمع بين " غليان الثورة في الفكر والروح .. وبين تمردات النزق والعبث ونكران الواقع .. " ومن غير الممكن نكرانها أو تجاوزها وتجاهلها .. ومن ثم المطلوب هو أن " نقابلها بيقظة الوعي .. أن لا نقبل كل ما يطرح علينا .. لا نصاحب كل ما يصادفنا في الطريق .. فمن هذه التيارات ما يكون متناقضا أعمق التناقض مع حقيقتنا الثقافية والتاريخية والحضارية .." .. هنا يبرز دور المثقف والمفكر العربي الذي لا بد أن .. " يندفع بوعيه الثوري والخلاق إلى البحث عن فكر يجسد طبيعة تجربتنا من ناحية , ويمنحنا قوة دافعة نحو المستقبل , وفي تجربة جديدة خلاقة من ناحية أخرى .. " , هنا يبرز دور الحرية .. خاصة وأن المثقف والمفكر العربي " يعيش اليوم في مستوى التفكير والكتابة .. ما يمكن أن ندعوه بحالة – نقص الحرية – في المجتمع العربي " على الحد الذي " تغدو معه حركتهم متعسرة فيه .. الأمر الذي اندفع بغير كاتب ومفكر خارج التاريخ : ذلك أن الكتابات المهمة.. والأعمال الكبيرة لا يمكن أن يكتبها أناس خائفون .." أو هم في دائرة التقيد والحاجة والرغبات وانهزامها .. فإذا كان الحرية هي أهم المشاكل أو العقبات التي تواجه المفكر أو المثقف العربي .. خاصة وأن المفكر يعاني " عملية نزوح الوعي " والذي يقصد به الكاتب " التموضع الذهني في طبيعة ثقافية وفكرية مموضعة ذاتيا .. يصبح فيها هذا الوعي النازح وعيا متعارضا مع ما للذات من طبيعة وتكوين " .. وهو ما يتعارض مع مهمة الكاتب – على حسب قول آرنست همنجواي – " هي أن يقول الحقيقة .. ويصدح بالحق .. " .. ذلك أن أن الحرية ما هي غلا " بناء فكري نقدي وليست هما سياسيا فقط .. إنما هي في هذا التصور الشامل للحياة والوجود والإنسان .. هي في إشعاعاتها وليست في تعريفاتها .. وفي ما تحققه من شرط إنساني للوجود .. " ويبقى محور الكتابة هو " هل تساءل ما تبقى من المثقفين الخلص عن دورهم في مواجهة رياح التغيير المعاكس .. والكشف عن حالات جديدة للانخراط في حركة التاريخ لقيادته وتغييره .. ؟ أم أنهم يبحثون في هذا التاريخ عن فراغات يسكنونها .. ؟ " خاصة وأن الكثيرين من المثقفين العرب " قد تخلوا عن مشروعهم التنويري , ملتحقين بواقع أو أكثر لا يمثلهم , لا يتمثلون فيه كيانا ثقافيا وأطروحات فكرية إلا فيما هو فروض سيئة لحالة المثقف العربي .. " ويتحول السؤال الآن " من أين يبدأ طريق التغيير هذا وكيف .. ؟ " يقول الكاتب على لسان المثقف نفسه بضرورة منحه الحرية .. حرية التفكير .. " إذا كانت حريتي هي في أن أكون .. فإن هذه الكينونة يجب أن تتاح لها المعرفة .. والاكتشاف والإبداع .. لأستوعب بها ومن خلالها مهام عصري .. " فالمثقف هو ذلك الإنسان الذي لا بد من أن يكون له دوره في عصره ومجتمعه .. ويكون اختياره في المحصلة النهائية " تعبيرا عن إنسانيته " ذلك أنه فيما ينتجه من فكر متصل " بتوجهات فكرية وحضارية .. فهو يعيش التجارب .. يكتسبها ويعاينها ويعمقها فيما يكتب محاولا في ما يكتبه أن يغني تجربة سواه في هذه الحياة .. " ذلك أن الفكر يمثل قوة تاريخية ومن ثم " يمكن أن تكون مؤثرة في الضمير الجماعي للأمة .. انطلاقا مما للفكر من حركية ترفض الثبات والسكون .. " .
كما أن الثقافة ما هي إلا " موقف .. والمواقف لا تأتي من فراغ .. ولا يتأسس على فراغ .. وإنما هو حركة ذات واعية لوجودها التاريخي .. وعلى معرفة بطريقتها إلى هذا الوجود .. " .
من هنا وكما يقول الكاتب فإن " صدور الموقف الثقافي في زمن يفرض فيه الحصار ووضعه القاسي الثقيل على حياتنا .." فإن هذا الموقف يحتاج منا تحديدا لتحقيقه .. على " الوعي والموقف " .. ذلك أن مسألة تأكيد الحرية .. ورفض القهر وحالات الاستلاب لا يمكننا تحقيقها .. " بالفكر التبسيطي والديماغوجية " إنما من خلال التفعيل البناء .. " للموقف الثقافي " والعمل على ترسيخ " الوجود الفكري " مما يدفع ذلك بالطاقات المبدعة والخلاقة أن تتخذ مسارها الصحيح والسليم في بناء صرح الحضارة والمجتمع الحضاري المأمول .
#امل_فؤاد_عبيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟