|
القرد المدجن
محمد اسماعيل السراي
الحوار المتمدن-العدد: 7073 - 2021 / 11 / 10 - 22:06
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يوصم السلوك الإجرامي او العنيف او حتى المخالف، في المتخيل الشعبي- بل والرسمي- على انه سلوك غير طبيعي او سلوك مرضي او شاذ، اي شاذا عن المنظومة القيمية والقانونية . وهذا الوصم من قبل المؤسسة القانونية والقيمية ،وحتى من قبل افراد المجتمع الموصومين بالمواطنين الصالحين الذين هم في الحقيقة افراد مدجنين انما هو تصور مدجن . فالسلوك العنيف او الاجرامي في الحقيقة هو السلوك الذي يمارسه الانسان السوي المتحرر من هيمنة التدجين الاجتماعي، حيث يمارس فعله بكامل الحرية التي استمدها من قناعاته الشخصية لا من قناعات المجتمع التي تعمل بلا كلل كماكينة اجتماعية مهمتها تدجين الافراد لصالح حماية الجماعة ومكتسباتها ونظمها العمومية ..فليس من يُعرّف (بالمجرم) او (الجاني) هو من يجب ان يوصم سلوكه بالسلوك المرضي او الشاذ، بل السلوك المرضي هو سلوك المواطن العادي او (الصالح) ، لانه سلوك مدجن ومهجن خاضع لمنظومة قيمية تراكمية عمرها آلآف السنين عملت منذ تكوينها ونشوئها ومرورا بمراحل تراكمها وتعملقها تاريخيا - وللان- على تدجين الفرد وسلبه من طبيعته وسجيته البايلوجية والنفسية وتحويله الى كائنٍ اجتماعيٍ صالح . وهو اذ يكون صالحا حينها ، فليس هذا بمعنى ان الصلاح غاية عليا بحد ذاتها وامرا جيد، بل صالحا وفق رؤية الجماعة ، ليخدم قيم الجماعة التي تواضعت على خلقها الجماعات طوال القرون التاريخية المنصرمة ،وليخدم ويطيع قيم الاباء والاجداد الاقدمين الذين رأوا قسرا ان هذه القيم هي القيم الجيدة والفاضله والعليا، وفرضوها علينا فرضا لنكتسبها نحن لاحقا بصورة آلية ونمارسها كانها قيمنا نحن اللاحقون والذين ياتون بعدنا . ولكن في حقيقة الامر انما نحن مجبولون على ذلك بسبب التنشئة والمحيط الاسري والاجتماعي، وهي في الحقيقة -اي تلك القيم- تخالف حقيقتنا كبشر( افراد ) ، لان هذه القيم والمثل انما خدمت الجماعة (كجماعة) او مجموع ولم تخدم الفرد( كفرد) ، بل كانت بالضد من طبيعته التي خُلق او جُبل عليها..ان المنظومة القيمية نتاج عصر النيولت(الحجري الحديث) ومابعده، ابان تشكل الجماعات والمجتمعات البشرية بعد اكتشاف الزراعة والاستقرار في موطن او ارض ثابته معينه، نتيجة حرفة الزراعة والاستقرار قرب المحصول، وهذا حدث تقريبا منذ ١---٠--- الاف سنة فقط من عمر البشرية ، والذي فيه تواضعت الجماعات على وضع نظم واتفاقيات خاصة تنظمها وتنظم سلوك افرادها وتحمي نفسها داخليا وخارجيا- وداخليا بصورة اهم واكثر- بهذه النظم والمتواضعات التي ستسمى لاحقا قيما ومبادئ واخلاقا وقوانينا ، وتكتسب في وقت لاحق صفة القدسية او تقاربها ، فليس الديني فقط هو المقدس بل ان القدسية تسري الى العرف الإجتماعي واخلاقيات الجماعة والقوانين كذلك ..عملت الجماعة باجحاف على وضع هذه المتبنيات والاعراف الاجتماعية وجعلتها سارية المفعول على كل البشر الاتين والذين سياتون طوال الحقب الزمنية اللاحقة والقادمة دون اخذ مشورتنا او رأينا نحن الاغلبية الساحقة ، فنحن خاضعون لها بحكم الزمن والتقبل والجهوزية والكسل الذهني ليس الا، الغريب اننا نعيش تصورات الاجداد للنظام والحق والحقيقة والواجب والاخلاق وليس غير . ان هولاء الاشخاص التاريخيون هم من فرضوا علينا نمط سلوكنا الحالي شئنا ام ابينا..الجريمة الكبرى ان هذه المنظومة القيمية راعت حماية مصالح الجماعة ولم تقم لمصلحة الفرد اي اهتمام ، فهي عملت على حماية الجماعة من داخلها اي من الافراد الذين يوصمون دائما بالمعتدين على الجماعة وكيانها. انها قامت من اجل تراص الجماعة وعدم تفككها في ذلك الزمن الغابر الذي بدات فيه الجماعات تتكون رويدا رويدا وشيئا فشيئا ، لذلك هي كانت تحارب الاشكال والانماط والسلوكيات الفردية التي تتعارض مع تشكل الجماعة الاولية -الهشة في بداياتها- لهذا نحت منحا تعسفيا في كبت السلوك الفردي ،ومتناسية او جاهلة للطبع الفردي الإنساني لصالح الجماعة، مدمرة الوجود الفردي والكيان الفردي لاجل ان تثبّت الجماعة فقط ومن اجل بناءها، مهما كان الثمن، لانه في ذالك الزمن الغابر كانت الجماعة ووجودها ووجود كيان جماعي، اهم من الفرد، وان وجودها حتمي لاجل التضامن والحماية الخارجية من الاخرين في الجماعات او الكيانات الاخرى ، او لاجل مجابهة البيئة المحيطة والتعاون وضروف متطلبات الوضع الاقتصادي والاجتماعي الجديد القائم على الزراعة وضرورة التكاتف من اجل النجاح الاقتصادي، لهذا حاربت ايضا (داخليا )من اجل بناءها وتماسكها، فوضعت القوانين والنظم التي تخدمها ك(جماعة) متناسية او غاضة الطرف عن طبيعة الفرد وميوله ومصالحه ، وهذه المنظومة بالتالي عملت على تدجين الفرد ليكون المواطن الصالح والنافع والجيد ، الخادم المطيع للنظم الجماعية ، ساحقة فرديته بلا هوادة وطبيعته الغرائزية الأصيلة التي جبل عليها كونه معطى بايلوجيا اكثر منه معطى اجتماعيا ، ككائن ينضوي تحت مملكة الحيوان عاش ذلك لملايين السنين كفرد بايلوجي (غابوي) ، لم يمارس نظما جماعية -بالمعنى التعقيدي للنظم الزراعية- منذ ظهور اول البشريين المنتمين الى جنس الهومو منذ مليونين و٨---٠---٠--- الف سنة متمثلا بالهومو هابليس(الانسان الماهر)، بل وقبل ذلك كقرد ينتمي لفصيلة القردة العليا بكونه سلفا في عائلة اشباه البشر، وقبل ذلك سلفا قردا في فصيلة القردة عموما وماقبلها، رجوعا الى كونه حيوانا سلفا (ثدييا) ، ووصولا افتراضيا الى انبثاق اول كائن بايلوجي على الارض، فخلال كل هذه الحقب التاريخية البايلوجية تَنقَل اسلافنا ككائنات بايلوجية انانية فردانية وصولا فقط الى قبل ١---٠--- الاف سنه ومادون حتى صيرتنا الجماعات ككائنات اجتماعية تُغَلّب مصالح الجماعة على مصالحها. افرادا مطيعين خانعين منسحقين تحت رحمة منظومة قيمية عملاقة خلقها التاريخ والاجداد.. ان المواطن الصالح هو مواطن مريض سلوكيا او لنقل مهجن او مدجن اجتماعيا ، لذلك هو عندما يصحو على نفسه ويشعر بالغبن الاجتماعي الملقى على عاتقه جزافا بسبب التدجين المجحف الطويل تأريخيا ،فهو لن يميل الى الانتقام بسلوك عنفي من المجتمع الضالم كما يفعل المجرم السوي ، بل سيمارس العنف على ذاته، كأن يقدم على الانتحار مثلا او يمارس ايذاء الذات وجلدها كاقل رد فعل ،مثلَ ان يصاب بالامراض النفسية او الكأبة او الانكفاء على الذات والانسحاب الاجتماعي ، ولن يتجرأ على ممارسة حقه الفرداني الغريزي الطبيعي لانه سيكون حينها متشربا حد العنق باحترام المنظومة الاجتماعية وتقدسيها ، او لا يملك الجراة على عصيانها ..
#محمد_اسماعيل_السراي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما بين عولمة فوكوياما..ومشاعية ماركس...
-
الطوطم..والطابو..
-
(مدن الظل..الصرايف...) ....احياء على هامش المدينة
-
ما الأسباب التي دعت الايدلوجيات الشيوعية لانتهاج انظمة دكتات
...
-
الحانة
-
التأريخ الضائع (تأريخ الفرد)..
-
الذكاء،هل هو مكتسبٌ او موروث..؟ ومامدى صلاحية مقاييس الذكاء.
...
-
مفهوم الحرية: كآسريّ النظم المجتمعية واخلاق القطيع ,هم الاحر
...
-
المحاريب الرطبة
-
العقوبة والجاني..واستنزاف السنين
-
الدنيا تتغير..والانسان يتغير،ولكن تبعاً لها
-
ملامح الأسطورة في اطروحات مدارس القرن التاسع عشر ،الفكرية ال
...
-
سلوك الشر بين مطرقة التنشئة وسندان الوراثة
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|