أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - قاسم المحبشي - أرنولد توينبي؛ حينما تحطّم قاع كل شيء















المزيد.....


أرنولد توينبي؛ حينما تحطّم قاع كل شيء


قاسم المحبشي
كاتب

(Qasem Abed)


الحوار المتمدن-العدد: 7065 - 2021 / 11 / 2 - 09:43
المحور: سيرة ذاتية
    


خلاصة تاريخية فلسفية للمؤرخ والامبراطورية

في فجر يوم 14 ابريل من عام 1889 كان بيت أسرة توينبي يستعد للقاء القادم الجديد، وكان جوزيف توينبي البروتستاتني يتضرع إلى الله بان يرزقه بمولود ذكر، ليكون بحاراً مثل جده الأكبر توينبي، الذي كان رباناً في احدى السفن الشراعية القديمة التي كانت تبحر لحساب شركة الهند الشرقية من لندن إلى كلكتا والعكس، "لقد كان بحاراً جسوراً أسهم في مجد الإمبراطورية البريطانية، وكان هذا البحار له ولد اسمه ارنولد ولكنه توفي عندما كان أبوه ينقل القوات البريطانية إلى الهند عام 1857"
في فجر ذلك اليوم ولد ارنولد جوزيف توينبي Arnold Joseph Toynbee في لندن عاصمة الإمبراطورية المنتصرة من أبوين مسيحيين، كان والده يعمل موظفاً بشركة الشاي، وكانت والدته حاصلة على درجة البكالوريوس في التاريخ ومعلمة لمادة التاريخ في احدى الثانويات.
إما جده لأبيه فقد كان أول طبيب في لندن يتخصص في الإذن والحنجرة وأول طبيب يأخذ جنيهين للاستشارة الطبية بدلاً من جنية واحد وكان جده الأخر بحاراً كما أسلفنا، إما جده لامه فقد كان مخترعاً في مجال السكك الحديدية، وكان عمه ارنولد توينبي الأكبر معلماً وأمينا لصندوق في كلية بالليول Bolliol في جامعة أكسفورد التي التحق بها توينبي عام 1907، إذ كانت مركز الليبرالية الجديدة تعنى بتنشئة نخبة "ذات موهبة استقراطية" يمكن أن تنفذ جدول إعمال ما بعد الليبرالية، وكانت هي النموذج المناظر لهارفادر الأمريكية، اذ كان خريجوها يتسلمون المناصب العليا في الدولة والمجتمع، في هذا الوسط الأرستقراطي المعتدل وفي كنف أسرة من الطبقة الوسطى، وفي بيئة ثقافية ليبرالية جديدة نشأ الطفل ارنولد نشأة سعيدة في أسرة مستقرة تنعم بالدعة والهدوء والرفاه المعتدل، وكانت أمه معلمة التاريخ الاسكتلندي قد أسهمت في توجيه اهتمام ابنها إلى دراسة التاريخ، فقد أشار فيما بعد إلى أن صحبته لامه كانت صحبة فكرية نادرة، وفي جوابه على سؤال كيف صرت مؤرخاً؟ قال توينبي "إنني مؤرخ لان أمي كانت من قبلي مؤرخة ولم يحدث يوماً إن شككت في أنني سأكون مؤرخاً"
وكانت أم توينبي قد الفت كتاباً مدرسياً في التاريخ يشتمل على قصص حقيقية من تاريخ اسكتلندا، كما كان تأثير عمه هاري فيه قوياً بآرائه المتحررة وشخصيته القوية، التحق توينبي في مدرسة داخلية في (وتون كورت، وقضى فيها ثلاث سنوات، ثم التحق بكلية ونشستر)، وأمضى فيها خمس سنوات (1902-1907) وفاز في نهاية دراسته بمنحة دراسية مكنته من مواصلة دراسته الجامعية في جامعة أكسفورد كلية بالليول من عام 1907-1911، إذ درس التاريخ القديم، وحصل على مرتبة الشرف وعين في تلك الكلية وأرسلته جامعة أكسفورد للدراسة في المدرسة البريطانية للآثار في أثينا مدة عام واحد 1912م، ورجع بعد ذلك إلى جامعته ويتذكر توينبي تلك المدة الباكرة من بداية حياته الجامعية في كتابه (تجارب) عام 1969م، اذ عدها تكملة لثقافته الكلاسيكية اليونانية الرومانية، التي درسها على يد جلبرت موري (1874-1936) ابرز الأساتذة الكلاسيكيين في عصره، الذي تزوج توينبي بنته فيما بعد، وقد درس توينبي اللغة اللاتينية وهو في السابعة من العمر ولمدة خمسة عشر عاماً، ودرس اليونانية القديمة وهو في العاشرة لمدة اثني عشر عاماً، وقد أتقن هاتين اللغتين اتقاناً تاماً، حتى انه نظم فيها قصائد أوردها في القسم الثالث من كتابه (تجارب) وقد استطاع أن يتعلم في المدرسة وفي الجامعة اللغات الفرنسية والألمانية والإيطالية واليونانية الحديثة، وان يلم بالتركية وبالعربية فيما بعد.
وقد كان اثر الثقافة الكلاسيكية في حياة توينبي الفكرية اثراً حاسماً كما سنرى فيما بعد.
يتضح من هذه الفرشة العريضة، أن نشأة توينبي وتربيته قد كونت الاتجاهات المستقبلية لحياته كلها، وهذه هي المرحلة الأولى من تكوين توينبي، إذ بد أن مستقبل توينبي مثل مستقبل بريطانيا مضمون، كتب توينبي فيما بعد في وصف السنوات الأولى من حياته قائلاً: "الإنجليزي من الطبقة المتوسطة الذي ولد سنة 1889 كان يظن "من السن التي أصبح يعي فيها العالم المحيط به حتى سنة 1914" إن الجنة الأرضية في متناول يده... كانت الأمور تبدو سنة 1897 وهي السنة التي احتفل بها البريطانيون باليوبيل الماسي للملكة فكتوريا التي تولت العرش سنة 1837، وكان العالم الذي ولد فيه قد تخطى التاريخ، إذ إن التاريخ كان معناه بمنتهى السذاجة. صفحة سابقة من الظلم والقسوة والألم التي تركتها الأمم "المتمدنة" خلفها إلى غير رجعة، كانت المدنية الغربية مدنية، وكانت فريدة. وكان قيامها وسيطرتها على العالم بمثابة مكافأتين حتميتين لخصائصها، والمدنية جاءت لتبقى ولذلك أصبح التاريخ ألان امراً عقيماً" هذه الثقة الهشة عند توينبي وجيله مزقها مقدم الحرب العالمية الأولى 1914.
في الواقع كان توينبي ينتمي إلى جيل من المثقفين المتحررين من الوهم... وكان التفاؤل الليبرالي للفيكتوريين الأوائل قد بدا يتبدد قبل أن يولد توينبي بوقت طويل وكان ذلك يرجع كما لاحظنا في مقدمة الفصل إلى الخوف من التدهور، الذي ألقى بشك خطير على مستقبل المجتمع المدني في العصر الصناعي، بل مستقبل الحضارة الغربية برمتها، وإذا كان الخوف من التدهور والانحلال قد دفع الليبرالية الإنجليزية للتقهقر، فان صدمة الحرب هي التي أكملت الطريق وكان عنوان قصيدة (ت. س. اليوت الشهيرة (الأرض الخراب) عام 1922م في نظر المفكرين الإنجليز خير معبر عن دولتهم وعن الحضارة الغربية التي دمرتها الحرب إذ بلغ ضحايا الحرب العالمية الأولى في بريطانيا نحو (702.410) كانت خسائر بريطانيا في النخبة من المجتمع على نحو غير متكافئ, ثلث طلبة "أكسفورد" في عام 1913م ماتوا في الحرب، كما أن موت كثيرين من شباب "بالليول" ألقى بظلال كئيبة على المؤسسة البريطانية من هذه الصدمة الشديدة والشعور بالفقد والفجيعة، ستخرج أسطورة "الجيل الضائع" التي سكنت الثقافة الفكرية البريطانية وصنعت السياسة على مدى العقدين التاليين.
كانت الحرب العالمية الأولى لدى بريطانيا مثل ما ستكونه حرب "فيتنام" لدى الأمريكيين اذ كسرت معنويات النخبة السياسية، وعلى حد تعبير إحدى شخصيات رواية "الدوس هكسلي 1894-1963م" ( لقد تحطم قاع كل شي) كان توينبي احد الذين تحطموا كتب بعد ذلك "الوهم الذي كان لدي بأنني المواطن المتميز في عالم مستقر قد تبدد" بعد ذلك سوف تتغير نظرة توينبي إلى مجتمعه والى الحضارة الغربية كلها.
كان موقف توينبي من الحرب قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى هو الموقف التقليدي الذي يقوم على التسليم بضرورة الحرب من أجل الحضارة وان كان تسليمه يشوبه عدم الرضا ويغلب عليه الشعور بالذنب، لكنه بعد عام 1914 وبعد أن طحنت الحرب أكثر من نصف زملائه في الدراسة في بونشستر وأكسفورد اقتنع إن "الحرب ليست مؤسسة تستحق الاحترام ولا خطيئة عابرة بل هي جريمة"
لقد كان توينبي واحداً من أولئك المفكرين الذين يمزقهم القلق على مصير الحضارة الغربية، وكان السؤال الحارق الذي يلح عليه إذا كانت الإمبراطوريات القديمة قد اختفت، فان الإمبراطورية البريطانية لا يمكن إن تكون خالدة ؟ فما السبيل لكي ننجو؟
ورغم أن توينبي استطاع إن ينجو بنفسه من الحرب ويخرج منها دون أذى، وذلك بتشجيع أمه ومساعدة أصدقاء الأسرة من المتنفذين، تمكن من أن يتفادى الخدمة العسكرية بإعفاء طبي مزور، وبينما كان رفاق الجامعة يقاتلون ويموتون في جبهات القتال، كان توينبي آمنا في بالليول يتكلم عن التاريخ "الهلينستي" مع طلابه حول أكواب الشاي والجعة، ويكتب كراسة ينادي فيها بسلام يتم التفاوض من اجله، لدرجة انه، أصبح سلامياً ملتزماً، يكره كل ماله صله بالشجاعة القتالية أو البطولة الوطنية، أو أيً من تلك المفاهيم القديمة ذات الصلة بالماضي الفكيتوري قبل الحرب، إما بقاء زوجته وفيةٌ لذكرى واحد من أبطال الحرب، وهو عشيقها السابق "روبرت بروك" الذي دق إسفينا دائما بينهما فربما كان يعزز نفوره من الحرب وإبطالها.
وفي شهر يناير من عام 1918 كان توينبي واحداً من جماعة "بلومزبري" Bloomsbury Group، أسسها وولف واصدقاؤهما وكان من بينهم برتراند رسل، ارسوا أسلوبا جديداً لحياة الطبقة البريطانية المثقفة بوهيميا من الناحية الاجتماعية إباحيا من الناحية الجنسية، راديكالياً من الناحية السياسية وسلامياً لدرجة كبيرة، وكان أنصار هذه الجماعة يحتجون ضد الحرب وقد سجن رسل بسبب ذلك.
وعلى الرغم من أن توينبي لم يكن في أي وقت من الأوقات عضواً عاملاً في "جماعة بلومزبري" شارك في كثير من الأفكار التي تحمسوا لها بما في ذلك حماسهم للاشتراكية، كما حماستهم لفكرة الدولية Internationalism الجديدة التي انتشرت بين مثقفي أوروبا الليبراليين بعد الحرب، وفي عام 1919 حضر توينبي مؤتمر الصلح في فرنسا وأصبح مؤيداً شديداً لعصبة الأمم كما التحق في العام نفسه بدائرة الاستخبارات السياسية في وزارة الخارجية البريطانية، وهذا ما مكنه كما يقول من رؤية خلفية القرارات السياسية.
على هذا النحو يمكن القول إن المرحلة الأولى من حياة توينبي قد انتهت بنهاية الحرب العالمية الأولى، باختفاء الرسالة الانجلوساكسونية العرقية بعد عام 1918م، وبعد إن ذوت فكرة الأيمان بالسيادة الإمبراطورية، لتحل محلها رؤية الإمبراطورية الليبرالية عن مجتمع دولي واحد.

المرحلة الثانية في حياة توينبي
تبدأ هذه المرحلة في عام 1921م حين تم تعيين "توينبي" مديراً "للمعهد الملكي للشؤون الدولية" ومقره "تشانام هاوس" Chatham House في لندن، وعلى مدى العشرين سنة التالية، سيكرس "توينبي" جهده لتحرير ونشر مسح سنوي ضخم للشؤون العالمية إلى جانب كتاباته التاريخية الخاصة، فضلاً عن عمله أستاذا في جامعة لندن للغة البيزنطية واليونانية الحديثة وادابهما وتاريخهما، منذ عام 1919م حتى عام 1924م، ومن ثم أستاذاً للبحث العلمي في التاريخ العالمي في الجامعة نفسها من عام 1925م حتى 1955م.
ويرى بعضهم أن توينبي ظل يعمل في "دارتشاتام" ثلاثة وثلاثين عاماً وكانت تساعده على تحرير "المسح السنوي للشؤون الدولية السيدة (فيرونيكابولتر) التي تزوجها عام 1946م بعد إن طلق زوجته الأولى (روزلند) ابنة أستاذه جلبرت موري التي أنجب منها ولده الناقد الأدبي فيليب، وابنه توفي الذي انتحر عام 1939م.
وفي عام 1921م قام توينبي بزيارة كريت في مهمة لحساب عصبة الأمم، ورأى مباشرة النتائج المروعة للقتال اليوناني التركي على الجزيرة. وقد ساعد ذلك على تقوية نزعته السلامية، كما زرع فيه رعباً من القومية لم يتركه أبدا، وقد كتب توينبي عما شاهده من جرائم مروعة ارتكبها اليونانيون ضد الأتراك، في جريدة (المانشستر جارديان) منتقداُ التعصب المسيحي الذي ظل ضد المسلمين حيا في عقول كثيرين ممن نبذوا المسيحية نفسها.
وفي عام 1922م نشر توينبي كتاب "المسالة الغربية في اليونان وتركيا"، أدان فيه الدبلوماسية الغربية والتسوية السلمية، واتخذ موقفاً محايداً من تركيا ومن اليونان، ولكن هذا الموقف لم يرق لليونانيين المقيمين في لندن الذين يسهمون في تمويل الكرسي الذي يحتله في تدريس الأدب اليوناني، فاضطروه إلى الاستقالة.
في الواقع يصعب التوفيق بين رأي صدقي عبد الله حطاب في موقف "توينبي" من الحرب اليونانية التركية، ورأي محمود زايد، الذي أكد أن توينبي كان يقول "بان عواطفة كلها كانت عام 1921م مع شعوب اليونان وبلغاريا والصرب والجبل الأسود في حروبها ضد تركيا للتخلص من سيطرتها.
في هذه المرحلة من تطور حياة توينبي بدأ التفكير بمشروعه الفكري الفلسفي التاريخي القادم، المشروع الذي اقترن، بالمسح السنوي للشؤون الدولية، وهو (دراسة التاريخ)، وبينما كان الأول بحثا عن الحاضر، كان الثاني بحثاً عن الماضي، وقد افاد العملان من بعضهما بعضاً، ويروى لنا توينبي فكره كتابه "دراسة التاريخ" التي استلهمها كما يقول من تعليق على الجوقة الثانية في مسرحية "انتيجونه" لسوفوكليس إذ كتب في إثناء سفره بالقطار من استانبول إلى لندن في 17 أيلول 1921 على نصف ورقة قائمة تضم نحو اثني عشر عنواناً، وقد ظلت هذه العنوانات، مع تغيير طفيف جداً، عنوانات الأقسام الثلاثة عشر في كتابه وبدأ يكسو هذه الدراسة لحماً في عام 1927م، غير أن البداية الجدية كانت عام 1930 وفي عام 1934م أصدر المجلدات الثلاثة الأولى من كتابه، وقبل الحرب العالمية الثانية بأحد وإربعين يوماً أصدر ثلاثة مجلدات أخرى، واستطاع إن يحتفظ بمذكراته الخاصة بالكتاب في نيويورك في إثناء الحرب التي شغلته فلم يبدأ بإعادة العمل ألا في عام 1947م وفي عام 1954م أصدر أربعة مجلدات أخرى هي تتمة الكتاب، وعاد وأصدر في عام 1959م المجلد الحادي عشر بعنوان "أطلس تاريخي ومعجم جغرافي" وفي عام 1961م أصدر المجلد الثاني عشر تحت عنوان "مراجعات"، وأصدر سومرﭭيل موجزاً للأجزاء الستة الأولى في عام 1946وموجزاً للأجزاء الأربعة التالية عام 1957م... وإصدار توينبي طبعة جديدة مختصرة ومنقحة ومصورة لكتابه، بالتعاون مع جين كابلان في مجلد واحد عام 1972م.
لقد كان توينبي ورفاقه متفقين مع نظرائهم الألمان في نقطة واحدة وهي أن الحرب العالمية الأولى كانت نهاية العالم الأوروبي القديم وبداية فجر نظام جديد، لكن ما هي صورة هذا القادم الجديد، لا احد لديه جواب عن ذلك السؤال.
لم تحطم الحرب العالمية الأولى الليبرالية التقليدية في انجلترا فقط، ولكنها وضعت مهنة التاريخ في حالة من الارتباك كتب المؤرخ الإنجليزي فيشر L. Afisher (1865-1944) في مقدمة كتابه "تاريخ أوروبا" عام 1934م "هناك رجال أكثر حكمة مني أدركوا أن التاريخ حبكة وإيقاع وأنموذج مقرر سلفاً، ولكن تلك التوافقات خافية على ما أراه فقط، هو حالة طارئة تتبعها حالة طارئة أخرى مثل موجة تتبع أخرى، ويعلق ادوار كار أن الإلحاح المتجدد للكتاب البريطانيين على أهمية المصادفة في التاريخ إنما يعود إلى نمو حالة عدم اليقين والقلق التي سادت مع مطلع القرن العشرين وأصبحت ملحوظة بعد عام 1914م، وعبارة فيشر التي استشهدنا بها، والتي يستشهد بها توينبي، كانت تُظهر خيبة أمله تجاه فشل الأحلام الليبرالية بعد الحرب العالمية الأولى"
في ذلك العام ظهر الجزء الأول من كتاب توينبي الشهير "دراسة التاريخ" ليقدم ما كان فيشر أو غيره قد افتقدوه في التاريخ، الشعور بخطة وهدف للتاريخ، لكن هذه الخطة التي كان يحلم بها توينبي لسير التاريخ سرعان ما تبددت في إعقاب فشل عصبة الأمم في كبح جماح "موسوليني" و "هتلر" مع حلول سياسية التهدئة، كان توينبي شديد الحماسة لتهدئه الوضع مع هتلر الذي دعا إلى لقائه في مناسبة خاصة في عام 1936م مدة ساعتين ونصف الساعة، وألقى عليه هتلر محاضرة في السياسية، وذلك لان هتلر كان يدرك قيمة العمل الذي يقوم به توينبي، في مسح الشؤون الدولية
خرج توينبي بانطباع جيد، قال لمستمعيه بعد عودته إلى انجلترا انه اقتنع بإخلاص "هتلر" في رغبته بالسلام في أوروبا والصداقة الوثيقة بانجلترا، ومثل كثير من الليبراليين الإنجليز الآخرين، كان على توينبي أن ينتظر حتى، اتفاقية "ميونج" لكي يدرك أن عدوان "هتلر" لم يكن نتيجة ضغط كبير من الغرب ضده، بل لان الضغط لم يكن كافياً"
عشية غزو "بولندا" اقتنع توينبي بان فشل الغرب في التعامل على نحو مؤثر مع "هتلر" لم يكن له علاقة بنزعة السلام أو التهدئة، بل بطبيعة الغرب الحديث نفسه.
لقد تصادف وقع الحرب العالمية الثانية التي بددت كل أمل السلام لدى ارنولد توينبي مع مأساة شخصية أصابت توينبي باليأس الساحق، في شهر فبراير من عام 1939، ماتت أمه، وبعد شهر ينتحر ابنه "توني" وقررت زوجته روزلند عام 1942م أن تتركه بعد إن اتهمته بالجبن، وما كان لذلك من وقع شديد الألم على نفسه، كل تلك المآسي الشخصية الخاصة ومأساة الحرب العامة كانت تكمل طريق خيبات الأمل والشعور التعس باليأس الكوني الواسع.
كان توينبي يرقب أحداث الحرب العالمية الثانية مكتئباً منسحباً داخل ذاته الممزقة، بمشاعر اليأس والقلق والضياع والفجيعة في تلك الأفاق الحالكة الملبدة بالموت والرعب والحزن والخيبات لم يعد إمام توينبي من أمل غير التوجه الروحاني نحو الله الرحيم إذ بدأ إن توينبي الشاب الذي كان قد تحول بين عامي (01907-1911م) إلى "لا ادري" استنتج من تحوله هذا أن الدين ذاته ليس ألا وهما عديم الأهمية بيد ان توينبي الكهل أعاد عام 1940م اكتشاف سلوى الأيمان بآله متعال- فوق الوجود المادي، وفكر في ذلك الوقت أن يتحول إلى الكاثوليكية وفي عام 1940 ألقى محاضرة عامة في "أكسفورد" نشرها فيما بعد بعنوان "المسيحية والحضارة" عام 1957م كشف فيها النقاب عن أيمانه الجديد، وأكد أن التقدم "الديني" هو الذي يعطي للتاريخ معنى، أكثر من التقدم المادي المدني، وقد استخدم في محاضرته استعارة حية مذهلة، جديرة بالقديس أوغسطين إذ قال: "إذا كان الدين مركبة، يبدو إن الشيء الذي يحملها نحو السماء، هو سقطات الحضارة الدورية على الأرض، وتبدو حركة الحضارات دورية ومتكررة، بينما حركة الدين ماضية في خط واحد... صاعد.. ومستمر"
وكانت النتيجة التي توصل إليها توينبي هي: إذا اختفت حضارتنا الغربية العلمانية، فمن المتوقع للمسيحية أن تبقى ليس هذا فقط، بل إنها سوف تزداد حكمة ومنزلة نتيجة لتجربة جديدة مع كارثة علمانية.
هكذا هو الحال دائما تروج النظريات القدرية، والعرضية التي تشدد على دور الحتمية أو المصادفة في التاريخ، حينما تكون الشعوب والأفراد في حضيض الأوضاع وليس في ذروتها كما يقول ادوار كار
بل إن المشاعر المضطربة المتناقضة التي أصابت توينبي ورغبته الشخصية بالسلام والهدوء وقلقه على مصير بريطانيا والحضارة الغربية، وتوقه الفكري للوحدة العالمية، كانت قد جعلته ينطق بكلمات غريبة في خضم اشتداد أوار الحرب، إذ بلغ به الأمر أن يقترح على نحو غير معلن "أن الاستسلام لـ هتلر قد يكون أفضل من التمادي في الحقد والكراهية وأعمال العنف" وان العالم في حاجة ماسة لوحدة سياسية، وان ذلك يستحق أن ندفع ثمن السقوط تحت اشد استبداد ممكن"
هكذا كان توينبي يعيش حالة من التذبذب والتخبط في المواقف إذ أنه كان يبدل أفكاره ومواقفه على وفق التقارير الواردة من جبهات القتال, ففي الوقت الذي كان يرى الحرب من اجل الحضارة في بداية شبابه، يصبح ألان عدواً للحرب والحضارة معا كتب يقول: "اشعر ببغض للحضارة الغربية وكنت دائما حاول أن اعرف سبب ذلك... في جزء منه... هو الشعور بان العالم القديم هو المسكن الطبيعي لروح والإنسانية وان ما جاء بعده شي مؤسف" وفي الوقت الذي نادى بالليبرالية الجديدة، لم يتورع عن التفكير بالاستسلام لأبشع نظام استبدادي عرقي مقابل السلام، وفي الوقت الذي كان يرى فيه الدين وهما من الأوهام، عاد هنا لاكتشاف سلوى الأيمان، كتب عام 1939م, "يجب حتما أن نصلي، لان المهلة التي انعم الله بها على مجتمعنا مرة، لن يضن علينا بها إذا نحن طلبناها مرة أخرى بروح خاشعة وقلب نادم"().
هكذا كان توينبي يتأرجح مع رياح الإحداث، فحينما كان القتال يشتد على بريطانيا كان توينبي يفقد الأمل بالحضارة ومستقلبها، ويتضرع لله كي لا يقع ما يخشاه، وعندما أصبحت الإحداث أكثر مواتا، ودخلت روسيا وأمريكا الحرب، عاد إلى توينبي شعوره بالثقة في المستقبل، ألا أن رؤيته الدينية لنهاية الغرب بقيت بعد الحرب متزامنة مع تفجر شهرته على نطاق واسع بعد عام 1945، وبنهاية الحرب، كان ملايين القراء قد التهموا الطبعة المختصرة من "دراسة التاريخ" التي أعدها (دي. سي سومرفيل" بما جاء فيها من تركيز على نظرية "التحدي والاستجابة" والدعوة للقيام الحتمي لدولة عالمية، علمانية مسيحية إنسانية.

المرحلة الثالثة من حياة توينبي
بعد أن وضعت الحرب أوزارها واطمأن توينبي على مستقبل الحضارة الغربية، كان السؤال الذي يشغله هو ما العمل لكي لا تتكرر الكارثة، وكان يستبعد قيام حرب عالمية ثالثة تستخدم فيها الأسلحة النووية والبكتريولوجية واستخلص أن المجتمع الغربي هو المجتمع الوحيد الذي كان في السنوات (1927-1950) لا يزال في مرحلة الارتقاء، وان توسع المجتمع الغربي وإشعاع الثقافة الغربية، قد وضع جميع الحضارات الأخرى الباقية، في نطاق إطار عالمي شامل، يصاغ بالصيغة الغربية، والحقيقة الثالثة التي استخلصها توينبي هي أن جميع مصائر الجنس البشري بأسره قد جمعت لأول مرة في تاريخه في موضع نفيس لكنه غير مستقر، كما لو انه بيض جمع في سلة واحدة"
تلك هي الوقائع التي دفعت توينبي إلى أن يسجل وهوكاره عام 1950م، النتيجة التي وصل إليها وهوكاره عام 1929م كما يقول نتيجة قوامها إن بحثاً في مصائر الحضارة الغربية، هو جزء ضروري من دراسة تاريخية شاملة للتاريخ البشري تكتب في القرن العشرين"
في هذه المرحلة من حياة توينبي تفجرت شهرته على نطاق واسع، في أمريكا واليابان والشرق الأوسط، وكتب معظم أعماله الفكرية، فضلاً عن عمله الكبير "دراسة التاريخ" الذي استمر على تأليفه من عام 1921 إلى 1961 وهذا ما سنعرضه لاحقاً.
بقي أن نشير هنا ونحن نختم حديثنا عن حياة توينبي إلى تلك الصفة التي لازمته طوال حياته، وهي حبه للسفر والترحال إذ كان يرى أن السفر يجب أن يسبق كل شي عند من يدرس الشؤون الإنسانية، إذ أن الناس والمجتمعات الإنسانية لا يمكن فهمها بمعزل عن بيئاتها، ولا يمكن فهم بيئاتها الجغرافية بطريقة غير مباشرة، وهو يرى أن أمتع وسيلة للسفر ابطؤها أي أن الحمار هو خير وسيلة لمن يريد أن يعرف ما حوله من العالم وأمتع الدروب اوعرها، ولقد قال احدهم عن توينبي انه رحاله دربه المفضل شعاب الجبال التي تسلكها الماعز وقد ألف توينبي عددا من الكتب يصف فيها إسفاره، وهي من أمتع أدب الرحلات ومن الزيارات الكثيرة التي قام بها توينبي يمكن أن نذكر زياراته المتكررة لليونان وتركيا التي بدأت منذ عام 1912 واستمرت حتى عام 1921 وعام 1923، وعام 1929 و1948 و1956 و1957 وزياراته المتكررة إلى الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1939 وعام 1948، وزياراته المتكررة لليابان لأعوام 1950-1956م، إما زياراته للوطن العربي وأفريقيا، ومصر والسودان وفلسطين والعراق وليبيا والمغرب، والأردن والسعودية وإثيوبيا، ونيجيريا بين الأعوام 1961م حتى 1965م، فقد عرضها توينبي في كتابه (الوحدة العربية آتية: من النيجر إلى النيل) 1967 وربما كان هناك الكثير من الإحداث والتفاصيل والزيارات في حياة توينبي لا يتسع المجال لذكرها هنا.
لعل من شان هذه الصورة الإجمالية لمسيرة حياة توينبي الزاخرة بالإحداث والمواقف والغنية بالإعمال والإنجازات في سياق الظروف التاريخية لمجتمعه وعصره، أن تمهد السبيل للإطلالة على النتاج الفكري الفلسفي والتاريخي الذي أبدعه المؤرخ الفيلسوف في حقل فلسفة التاريخ الغربي المعاصر.
هكذا كما هو واضح لقد عاش توينبي حياة مفعمة بالنشاط والحيوية في لحظة حاسمة من تحول الحضارة الغربية، من مرحلة إلى أخرى، من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، من الليبرالية التقليدية إلى الليبرالية الجديدة، ...الخ.
وإذا ما كان علينا إن نلخص تطور حياة توينبي في تلك المراحل الثلاث فيمكننا استخلاص ذلك على النحو آلاتي:-
1- في المرحلة الأولى من حياة توينبي الشاب منذ أن وعى العالم حتى الحرب العالمية الأولى عام 1914م، سادت النظرة التفاؤلية الساذجة لسيرة التاريخ وتطور حركته نحو غاياته المنشودة.
2- في المرحلة الثانية مرحلة بين الحربين حتى عام 1945م انخرط توينبي في مجال النشاط السياسي، وكانت نظرته للتاريخ والحضارة نظرة تشاؤمية تاريخية، إذ فقد الأيمان بالبشر والتطور الإنساني، واتجه للبحث عن منقذ الهي للحضارة الغربية "لا شي غير الله ينقذنا"
3- في المرحلة الثالثة من حياة توينبي الكهل التي بدأت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى وفاته، أعاد توينبي النظر في دراسته للتاريخ وعدل الكثير من المفاهيم، وخفف من حدة النظرة التشاؤمية، وأكد على أهمية دور الدين وتنبأ بقيام حضارة كونية جديدة بديلاً حتمياً لتجنب كارثة نووية.



#قاسم_المحبشي (هاشتاغ)       Qasem_Abed#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عندما تحطّم التاريخ على مشارف القرن العشرين
- في سر النهضة الأوربية وتخلفنا
- الإنسان والفكر والتاريخ من يصنع الآخر ؟
- الإنسان وقوى التناهي التاريخية
- الكتابة والتفكير في بلاد الحرب والتكفير
- دور البحر في التاريخ الذي لم نفهمه بعد
- العقل الذي اشتعل فأضاء ورحل
- البرقاوي ومنهجية الوعي الانعكاسي
- الكولونيالية من قلب الظلام إلى ذاكرة الرحيل
- ثورة 14 اكتوبر الحلم الذي استيقظنا على زواله
- تحصين العقل وتجفيف منابع الإرهاب
- كيف تكون النصوص المكتوبة مفيدة ولذيذة؟
- جامعة صنعاء والحرية الأكاديمية
- آمنة النصيري.. أنثى الضوء واللون والحرف والمعنى .
- اليوم؛ العيد العالمي للأب .. نحن نحبك يا أبي
- في صالون علمانيون.. نحن نصنع التاريخ
- مناظرة فكرية بين الشيخ والفيلسوف .. في معنى الإرهاب الفكري
- بشارة النجاة من فيروس كورونا : من افريقيا بدأنا واليها رجعنا
- في التواصل الكلامي في الزمن الكوروني
- حينما تتعرى الحضارة قراءة في لوحة


المزيد.....




- -عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
- خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
- الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
- 71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل ...
- 20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ ...
- الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على ...
- الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية ...
- روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر ...
- هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
- عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - قاسم المحبشي - أرنولد توينبي؛ حينما تحطّم قاع كل شيء