كما يفلس صاحب متجر، أو ينهار مشروع مقاول، أو تغلق سيدة مجتمع ليلي بيتها، أو تتداعى أركان عمارة مغشوشة، أغلق كثير من مثقفي الأدوار الوعظية أبوابهم وتحول بعضهم إلى منظّر في بيت جديد، أو كاتب خطابات الخصم الطبقي يوم كان للموقف قيمة أخلاقية وسياسية وعائلية حتى، أو صار بعضهم في فضائيات عربية يبيع بقايا الوهم الجماهيري لجماهير منكوبة بالثكنات والأنظمة والأمراض وطرق المواصلات وشحة الدواء وقلة الزاد وبعد المسافة...الخ.
بعض هؤلاء، وقد تحدث عنهم مطولا وبلغة نقد معرفي يندر مثيله في عالمنا العربي، الاستاذ والمفكر المغربي عبد الإله بلقزيز في كتابة( نهاية الداعية) أقول بعض هؤلاء لجأ ، بعد نهاية الحكاية، وافلاس المتجر، والهرم، والشيخوخة، والعيش الحزين مع دابة أو قط أو كلب، بعد أن غادر الرفاق الطرق والتكايا والزوايا إلى الأدب في محاولة لاخراج شهادة حياة جديدة، ولنفي صفة الموت والتيبس والنسيان عنه، وكما وسخ هؤلاء السياسة، وسخوا مساحة الأدب ونقلوا كل تقاليد الوشاية والكذب والدجل إلى عالم الثقافة وهذا أمر طبيعي.
بعضهم من قلة الخيل، وبعد الطريق، صار يطالب بأدوار جديدة في أوساط المراهقين والمنسيين من عالم السياسة والأدب، وقد اعتصم بهذه الجريدة أو ذاك الموقع أو تلك الفضائية ليس بدافع العزلة والبحث والخلق، بل لأنه لا يستطيع مغادرة هذا الجحر خوفا من الفضيحة والانكشاف والإهانة.
ولو كان هذا الاعتصام أو العصيان، كما سمته كاتبة عراقية في رسالة خاصة، بدافع البحث عن عشرة وصداقة وحرارة علاقات تنقذ بقايا الجسد من التفسخ والإهمال لهان الأمر، لكنه عصيان مريض موظف لتدمير أية بقعة يشم من خلالها رائحة للمعرفة والوعي ومساحات الضوء.
والمضحك المبكي أن هؤلاء يدخلون عالم الثقافة بنفس عقلية وأخلاقية وتقاليد عالم السياسة، لأن الجوهر هو السخرية من عقول الناس، وخاصة هذه الشبيبة الشجاعة والمنكوبة والباحثة عن أمل أو شراكة في صنع مصير هذا الوطن.
والأمثلة كثيرة عن هؤلاء الذين كسدت تجارتهم وبارت وصاروا مثل التائبة تحن إلى البيت القديم المتداعي، والزبائن القدامى، والرصيد المسحوب، لكنها تواجه بعالم جديد.
وهؤلاء حسب تعبير عبد الاله بلقزيز لا ينتمون إلى عالم المعرفة، لأن المعرفة بحث وعمق، في حين أن لغة هؤلاء المفلسين، هي لغة( التجييش الآيديولوجي/ وإنشاء محكمة تمييز لتقضي في صحة الأفكار وتصدر الصكوك والشهادات على مثال كنسي!).
ولغة الحشد والتعبئة والتجييش هي لغة تمشدق، أي حذلقة وكذب ونفاق، بتعبير المرحوم علي الوردي، وهي لغة لا تقول معرفة، ولا تنقل ثقافة، بل مخصصة للتهريج.
وهذا الصنف الذي جعلنا ندفع ثمن باهظا هنا أو هناك ليس هو نموذج المثقف المعتكف أو المثقف المنعزل أو المثقف المهمش، بل هو صنف حمل لقب الثقافة في زمن غياب مرجعيات الثقافة، وحمل صفة كاتب أو مثقف في مجتمع عراقي هنا أو هناك مشغول بقضية الخبز والحرية، ويحترم كل من يقرأ ويكتب وقلمه يذبح الطير.
فهذا المثقف البلطجي، وهنا الخطورة، يقود حملات الردح والتسقيط ويطالب في نفس الوقت بميثاق شرف!
ومن المعروف أن فاقد الشيء لا يعطيه. من أين يأتي الشرف؟
ويدعو لممارسة كل أنواع السفالات وحتى الجنس المعاش والحيواني والزنى علنا جهارا، ويحتج على وجهة نظر أو مقالة أو رأي.
تقول السيدة الكاتبة وهي ترسل لي مقالة أحدهم وقد أحتج على كلام قيل عن الشاعر جان دمو بأنه سكير، وهي تعرف أني لا أقرأ لهؤلاء أبدا، أن هذا المحرض الأكبر على الوشاية، وقائد حملات التقسيط عبر ستار، لم يجد أية قضية يحتج عليها في زمن المذابح غير وجهة نظر عادية عابرة عن جان دمو. وتضيف: ليس حبا بجان، بل لشد الانتباه للنفس المريضة كلما تجاوزه الناس، ولخلق الانطباع الماكر بطهرانية مفقودة.
وكان ردي:
هؤلاء تحدث عنهم صاحب كتاب( القرد العاري) وهو يتحدث عن السلوك السري والمخفي للإنسان. فهذا الصنف يفعل كما تفعل القردة في الأقفاص حين يسيطر الصمت، وتريد لفت انتباه بقية القرود، فتقوم بخلق ضجة!
وهذه الضجة هي المنقذ من الإهمال والنسيان والموت العقلي والأخلاقي.
كتبت عن جان دمو بصمت دون تهريج ومنذ سنوات وفي رواياتي( عزلة اورستا ـ صفحة 163) حتى دون أن يعرف الشاعر.
اليوم صار عدد الراثين جيشا، وعقيدة.
هؤلاء فرقة تدخل سريع فوق أي قبر جديد.
إفلاس هذا الصنف من كل قضية هو الذي يجعله يلجأ لخلق ما يعرف (بالقضية الرخيصة) من أجل نفي شهادة الوفاة، وتنظيف الوجه القبيح، وخلق قضايا صبيانية لا أول لها ولا آخر في هذه الساعات المحرجة من تاريخ الوطن.
نحن في مرحلة ما قبل كل شيء:
ـ ما قبل الاستقلال.
ـ ما قبل الدولة.
ـ ما قبل المؤسسة.
وعلينا تأسيس دولة جديدة.
وعودة الاستقلال الوطني.
وبناء مؤسسات.
وهي مهمات ضخمة. فهل وصلت حياتنا الفكرية والعقلية والنفسية إلى هذا المستوى من الشحوب والعقم والجفاف والتفاهة والفراغ بحيث نناقش اليوم، بدون حياء، أن هذا الشاعر كحولي أم لا؟!
من يفكر بهذه الطريقة لا شك أن الوطن، رغم كل الطنين، غائب بالكامل عن وعيه وضميره أو ما تبقى في الأقل من ضمير.
وهذا" المثقف" هو نموذج واضح لكل ذي عقل وبصيرة ووعي للتحزب السطحي، الأجوف، الذي لم يكن أكثر من شعار فارغ، بدون أي محتوى.
إن القضايا الكبيرة تحتاج ثقافة كبيرة.
والقضايا الكبيرة تحتاج وعي معرفي كبير.
أما القضايا الضحلة فهي لا تحتاج إلى وعي أو معرفة أو نقد، بل إلى سفالة وهي متوفرة بإفراط.
وهذا "المثقف" هو نموذج يثير الرثاء والشفقة لهذه الأصناف التي تتحدث مع الجيل الجديد بلغة متفسخة، وتثير قضايا صبيانية لأنها غير قادرة على طرح أية قضية جدية للنقاش، وهي تتعامل من موقع :
ـ إن الثقافة هي حيلة.
ـ والثقافة هي شطارة.
وهذا النوع من الحوارات يزدهر في مراحل انحطاط الوعي، وشيوع العدمية، وغياب مرجعيات النقد البناء والعلمي، ولا يبقى منها في النهاية غير أمثلة لسخرية الأجيال بدون أدنى شك، وهي أمثلة حية على أن السلطة ليست جيشا وشرطة فحسب، بل عقلية وخطابا سوقيا، ورؤية سطحية، وعجاج قضايا صغيرة في حجم هؤلاء.
يقول المفكر عبد الاله في الصفحة 89 من هذا الكتاب القيم:
( إنهم يتعاطون الدعارة الفكرية/ ويبيعون أعراضهم الرمزية!) لكن من أجل ماذا؟
يقول:
( للهرب من ماض مثخن باسباب "الخجل" لا وقت فيه لمحاسبة الضمير على هذا الانتقال، فالذي يرقص لا يخفي لحيته، كما يقول المثل العامي المغربي،لقد بدأوا رحلة الشتاء والصيف نحو ضفة جديدة، فلا مجال للعودة، ولاشيء يغريهم بأن يأتوا ذلك: لقد انهزمت العروبة ـ قالوا ـ والوطنية والديمقراطية والاشتراكية، فما الذي يحملهم على العودة إلى هذه" الأوهام"؟)
ونقول كذلك انهزم اليسار والطبقة والثورة والوطنية. وصار الانتماء إلى هذه القيم عيبا، في عرف هذا الصنف الذي جعر كثيرا بهذه القيم ثم بال عليها يوم لم تحقق غرضه الشخصي.
انهزم الحزب
لكن قضية الحرية لا تزال تستدعي الموت.
فماذا نفعل إذا لم تكن قضية الحرية متجذرة أصلا؟
كانت واجهة ملصوقة بصمغ مغشوش.
وجاء موسم المطر وعرى كل شيء.
إن الدور الجديد، لمن لم يتعظ من الزمن، ولا يعرف حكمة الأيام، هو مواصلة لعبة الرقص وإخفاء اللحية.
لكن هذه المرة أمام زمن مختلف.
وتاريخ مختلف.
وجماهير غير جماهير الافتتاحيات أو المنشور الوحيد.
زمن لغة( يجب أن نفعل كذا أو كذا) و( إن هذا لا يجوز) أو ( لا يحق لأحد أن يقول كذا وكذا)، هذه اللغة بارت، وعملتها سقطت، ونحن نعيش في غير زمن الكهف.
والمسافة كبيرة بين المهرج
وبين المثقف.
بين أهل السيرك،
وأهل المعرفة.