|
سفر الأقليات في سواقي القلوب ..إنعام كجه جي ومصائر المنفى
روزا ياسين حسن
الحوار المتمدن-العدد: 1652 - 2006 / 8 / 24 - 09:22
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
في عام 1940، وقبل انتحارها بعام، استخدمت فرجينيا وولف في نصها: «بين فصول العرض» تقنية المرآة. وهي تجعل الممثلين يوجهون مراياهم إلى الجمهور، وكأنها تقول: انظروا إلى وجوهكم، انظروا كيف أصبحت انكلترا يلفّها العار والجمود. على النحو ذاته أشهرت وولف في وجه البشرية مرآة تعكس حزننا وخيبتنا عبر شخوص رواياتها. فرجينيا وولف كانت تمارس ما على الروائي الحق ممارسته، أي أن يكون محامي الشيطان. وبالتالي أن يدخل رهاناً خاسراً، ويكشف في النهاية ما لحق بنا من انغلاق وعار وخراب. بناء على ذلك لن يستطيع الروائي الحقيقي، بعد الغرق في هاوية الرواية، أن يتفيّأ بظل سلطة، أية سلطة كانت، فهو إلى جانب الهامش دوماً. ولن يأمل بالحصول على أقاصي المطلق فالروائي مع البري. أما أن يكون ضد المغلق لأنه روائي فهذا ما سيفتح عليه أبواب الجحيم. من هنا بدأت "إنعام كجه جي" روايتها الأولى: سواقي القلوب، الصادرة عن المؤسسة العربية الدراسات والنشر، وهي إذ دخلت منذ البداية رهاناً خاسراً مع مكاسب الحياة كانت تربح رهان الرواية، وذلك حين راحت تؤرخ لكل ويلات منظومة التضاد الثنائية، أي ثقافة الأسود والأبيض.. راحت تؤرخ للهامش وللأقليات، وبالتالي فقد حاولت تقويض تعريف الإيجابية الذي لا يتحقق إلا في وجود السلبية، ومحاولة أيضاً، تطبيقاً لمهمة الرواية، خلخلة الخطاب الذكوري الذي يقوم على المطلق والأحادية الثابت والمغلق. عبر سرد سلس وبسيط ستحيك إنعام كجه جي مصائر خمسة هامشيين يمثلون الأقليات الإيديولوجية والإثنية والجنسانية في العراق، ويدورون في فلك المنفى، وكأن هذا الأخير مجرد وعاء حياة لهامشيتهم في بلاد عربية طاغية لا تنتصر إلا لقوة المتن في مقابل الهامش، ولا تؤرخ إلا للسائد القوي في مقابل الأقلية الضعفية. إذاً خيار المنفى هو للهروب من بلاد لا تكاد الحروب تتنصل من قبضتها حتى تقبض على حروب أخرى.. من الحرب الإيرانية العراقية إلى اجتياح الكويت إلى.. إلى.. هروب المعارضة /الأقلية الفكرية الإيديولوجية، وهروب الشواذ/ الأقلية الاجتماعية الجنسانية، وهروب مؤيدي السلم من الحرب المجنونة /الأقلية الإنسانية، هروب الأرمن والأكراد وغيرهم / الأقليات الأقوامية والإثنية. أول الهامشيين الهاربين كان البطل مغفل الاسم وكأنه بطل مطلق، شيوعي هارب من خسارات الشيوعية، ومن صناديق الإيديولوجيات، ليحاول العيش كإنسان فحسب له متع صغيرة وشوارع حرية دون اعتقالات ولا اغتيالات. ثم الأرمنية العجوز: كاشانية بنت الصائغ ميساك سماقيمان الملقبة بخاتون، الناجية الوحيدة وأختها من مذبحة الأرمن التي اقترفها الأتراك في أوائل القرن العشرين، وهي إذ تجلس أمام كاميرا زمزم، الشخصية الهامشية الثالثة، تتدفق بتاريخها، تاريخ الأقلية، المستور والمغيّب حتى عن أصدقائها، وكأنها تحاول حماية فلوله الضاربة في النسيان، وزمزم الهارب من سطوة السلطة يتحول إلى عدو لدود لها، وينقلب عليها ليشطب من لائحة الدراسة، وتبدأ عمليات ملاحقته، إذ لا وجود بمنطق الحزب /المطلق والسلطة، لأي خارج عن نسقه المقدس. أما الشخصية الرابعة روزا فستقودنا، بدلالة اسمها الحركي سراب، إلى الخروج خارج الانتماءات الضيقة والأطر المنجزة قبلاً ليستقيم البشر فيها، هي المعتقلة اليسارية التي حفرت سجون العراق في جسدها اغتصاباً وتعذيباً، وهي المرأة التي تهب العشق والغواية وتبعث الجمال أينما حلت، لكن سراب، وكنتيجة طبيعية في عالم كهذا، ستموت، وتدفن في الأرض التي ماتت فيها.. أي في باريس. الشخصية الخامسة التي تتوج تاريخ الهامش بحرفية عالية هي شخصية ساري، الرجل الذي ملكته شهوة الأنوثة وضاق جسده بخشونة الذكور وعقمهم، ليأتي إلى باريس ويخضع لعملية تغيير جنس تجعله بعدها يتوج على عرش الأنوثة المشتهاة، ويصبح اسمه سارة. بهذه الدلالة الموحية سنصل إلى أن بلاد الطغاة تنبذ كل من يخالف بطش الذكور ويختار الوقوف في صف الهامش /الأنوثة. لن تقصى سارة فحسب، كبقية الهامش، بل ستمحى تحت سطوة القوة، على الرغم من أنها أتت إلى باريس بمنحة من صدام حسين، بلغت مليون فرنك، إلا أنها أتت عن طريقه، بمباركة من الطاغية الذي قد يضع لأجل هذا الأمر كل هذا المبلغ ولا ينقذ فيه قرية معارضة جائعة مثلاً، أو ربما، كما تبين لاحقاً، كانت سارة مشروع مخبرة عظيمة للجالية العراقية التي يلحقها الطغاة إلى باريس. نهاية وكنتيجة طبيعية للتنصر للهامش، ستقتل سارة، بطريقة دالة للغاية، شنقاً بوشاحها الأنثوي حشيشي اللون والمطرز باليد في أرمينيا، وترمى جثتها في الطرف الشمالي لغابة بولونيا، حيث تصطاد عاهرات باريس زبائنهن. في البحث عن وطن بديل أو عن فكرة بديلة، وفي التخبط في اللافكرة واللاوطن، سيصارع البطل أوقاته وهو يتمسك بمعجم عربي يستجير به كلما استفزته كلمة غريبة أو محلية، ربما لجرّ التفرد بالمحلية إلى الجامع الأكبر: اللغة الفصحى.. وهو دوماً لا يلقى المفردة التي يبحث عنها، لأن التفرد هو قدر الشعوب، والمحلية هي قدر الأقليات، ولا جامع كما يبدو بين العرب إلا هذه اللغة التي راحت تتباعد وتنأى، وتختلف فيها الفصحى المقبولة والجامدة عن المعيش الحقيقي العربي باللغة المحكية. بسرد متناوب بين قصص الأقليات المتلاحقة ستفضي بنا إنعام إلى اللعنة المقدرة، اللعنة التي لا تفارق الأقليات: لعنة الحب، وهنا حب الوطن، لأنهم سيعودون إليه أخيراً كالمسرنمين. وفي العودة يجلس البطل، حامل الهزائم، مع خاتون في السيارة، وعليها جثة سارة في تابوت خشبي، وفي قلبه جثة سراب، وهو يدخل جثة كبيرة متعفنة اسمها: الوطن، من نقطة طربيل على الحدود العراقية الأردنية. هناك سيدور حوار بينه وبين ضابط الجوازات الذي قال له ببرود ولؤم جملة تلخص لعنة المنافي: يعني أمضيت في الخارج، يا أستاذ أحلى سني شبابك، التي هي أتعس سنوات شبابنا. المنفى كان يعني، في رأي الروائية، إنقاذاً للأرواح التي لا بد أن تعود إلى قدرها أخيراً.. وعادت. في مقابلة مع إنعام كجه جي في جريدة (الزمان) 13/3/2006 تقول:"لولا عملي في الصحافة لما تسنى لي، ربما الوقوع على أناس ألهموني شخصيات روايتي". وهي صحفية عراقية كلدانية قضت سنوات طويلة بالعمل في الصحافة في باريس. ربما كان الكلام في جزئه صحيحاً، لاسيما أن عدداً من كبار الروائيين في العالم أتوا من الصحافة، مثل ماركيز وهمنغواي وكامو وغيرهم. لكن حقن الشخصيات الصحفية السطحية بحقنة الروي أو بعمق الشخصية الروائية، ومقدرة الروائي على الولوج إلى داخل الحدث والعمق، ملكة لن يستطيعها إلا قلة نادرة من الصحفيين. وربما بدا الأمر واضحاً في رواية سواقي القلوب، التي وقعت أحياناً في مطب سطحية الشخصيات، وفي عدم القدرة على الغوص عميقاً في دهاليز القلوب. لكن المضمون الجديد على الكتابة العربية الذي طرحته الرواية، ومحاولات الأنثى الكاتبة للحديث بلسان الرجل /البطل والسارد، والتنصر الشفاف والمدهش للهامش، عمل على جعل رواية سواقي القلوب رواية جميلة تستحق أن تقرأ بحق، كما جعلها أشبه بمرآة فرجينيا وولف المشهرة في وجوه الطغاة كي يروا الويلات التي اقترفوها.
#روزا_ياسين_حسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المشهد من فوق جبل آرارات.. إعادة تدوين التاريخ في رواية مديح
...
-
-شغب- لنبيل صالح والصحافة السورية الساخرة
-
أدب السجون في سوريا مسيرة الألف ميل
-
الاحتراق في أتون الكتابة- أثمان تدفعها النساء
-
الحافة التي تنبىء بالسقوط- لوز مر لكوليت بهنا
-
عاريات أو بالزي الرسمي
-
حين يؤسس الخيال مكاناً خارج السلطات
-
فاتح جاموس بشاله الأحمر.. أما آن لك أن تعود
-
قراءة في كتاب لؤي حسين: الفقد
-
صحفي يُغّرم بمائة مليون ليرة بسبب مقال - محاكمة الصحفي راشد
...
المزيد.....
-
فوضى في كوريا الجنوبية بعد فرض الأحكام العرفية.. ومراسل CNN
...
-
فرض الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية.. من هو يون سوك يول صا
...
-
لقطات مثيرة لاطلاق صاروخ -أونيكس- من ساحل البحر الأبيض المتو
...
-
المينا الهندي: الطائر الرومنسي الشرير، يهدد الجزائر ولبنان و
...
-
الشرطة تشتبك مع المحتجين عقب الإعلان عن فرض الأحكام العرفية
...
-
أمريكا تدعم بحثا يكشف عن ترحيل روسيا للأطفال الأوكرانيين قسر
...
-
-هي الدنيا سايبة-؟.. مسلسل تلفزيوني يتناول قصة نيرة أشرف الت
...
-
رئيس كوريا الجنوبية يفرض الأحكام العرفية: -سأقضي على القوى ا
...
-
يوتيوبر عربي ينهي حياته -شنقا- في الأردن
-
نائب أمين عام الجامعة العربية يلتقي بمسؤولين رفيعي المستوى ف
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|