الامبريالية الديموقراطية: برنامج عمل (3)
يحتدم السجال الدائر حول حكم العراق بعد الحرب بين الامبرياليين الديموقراطيين والواقعيين. فالواقعيون شكاكون لجهة آفاق التغيير الثقافي في العالم العربي ويحذرون من أن تؤدي الديموقراطية الى نزاع اثني واستبداد منتخب، في حين يصر مناصرو الديموقراطية على المجازفة والسعي وراء تحقيق تغيير ثقافي عميق قد يساعد على وضع حد للأنظمة التي تحضن وتمول وتخرج الإرهابيين. من هذه الناحية، غالباً ما تتواجد هذه الآراء المتعارضة معاً في داخل الإدارة الأميركية. ونذكر على سبيل المثال توماس كاروزير الذي عمل على ابراز التناقضات التي تعتمل داخل السياسات المروجة للديموقراطية عند الرئيسين رونالد ريغن وجورج دبليو بوش. فبعد جهد مسرف لإجراء عملية انتخابية في السلفادور عمدت إدارة ريغن الى تخصيص ميزانية في السر لكي تضمن نجاح مرشحها في هذه الانتخابات خوسيه نابليون ديوارت. وتقوم الإدارة الحالية بتشجيع الديموقراطية بينما لا تقبل في نفس الوقت اعادة انتخاب ياسر عرفات. كما انها تجد نفسها عالقة في الوقت الراهن بين شعارها الداعي الى إحلال الديموقراطية والأزمة المتصاعدة في فنزويلا حيث تسيطر حكومة هيوغو تشافيز المنتخبة من الشعب لكن المناهضة لأميركا. وقد يواجهنا هذا النوع من المشاكل في عراق ديموقراطي شكلياً.
يكمن جزء من المشكلة في ان نقاشنا حول الديموقراطية يقوم على ازدواجية خاطئة، ففي حين يبرز الواقعيون الشكاكون خطر اجراء انتخابات في بيئة غير حرة يصر الامبرياليون الديموقراطيون على ان إيماننا بقيمنا يستدعي المجازفة بإجراء تغيير في الأنظمة الانتخابية على امتداد العالم العربي.
لكن ماذا عن سياسة تتجنب اجراء انتخابات مباشرة ولا تسلم في نفس الوقت بالأمر الواقع <<غير الحر>> وانما تعكس فهماً وتأكيداً على الديموقراطية الليبرالية الأصيلة؟ ينبغي العودة الى ليبرالي مثل جون ستيوارت ميل الذي أقر بسياسة ديموقراطية تدرجية. بعد خبرة دامت لأكثر من عقدين من الزمن داخل شركة الهند الشرقية البريطانية، حذر ميل في كتابه <<ملاحظات حول الحكومة التمثيلية>> من محاولة إجراء انتخابات سابقة لأوانها في مجتمعات تفتقد الشروط الثقافية للديموقراطية، وذلك ما لم يقوم الناخبون باستيعاب وهضم المبادئ الليبرالية الأساسية. بالنسبة الى ميل، يتوجب على حكومة قادرة على إدخال الديموقراطية الى مجتمع غير حر بأن تكون الى حد ما استبدادية، اذ هو يدافع عن الحاجة الى استبداد استعماري مستنير كطريق نحو تحرير طويل الأمد لمجتمعات غير متحضرة نسبياً.
ليست أفكار جون ستيوارت ميل حول الاستعمار بالموضوع المفضل عند قرائه المعاصرين، وغالباً ما يتم انتقاده عند تفحص آرائه حول الديموقراطية الاستعمارية كما لو كانت هذه الآراء خيانة للمبادئ الليبرالية. وعلى الرغم من ان ميل يستحق النقد لجهة فهمه المحدود للمجتمعات اللاغربية وتعصبه الثقافي الا ان هذه الاتهامات تبقى بشكل عام باطلة.
واجه ميل في كتاب <<الحكومة التمثيلية>> المشكلة الأساسية للديموقراطية البرلمانية وهي مشكلة لم تلق غير القليل من العناية لدى الأميركيين المعاصرين، فقد تمتعت أميركا منذ البداية بحق انتخاب شبه كامل للذكور البيض، أما بريطانيا وغيرها من البلدان الأوروبية فقد احتدم الجدال فيها حول أي حد يمكن فيه توسيع حق الانتخاب، وهذه المسألة لا تتعلق بشكل مباشر بالعدالة والمساواة إلا انها تتضمن إمكانية تدمير الديموقراطية نفسها من خلال الاتيان باستبداد يحظى بدعم شعبي. وقد وقعت فرنسا ضحية لمثل هذا النوع من الاستبداد مرات عدة، وكان ذلك ماثلاً تماماً في ذهن ديموقراطيين ليبراليين مثل ميل.
بنيت الديموقراطية الأميركية منذ البداية على عدالة اجتماعية نسبية وجمهور متعلم واسع، أما الانقسامات الطبقية الحادة في اوروبا والمستوى الثقافي المتدني للفلاحين الأميين والعمال فكانا يهددان بان يؤدي منح حق الاقتراع للعموم الى الاستبداد. لم تكن تحفظات ميل حول الديموقراطية السريعة لتسري فقط على الهند، وانما كانت تشمل بريطانيا أيضا.
الا ان ميل كان ليبرالياً أيضاً، ودعم على هذا الأساس السياسات الليبرالية الإدارية التي أدت في النهاية، وبشكل فعلي، الى قيام ديموقراطية هندية. وكان ميل مدركا تماماً لأهمية البنية التحتية للمواصلات والاتصالات الهندية الحديثة في إنتاج وعي قومي ورفع مستوى اهتمامات الأفراد فوق مستوى انتماءاتهم الضيقة وتوجيهها نحو المصلحة العامة، ولهذا السبب دعم ميل بقوة هذه الإصلاحات وذكرها باستحسان في كتابه <<الحكومة التمثيلية>>، ودافع عن فكرة ان الطريق الى الديموقراطية في المستعمرات غير المتمدنة نسبياً يكون بإنشاء جمعيات ديموقراطية محلية لا تنافس السلطة المركزية وانما تكملها. ولما كان كتاب <<الحكومة التمثيلية>> معروفاً جداً لدى الحكام الاستعماريين في الهند، فقد ساعد في إيجاد صيغة للإصلاحات الليبرالية في ثمانينيات القرن التاسع عشر. نادراً ما يقر المتحاملون على ميل نظراً لسياسته الاستعمارية بأنه قد دعم في الواقع سياسة استعمارية ليبرالية جاءت في الواقع بالديموقراطية الى الهند.
يؤخذ على ميل تبنيه للتصنيف الحضاري الذي اختصت به ذهنية القرن التاسع عشر، صحيح انه كان مثل والده مخطئاً في نبذ الثقافة الهندية واعتبارها بربرية، لكن من المهم ان نفهم لماذا كان ميل مخطئاً ولماذا لم يتمكن الميليون من فهم محرك المجتمع الهندي، اذ كانوا يحكمون الهند بمعيار بريطاني.
يكتسب الاطار النظري لجون ستيوارت ميل اليوم راهنية خاصة، وعلى نحو مذهل، كوننا نطرح مشكلة احلال الديموقراطية في مجتمع من خارج الغرب، وعلى الرغم من أن المجتمع العربي التقليدي أقل ظلما مما يبدو عليه في نظر منتقديه، الا انه ينبغي الالتفات لتحذيرات ميل من اصلاح متهور في ظل غياب مقدماته الثقافية ومخططاته للنجاح النهائي اضافة الى تصنيف ميل للمجتمعات حسب استعدادها النسبي للديموقراطية. الدرس الذي ينبغي استقاؤه هو ان الاحتراز الواجب من تصدير سريع لديموقراطية جاهزة الى مجتمعات غير حرة يتوافق بالكامل مع الإيمان بالمبادئ الليبرالية أو ترويجها.
تبعاً لتاريخهم الاجتماعي الفريد يفكر الأميركيون بالديموقراطية بتعابير عامة وحقوقية، أما جون ستيوارت ميل وادموند بورك والكسي دو توكفيل فكانوا مدركين بدقة للشروط الاجتماعية والثقافية للديموقراطية. وعلى هذا الاساس، وان كان لا يمكننا ولا ينبغي العودة الى التصنيف الجاهل والمبسط للمجتمعات في سلم تطوري واحد وهو التصنيف الذي اختص به القرن التاسع العشر، وان كان لا يمكننا حكم العراق بغطرسة وعنصرية بريطانيا في القرن التاسع عشر، الا ان مشكلة احتلال العراق بعد الحرب تشبه التحديات التي واجهها ميل اكثر من أي تجربة أخرى مألوفة، ولهذا السبب ينبغي الاستفادة من برنامج ميل للديموقراطية وهو برنامج حذر وثاقب وناجح في نواح كثيرة. لم يكن اعتقاد ميل بالديموقراطية المتدرجة واقعياً فقط وانما كان ليبرالياً.
دروس الهند
يثير التكلم عن الامبراطورية شيئاً من الانزعاج، فحتى لو أمكن عزل واستخلاص الدروس الأكثر منفعة وليبرالية من التجربة البريطانية في الهند فهل سيكون بمقدور أية امبراطورية مهما كانت خيرة، ان تعتبر عادلة من الناحية الأخلاقية؟ تحتاج الإجابة عن هذا السؤال الى إمعان النظر بالحجج الأخلاقية المرتبطة بالاستعمار الأوروبي.
يدور اكثر الجدل الحاصل حول الوضع الأخلاقي للاستعمار الأوروبي حول المسائل الاقتصادية، ذلك ان المدافعين عن الكولونيالية يشددون على الاستثمار الدائم في القوى المنتجة التي طورها المستعمِر نيابة عن المستعمَر (بفتح الميم). أما منتقدو الكولونيالية فهم يشددون على تحويل الثروة من البلدان المستعمرة الى مركز الإمبراطورية. وكما أشار ديفيد ب. ابيرنيثي في دراسته القيمة الأخيرة حول الكولونيالية الأوروبية فان كل طرف من هذا النقاش يتقبل المنطلقات الأخلاقية للطرف الآخر، وهذا ما يفسر لماذا يقلل منتقدو الكولونيالية من أهمية الاستثمار في تطوير القوى المنتجة، بينما يقلل المدافعون من أهمية انتقال الثروة.
سيكون الاحتلال الأميركي الموسع للعراق سياسة صائبة على طريق تشجيع الديموقراطية، لكن هل يكون طول أمد الاحتلال سياسة حكيمة بدوره؟ هذا هو السؤال الأصعب. وبما ان عملية إحلال الديموقراطية في العراق ستكون أطول وأصعب مما كانت عليه اليابان بعد الحرب، فسيكون على أميركا حشد إرادتها ومواردها من أجل مواجهة تحد مشروع وشاق. وإذا تبين أن العراقيين العائدين غير قادرين على المساهمة في إحلال الديموقراطية، أو في حال لم تتمكن أميركا من ممارسة تأثير كبير وبشكل دائم دون ان يبدو عليها ذلك، فستبرز احتمالات كبيرة في قيام ردة فعل قومية عربية أو في حدوث انقسام أميركي داخلي. أحد الأجوبة المنطقية عن هذا السيناريو سيكون بالتأكيد الرفض القاطع لأي تورط في احتلال طويل الأمد للعراق.
مع ذلك، تبقى قوية حجة المغامرة على طريق الإمبريالية الديموقراطية. فعلى المدى الطويل، قد تكون أفضل ضمانة لنا من خطر الإرهاب المتنامي وانتشار أسلحة الدمار الشامل، وسيتوجب على هذه المغامرة التركيز، خاصة في المراحل الأولى، على بناء طبقة ليبرالية وتحديثية بالوسائل التربوية، ذلك ان الالتفاف على البنى التقليدية سيكون أجدى من الهجوم المباشر. وسيأتي بعد ذلك اليوم السانح لهجوم محدود. ان تعاقب الاستراتيجيات الإدارية هو علامة على إمبريالية ديموقراطية ناجحة، فالظروف وحدها هي التي ستملي مقدار التوازن بين الحكم غير المباشر والتحول الإصلاحي.
بعد كل شيء، لا بد من تجاوز الانشطار الحاصل بين نزعة واقعية حذرة وبين ليبرالية إصلاحية عند شروع أميركا في الاحتلال الواسع النطاق للعراق. الديموقراطية الحقة تنمو بشكل بطيء، والحيلة تكمن في تشجيع الاختبارات الانتخابية على المستوى المحلي مع الاستمرار في الوقت نفسه بالاحتفاظ بالسلطة على الصعيد الوطني. ليس التدرج خيانة للمبادئ الديموقراطية، بل على العكس، انه فكرة لامعة نقلها إلينا مؤسسو الليبرالية نفسها.
(انتهى)
ترجمة: بديع أبو مهيا
نقلا عن: policy review