يراد لهذه المقالة أن تشكّل مدخلاً إلى ما ينبغي قوله حول الموضوع وليس استيفاء بحثه. وهذا مدخل تستحضر فيه النقاط التي تحفز على الحوار بأمل أن يستوفى البحث عبر هذا الحوار. أما لماذا التخويض في موضوع العلمانية الآن، فبتأثير تواتر حالات الارتداد عن المستوى المتحقق من العلمانية في المجتمع الفلسطيني وما يؤشر عليه الارتداد من مخاطر قائمة وأخرى قادمة على غير صعيد.
ولئن عنت العلمانية في أبسط تعريف لها إعلاء شأن التفكير العقلي العلمي في مواجهة التفكير الغيبي، فقد أستهدفت الحركة العلمانية في سيرورتها العيانية إلغاء تدخل المؤسسات الدينية، هذه التي تنسب سلطتها إلى مصادر غيبية، في حياة الناس الجمعية وشؤونهم العامة أو ما اشتهر باسم فصل الدين عن الدولة. وبعبارة أوضح، استهدفت العلمانية تحرير العقل من معيقات نموه والاستحواذ على المفتاح الذي لا يضطرد تقدم المجتمعات بدون الاستحواذ عليه. ولم تستهدف العلمانية المسّ بالعالم الروحي لأي فرد. بل إن ارتباط التطور العلماني بالتقدم الاقتصادي والثقافي والتوسع في ممارسة الديمقراطية قد أفضى إلى تقدم غير مسبوق في توفير حرّية المعتقد الديني ذاته وتأكيد حقوق الجميع في ممارسة العبادات التي يوجبها معتقد أي منهم. واللافت للنظر أن التطور العلماني هو الذي أفضى أيضاً إلى توسيع مجالات الحياة الروحية والارتقاء بها وتنويع مصادرها وتجلياتها.
وإذا كان في الإمكان الوقوع على إرهاصات العلمانية في أي فترة من فترات تطور البشرية وفي أي مكان، فإن الغلبة لم تنعقد للعلمانيين إلا بعد بروز الرأسمالية وحلول أنظمتها الصناعية محل الأنظمة السابقة، الرعوية القبلية أو الزراعية الإقطاعية. وحيث نهضت الأنظمة الصناعية واضطرد نموها، انفتحت الأبواب الواسعة لتقدم شتى العلوم الإنسانية والطبيعية، وتأثرت الثقافة والفلسفة بحصاد هذا التقدم وأثرتا فيه.
وغني عن البيان أن حصص بلدان العالم ومجتمعاته المتعددة من هذا التطور قد تفاوتت. غير أن تأثير غلبة العلمانية في بلد امتد، في صورة أو غيرها، بدرجة أو غيرها إلى بلدان أخرى ظلت الغلبة فيها للنظم والقيم ما قبل الصناعية. وكما وقع في مجالات أخرى، اتسع هذا التأثير مع التوسع المضطرد في وسائل الاتصال والتبادل المادي والثقافي. إلا أن التأثير الوافد بقي مع هذا محدوداً، خصوصاً حين لم يقع على ما يسنده في جذور الواقع المحلي، فلم يحقق ما يلغي غلبة الفكر وأنماط السلوك غير العلمانية. والواضح أن الغلبة لن تنعقد للعلمانيين في أي بلد أو مجتمع بصورة حاسمة ما لم تتوفر فيهما الشروط الذاتية الملائمة.
فلسطين، كغيرها من أقاليم الإمبراطورية العثمانية، شهدت منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مظاهر الانتقال المتأخر والبطيء إلى الرأسمالية ومحاولات التصنيع والعصرنة، وجرى هذا في سياق التململ ضد هيمنة الإقطاع المتسلح بالفكر السلفي الموروث، أو بما يخدم هيمنته في هذا الفكر. كما شهدت فلسطين، كغيرها، التوق إلى الديمقراطية، والضيق بالاستبداد والجمود الفكري الذي يسنده. وكانت هذه بدايات بشرت بتطور لاحق وواعد. غير أن البلاد كانت ما تزال في هذه البدايات عندما وقعت تحت هيمنة الانتداب البريطاني وسطوة العمل الجاري في ظله لتحقيق المشروع الصهيوني.
وإذا صح أن الاستعمار البريطاني قد نقل إلى فلسطين بعض مظاهر العلمانية، فإن هذه المظاهر بقيت محدودة. فالتوسع النسبي في توفير فرص التعليم، والتطورات التي أدخلت على نظم الإدارة والقضاء، وما إلى ذلك مما يماثله، لم تتعد جميعها حدود ما يلزم لخدمة مصالح المستعمرين في المقام الأول، ولم تقترن بأي جهود تستهدف بناء الأسس اللازمة لعصرنة المجتمع الفلسطيني أو تحريره من تأثير الموروث غير المسعف. ثم إن اقتران وجود الاستعمار البريطاني بوجود المشروع الصهيوني في قيد التحقق وحاجة البريطانيين والصهيونيين لبقاء الجانب الفلسطيني ضعيفاً ومتخلفاً قد أسهما في تقليص تأثير العلمانية الوافدة، مثلما أسهما في لجم تطور الشروط المحلية المسعفة. وهكذا، تكبد المجتمع الفلسطيني تبعات وجود الاستعمار البريطاني والاستيطان الصهيوني دون أن ينال من مظاهر العصرنة التي اقترنت بوجودهما إلا الفتات.
والواقع أن اقتران بعض مظاهر العلمانية والعصرنة بوجود المستعمر البريطاني، ومغتصب الأرض والحقوق الصهيوني، قد أسهم في وصم التوجهات العلمانية من قبل خصومها بشتى التهم وسلّح هؤلاء بما ساعدهم على تحريض الجمهور ضدها.
يضاف إلى هذا ما كان سابقاً لوجود الاستعمار البريطاني والصهيونية، وهو أن حصة فلسطين في حركة التنوير العربية الحديثة التي شكلت مهاد نمو العلمانية كانت حصة ضئيلة. يستوي في هذا أن يتعلق الأمر بمساهمة الفلسطينيين في حركة التنوير هذه أو بجناهم من ثمراتها.
وبهذا وذاك، بالمقترن بوجود البريطانيين والصهيونيين، وبالسابق لهذا الوجود، زادت حصة فلسطين في الاتكاء على الموروث غير المسعف لنمو العلمانية، وتعززت فرص السلفيين لإدامة هيمنتهم الفكرية ومقاومة المؤثرات التي قد تنعش الفكر العلماني.
ولا يتسع المجال هنا لعرض العوامل التي قللت حصة فلسطين في حركة التنوير العربية وجعلتها أضأل من حصص البلدان المحيطة بها. فالأمر ناجم عن عوامل اجتماعية وسياسية واقتصادية كثيرة ومتداخلة. وقد استمر هذا الأمر وتفاقم مع حلول الاستعمار البريطاني وتحول حركة الاستيطان الصهيوني إلى غزو تدعمه حراب المستعمرين، ثم مع تحول الكيان الاستيطاني الصهيوني، أو "الييشوف" كما سماه أصحابه، إلى دولة تمارس عدواناً مستمراً وطاغياً. ولعل هذا العامل بالذات هو الذي أوجب الحضور الطاغي للهم الوطني الفلسطيني العام في الفكر كما في السلوك الفرديين والجمعيين على حساب الحضور اللازم للهموم الأخرى، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ومما لا شك فيه أن هذا الوضع قد قيّد العلمانيين بالحاجات الملحة للهم الوطني، وخصوصاً حاجات مواجهة الكوارث المتعاقبة. وما أكثر ما نجم من ذلك من اضطرار للتنازل عن حاجات التقدم المجتمعي بدعوى تغليب الحاجة إلى وحدة الصف الوطني وتجنيب هذا الصف مغبّة الصراعات الاجتماعية.
شيء آخر لا يتسع له المجال هنا، وهو عرض العوامل التي حالت دون استكمال التطور الرأسمالي للبلدان العربية وبناء المجتمعات الصناعية فيها، وهي العوامل ذاتها التي أدت إلى خضوع هذه البلدان لأشكال تطور مشوهة. أما ما ينبغي استحضاره على الدوام فهو أن حال فلسطين في هذا المجال أيضاً بقي أسوأ من أي حال مجاور. ففي عهد الانتداب، فرض التناغم بين الاستعمار البريطاني والاستيطان الصهيوني أن يتطور الييشوف باتجاه أكثر النظم الاجتماعية والاقتصادية عصرية، فيما فرض التناغم ذاته حجب فرص التطور عن المجتمع الفلسطيني وإبقاءه أسير النظم المتخلفة أو حتى إعادته إلى الوراء في مجالات عدّة. وبعد رحيل الاستعمار البريطاني وقيام إسرائيل، خضع ما بقي من المجتمع الفلسطيني في فلسطين إلى شروط أوجبت أن يظل متخلفاً عن مستوى ما هو متوفر لمحيطه. ولئن اختلف الأمر بعض الشيء بالنسبة لتجمعات الشتات التي حلت في بلدان المحيط، فإنه لم يتبدل تبدلاً جوهرياً.
وإذا كانت متطلبات الكفاح لتجاوز ظروف النكبة قد زعزعت تقاليد عتيقة كثيرة وأوجبت تعميم التعليم وحملت فلسطينيين كثيرين إلى الانتساب إلى منظمات علمانية، فإن هذا كله بقي في حدود السقف المتاح في ما بقي لأهله من فلسطين ذاتها أو المتاح في الشتات. ومعلوم أن ما كان متاحاً هنا أو هناك ظل متواضعاً. ذلك أن البلاد العربية كلها، مثلها مثل معظم بلدان العالم الثالث، حرمت من استكمال تطورها الرأسمالي الطبيعي والانتقال إلى الصناعة وأخضعت لأشكال تطور مشوهة لم تنشئ أسساً راسخة لنمو العلمانية حتى حين يجري ادعاء غير ذلك.
وحين يتاح تناول هذا الموضوع بإسهاب فما أكثر ما يمكن استخلاصه من عوامل أخرى حالت دون نمو الفكر العلماني في فلسطين أو أبقت تأثيره على المجتمع محدوداً. إلا أن العوامل كلها يمكن إدراجها بإيجاز في حزمتين متداخلتين: غياب أو تغييب فرص التطور الطبيعي؛ وحضور أو استحضار متطلبات الهم الوطني وطغيانها على أي هم آخر.
وإذا كان من المتعذر أن تتحقق الغلبة للفكر العلماني في أي مجتمع ما لم ينشئ التطور المادي فيه أسس تحققها، فان الحضور الطاغي للهم الوطني قد أسهم في لجم قدرة النوى العلمانية الفلسطينية على الدخول في مجابهات مع الفكر غير العلماني. وبوجود أسس واهنة للفكر العلماني، فرض الهم الوطني على العلمانيين تنازلات كثيرة بدعوى الحاجة إلى وحدة الصف وتجنب اتباع ما يزعزع هذه الوحدة. أو لنقل: إن وجود أسس واهية فقط للعلمانية زود العلمانيين بالذريعة التي يسترون بها وهنهم هم في المواجهة. ولو أن أسس العلمانية في المجتمع الفلسطيني كانت أرسخ فلربما وقع العكس، أي لربما فرض الهم الوطني أن يقدم غير العلمانيين التنازلات.
هنا، يتوجب أن ننبه إلى ظاهرة أخرى هي في واقع الأمر ظاهرة عامة، وإن كانت حصة فلسطين منها أكبر من حصص غيرها. فتأثير الفكر ما قبل العلماني في المجتمعات ناقصة التطور تأثير مضاعف ومركب. وليس غريباً أن تظل لهذا التفكير الغلبة حتى حين لا تكون القوى التي تمثله رسمياً، القوى التي تجهر بمناوئتها للعلمانية، هي الأقوى. وما ذلك إلا لأن القوى التي تنسب نفسها إلى العلمانية في هذه المجتمعات تظل تحمل كثيراً أو قليلاً من سمات الفكر ما قبل العلماني وتتأثر به أو ترضخ له. ولعل من المفيد أن يتناول الحوار الذي بدأ الحديث بالدعوة إليه هذه النقطة بالتفصيل.
ولعل من المفيد أيضاً أن ترصد محطات الكفاح الوطني الفلسطيني وصلته بالعلمانية كما جرى بالملموس منذ حلول الاستعمار البريطاني واشتداد وتيرة الغزو الصهيوني في ظله.
فمنشئو الحركة الوطنية الفلسطينية في أواخر العقد الثاني من القرن العشرين لم يتوقفوا عند التمييز بين ما هو علماني وما هو غير علماني. ولم يكن لهذا التمييز حضور يذكر في الفكر السياسي الناشئ آنذاك. وقد عكس واقع الحال الذي أشير إلى بعض مظاهره أعلاه نفسه تلقائياً، فبقيت الغلبة على العموم للموروث أو للجانب الموروث من عهود البداوة السالفة والإقطاع الذي يوهن نمو العلمانية. ومع اضطراد نجاحات المشروع الصهيوني، اضطردت الدعوة إلى تركيز الجهد على المسألة الوطنية وإبقاء الصف موحداً وتجنب دواعي الانقسام. واضطرد مع هذا وبه وهن العلمانيين في تصديهم للفكر ما قبل العلماني، بل اضطرد استسلامهم له. وتقدم تجربة حزب الاستقلال قصيرة العمر في أوائل ثلاثينات القرن العشرين واستسلام مؤسسيه للزعامة التقليدية أسطع مثل.
أما ما نشأ في موجة العمل الوطني الذي تجدد في خمسينات القرن العشرين ثم تجمع، أو تجمع معظمه، في منظمة التحرير الفلسطينية منذ منتصف الستينات، فقد حمل معظمه سمة العلمانية أو انتسب إليها. إلا أن هذه السمة بقيت على السطح فلم تبدل الأعماق، وذلك في أغلب الحالات، وهي وفق القراءة المتبصرة لها لم تصبح سمة حاسمة الدلالة في أيّ من هذه الحالات. ينطبق هذا على القوى التي حملت سمات اشتراكية أو ادعتها. فهذه القوى، حتى حين نسبت نفسها إلى الفكر الاشتراكي العلمي، ماثلت غيرها في وهنها في مجابهة الفكر غير العلماني، بل إن منها من تذرع بذرائع متصلة بالهم الوطني كي يتحالف مع قوى الفكر غير العلماني ضد قوى علمانية.
والحال أن الساحة الفلسطينية لم تشهد واقعة واحدة تجلت فيها شجاعة استثنائية من العلمانيين في التصدي لغير العلمانيين. وفي هذا تأكيد آخر على صواب التشخيص الذي يحاول هذا الحديث استظهاره: وهن ما هو متوفر في المجتمع الفلسطيني من الأسس التي تستند العلمانية إليها؛ ووهن عزيمة العلمانيين حتى في اتكائهم على الأسس المتوفرة.
إن استمرار غياب، أو تغييب، الأسس المادية لنمو العلمانية واستمرار طغيان الهم الوطني لم يأذن للظاهرة المشكو منها هنا إلا بأن تتفاقم. والآن، حين تتوالى المحبطات وتدفع علمانيين متزايدي العدد إلى الارتداد، تتفاقم الظاهرة أكثر فأكثر.
ولأن كاتب هذه السطور لا يبيح لنفسه التستر على المواجع أو ترويج الأوهام، فلا بد من القول إن الرصد المدقق لواقع الحال ينذر بمخاطر كثيرة قادمة زيادة على المخاطر القائمة. فالأسباب الذاتية مستمرة؛ والمحتل الإسرائيلي يقوم بعمل منهجي لتدمير كل ما قد يساعد المجتمع الفلسطيني على التطور باتجاه العلمانية والعصرنة والديمقراطية. ولا بد من أن تدق جهة ما ناقوس هذا الخطر: الرجعية قادمة، وهي تتسلح بكل ما هو غيبي وغير علماني، ولا بد من إيجاد الوسائل لمقاومة خطرها. وإذا تذرع أحد ما بحاجات الهم الوطني فلا بد من مصارحة النفس قبل مصارحة الآخرين: لن تجد المسألة الوطنية حلّها إلا في هدي الفكر العلماني.
صوت الوطن