|
الظاهرة السارترية ح1
عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 7051 - 2021 / 10 / 18 - 14:54
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الظاهرة السارترية للمرة الثانية في كتاباتي الأخيرة أكتب عن الوجودية كظاهرة معرفية نافيا عنها كونها فلسفة وتحديدا الوجودية التي نتلقاها من أب الوجودية المعاصرة جان بول سارتر، هذا الإصرار عن رفع مفهوم الفلسفة عن الفكر الوجودي كله ليس له علاقة بالأسس المصنفة لنوع الفكر، وليس أنتقاصا من دور الفيلسوف والأديب والإنسان سارتر بذاته، وقد شرحت ذلك كله هذا في كتابي (محنة الدين والعقل 2021)، ولكن أعزيت السبب لكل هذا (كون الوجودية في ذاتها موقف من الحياة وفهم خاص لمعنى الحياة أكثر من كونها رؤية كبرى لقضايا الحياة)،وبعيدا عن حياة سارتر وتاريخه أحاول أن اقرأ من جديد هذه الظاهرة وجذورها ليست من خلال المؤثرات الفكرية القريبة منه ومن دراسته، بل من كل تأريخ الإنسان وعبر الزمان والمكان فالفكر مهما تشخصن ونسب إلى مبدع أو مفكر فلا بد أن له صلة طرفية بتاريخ الفكر وله جذور في وعي الإنسان كاملا. لقد ميّز جان بول سارتر بين علم الوجود (الأنطولوجيا) عن الميتافيزيقا وكان يفضّل الأول على الثاني فبالنسبة له علم الوجود علم وصفي وتصنيفي في المقام الأول، بينما تُوهم الميتافيزيقا بأنها تأويلية سببية، تعرض لنا تفسيرات حول الأصول الأساسية وغايات الأفراد والكون بأكمله، من هذه النقطة أسس سارتر مفهومه الوجودي للمعنى بين أن يكون كاشفا للوجود بذاته وبين أن يكون الوجود لذاته أعتبارا على محدد الوصف والتصنيف، بينما تثير الميتافيزيقيا أسئلة لا تنتج أجوبة حاسمة لا عن الذات ولا بالذات، ومع ذلك فإن الواقع الإنساني عنده مجموعة كيانات قادرة على المزج بين الأثنين، وهو الأصل الوجودي لغموضنا، الوجود في ذاته متين ومتطابق، ذاتي، سلبي، وخامل وهو ببساطة “نحن”. بينما الوجود لذاته مفهوم سائل متبدل متغير ومصطنع على الغالب لكنه أيضا ديناميكي، لا يطابق الذات ولكنه يكشف لنا مظهرية خارجية فقط حين ننظر للواقع الملموس، فنحن عندما نفهم الوجود "بذاتي" يعني لنا ما هو وجود أولي فطري تكويني عام ومتطابق، لكن حينما نملك الوعي ونمارسه ونسمو به يتحقق لنا "لذاته" الذي هو الجوهر الحقيقي للوجود. يتفق سارتر هنا في هذه النقطة مع الفكرة الدينية التي تقول أن الإنسان ليس مقيدا ولا مقيما بذاته عندما يحيا في الوجود ولكنه بمكن أن يكون كذلك حينما يمزج هذه الفطرة التكوينية بالعمل، أي أن الإنسان جوهره الحقيقي كقيمة مضافة للوجود بما كسب لا بما كان في الفطرة، فالوجود بذاته لا ينفصل عن الوجود لذاته إلا عندما يتوقف الوجود عن إعطاء معنى وبالصريح تجد نصا دينيا يقول (كل نفس بما كسبت رهين) أي أن الجوهر الحقيقي للإنسان لا يكون بدون عمل وكسب ومنتج، هذه الفكرة ليست ظاهراتية بمعنى أنها ليست طارئة أو ظرفية بمقدار ما هي حقيقة ناطقة عن واقع ملموس تعبر عن نفسها بنفسها، السمو الوجودي سمو عملي وليس ميتافيزيقي يوهمنا أن الإرادة في السمو معلقة بما هو خارج الوجود. في عالم الوجود هناك ما يعرف بالفراغات المحيرة أو ثقوب سوداء تبتلع الوعي بها لمجرد أنك تفكر بها، فهي من نوع الوجود الغير موصوف والغير مصنف أختزلها بفكرته الشهيرة "لا يمكن أن يكون نتج عن الوجود من حيث هو" بل من حيث هو وجود أخر هو الوجود الإنساني، فسارتر يستنتج من تحليل العدم تصور وعى إنساني على أنه أصل الحرية الإنسانية فهذا ما يميز الإنسان عن الأشياء، عن «الوجود من حيث هو» وبذلك ينتمى سارتر إلى أولئك الفلاسفة الذين يؤكدون الدور المميز للإنسان تجاه مظاهر الواقع، ويرفضون فهمه أو تعريفه من خلال التأثيرت الخارجية كالوراثة والتربية، فالأشياء مع كل التأثيرات الخارجية تبقى هي بذاتها لا تتغير عكس الإنسان كوجود لذاته يتغير ويتطور بوجود تلك المؤثرات أو بعدم وجودها لأن الذات بالذات هي أصلا مهيأ لتكون قادرة على فعل ذلك بذاتها وإن تدخل الخارج فهو يتدخل بوضع صفات أو علامات أو تصنيف فقط، أما الفعل الوجودي للذات لذاتها يبقى مستندا للقاعدة الأولى وهي التكوين والفطرة. الوجود للوجود إذا يعطى الإنسان من منظور آخر وضعا فريدا داخل الواقع أو ما يعرف بتصنيع الذات، فهو يستطيع أن يجعل من نفسه مركز عالمه ويعتمد على الأشياء المحيطة به بتسخيرها له كعامل مساعد لكن هناك عقبة حاسمة أمامه تتمثل في أن الإنسان ليس وحده بهذا العالم، فليس هنا «وجود للنفس» وحيد ومنفرد وإنما متعدد كثير ولأجل هذا نرى أن العالم الحقيقي يبدو أكبر لو نظرنا للواقع على أنه أفعال الوجود ووصفه، يركز سارتر الوجودي على أن الوعي ليس ما هو كائن تماما بل هو ما يكون في كل مرة، بمعنى أن وعينا المتغير والمتطور مع وجودنا هو من يستظهر فينا الجوهر الحقيقي للوجود، فالعدم وحتى الميتافيزيقيا لا تساعدنا كثيرا في تجديد الوعي لأنها بالأساس هي مفاهيم ثابتة وجامدة لا تتجدد في واقع لا يقبل الثبوت ولا يؤمن بمنطق الوجود، تماما كما ورد في نص ديني معروف (لا يغير الله بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) فالتغيير النفسي متحرك ومتعدد ومتطور في كل مرة، أما تغيير الله فليس بقادر بمعزل عن الذات لنفسها أن يصنع التغيير. عند سارتر السمو بمعنى التغير التطوري إذا لا يرتبط بخارج الوجود وإن كان أصلا له بقدر ما يمنح السمو مبرراته ويستجليها من الوجود بذاته، فلو يكن في الفطرة هذه القوة على السمو حين يتشكل الوعي بها، لا يمكن دفع الوجود للتطور، هذا الأساس لا يعطي الفضل للفطرة فهي متساوية ولكن يمنح الفعل الواعي المنزلة الكبرى في تأطير الوجود به ليصل إلى الجوهر الحقيقي، أي أن الإنسان بوجوده لوجوده يستطيع دائما وأبدا أن يتجاوز نفسه ويتخطاها نحو كشف وجوده لوجوده، هنا يشير سارتر على أن ما يمتاز به الوعى بأنه لا يمكن تحديده مطلقا، وبأنه يظل مفتوحا لإمكانات جديدة لفهم النفس في كل مرة يتحرك في الواقع ليترجم ذلك الوعي بسلوك من نتاجه الخاص حتى لو كان هناك مؤثر خارجي، فهو لا يخضع بالكلية له بعد الوعي، فالوعى الإنساني مجزوم به على أنه أصل الحرية الإنسانية التي هي وإن لم ينجح دائما في نيلها تبقى بذاتها هدف سامي.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مسك الختام
-
وجودية أم طبيعية
-
عبد الله
-
خريف وربيع... الله والإنسان
-
نظرية الشيطان ج2
-
نظرية الشيطان
-
أصطناع العدو .... نظريات وتأريخ
-
العنف والإيمان
-
في نظريات الكوسمولوجيا
-
من الدين إلى الألحاد
-
كيف نتعامل مع الموروث الديني؟ ولماذا الدين أصلا؟
-
مفهم الديمقراطية بين حاجة السلطة وحق الشعب
-
تكوين وتأسيس الحضارة ج2
-
تكوين وتاسيس الحضارة ج1
-
العقل الجمعي...ظاهرة وتكوين
-
تأخرنا بماضينا وتقدم الأخرون بالمستقبل
-
التاريخ والحضارة
-
علاقة التاريخ بالأقتصاد
-
علاقة التاريخ بعلم النفس
-
علاقة التاريخ بعلم الأجتماع
المزيد.....
-
لحظة لقاء أطول وأقصر سيدتين في العالم لأول مرة.. شاهد الفرق
...
-
بوتين يحذر من استهداف الدول التي تُستخدم أسلحتها ضد روسيا وي
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل جندي في معارك شمال قطاع غزة
-
هيّا نحتفل مع العالم بيوم التلفزيون، كيف تطوّرت -أم الشاشات-
...
-
نجاح غير مسبوق في التحول الرقمي.. بومي تُكرّم 5 شركاء مبدعين
...
-
أبرز ردود الفعل الدولية على مذكرتي التوقيف بحق نتنياهو وغالا
...
-
الفصل الخامس والسبعون - أمين
-
السفير الروسي في لندن: روسيا ستقيم رئاسة ترامب من خلال أفعال
...
-
رصد صواريخ -حزب الله- تحلق في أجواء نهاريا
-
مصر تعلن تمويل سد في الكونغو الديمقراطية وتتفق معها على مبدأ
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|