|
سيرة الأخ العقيد الذي وعدَ بالجنة الأرضية فحوّل ليبيا إلى جحيم لا يُطاق
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 7038 - 2021 / 10 / 5 - 20:43
المحور:
سيرة ذاتية
دولة الخيمة. . . للكاتب والصحفي الليبي مجاهد البوسيفي
يشكّل كتاب "دولة الخيمة" الصادر عن منشورات "ضفاف" و "الاختلاف" في بيروت والجزائر انعطافة جذرية في حياة الكاتب والروائي الليبي مجاهد البوسيفي، فهذه ليست سيرة سياسية فقط للقذافي وإنما هي سيرة نفسية، وفكرية، وثقافية لهذا الكائن الذي يجمع بين تناقضات كثيرة تشير بما لا يقبل الشكّ بأنه مُصاب بالانفصام والازدواجية وجنون العَظَمة في أقل تقدير. يرسم البوسيفي خلفية تاريخية تبدأ من أحمد باشا القره مانلي وكيفية نجاح حفيده يوسف باشا في الاستيلاء على الحكم وإبعاد شقيقه أحمد باشا وتعزيز سلطته على الأقاليم الثلاثة "طرابلس وبرقة وفزان"، وخوضه معارك متقطعّه مع الأسطول الأمريكي لمدة أربع سنوات وخروجه منتصرًا حيث أذعن الأمريكان لدفع الرسوم للسفن والبواخر التي تمرّ في المياه الإقليمية الليبية. وقد استمر حكم يوسف باشا قرابة ربع قرن لم يكن فيها بعيدًا عن الأسلوب العثماني الذي يعتمد على القمع والتنكيل وجباية الضرائب لكنه كان مستقلاً بشكل شبه تام عن السلطنة التركية، ويتوصل في خاتمة المطاف بأنّ يوسف باشا هو "جدّ الليبيين".
مقاومة الاحتلال الإيطالي
في آخر عهد القره مانليين يصل إلى قرية "الجغبوب" قادمًا من تلمسان الجزائرية محمد بن علي السنوسي الذي ينتهي نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب ويبدأ دعوته الصوفية من تلك الواحة نحو الشرق الليبي حتى يتمكن من بناء "الزاوية البيضاء" سنة 1842م، وبسبب فهمه المتنوّر للدين تمكّن من استقطاب قبائل برقة لسلطانه. أمّا الدولة العثمانية التي وقّعت على معاهدة لوزان سنة 1911م فقد تركت ليبيا لوحدها تواجه الغزو الإيطالي فأخذت العائلة السنوسية على عاتقها مقاومة المحتلّ خاصة في الجبل الأخضر حيث برز عمر المختار كمقاوم شرس للغزاة الطامعين في أرضه حتى وصلت الزعامة إلى الحفيد محمد إدريس السنوسي الذي تُوج ملكا على ليبيا، وسيتحقق استقلال ليبيا بمساعدة الأمم المتحدة سنة 1951م بهذه الحدود المتعارف عليها الآن. وقد اهتمّ الملك في حينه بالتعليم، وهيأ مناخًا معقولاً للصحافة الليبية آنذاك لكن جيرة عبدالناصر له لم تكن لمصلحته فثمة ضباط شباب كانوا يتطلعون إليه كأبٍ وقائد قومي يقتدون به الأمر الذي دفع بهم إلى الإطاحة بالملك بينما كان في رحلة علاجية في اليونان. أمّا الضابط الأول الذي دبّر الإنقلاب وقادهُ فهو معمّر القذافي الذي وُصف بأنه شاب نحيف، معروف بالحياء والورع، ولا يحب الظهور الإعلامي. وحينما وصل المنشور الموجّه إلى الملك والذي يقول:"أنتَ ليس إدريس، بل إبليس" طلب حضور رئيسيّ مجلس النواب والشيوخ وأبلغهما بعدم رغبته في الاستمرار بالحكم، وتمنى فقط أن يؤمنوا وصول ابنته بالتبنّي، وأن يبعثوا إليه راتبه الشخصي بانتظام. وحينما وصل محمد حسنين هيكل بعد الانقلاب بأيام سأل عن العقيد عبدالعزيز الشلحي فأخبروه بأنه في السجن وأنّ القائد الحقيقي الذي يجب أن يبقى في الظل هو معمّر القذافي. وما إن سقط النظام الملكي حتى تقاطرت الوفود العربية إلى ليبيا تعرض خدماتها وخبراتها للنظام الجمهوري الجديد حيث أرسل العراق صالح مهدي عمّاش وعرض دعمه الكامل للنظام الليبي الجديد، وبعد يومين حطّت طائرة النائب صدام حسين الذي كان اسمه قد بدأ بالذيوع والشهرة السريعة لكن القذافي عامله بجفاء وأسكنهُ في مكان لا يليق بمنزلته التي توازي منزلة الرئيس البكر إن لم تتجاوزها في بعض الأحيان. وستكون هذه المعاملة السيئة بداية لعداء طويل بين رئيسين عربيين يحلمان بقيادة الأمة العربية بأوهام وشعارات برّاقة لم تجد طريقها إلى التحقيق أبدًا. كما بعث جعفر نميري وفدًا برئاسة الرائد مأمون أبو يزيد للهدف ذاته. أمّا الرئيس الجزائري هواري بومدين فقد حطّ بنفسه في المطار لكن عينيّ القذافي كانتا متجهتان صوب الزعيم عبدالناصر الذي جذب العالم العربي بشخصيته الآسرة ومشروعه القومي الذي لاقى صدىً طيبًا من المحيط إلى الخليج. فلاغرابة أن يبعث فتحي الديب، رجل الظل الذي سينسج كل الخيوط بهدوء ورويّة مُقدمًا استشارته الأولى بتعيين العقيد سعد بوشويرب بمنصب رئيس أركان الجيش، وهو المعروف بمواقفه الموالية لمصر، أمّا الشلحي فقد تركوه في السجن، ووضعوا ثقلهم على الثوّار الشباب الذين وصفهم هيكل في أول تقرير كتبه لعبدالناصر بأنهم "شباب في منتهى البراءة" التي سيتخلون عنها رويدًا رويدا.
الأمين على القومية العربية
وبعد ثلاثة أسابيع لا غير سيأتي عبدالناصر بنفسه إلى بنغازي ويستقبله الليبيون استقبالاً شعبيًا حافلاً دفعهُ إلى مغازلة مشاعر القائد الشاب القومية حين لقّبهُ بـ "الأمين" على القومية العربية من بعده، وهو اللقب نفسه الذي أطلقهُ من قبل على الرئيس العراقي "غريب الأطوار أيضًا" عبدالسلام عارف وأوهمه، زورًا وبهتانًا، بأنه "الأمين" على الأمة العربية من خليجها الثائر إلى محيطها الهادر مع أنه يحمل نفس الدرجة من الانفصام والإزدواجية والوهم. ولعل هذا التوصيف المبكر للقذافي هو الذي سارع في قدْح شرارة الاضطراب في شخصيته هذا الرجل القادم من "وادي جنهم" الذي سيعمّم "جهنميتهُ" على كل أرجاء البلد المترامي الأطراف. ليس من الصعب على المتابع أن يكتشف غرائبية القذافي ومواقفه الخارجة على أدنى مستويات الأتيكيت واللياقة البروتوكولية. ففي موتمر القمة العربية الخامسة التي عُقدت في الرباط سنة 1969م طلبَ القذافي من عبدالناصر بصوت مسموع الانسحاب من هذه القمة لأنهما مُحاطان بالرجعيين المتآمرين. وفي مؤتمر القمة التي عقدت في القاهرة سنة 1970م لحل الخلاف بين الأردن والفلسطينيين طالبَ بقتل الملك حسين أو تكتيفهُ في الأقل لكن "الأب" عبدالناصر تحمّل طيش "الابن" الغِر وتدخّل لإصلاح الموقف ولملمة الموضوع الذي لم تشهده أي قمة عربية سابقة. وحين مات عبدالناصر كان على القذافي أن يجترح صوتهُ الخاص، ويخلق بصمته المميزة التي لن تتحقق ما لم يتجاوز بصمة الأب الكبير. ساهم فتحي الديب هو الآخر في دغدغة مشاعر القذافي الذاتية وحرّضه على الظهور الإعلامي الذي لم يكن يحبّه أول الأمر، وقد وصفه لزعيمه في القاهرة بأنه: "متزن، وصلب، ومتديّن، به بعض الغموض، يتمتّع باحترام زملائه، مُدركًا لما يدور في العالم، ويميل للابتعاد عن الأضواء" لكن الجميع لم ينتبهوا إلى أنّ القذّافي سوف يدير ظهوره الإعلامي بموهبة فطرية تُحبب الناس به أول الأمر لكنهم سينفرون من إفراطه في الظهور وهيمنته على شاشة البلد الوحيدة. وبعد المحاولة الانقلابية التي قادها وزير الدفاع أحمد الحوّاز، ووزير الداخلية موسى أحمد بدأ القذافي ينفرد بالقرار وأخذ يعامل رفاقه بتعالٍ ويعتبرهم ناقصي وعي وولاء. وقد اتسمت تلك الحقبة باتخاذه لعدد من القرارات التي تُوحي بوطنيته وحرصه على ليبيا من بينها إخراج القواعد الأمريكية والبريطانية في يونيو 1970م، وإبعاد الجالية الإيطالية من ليبيا بعد ثلاثة أشهر من العام ذاته الأمر الذي حرم البلد من شريحة ثقافية واجتماعية وعِرقية مهمة بذريعة "جلاء الفاشست". كما أثبت القذافي أنّ الأمازيغ من أصول عربية مُصححًا وضعهم التاريخي وأمرهم بأن يتصرفوا كعرب، ومنعهم من التحدث أو الكتابة بلغتهم الأمازيغية طوال 40 سنة. كما حرّض على "أن يكون البيت لساكنه" فتم الاستيلاء على أكثر من 80 ألف بيت يعود إلى مواطنين آخرين. وركّز على القضاء النهائي لثقافة "العهد البائد" وتكريس ثقافة ليبيا الجديدة.
الشطحات الفكرية للصادق النيهوم
يؤكد مجاهد البوسيفي في كتابه "دولة الخيمة" بأنّ القذافي قد تأثر بثقافة الصادق النيهوم وفكره، ويصفه بأنه أول وآخر ليبي يؤثر في عقلية العقيد القذافي. ونظرًا لإعجاب البوسيفي بالشطحات الفكرية للنيهوم وقدرته على توليد الأفكار فلاغرابة أن يُغرقه بالكثير من الأوصاف من بينها أنه "ذكيّ،ٌ ولمّاح، درّب نفسه على تكنيك الكتابة بصبر المُحب ووصل درجة لا تُنافس من الاحتراف". وكان النيهوم والقذافي لا يحبّان الملكية، وقد صرّح لصديقه الروائي ابراهيم الكوني بأنه كان يطمح بالوصول إلى سدة الحكم لكن العسكر سبقوه إليها وتركوه ينتظر على قارعة الطريق. التقى النيهوم بالقذافي في الشهر الخامس سنة 1970م في ندوة "الفكر الثوري" التي وصف فيها الملكية بنظام الراعي الواحد للقطيع، وأنّ الثورة التي جاءت تهدف إلى تحويل هذا القطيع إلى بشر. لم ينسجم الطرفان مع بعضهما بعضًا فاتفقا على ما يشبه التوقيع على معاهدة "عدم اعتداء" ويغادر النيهوم إلى حال سبيله حيث انتقل إلى ألمانيا ومنها إلى سويسرا حيث استقر في جنيف، وقد شعر أنّ العقيد قد خذله تمامًا مثلما خيّب الاسكندر آمال أرسطو مع فارق التشبيه. وحينما مات النيهوم سمّى القذافي إحدى قاعات المكتبة الوطنية باسمه، وأمر بتنظيم ندوة تحت عنوان "النيهوم أديبًا" كي ينفي عنه صفة المفكّر التي احتكرها القذافي لنفسه، فهو الذي يفكّر، حسب وجهة نظره، نيابة عن الجميع. لقد اعتاش القذافي على غالبية الآراء والأفكار والتصورات التي اجترحها النهيوم ومنها، تمثيلاً لا حصرًا، نظرية المحور الثالث التي لا تتكئ على العالمين الرأسمالي والاشتراكي التي بنى عليها مجده الفكري المزوّر والمسروق مع بعض التعديلات البدائية عليه. تأثر بماو تسي تونغ وأعجب به، كما تأثر بصدام حسين وإن لم يعلن ذلك وكان يقلّده في الملبس، والموكب الرئاسي، والحلم بالزعامة العربية الموهومة، ومثل كل الدكتاتوريين كان القذافي يتحصن بقائمة طويلة من الألقاب التي تبدأ بالأخ العقيد وتنتهي بملك ملوك أفريقيا. لا يستكثر البوسيفي على القذافي بعض الصفات مثل الذكاء الحاد، والفراسة المتوقدة، والموهبة الفطرية التي حكم بها الليبيين أكثر من أربعة عقود.
الانفراد في الحكم
شغل القذافي ثلاثة مناصب سيادية هي رئيس الدولة، ورئيس الوزراء، ووزير الدفاع، ثم عززها بفكرة الانفراد بالحكم من دون استشارة أحد من أعضاء مجلس قيادة الثورة الأمر الذي دفعهم لمطالبته بالاستقالة فوافق شرط أن يطلب الشعب استقالته. وبينما كان المجلس مشغولاً بهذه المعمعة فجّر القذافي ثلاث ثورات متتالية وهي الثورة الثقافية، والثورة الإدارية للقضاء على البيروقراطية، والثورة الشعبية التي عطّل فيها كل القوانين فأصبح المجلس خارج اللعبة إلى الأبد، فتحولت الدولة إلى ثورة، وأخرج مفكرته التي سجّل فيها الأسماء المشتركة في ندوة "الفكر الثوري" وسجن المشاركين فيها ما بين 18 شهرًا و 18 عامًا، وأوكل الثورة التي أعقبت الدولة إلى اللجان الثورية التي زادت طين القذافي بلّة وقرفًا واشمئزازًا من هذا البلد الذي أخذ يهوي إلى الحضيض يومًا بعد يوم. إذ شرع الطلاب بالتدريب العسكري كخطوة أولى لعسكرة البلاد التي ضاعت هويتها الإدارية والاجتماعية التي أهّلتهُ لولوج مرحلة الطغيان في سنة 1977م حيث شرع بتدبيج "الكتاب الأخضر" الذي سيصبح بمثابة الدستور الجديد للبلاد الذي نهب مواده من النيهوم وغيره من الكتاب الآخرين بعد أن دعا فيديل كاسترو إلى مؤتمراته الشعبية، وقرر فيها تغيير اسم البلد وقد وافقه صديق دربه الرائد عبدالسلام جلّود الذي وصف صديقه العقيد بـ "المفكِّر الثائر، والقائد المعلِّم". وقد ورد في إعلان التغيير "أنّ الاسم الرسمي لليبيا سيكون "الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى"، وأنّ القرآن هو شريعة مجتمع الجماهيرية، وأنّ السلطة الشعبية المباشرة هي أساس النظام السياسي، وأنّ الدفاع عنها هو مسؤولية كل مواطن ومواطنة عن طريق التدريب العسكري العام". وعندما استوت سلطة الشعب تحوّل الأخ العقيد إلى الأخ القائد، وتحوّل الشعب إلى الجماهير.
الأقوياء دائمًا يحكمون
أصبح الأخ القائد في عامه الـ 35 يملك كل شيء، الشباب، والقيادة المنفردة، والمال الوفير، وبدأ يعرّف "السلطة الشعبية" بأنها "النظام الذي يحكم فيه الناس أنفسهم" لكنه كان، ينسى أو يتناسى، شطحاته الأخرى التي يصرّح فيها بأنّ "الأقوياء دائمًا يحكمون" وكان هو الأقوى في عموم الجماهيرية التي انبثقت من مخيّلته الشوهاء. ومع فصول "الكتاب الأخضر" كانت فصول الجماهيرية الوليدة تتقوّض من دون درايته. وما إن شرع كتابة في الفصل الثاني منه المسمى بالرُكن الاقتصادي حتى زحفت الجماهير على المحلات التابعة للتُجّار والمُلاك الكبار وأمعنوا في إهانتهم على شاشة التلفزيون ليعترفوا بجرائم الفساد والاحتكار والرشوة التي لم يرتكبها الكثير منهم. طرحت "اللجان الشعبية" نفسها كطليعة ثورية لقيادة الجماهير وتحقيق الفردوس الأرضي الذي يحلمون به. ومع انحسار دور الجيش والشرطة أعلنت اللجان الثورية بأنّ "يدها أصبحت قوية وطويلة لسحق أعداء سلطة الشعب في الداخل والخارج" وتمادت في الإقرار بالتصقيات الجسدية لمعارضيها في الخارج بعد أن شرعوا بحملات إعدام كبيرة طالت الطلبة، والناشطين، والمطالبين بحقوق الإنسان. وصار لزامًا على الطلاب أن يذهبوا إلى المدراس كل يوم في زي الجنود، ويخضعوا للتدريب العسكري الصارم يومًا في كل أسبوع. وحينما شعر الأخ القائد بأن عجلة الحياة قد توقفت في عموم الجماهيرية سمح بمزاولة التجارة على استحياء، وعودة دوري كرة القدم، والسفر من دون موافقة أمنية غير أنّ هذه الاجراءات التخفيفيّة كلها لم تغيّر من رفض الشعب لـ "اللجان الثورية" التي كانت تنتعش اقتصاديا على حساب الجماهير العريضة التي تنوء تحت مسميات كثيرة مثل "الرفاق"، و "مواليد الفاتح"، و"الحرس الثوري" وما إلى ذلك.
إغلاق المقاهي وتحريم كرة القدم
كانت حملات الأخ القائد مستمرة، ففي أوائل السبعينات في أثناء "الثورة الثقافية" بدأت الحملة على المقاهي باعتبارها عادة برجوازية توفر أجواء مثالية للعطالة والنميمة والاسترخاء، كما حرّم كرة القدم بوصفها ماكينة لصناعة "النجومية" التي تحتكر الأضواء، و"أخذ يعصب رأسه، ويتحدث بإدغام وتغليظ للحروف" بينما كانت الجماهير تهتف: "علّم ياقايد علّمنا / كيف نحقق مستقبلنا". يصف البوسيفي سنة 1979م بالعام الكبير الذي شهد نجاح ثورة الخميني، وصعود صدام إلى المركز الأول في السلطة، واقتحام جهيمان العتيبي للحرم المكي، وغزو الاتحاد السوفييتي السابق لافغانستان فانهمرت الفتاوى وجاء المجاهدون من كل فجٍ عميق. تفاقمت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والنفسية للمواطنين في تسعينات القرن الماضي فانتشرت النكتة السياسية بسبب المكابدات النفسية التي تبحث عن متنفس لها. وحينما بلغ سمع الأخ القائد بهذه النكات الجريئة والخادشة للحياء أصدر القرار رقم 5 لعام 1991م معتبرًا فيه أن الإشاعة والإرجاف والنكتة المُغرضة أفعالاً حرّمها القرآن الكريم، وأنها تعتبر جريمة يحاسب عليها القانون لكن الليبيين أمعنوا في السخرية والاستهزاء، وأعلن الإسلاميون عن أنفسهم كقوّة مسلّحة فتناسلت الأحداث المحلية والدولية مثل حادثة "سجن بوسليم" وحادثة "لوكربي" وغزو صدام حسين للكويت الذي انبرت له قوات التحالف وأخرجته منها يجرّ أذيال الخيبة والخُسران بعد أن فرضوا عليه شروطًا قاسية مقابل بقائه في الحكم فخشي القذافي أن يكون المٌستهدف الثاني فأخرجوا له ملف لوكربي ووضعوه على الطاولة بهدف تقليم أظفاره. خاض القذافي حروبًا عبثية خاسرة مع تشاد التي خسر فيها 7 آلاف جندي ونصف مليار دولار بحسابات ذلك الزمان، ثم انسحب منها سنة 1987م واستولوا على الشريط الحدودي محل الخلاف عبر التحكيم الدولي بينما كان حسين حبري يستعرض الأسرى الليبيين في العاصمة بطريقة مُذلّة. ولكي ينتقم من الجيش الليبي كتب القذافي في صحيفة "الزحف الأخضر" مقالا بعنوان "الجيش . . . حشيش وطيش" منكِّلاً به وبمواقفه الوطنية محولاً إياه إلى وعاء يدّرب الشعب على السلاح. وحينما حدثت محاولة انقلابية جديدة في أكتوبر 1993م أعدم فيها عددًا من الضباط فقرر الاستغناء عن هذه المؤسسة العسكرية وتهيئة البديل الذي تمثل بظهور الكتائب الأمنية التي حظيت بتدريبٍ عال، وتسليح ممتاز، يقودها مجرّبون في الولاء من الأبناء والأصهار، والراسخون في الثقة. في أبريل 1986م شنّ سرب من الطائرات الأمريكية غارة على بيت القذافي وقيل إنها قتلت ابنته وأصابت البعض من أفراد العائلة بعد أن وجهت له أمريكا وإنكلترا اتهامًا رسميًا بتفجير طائرة أمريكية وفرضت عليه حصارًا استمر لمدة سبع سنوات بعد أن وافق على تسليم المتهمين إلى محكمة دولية محايدة واعترف بالذنب الذي ارتكبه، لكنه توصل إلى نظرية من خمس كلمات مفادها:"الدين الوحيد للغرب هو المال". وحينما سقط صدام حسين وأدرك أن اللعبة قد انتهت أعلن بنفسه عن تخليه عن كل البرامج الكيمياوية والبيولوجية والنووية حيث فككها جميعًا وشحنها إلى أمريكا وطلب أن تعامله الولايات المتحدة مثلما تعامل جيرانه في تونس والجزائر والمغرب.
سباق وحشي لقمع التمرد
لم يكن بعض الأولاد أقل وحشية من أبيهم مثل الساعدي الذي ينتمي إلى فصيلة عدي صدام حسين، والمعتصم الذي ترأس مجلس الأمن القومي، وخميس الذي اتخذ من الجيش مهنة له، وأسس اللواء 32 المُعزز، فيما ظل سيف الإسلام كنموذج مختلف عن البقية وسوف يأخذ على عاتقه مغازلة الغرب والحوار معه. أما هانيبال الذي رأس النقل البحري لكنه ظل شرسًا، وغارقًا في الملذات، ومنتهِكًا للقوانين حتى أن الحكومة السويسرية سجنته بسبب تجاوزاته المستمرة فأفسدت العلاقة بين الجماهيرية الليبية وسويسرا لبعض الوقت. وعندما انطلقت ثورة فبراير أطلق الأب أبناءه في سباق وحشي لقمع التمرد بأسرع وقت وستكون ولاية العهد لمن يفوز في هذا السباق الذي قصم ظهر البعير. على الرغم من أنّ الأخ العقيد الذي درس التاريخ وأحبّه قد مُنح العضوية رقم 1 في رابطة اتحاد الأدباء والكتاب الليبيين إلاّ أن العديد من الأدباء تعرّض للسجن والتعذيب وأُتهم البعض منهم بالشيوعية لأنه كان يمتلك سيارة حمراء أو يرتدي قميصًا أحمرَ أو يحمل عكازة تشبه عكازة لينين فغيّبهم في السجون لمدة عشر سنوات. ومع ذلك فقد حلّ الاتحاد وحوّله إلى رابطة اجتماعية لأنه لا يحبّذ ظهور النجوم سواء أكانوا رياضيين أم فنانين أم أدباء. وقد خسرت الثقافة الوطنية ثلاثة أدباء موهوبين جدًا عندما غادروا الوطن إلى المنافي كي لا يدخلوا في علاقة عدائية مع الرئيس الذي لا يحبّذ شهرة الآخرين من أمثال النيهوم والكوني والفقيه.
بثّ الإعدامات في ساعة الإفطار
عارض البعض نظام القذافي وأسس الحركة الوطنية الديمقراطية الليبية لكن الاغتيالات ظلت قائمة على قدم وساق وطالت معارضين ليبيين في لندن وروما وألمانيا واليونان ولشدة قساوة الأخ القائد أمر أن تُبث الإعدامات في ساعة الإفطار. يخصص البوسيفي صفحات كثيرة يشرح فيها طبيعة العلاقة التي تكوّنت بين القذافي والرائد عبد السلام جلود، هذا الرجل الوحيد الذي يستطيع أن يقول "لا" للقذافي، فقد درسا معًا، وسُجنا معًا، ونفّذا الانقلاب معًا لكن هذه العلاقة الحميمة ستنتهي ذات يوم ليقف جلّود في الخندق المواجه للقذافي في ثورة فبراير حيث يصبّ جام غضبه على العقيد وسمّيه بالطاغية بعد 40 عامًا من تجبّره وغطرسته واستبداده الفريد من نوعه. وقد سُئل جلّود من قِبل أحد الصحفيين عن مكان القذافي في أثناء الغارة فأجاب متسرعًا:"لقد كان تحت الأرض" بينما أعلنت الإذاعة أنه قد أُصيب مع بعض أفراد عائلته، وتزامن ذلك مع اختفاء العقيد لمدة ثلاثة أيام ليرسل بعدها شريطًا مُسجلاً يطمئنهم فيها على سلامته لكنه كان يشعر في أعماقه بأنه مخذول وأن الجماهير قد خانته، وربما تشفّت به، وتركته وحيدًا، مُطاردًا يواجه مصيره المحتوم في مجارير الصرف الصحي على يد قوات المجلس الوطني الانتقالي التي وضعت حدًا لأوهام "ملك ملوك أفريقيا" الذي وعد شعبه بالجنة الأرضية فتحولت إلى جحيم لا يُطاق قبل أن تتحرر من الكابوس الثقيل الذي جثم على صدور الليبيين لمدة 42 عامًا بالتمام والكمال.
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أوراق من سيرة وطنيّة للدكتور أيمن جعفر الحسني
-
أجنحة في سماء بعيدة تقنية متطورة ومِكنة ملحوظة في البناء الم
...
-
قَرن من الأوهام القومية والدينية التي تتقاذف سفينة العراق
-
في أعماق الرجل البهي للروائية المصرية جمال حسّان
-
غايب، الحاضر الغائب . . شهادة بصرية أمينة لا تحتمل الرتوش
-
للحمار ذيل واحد لا ذيلان . . نويفلا لا يمكن قراءتها بعيدًا ع
...
-
جوائز الدورة الحادية عشرة لمهرجان مالمو للسينما العربية عام
...
-
انطلاق فعّاليات الدورة 11 لمهرجان مالمو للسينما العربية
-
وراء الباب الفيلم الروائي الطويل الأول لعدي مانع
-
حِصار نصٌ فنتازي يُحطّم توقعات القارئ ويقترح سرديّة جديدة
-
رؤوف مُسعد يشهد نُعاس البحر فيمشي فوق الماء
-
المُخرج جعفر مُراد يستعين بالتجريب ويراهن على النَفَس الحداث
...
-
كيف تُشاهد فيلمًا سينمائيًّا؟
-
أول دراسة نقدية موسّعة لرواية مستر نوركَه لنوزت شمدين
-
قصة السينما في مصر بين معايير الجودة والإخفاق
-
تشرين. . نص سردي يُمجِّد الانتفاضة ويتعالق مع التاريخ
-
حظر تجوِّل . . فيلم جريء يفضح المسكوت عنه، ويعرّي القضايا ال
...
-
العدد 6 من مجلة السينمائي . . احتفاء بالفنانة هناء محمد واست
...
-
تاركو الأثر. . حوارات مُطعّمة بالدُعابة وبلاغة التعبير
-
قصي عسكر: أكتب تجربة جديدة تتلخّص في العلاقة بين الشرق والغر
...
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|