|
هل يوجد مجتمع مدني في سوريا؟
جلال كامل نوفل
الحوار المتمدن-العدد: 7038 - 2021 / 10 / 5 - 18:37
المحور:
المجتمع المدني
هل المجتمع المدني واقعة تاريخية في سوريا المعاصرة/ الحالية؟ IS CIVIL SOCIETY A HISTORICAL FACT IN CONTEMPORARY/RECENT SYRIA? في 1991 وصلني عدد من مجلة social sciences مجلة أكاديمية العلوم السوفيتية وكان فيه مقال: Civil society and the democratization process in the Soviet -union- وركز في أحد محاوره على العطالة الاجتماعية social inertia" " الموروثة من طريقة الحكم السابقة ودورها في إعاقة "العملية الديمقراطية الجارية" وكيف أن ذهنية التصويت بالإجماع في الحزب الشيوعي تلغي المسؤولية الفردية وتضيع المسؤولية الجماعية وإفلات الجميع من المحاسبة وتحرم المجتمع من المبادرة. وأن السلطات الستالينية والستالينية المحدثة قضت على المجتمع المدني السوفييتي وأن استعادة دور المجتمع المدني ضرورة لسير الدمقرطة والمبادرة الاجتماعية وتعطيل مفاعيل العطالة الاجتماعية الموروثة. مع انهيار الكتلة السوفييتية امتلأ سوق الثقافة والنشاط الثقافي بدراسات عن الدولة الشمولية وتدميرها للمجتمع المدني وانطلقت ما عرفت باسم الموجة الثالثة للديمقراطية وفيض دراسات المجتمع المدني كمقولة نضالية وليس كمفهوم تاريخي فحسب. كانت بعض قراءات مفهوم المجتمع المدني جزء من عملية صياغة أيديولوجية للمفهوم تسعى لفتح أفق سياسي مسدود، أو/وتواجه في الآن نفسه خطاباً إسلامياً يتمدد، و/أو تسعى لتحريك عطالة اجتماعية عانت منها مجتمعاتنا المخنوقة بالاستبداد. كما كان في بعض استحضار المفهوم افتراض تماثل تطور مجتمعاتنا مع مسار ومآلات المجتمعات الأوربية، فصارت تبحث عن "نوى مجتمع مدني"* في ظل دولة البعث، أو سعت لتأسيس جمعيات تنادي بالمجتمع المدني أو تناصره. أو لفقت اسم المجتمع المدني على بنى وترابطات تواجدت في العصور الإسلامية للاستفادة منها حاضراً " الوقف الإسلامي مثلاً والحسبة في قراءات معاصرة لهما". في سياق الانتفاضة/الثورة وبعد هزيمتها خاصة، وتفسخ سوريا وتشتت السوريين/ات، أُطلق اسم منظمات مجتمع مدني على العديد من تجمعات وهيئات شكلها سوريون وسوريات. وقد أثارت هزيمة الثورة وعقابيلها أسئلة من قبيل: هل هناك مجتمع سوري أم مجتمعات سورية؟ أم أن المشكلة هي في غياب المجتمع المدني فلا بد من قيامه صوناً لسوريا والذاكرة الجمعية للسوريين؟ وهل شماتة قطاعات من السوريين بمصائب (من صنع البشر أو الطبيعة) تحل بقطاعات أخرى من السوريين تنعي وجود مجتمع سوري أصلا وليس تشقق نسيجه بفعل قوى طائفية فحسب؟ قد يكون الإيمان بمجتمع مدني سوري مطمئناً لبعض السوريين، لكن الاتكاء على مفاهيم مشوشة قد يدفع لخطوات لا تقوم على سند اجتماعي واقعي؛ ما يهدد بتعثرها وربما سقوطها. مع التأكيد على ضرورة تعاقدات مجتمعية جديدة لإعادة بناء ما تهدم من الرأسمال الاجتماعي السوري وتأسيس مجتمع مدني سوري في دولة وطنية/مدنية سورية على أنقاض سلطات الاستبداد والاستعباد المتسلطة على السوريين، لابد من التأكيد أن النقاش حول المجتمع المدني يتحرك باستمرار على سكتي الدولة والمجتمع معاً. تقوم مشاركتي في هذا النقاش على عدم المشروعية النظرية للكلام عن مجتمع مدني بغياب دولة مدنية؛ كون معظم الدراسات الاجتماعية الرصينة تشير لافتقاد سوريا المعاصرة لدولة مدنية ولمجال عام** يسمحان بقيام مجتمع مدني بالمعنى المعاصر. وفي هذا المسعى سأحاول تتبع حركة الكيان السوري لاجتماع السوريين المعاصرين في ظل الدولة السورية منذ سقوط الدولة العثمانية، وهل تصح على اجتماعهم تسمية مجتمع مدني في أي مرحلة. في الدولة والدولة المدنية تنتج المجتمعات هيئات تدير شؤونها ومنها الدولة- فلا يوجد تصور لإدارة المجتمعات الحديثة دون دولة، ثم تصبح الدولة أداةً أساسية لإعادة انتاج المجتمع وتنظيم وظائفه. وفي سياق تطور الرأسمالية في المجتمعات الأوروبية كانت الدولة المدنية ومجتمعها المدني أحد أشكال تطور المجتمعات والدول في التاريخ الحديث والمعاصر. يداعب الفكر أحياناً الاتكاء على المقولات الخلدونية عن الدولة والعصبية في فهم تطور الدولة/ المجتمع العربيين نشؤاً ومآلاً؛ باعتبار بلادنا فوتت فرصة الحداثة، فظلت تقوم على كل عناصر الدولة السلطانية وأدواتها في ممارسة الحكم والعلاقة بـ "الرعايا" موظفة مقدسات الأديان والطوائف وعصبيات القبائل والعشائر في خدمتها في إدارة المجتمع والتحكم به. لكن للمجتمع الحديث ودولته حكاية مختلفة ووظائف مختلفة ومقولات تصف ذلك وتفسره سأحاول استعراضها بإيجاز. في تاريخية المفهوم بداية لابد من تمييز المجتمع الأهلي عن المجتمع المدني المعاصر. المجتمع الأهلي يترابط بروابط أهلية communal ties؛ روابط تجمع المجتمع في غياب منظومة واضحة من الحقوق والواجبات وغياب سياسة اجتماعية. فهو ذو طابع قرابي عصبي، وانتماء الأفراد إليه لا تحدّده إرادتهم الحرّة بل رابطة الدم أو الانتماء العرقي أو الديني أو الطائفي، وللمؤسسات التقليدية القرابية فيه سلوك وثقافة متوارثان، فالانتماء إليها إرثي لا طوعي، وليس للفرد حتّى الاختيار ليكون من هذه الطائفة أو تلك القبيلة أو ذلك الدّين، واستبدال هذا الانتماء يستتبع تعرضه للنبذ الاجتماعي أو القتل في بعض الأحيان. قد تلعب الروابط الأهلية والبنى العضوية الجمعية (عائلة، قبيلة، عشيرة) أدواراً مهمة في مواجهة قوى مهددة لهذه المجتمعات وروابطها كالاستعمار (وربما الدولة المفروضة عليهم أحياناً)، لكن ذلك لا يجعل منها "نوى مجتمع مدني"؛ فلا الفرد فيها مستقل ولا علاقاتها اختيارية ولا طوعية ولا تعاقدية. وربما يكون دافع مواجهتها للدولة، كبنىً وأدوات مجتمعية، هو تهديد "بقاءها الأهلي" عبر مسار التمدين وإنشاء سياق المواطنة وسيادة القانون باتجاه الدولة المدنية. أما المجتمع المدني civil society فيحمل في طياته المكونات والوظائف التالية: - مدينة أو تمدن، المدينة حيث يجتمع الأفراد للعيش معاً استجابة لعوامل مختلفة - يحتضن مفهوم المجال/ الشأن العام فسيرة المجتمع المدني تتلازم مع وجود مجال عام تعاش فيه تناقضات ونزاعات مصالح وهيمنة، وتطور سوق تتأسس فيه علاقات مادية تؤسس لالتزامات وحقوق. - يرتبط المجتمع المدني بأواصر مدنية لا بعوامل "سياسية" أو أيديولوجية. - ينظم تواصل الناس وعلاقاتهم قوانين التمدن في إطار أمن نسبي لحدود الأراضي توفره الدولة المنبثقة عن اجتماعهم وتواصلهم. - يتعاقد الناس فيه اجتماعياً فالعقد الاجتماعي والقانون بجعلان العلاقات متوقعة وبالتالي تكون شروط التواصل آمنة للتشارك والاختلاف والتعبير. - يتمتع بالاستقلال عن سلطة الدولة، استقلالية مالية، تنظيمية وإدارية، والاستقلال لا يعني، بالضرورة، القطيعة. - المجتمع المدني حافل بتناقضات وفي سياق تناقضاته ونزاعاته ينتج الحاجة لقانون/عقلlogic للمجتمع يحميه من ضراوة الصراع وتدميره، ما يقتضي ويحتم قيام دولة/ضابط كوظيفة خارجية له. لقد كان تطوّر مفهوم المجتمع المدني متماهيا بشكل كبير مع التطوّر الذّي عرفه تطور المجتمع وشكل الدولة ويكاد يُجمع الباحثون أنّ التطوّر البنيوي الذّي شهده كلاهما كان بفعل التفاعل المستمر بينهما - تعاونا ومواجهة- منذ زمن النشوء، فالعلاقة بينهما إذن، علاقة وظيفية ضرورية لا يمكن أن يؤدي أحد الطرفين دوره الفاعل الذّي ينبغي أن يضطلع به في غياب فاعلية الطرف الآخر. فالمجتمع المدني يُعّد ضرورة للدولة والمجتمع الحديثين على حدّ سواء باعتباره يمثّل (حلقة الوصل الوظيفي بينهما، الحامل لآمال الشعب، الساهر على رشادة السلطة) وعامل تماسك للدولة المدنية ونجاح مهماتها. سأحاول إيجاز نشوء المفهوم تاريخياً ونظرياً وتطوره في بيئته الأوربية/ الرأسمالية: جان جاك روسو ( 1712-1778): انطلق جان جاك روسو من افتراض حال الفطرة الإنسانية " لأفراد منعزلين لا أخلاقيين"، ليصل إلى احتياجهم للتعاقد وتقديم تنازلات فيتماسك المجتمع المدني في عقد اجتماعي ب "رابطة أخلاقية" تجمعهم وتسمح لهم بالمشاركة في الحياة السياسية للجماعة. وأوصله منطق بحثه لتوصلهم لإرادة عامة يحكمها القانون (تحمي الأفراد والجماعة من التدمير المحدود الناجم عن التعصب والإقصاء والتحايل) فبالإرادة العامة المحكومة/بالقانون تتكامل الأهداف والمصالح الشخصية ويخدم بعضها الأخر. "إن القوانين السليمة تؤدي إلى سن قوانين أفضل أما القوانين السقيمة فتولد القوانين الأسوأ. وحالما يقول المرء مالي وشؤون الدولة تكون الدولة قد ضاعت" روسو "في مدينة حسنة الإدارة يسارع كل شخص باتجاه الجمعيات العامة، لكن أحداً لن يرغب أن يخطو خطوة باتجاه الجمعيات في ظل حكومات فاسدة" روسو ايمانويل كانت ( :(1724-1804 اعتبر ايمانويل كانت أن المجتمع المدني يقوم على أفراد مستقلين ذاتياً يخضعون أفعالهم للمعايير الخُلُقية الكلية. وهم يتفاعلون ساعين لمصالحهم الذاتية؛ فالمجتمع المدني المحمي بحكم القانون والحقوق والحريات المدنية يعبر عن قدرة أعضائه الخلقية العامة والمتساوية. فالاستقلال الذاتي الخُلُقي للأفراد يتطلب فضاء محمياً يتمكن الناس أن يقرروا فيه أفعالهم بحرية، فلا حرية من دون قانون، ولا مجتمع مدني من دون دولة مدنية/ قانونية (تقوم على القانون) تعامل الناس/ المواطنين على قدم المساواة. فعند كانت اقتضت "الفريضة المنطقية" لأفراد "المجتمع الخلقي/ المدني" فضاء محمياً بدولة قانونية/ مدنية جورج فيلهلم فريدريش هيغل ((1770-1831 نظرية هيغل عن المجتمع المدني هي في ذات الوقت نظرية عن الدولة؛ فالدولة عنده تختتم الضرورة المتحكمة بالمجتمع المدني التي تؤدي لتفاوتات (بؤس – ثراء)، لتكون "دولة عادلة" تنظم الحقوق والحرية والرفاه في كل منسجم يخدم الحرية؛ بالدولة المدنية تصير التبعية في المجتمع المدني اعتماداً متبادلاً فقد جعل هيغل وجود الدولة ضرورة لوجود المجتمع المدني، دون أن يولي أهمية لأسبقية أيّ منهما عن الآخر، فالمهم هو ربط وجود المجتمع المدني بوجود الدولة فإن لم توجد الدولة، تعم المجتمع الفوضى والتناحر كارل ماركس ((1818- 1883 في سياق نقد ماركس لمنظومة هيغل تلازم نقده للمجتمع مع نقده للدولة. فبدلاً من تطور العقل انطلق نقده لهيغل من أن العلاقات القانونية والأشكال السياسية (الدولة) يمكن فهمها في الشروط المادية للحياة (المجتمع المدني)، وبناء عليه لجأ لتشريح وتحليل المجتمع المدني البرجوازي في سياق دراسته للاقتصاد السياسي الرأسمالي في كتابه "رأس المال"، فقاده تحليل تلك العلاقات والشروط المادية وسياق تطورها التاريخي لنتيجة هامة: أن نشاط الدولة كان شرطاً ضرورياً لتوسع المجتمع المدني (الذي يتشكل عبر السوق الرأسمالي والعمليات الاقتصادية) " ما دامت الدولة هي الشكل الذي يؤكد أفراد الطبقة السائدة من خلاله مصالحهم المشتركة، ويتجسد فيه المجتمع المدني لحقبة معينة ككل؛ يترتب على ذلك أن المؤسسات العامة كلها تنشأ بفضل الدولة وتكتسب بذلك شكلاً سياسياً" ماركس الأيديولوجية الألمانية. فبحسب التكوين الطبقي في المجتمع المدني وعلاقات القوة السائدة بين الطبقات تتحدد علاقته بالدولة، فإن تمكنت طبقة معينة من فرض إرادتها على سائر الطبقات الأخرى تصبح الدولة مجرد تابعة للطبقة المسيطرة اقتصادياً والتّي خرجت من عباءة المجتمع المدني؛ فبنية السلطة السياسية تعبر عن طريقة تنظيم المجتمع المدني. وفي تحليله اللاحق لتجاوز النظام الرأسمالي رأى أن دمقرطة المجتمع المدني، بدءاً من فرض الإشراف الديمقراطي على عمليات السوق فيه وصولاً لتقليص شديد لها ثم لإلغاء هذه العمليات. فالتجاوز يتطلب استعمال سلطة الدولة البروليتارية، التي يجب أن تشيع فيه الديمقراطية؛ بذلك يتم السير على طريق إزالة شروط وجود التناحرات الطبقية وبتحقق ذلك تلغي سيادتها هي ذاتها بوصفها طبقة؛ مما يؤدي إلى زوال الحاجة إلى المجتمع المدني مع اندثار الدولة. أنطونيو غرامشي (1891- 1937): يشكل المجتمع المدني والدولة عند غرامشي منظومة سياسية تحتكر الدولة فيها السلطة المرجعية العامة authority (عبر مؤسسات) والقوة power (عبر أجهزة) تحقق بها السيطرة والسيادة والتحكم عبر القانون، أما المجتمع المدني فهو فضاء عام للتواصل، فيه أشكال لتعاون وتبادل العلاقات والمنتجات وفيه تتأسس مشروعية السلطة السياسية وحدود الرضا والهيمنة. فلا يقوم مجتمع مدني بوظائفه وعناصره دون دولة مدنية/قانونية تحدد الحقوق والواجبات؛ فيهما يصير الناس مواطنين وهي خاضعة للمساءلة والتداول والمحاسبة. من هذا التتبع لتاريخ نشأة ونمو المجتمع المدني ومفهومه منذ ايمانويل كانت وحتى غرامشي، أزعم أن المجتمع المدني هو وليد وصنو الدولة الحديثة وأن نعت المدني يشتق من مدنيتها لا مدنيته بذاته. هل للمجتمع المدني تاريخ في سوريا من تاريخ الكيان السوري والدولة السورية: {أقصد بالكيان الوجود التاريخي: entity} سوريا الحالية ليست كياناً أنتجته حركة وطنية وصراعات أمة لتشكيل دولتها، فبتتبع التسمية (سوريا) نجدها تتدرج من التسميات العثمانية أواخر القرن التاسع عشر لأقضية وألوية تتغير لتشمل أحياناً الشام ولبنان أو فلسطين أو لتنحسر مساحتها في قرارات أخرى. وذلك حتى 8 آذار 1920 عندما أعلن استقلال سوريا بحدودها الطبيعية شاملة لبنان وفلسطين وسوريا الحالية، ورفض وعد بلفور، وتطبيق مبدأ اللامركزية وإعطاء ضمانات خاصة في لبنان، وتكون الحكومة مسؤولة أمام المؤتمر السوري باعتباره مجلساً تأسيسياً، وأعلن الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على سوريا. من 1920حتى 1922كانت هناك دولة دمشق – دولة حلب – دولة العلويين – دولة لبنان الكبير ثم دولة جبل الدروز ولواء اسكندرون ولكل من هذه الدول عاصمة وحكومة مستقلة وبرلمان وعيد وعلم وطوابع، ثم تشكل " الاتحاد السوري" (اتحاد فيدرالي بين دول دمشق وحلب والعلويين) ليحدد قرار عصبة الأمم بانتداب فرنسا على سوريا الطبيعية 1922 سوريا + لبنان + الموصل وفقاً لما اتفق عليه سايكس وبيكو. واستمر ذلك حتى 1924حين ألغي الاتحاد السوري بأن تم فصل دولة العلويين وتشكلت سوريا من دمشق وحلب. واشتركت عدة "دول" بأشكال متفاوتة في الثورة السورية الكبرى 1925 دون تغيير مهم في رسم حدود الدولة السورية وصولاً لـ 1930 عندما جمعت سلطة الانتداب دمشق وحلب ودير الزور تحت اسم الجمهورية السورية لتوسعها في 1936شاملة دمشق وحلب وجبل الدروز واللاذقية ودير الزور. فلم يكن تشكيل وحدود الدولة السورية تلبية لمسارات وسياقات حركات مجتمعية واجتماعية بل لتجريب جهاز إدارة أنجع للانتداب ومقتضيات التحديث الذي ينشده؛ وباعتبارها كذلك جُعِلت وعاء خارجياً يحتوي النزاعات والمصالح المتضاربة يديرها و/أو يديمها. وتراوحت بنيةً ووظيفةً بين كونها دولة رخوة soft state: يحكمها الفساد وتجاهل حكم القانون وتغليب مصالح أفرادها الخاصة على المصلحة العامة-تفكك بدل أن تبني- وتدير "الدولة" بمواصفات دولة تسلطية authoritarian state تتركز السلطة فيها بقائد /فئة ليس مسؤولاً أمام الشعب دستورياً، وصولاً للاستعانة بآليات الدولة الشمولية totalitarian state في تدمير المجتمع المدني أو سحقه جاعلة الناس أقناناً للحزب لا مواطنين. تذرر الناس وتمنع ترابطهم إلا عبر الحزب ودولته. فيها يكون المواطن صالحاً عندما يكف عن الاهتمام بالشأن العام، وعدم السعي للتنظيم مع الآخرين في ميادين الحياة الاجتماعية، لأنها تدعي وتوهِم أن الدولة هي العائلة الواسعة فتلغي أصلاً استقلالية الميادين الاجتماعية بين العائلة والدولة (التي تعتبر مفهومياً مجالات المجتمع المدني). فمنذ حكم عبد الناصر المخابراتي في سنوات الوحدة مع مصر فصاعداً مع حكم حزب البعث الاستبدادي، سعت سلطة الدولة السورية للانتشار في كلّ مجالات الحياة المجتمعية، ما جعل هذه السلطة أداة مراقبة تقف عائقا أمام إمكانية تحرّر الأفراد واستقلال المؤسسات الاجتماعية، في إطار مشروع شمولي لـ” دولنة” المجتمع. ما عزز توظيف سيطرتها المطلقة لخدمة مصالح الفئة الحاكمة بدلا من تعظيم الصالح العام. كل ذلك أدى ويؤدي بدوره إما إلى منع تشكل و/أو تدمير مختلف بنى المجتمع المدني ومؤسساته، واستبعاد كلّ رمز مدني في مقابل استحضار مختلف الولاءات ما قبل المدنية والعصبوية من عشائرية ومذهبية ودينية طائفية، التي تيسر تسلطها واستبدادها. في ظل سلطة حزب البعث صارت كل المجالس المحلية والنقابات جزءاً من جهاز الدولة بل إن الكثير من " النقابات " أنشئت بقرارات من الحزب أو دولته " اتحاد الطلبة، اتحاد الشبيبة، الاتحاد النسائي، اتحاد الفلاحين، اتحاد الصحفيين" أو ألحقت بالحزب والدولة بقوانين ومراسيم لاحقاً. كما فكك الحزب ودولته كثير من الجمعيات والنقابات التي كانت مشكلة في سوريا أو ألحقها بأجهزته فقضى على استقلاليتها كجزء من سحقه للمجتمع ومنع تشكيل مجتمع مدني يؤسس لمواطنة يهددان تسلطه. ومارست تبعيث الدولة والمجتمع من المدرسة الابتدائية "طلائع البعث" ثم" اتحاد شبيبة الثورة" للمرحلة الإعدادية والثانوية ف"الاتحاد الوطني لطلبة سوريا" في المرحلة الجامعية وكلها، بالتعريف، منظمات رديفة لحزب البعث كما ثم تبعيث الكثير من الوزارات والإدارات في إطار مشروعها لتكون دولة شمولية لا تسلطية فحسب (كانت الدراسات العليا مثلا، تشترط عضوية حزب البعث وكذلك المدراء العامون وجهاز التعليم ومنتسبي وزارة الداخلية من المنتمين إلى حزب البعث الحاكم حصراً) وهذه معاملة تمييزية ضد مواطنين من تحصيل ضرائبهم تدفع رواتب الموظفين، بينما تحرمهم من التوظيف فيما يسمى مؤسسات الدولة، بهذا التمييز لا تحرمهم من حقوقهم فحسب بل تحرم نفسها من أن تكون دولة المواطنين لتصبح دولة البعثيين فقط بل سلطتهم الغاشمة. فصول في تبعيث/ تدمير الدولة والمجتمع في سوريا نماذج لتدمير ما كان من هيئات ونقابات مدنية نشأت في المجتمع السوري المعاصر وإعادة تدويرها لإلحاقها بالحزب والدولة التسلطية البعثية القضاء على استقلالية النقابات -أحد أهم مكونات المجتمع المدني المعاصر- حل النقابات المهنية عام 1981 التي كانت قد تشكلت مع تشكيل الكيان السوري، وتشكيل نقابات مهنية بعثية كما يلي: من تاريخ العمل المهني المدني للمحامين: صدر أول قانون لنقابة المحامين بتاريخ 14 أيار 1921 ونشر في جريدة العاصمة الرسمية، وجاء بأسبابه الموجبة أنه تم تشكيل نقابة للمحاميين من أجل متابعة حسن سير العدالة على أحسن وجه، والوقوف عند أي تجاوزات قد يقوم بها المحامون بما تتنافى مع مهمة مهنة المحاماة السامية وفي فترة الانتداب الفرنسي صدر القرار /2117/ 1930تحت عنوان (قانون المحاماة الجديد شروط مزاولة المحاماة)، ورغم وجود الاحتلال الفرنسي الا أن النقابة دافعت عن استقلالها بسلاح القلم، وبأدوات القانون السلمية ’ كالإضراب والامتناع عن المرافعة، وحيث أن فرنسا كانت تعتبر نفسها حامية القانون في العالم، فقد كانت تحترم ارادة المحامين وسيادة القانون، وبعد الاستقلال صدر المرسوم /51/ لعام 1952 ,وأحدث ثلاث نقابات في دمشق واللاذقية، وحلب. وكانت نقابة المحامين السورية سبّاقة في تكريس شعار استقلال المحاماة وعدم تغول أية سلطة عليها، الى أن بدأ الحدّ من هذه الاستقلالية منذ انقلاب آذار1963 وكان أهم اعتداء وتدمير لهذه الهيئة المدنية في 21/8/ 1981 صدر القانون رقم /39/ باسم (قانون تنظيم مهنة المحاماة) وفيه: المادة 3- نقابة المحامين تنظيم مهني اجتماعي مؤمن بأهداف الأمة العربية في الوحدة والحرية والاشتراكية وملتزم بالعمل على تحقيقها وفق مبادئ ومقررات حزب البعث العربي الاشتراكي وتوجيهاته المادة 4- تعمل نقابة المحامين بالتعاون مع الجهات الرسمية والشعبية في القطر العربي السوري وبالتنسيق مع المكتب المختص في القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي إن وضع المادتين 3و4يحيل النقابة عملياً إلى جهاز من أجهزة الحزب مما يفقد النقابة كل استقلال في القضايا العامة وسنجد هذه البنود في تدمير استقلالية ومدنية نقابتي المهندسين والأطباء أيضاً. من تاريخ العمل المهني المدني للأطباء: تنادى عدد من الأطباء لتأسيس نقابة فنية تجمع شمل العاملين في مهنة الطبابة بولاية حلب، ولتحقيق هذا الهدف عقدوا اجتماعاً في الرابع والعشرين من شباط عام 1927 وأُنشئت أول نقابة للأطباء في سورية في عام 1943. ثم قانون نقابة أطباء سورية لعام 1952. ثم قانون التنظيم النقابي للأطباء البشريين رقم /32/ الصادر بتاريخ 22/7/1974 المتضمن إحداث نقابة واحدة للأطباء تضم فروعاً في معظم المحافظات. ليأتي القانون رقم /31/ «التنظيم النقابي للأطباء البشريين» الصادر في 16/8/ 1968 لمادة 3: نقابة الأطباء البشريين تنظيم مهني اجتماعي مؤمن بأهداف الأمة العربية في الوحدة والحرية والاشتراكية، ملتزم بالعمل على تحقيقها وفق مقررات حزب البعث العربي الاشتراكي وتوجيهاته من تاريخ العمل المهني المدني للمهندسين: باشر المهندسون بتأسيس نقاباتهم في 1950 بتأسيس ثلاث نقابات للمهندسين وهي نقابة المنطقة الجنوبية ومقرها دمشق وتشمل محافظات حوران والسويداء وحمص وحماة، ونقابة المنطقة الشمالية ومقرها حلب وتشمل الحسكة، دير الزور، إدلب، الرقة، ونقابة المنطقة الساحلية تشمل اللاذقية وطرطوس ونظم ذلك المرسوم التشريعي رقم (19) لعام 1950 القاضي بتنظيم مهنة الهندسة في سورية ليأتي تدمير الطابع المدني المستقل لها بالقانون رقم 26 لعام 1981محتوياً نفس تعويذة المواد التي رأيناها مع تدمير نقابات المحامين والأطباء: المادة 3: نقابة المهندسين تنظيم مهني اجتماعي مؤمن بأهداف الأمة العربية في الوحدة والحرية والاشتراكية، ملتزم بالعمل على تحقيقها وفق مقررات حزب البعث العربي الاشتراكي وتوجيهاته المادة 4: تعمل نقابة المهندسين بالتعاون مع الجهات الرسمية والشعبية في القطر العربي السوري على تحقيق الأهداف التالية:( منها) 2- دعم القطاع العام وتعزيز دوره وحمايته كقطاع قائد للاقتصاد الوطني والمساهمة الفعالة في مشاريع التنمية 4- رفع شأن مهنة الهندسة والنهوض بمستواها العلمي لتفي بمتطلبات التنمية وتحقيق الاشتراكية وبناء المجتمع العربي الموحد 6- رفع سوية المهندسين معنوياً ومادياً والدفاع عن حقوقهم المتعلقة بمزاولة المهنة وتدعيم الروابط الفنية والثقافية والاجتماعية بينهم كإيجاد صناديق التوفير والضمان الصحي وتنظيم الجمعيات السكنية وإقامة الجمعيات الهندسية والأندية. من تاريخ العمل المهني المدني للفلاحين: تأسست في قرية دير عطية في ريف دمشق أول جمعية تعاونية فلاحية في سورية عام 1943 بهدف تحسن أوضاع الفلاحين فيها، وسجلت كشركة لعدم وجود قانون خاص بالتعاون يومها. و في 14/12/ صدر1964 المرسوم /127/القاضي بتأسيس الاتحاد العام للفلاحين، ليلحقه بالحزب والدولة وأجهزتهما ثم عدل بقانون التنظيم الفلاحي 21 لعام 1974 الذي ينص في المادة 5 على: يشمل نشاط التنظيم الفلاحي جميع مجالات النشاط الفلاحي النقابي والإنتاجي التي تتطلبها حاجات المجتمع ضمن إطار خطة الدولة وسياستها العامة و بصفة خاصة ما يلي: 1- نشر وتعميق الوعي الطبقي وترسيخ النضال القومي الاشتراكي والتأكيد على ضرورة وأهمية تنظيم الفلاحين لتطوير الإنتاج وزيادة الدخل القومي وتحسين أحوال الفلاحين الاقتصادية والاجتماعية و الثقافية و الصحية والسهر على قيامها بواجباتهم 2- إحلال العلاقة الاشتراكية محل سائر الانتماءات والعلاقات المرضية الأخرى وكذلك تعريف الفلاحين بدورهم النضالي الأساسي في الثورة على واقع التجزئة والتخلف والاستعمار وبناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد
3- مكافحة البيروقراطية بتوعية وتوجيه الفلاحين لتنفيذ القوانين المتعلقة بتطوير الريف عن طريق تنمية ممارسة الرقابة الشعبية على الأجهزة ذات العلاقة بالمنظمة وكذلك مكافحة العادات التي تضر بأهداف المنظمة ,4- المساهمة في تحقيق الثورة الزراعية وإدخال واستخدام الأساليب الحديثة في الزراعة وحماية العمل والإنتاج باعتبارهما ثروة قومية والعمل على تطويرهما وتوسيعهما باستمرار ,5- إدخال الأساليب المتقدمة والمباريات في العمل والإنتاج وصيانة وتعزيز الملكية الاشتراكية والمشاركة في إعداد الكوادر الفلاحية المختصة 6- الإسهام في دعم الصناعات الريفية والبيئية بالتعاون مع الأجهزة المختصة. من تاريخ العمل المهني المدني للعمال: تأسس الاتحاد العام لنقابات العمال في سورية سنة 1938، لكنه صار في ظل سلطة البعث أحد أجهزة الحزب ودولته. ففي عام 1964 صدر قانون التنظيم النقابي في الجمهورية العربية السورية ليلحق الاتحاد العام لنقابات العمال بحزب البعث بهذه الصياغة: للعمال الذين يشتغلون في مهنة أن يشكلوا نقابة هادفة تعمل على: أ - تحقيق أهداف الشعب العربي في الوحدة والحرية والاشتراكية ب - حماية العمل والإنتاج باعتبارهما ثروة قومية، والعمل على تطورهما وتوسيعهما والارتفاع بهما إلى مستوى كفاية السوق المحلية والمنافسة العالمية ج- المساهمة في إعداد اليد العاملة إعداداً مهنياً فنياً يمكنها من تحمل مسؤولياتها القومية في معركتي العمل والإنتاج د- رعاية مصالح العمال المادية والأدبية والصحية والاجتماعية والدفاع عن حقوقهم والسهر على القيام بواجباتهم ورفع مستوى وعيهم القومي والمهني ليضاف في 1968: إدخال الأساليب التقدمية والمباراة الاشتراكية في العمل والإنتاج ومكافحة البيروقراطية وصيانة وتعزيز الملكية الاشتراكية العامة. تصفية العمل الخيري والاجتماعي: تمت مصادرة عمل الجمعيات الخيرية بالمرسوم التشريعي رقم / 224 / تاريخ 21 / 9 / 1969ثم بقانون تنظيم الجمعيات الصادر عن وزير الشؤون الاجتماعية والعمل في 1 / 12 / 1973.ومن ضمن البنود التي سعت لإلحاقها بأجهزة الدولة: مادة 23 - يجب إبلاغ الجهة الإدارية المختصة بكل اجتماع للهيئة العامة قبل انعقاده بخمسة عشر يوما على الأقل وبالمسائل الواردة في جدول الأعمال. وللجهة الإدارية أن تندب من يحضر الاجتماع. كما يجب إبلاغ الجهة الإدارية بصور من محضر اجتماع الجمعية خلال خمسة عشر يوما من تاريخ الاجتماع (وكانت لتلك الجهة الإدارية المختصة وظيفة أمنية أو حزبية/ أمنية). مادة 26- 2-للجهة الإدارية المختصة أن تعين بقرار منها عضواً أو أكثر في مجلس إدارة الجمعية (عادة عناصر أمنية) وتحدد صلاحياته وتعويضاته في قرار التعيين على أن يكون العضو المعين من موظفي وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل. في فترة لاحقة صارت الجمعيات الخيرية من نشاطات تبييض التاريخ و/أو الأموال لرجال ونساء السلطة واستعراضهم/ن الاجتماعي (خدام، مخلوف، ...) في عصر الأسدين نشأت بعض المنظمات غير الحكومية المعاصرة، وشغل قيادتها أبناء الطبقة الوسطى، وكانت تطمح لتجاوز العمل الخيري باتجاه التأثير في سياسات الدولة في مجالات جزئية مستمدة هامش حركة يستند على بنى تقليدية أكثر من استنادها لحقوق مدنية، دون أن تستهدف تغيير علاقة الحكم بالمجتمع وسياسته العامة. اتسمت معظم تلك المنظمات بتجانس في التركيب والمستوى الثقافي والمواقف/ الأيديولوجية، ما فسح في المجال لتطور اوليغاركيات صغيرة في ظل علاقات حميمية؛ جعلها فعلياً شكلاً من أشكال البنى الأهلية " دكان الحجي" تفشت فيها قضايا الفساد الإداري والمالي. وهذه كانت سمات منظمات غير حكومية إسلامية أو يديرها إسلاميون ملأت ساحة "العمل المدني" وصارت تنطق باسمه خاصة في الفترة المواكبة للثورة والتهجير. أما لجان الدفاع عن حقوق الانسان فقد تم قمعها واعتقال أعضائها قبل أن تبدأ بفعاليات مؤثرة (تشكلت 1989وتم اعتقال أعضائها وتصفية اللجان1991) ولم يكن مصير اللجان والجمعيات المهتمة بحقوق الإنسان في عهد الأسد الابن بأقل بطشاً من عهد والده فكلاهما يذبح المجتمع بـ{قانون حماية الثورة رقم 6 لعام 1964: تجريم كل من يناهض أهداف الثورة وكل من يقاوم تطبيق النظام الاشتراكي بالقول والكتابة أو بالفعل ومعاقبته بالسجن، وصولاً لمدى الحياة أو الإعدام.} يضاف لمظاهر غياب الطابع العام المدني للدولة البعثية السورية توظيفها موارد الدولة لصالح حيز خاص (عدم ادراج النفط كأحد مركبات الدخل الوطني، والمسؤولية المباشرة لعائلة الأسد عن تهريب الآثار وتحصيل خواتٍ من المستثمرين بدل ضرائبَ تعود للخزينة العامة، وإرغامهم على شراكات برؤوس أموال المستثمر وحمايتهم للمستثمر من "تدخل الدولة". وتحويل عائدات كل ذلك للعائلة الحاكمة وأقاربهم وكبار خدمهم). كما يندرج في سياق الغياب عدم خضوع مسؤوليها للقانون- لغياب فصل السلطات أساسا- (فرئيس الدولة هو رئيس هيئات المحاسبة و/أو معين أعضائها في مناصبهم وولي أمرهم ونعمتهم)، كما أن أجهزة الأمن يمنع محاسبتها أمام المحاكم العادية بناء على: I-"قوانين " الدولة التسلطية السورية فوفقاً لقانون إدارة المخابرات المادة 16 - مثلاً- تمنع تحريك دعوى عامة بحق أي عنصر قبل الحصول على موافقة مدير الإدارة. II- تغول أجهزة الأمن على السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية وكمثال على ذلك: (علاقة جهاز الأمن السياسي بوزارة الداخلية) شعبة الأمن السياسي: تعتبر شعبة الأمن السياسي نظرياً إحدى وحدات وزارة الداخلية في سورية؛ إلا أن وزير الداخلية ليس هو من يقترح تعيين رئيسها، وإنما يتم تعيين الأخير بمرسوم من رئيس الجمهورية، وليس لوزير الداخلية أي دور في ذلك، كما لا يقوم رئيس شعبة الأمن السياسي برفع تقاريره الأمنية إلى وزارة الداخلية وإنما يرفعها مباشرة إلى مكتب الأمن الوطني أو رئيس الجمهورية أو إلى الجهات الأخرى الحكومية ورئاسة الوزراء دون المرور على وزير الداخلية. وكذلك الأمر بالنسبة لرؤساء فروع الأمن السياسي في المراكز والمحافظات، والذين يعينون من قبل رئيس شعبة الأمن السياسي بعد أخذ موافقه القصر الجمهوري دون أخذ رأي وزير الداخلية، بالرغم من أن معظمهم ضباط في وزارة الداخلية، ومن المفترض أن يكونوا تابعين لوزير الداخلية. وفي الحقيقة فإن شعبة الأمن السياسي هي من تراقب فعلياً وزارة الداخلية ابتداءً من وزير الداخلية وحتى أصغر عنصر فيها، ومن أكبر الوحدات الشرطية إلى أصغر وحدة شرطية. وهي من تقوم بتقييم أداء الوزارة ووحداتها وتقييم الضباط وصف الضباط والأفراد. كما يحق للشعبة من خلال فرع أمن الشرطة المركزي وأقسام أمن الشرطة التابعين لفروع الأمن السياسي في المحافظات استدعاء من يشاؤون من ضباط وصف ضباط وعناصر الشرطة والتحقيق معهم وتوقيفهم في حال وجود ما يستوجب ذلك من ناحية الفساد أو الاشتباه بالفساد أو بتهمة التديّن ومناهضة النظام؛ ، وذلك خلافاً لقوانين الوزارة وتعميماتها، فيما يخص المثول أمام جهة أمنية إلا بعد موافقة قائد الشرطة أو مدير الإدارة، حسب تابعية الشخص، الأمر الذي يؤدي إلى توليد مشكلات دائمة ما بين رئيس شعبة الأمن السياسي ووزير الداخلية والتي تؤثّر سلباً على عمل الجهتين.. يتم انتقاء منتسبي وزارة الداخلية من المنتمين إلى حزب البعث الحاكم حصراً، حيث نصت المادة (40) من النظام الداخلي للشرطة على أنه "يُحظر على عسكريي الشرطة الانتماء إلى الأحزاب والهيئات والجمعيات والمنظمات السياسية غير حزب البعث العربي الاشتراكي، كما يُحظر عليهم إبداء الآراء السياسية والحزبية الموجهة ضد مبادئ حزب البعث. خلاصات واستنتاجات بتحولها لدولة تسلطية ذات ممارسات شمولية، دمرت السلطة البعثية السورية ما كان ينشأ من أشكال تواصل مدنية في سوريا، تسعى لتشكيل تنظيمات وأشكال مجتمع مدني، فغاب المآل المدني/ القانوني للدولة في سوريا. كل ما مر يمنعنا من الحديث عن مجتمع مدني في الدولة السورية التسلطية البعثية كون أشكال التجمع فيها تفتقد وظيفتها التوسطية/الوسيطة مع الدولة السورية، إذ حولتها بإعادة تدوير سافرة إلى أدوات تخضع المجتمع للدولة التسلطية وتلحق الناس بأجهزة الحزب. فكانت الحصيلة من سياسات الدولة التسلطية السورية تذرير الأفراد وسيادة ذهنية "عدم التدخل بالسياسة" وتضخم أجهزة المخابرات وترهيب واعتقال وتعذيب كل من يتدخل بأداء الحكام أو ينتقد خارج الخطوط الحمراء، ما حطم استقلالية الفرد وانتمائه الاجتماعي- ولأن الانتماء حاجة للإنسان ككائن اجتماعي ، صار الشخص ينكفئ لأشكال أهلية وبنى عضوية تقليدية متخذاً منها "ملاذاً" من البطش والتذرير والتهميش الذي تمارسه الدولة التسلطية، وكانت النتيجة تعايش هذه البنى مع الدولة التسلطية، لتؤكد أنها ليست أشكالاً من المجتمع المدني؛ فالمجتمع المدني بنى وسيطة مع الدولة وليس ملاذاً منها. ولعل أبشع مظاهر غياب الدولة المدنية ومجتمعها المدني مواجهة " الدولة الأسدية" الشرسة للمجتمع الثائر ضد نهب وتسلط الطغمة القرابية الحاكمة وأجهزتها، وتعاملها معه تعامل الأسياد مع تمردات العبيد الذي تجلى بمواجهة بين الشعارين المعبرين "الحرية والكرامة" (لوقف مسار العبودية) و"الأسد أو نحرق البلد "الذي يوجز بدوره التعامل مع البلد كملكية لآل الأسد وقراباتهم وعصاباتهم. * (عند الحديث عن نوى المجتمع المدني في دولة البعث، يتوارد إلى ذهني تشبيه بعض علماء التطور وعلم الأحياء المقارن لقرد البونوبو أو قرد الجيبون بالإنسان، لكنهم يجمعون أنها قرود وليست في مراحل من تطورها باتجاه الإنسان. أمجتمع مدني في دولة البعث الأسدية؟؟!! ** المجال العام: نقاش جماهيري قائم على تفاهم أخلاقي وتعبير عن الانتماء والأفكار. فيه مشاركة ووعي وإقرار بالتناقضات والاختلافات، وابتداع أساليب للتعامل معها واقتراح للبدائل ما يؤدي لرأي عام وتوازن مصالح، في هذا المجال تتشكل المواطنة بما هي مشاركة بالحياة العامة تمارس فيها العضوية السياسية (انتخابات- ترشح- ...) في وضعية قانونية (دولة – حقوق وواجبات – حريات شخصية – حرية اجتماع وانتقال وتبادل معلومات بأمان – خصوصية وحرية تعبير واعتقاد – سماح بتشكيل تنظيمات مدنية ومقاومة سلمية – ومحاكمات عادلة لمواطنين متساوين أمام القانون) ما يسمح بتطوير الحرية والتنمية ربما يكون الجامع في فترة خلافة " الخلفاء الراشدين" حيث (أصابت امرأة وأخطأ عمر) وجدالات ونقاشات الملأ المكي قبلها (التي تمخض عنها دار الندوة المكية لإدارة شؤون "حكومة" قبائل المجتمع المكي ومصالحه الاقتصادية المتطورة والمتصارعة وتعبيراتها وتحالفاتها) شكلاً من أشكال المجال العام في تطور المجتمع المكي، قضي عليها لاحقاً مع تطور الدولة السلطانية في الإمبراطورية العربية الإسلامية.
مراجع ومصادر - الدولة والمجتمع المدني – ماجدة شاكر مهدي – مجلة كلية الأداب بجامعة بغداد- 2012 - أزمة المعرفة التاريخية: فوكو وثورة في المنهج – بول فيبين – ترجمة إبراهيم فتحي – دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع – 1993 - الدولة والمجتمع المدني.. حدود التأثير والتأثر 2016 - دراسة في التطور الفكري والتبلور النظري لظاهرة المجتمع المدني- جلال خشيب آمال وشنان - المجتمع المدني – التاريخ النقدي للفكرة – جون اهنبرغ – ترجمة: د. علي حاكم صالح و د. حسن ناظم - مراجعة د. فالح عبد الجبار – المنظمة العربية للترجمة 2008 - المجتمع المدني قراءة نقدية – عزمي بشارة – المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات – بيروت 2012 ط 6 - المقدس والدولة – علم الدين عبد اللطيف- دار الحوار للطباعة والنشر والتوزيع- الطبعة الأولى – 2016 - وزارة الداخلية في سوريا-الواقع وضرورات الإصلاح – مركز عمران للدراسات الاستراتيجية 2019 - http://arab-ency.com.sy/ موقع الموسوعة العربية - https://syrmh.com التاريخ السوري المعاصر
#جلال_كامل_نوفل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل يوجد مجتمع مدني في سوريا؟
المزيد.....
-
قصة عازفة هارب سورية، رفضت مغادرة بلادها خلال الحرب رغم -الا
...
-
قوات الاحتلال تقتحم قرية برقة بنابلس وتداهم المنازل وتنفذ حم
...
-
ألمانيا: قتيلان على الأقل وعشرات الجرحى في عملية دهس بسوق عي
...
-
الأردن يأسف لقرار السويد وقف تمويل الأونروا ويدعو لإعادة الن
...
-
بعد محادثات إيجابية.. أمريكا تلغي مكافأة الـ10 ملايين دولار
...
-
السعودية ترحب بتبني الأمم المتحدة قرارا بشأن إسرائيل
-
أهالي قرية معرية في ريف درعا يتظاهرون لإخراج القوات الإسرائي
...
-
10 ملايين دولار.. أميركا تلغي مكافأة اعتقال الجولاني
-
سوريا: واشنطن تلغي مكافأة مالية خصصتها لاعتقال الشرع وترحب ب
...
-
تقرير: مفاوضات تبادل الأسرى بين حماس وإسرائيل تدخل مرحلة الت
...
المزيد.....
-
أسئلة خيارات متعددة في الاستراتيجية
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|