داخل حسن جريو
أكاديمي
(Dakhil Hassan Jerew)
الحوار المتمدن-العدد: 7037 - 2021 / 10 / 4 - 09:09
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ثمة مثل شعبي متداول في موروثنا العراقي مفاده , " إذا طاح الجمل كثرت سكاكينه " , وكلمة طاح هنا تعني سقط أرضا , ويقصد بالمثل هنا أنه إذا ضعف حال إنسان ما وفقد هيبته ومكانته بعد عز شامخ , إنقض عليه الحاقدون والطامعون طعنا وتجريحا ونهبا لكل ما يملك حتى يردوه قتيلا لا حول ولا قوة له . ولا يقتصر المثل على حال الإنسان فقط , بل يضرب أيضا عندما تضعف الأمم ,تنهال عليها حراب جحافل الغزاة والطامعين بأرضها وخيراتها من كل حدب وصوب , طعنا ونهبا وتمزيقا . وهذا هو حال العراق اليوم الذي إنقضت عليه ضباع الأرض لتمزيقه أشلاءا دون رحمة , بعد أن ضعف وتخلى عنه كثيرون ممن عاشوا في كنفه وتنعموا بنعمه .
فها هم اليوم أحفاد العثمانيين الجدد يحاولون إعادة تاريخهم الأسود في العراق الذي دام قرونا, لم يجن منه العراقيون سوى الخراب والدمار , حيث يطالب حكام تركيا الجدد الآن كما تتناقل ذلك بعض وسائل الإعلام, بعائدية الموصل, وسط سكوت مطبق من حكام العراق وأوساطه الشعبية الغارقة في صراعات فارغة لا معنى لها . والمقصود بالموصل هنا محافظتي نينوى ودهوك , حيث كانتا محافظة واحدة حتى العام 1969 , عندما أستحدثت الحكومة العراقية يومذاك ,محافظة دهوك بإستقطاع بعض أقضية وقصبات محافظة الموصل , كجزء من متطلبات الكرد في إطار تشكيل منطقة كردستان للحكم الذاتي. وتطالب أيضا تركيا بضم محافظة كركوك ذات التركيبة السكانية المختلطة من العرب والتركمان والكرد, بدعوى عائديتها للدولة العثمانية قبل تشكيل دولة العراق الحديثة ,بعد أن تخلص العراق من الهيمنة العثمانية البغيضة التي دامت قرونا طويلة لم يجن العراق منها سوى الخراب والفقر والدمار.
وإذا أخذنا بالمنطق التركي السمج هذا بدعوى عائدية المناطق التي كانت يوما تحت الإحتلال العثماني , فأنه وفق المنطق نفسه نقول بعائدية تركيا بأكملها للعراق , حيث أنها كانت قرونا طويلة تحت حكم الدولة العباسية التي عاصمتها بغداد المعمورة, وبدلا من خرابها كما فعلت تركيا وسلاطينها بعراق الحضارة , جعلت بغداد من تركيا إمبراطورية عظيمة بعد سقوط الدولة العباسية . فهل يا ترى ستقبل تركيا بذلك ؟.
وبالعودة لمطالبة تركيا بالموصل , نقول أن مدينة الموصل كانت وما زالت وستبقى بإذن الله مدينة عراقية الروح والجسد , قامت فيها أعظم الحضارات الإنسانية , ويسكنها عراقيون أصلاء من العرب والكرد وأقليات أخرى , يعتزون كثيرا بعراقيتهم التي عبر عنها بوضوح أجدادهم عندما أجرت عصبة الأمم إستفتائها عام 1923 ,بطلب من بريطانيا الدولة المنتدبة على العراق وموافقة تركيا , لتحديد عائدية الموصل التي تطالب تركيا بإستقطاعها من العراق يومذاك , أو بقائها ضمن وطنها الأم العراق , حيث عبر غالبية سكانها عن عراقيتهم الأصيلة بكل عنفوان ودون أي تردد بأنهم جزء من العراق , نظرا للوشائج العميقة والروابط القوية بمواطينيهم العراقيين في مناطق العراق الأخرى , فضلا عن أن تركيا لا تعترف بحقوق القوميات الأخرى من المواطنين غير الأتراك لديها , وأنه من غير المسموح لهم التحدث بغير اللغة التركية في المعاملات الرسمية , بل أنها لا تعترف أصلا بوجود قوميات أخرى في تركيا , ولا تسمح لهم بتعليم أطفالهم في المدارس والمعاهد والجامعات بلغاتهم القومية بما فيهم العرب حيث يحرم التعليم باللغة العربية لغة القرآن الكريم , وهذه سياسة ثابتة سارت عليها الحكومات التركية العلمانية والدينية على حد سواء منذ تأسيس جمهورية تركيا وحتى يومنا هذا , على الرغم من دعاواها بتبني النظام الديمقراطي .
كانت الموصل ضمن ولايات الدولة العثمانية منذ أن استولى عليها السلطان سليمان القانوني عام 1534م . استمرت الهيمنة العثمانية على الموصل حتى نهاية الحرب العالمية الأولى, حيث تم تقاسم الولايات العثمانية العربية بين بريطانيا وفرنسا بموجب اتفاقية سرية عرفت باسم اتفاقية سايكس بيكو ، فكانت ولاية الموصل جزءاً من منطقة النفوذ الفرنسي. احتلت بريطانيا الموصل في 7 تشرين الثاني 1918 وذلك بالرغم من عقد الهدنة مع العثمانيين في 30 تشرين الأول. وبعد اكتشاف النفط في ولاية الموصل تمكنت بريطانيا من إقناع فرنسا بالتنازل عن الموصل في معاهدة سيفر سنة 1920، غير أن تركيا استمرت بالمطالبة بعائديتها حتى سنة 1925 عندما قررت عصبة الأمم عائدية الموصل إلى العراق طبقا للإستفتاء الشعبي لسكان الموصل الذي أجرته العصبة بإشراف كل من بريطانيا وتركيا ,وبذلك انضمت الموصل رسمياً إلى المملكة العراقية عند إعلانها في 3 تشرين الأول 1932 .
وحسب الإحصاء الذي أجرته قوات الاحتلال البريطاني عام 1920, بلغ عدد سكان سكان الموصل الذي كان يضم حسب التقسيمات الإدارية الحالية (محافظة نينوى ومحافظة دهوك وأجزاء من محافظتي أربيل وصلاح الدين) نحو ( 350378) نسمة , بواقع (244713 ) نسمة مسلمين سنّة (عرب وأكراد وتركمان) بنسبة ( 69.8% ) من إجمالي عدد السكان ، و(17180 ) نسمة من المسلمين الشيعة (تركمان) بنسبة ( 4.9% ) , و( 50670 )نسمة من المسيحيين بطوائفهم المختلفة بنسبة( 14.5%) ,و( 7635 ) نسمة من اليهود بنسبة (2.2% ) , و ( 30180) نسمة من بقية الأديان والأقليات المذهبية مثل الشبك والإيزيديين وغيرهم , بنسبة (8.6%).
وعلى الرغم من ذلك فقد اعتبرت الجمهورية التركية الحديثة, الموصل واحدة من القضايا المحددة في الميثاق الوطني التركي، وقال مصطفى كمال أتاتورك في اجتماع مجلس الأمة عام 1920: "حدود أمتنا، من الإسكندرون جنوباً، وفي الجنوب الشرقي تضم الموصل، السليمانية وكركوك". وقد كرر الرئيس التركي أردوغان أكثر من مرة , أن مدينتي الموصل وكركوك كانتا تابعتين لتركيا , وطالب أردوغان بتعديل اتفاقية 24 تموز/يوليو الموقعة في مدينة لوزان السويسرية في عام 1923، التي على أثرها تمت تسوية حدود تركيا القائمة حالياً. نشرت صحيفة «ديليليش» التركية المؤيدة لأردوغان، خريطة لتركيا تضم أجزاء من العراق وسوريا وبلغاريا، وكتبت الصحيفة عنوان على الخريطة: "هل هذه الأراضي مقتطعة من تركيا؟"، مذكرة بالميثاق العثماني لعام 1920 الذي يؤكد أن هذه الأراضي تعود لتركيا .من ذلك يتضح أن تركيا ما إنفكت تطالب بعائدية الموصل بين الحين والآخر كلما تأزمت أوضاعها الداخلية كما يبدو.
تقيم تركيا حاليا عدد من المعسكرات التركية داخل الأراضي العراقية ,بعلم الحكومة العراقية ويقال بموافقتها , بدعوى محاربة قوات حزب العمال الكردستاني التي تتخذ من بعض جبال سنجار منطلقا لشن هجمات عسكرية ضد القوات التركية داخل الحدود التركية. وتتمتع تركيا بعلاقات إقتصادية واسعة لصالحها , مع كل من الحكومة العراقية المركزية وحكومة إقليم كردستان العراق , على الرغم من بعض سياساتها التعسفية بحق العراق , وبخاصة في ملف المياه وحرمانه من حصته المائية المشروعة , الأمر الذي تسبب بتصحر الكثير من أراضيه بسبب شح المياه المتدفقة من تركيا دون وجه حق. وها هي اليوم يطالب بعض كبار قادتها جهارا نهارا بعائدية الموصل وكركوك ومناطق عراقية أخرى لتركيا , دون أن يستنكر ذلك أي من قادة الكتل والأحزاب السياسية العراقية ولا حتىى من ما يعرف بقادة الحراك الشعبي , وكأنهم غير معنيين بهذا الأمر. والغريب أن البعض يبدو إعجابه وإنبهاره بتركيا وما تحققه حكومتها لمواطنيها الأتراك , غير مكترثين لما ترتكبه هذه الحكومة من حماقات بحق العراق وما تسببه من دمار في بلدان عربية كثيرة , وهو ما ينبغي أن يكون محط إعتبار يعنينا نحن العراقيين من منطلق أن مصلحة العراق أولا وفوق أي إعتبار آخر.
وفي الختام نقول أن الموصل تمثل أحد ثلاث دعامات قام عليها العراق الحديث عند تشكيل دولته من ولايات بغداد والبصرة والموصل , وأنها أحد أهم مرتكزات نهضته الحضارية الحديثة , حيث برز منها أشهر علماء العراق ومبدعيه ومفكريه الذين أثروا الثقافة العراقية, وتعرضت الموصل لنكبات وفضاعات يندى لها جبين الإنسانية , على أيدي الجماعات الإرهابية التكيفيرية والعصابات المسلحة , لجديرة حقا بمناصرتها ووضع حد لمعاناة أهلها الطيبين وإنتشالهم من حالهم المزري الذي وجدوا أنفسهم فيه دون ذنب , إذ لا معنى لعراق ما لم تكن فيه الموصل الحدباء شامخة عزيزة بأهلها . ولعل أضعف الإيمان أن ترتفع أصوات الخيرين من جميع العراقيين بمختلف قومياتهم ومعتقداتهم وأديانهم وطوائفهم وتوجهاتهم السياسية , ضد الدعاوى التركية القديمة الجديدة المطالبة بضم الموصل الحدباء أم الربيعين إليه , وشجبها على أوسع نطاق وبكل الوسائل الممكنة. ستبقى الموصل مدينة عراقية عزيزة ودرة في جبين العراق إن شاء الله.
#داخل_حسن_جريو (هاشتاغ)
Dakhil_Hassan_Jerew#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟