عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 7032 - 2021 / 9 / 28 - 23:53
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
العقل الجمعي ظاهرة وتكوين
العقل الجمعي في مجتمع ما يمثل شكل من أشكال الضمير الفاعل أو الحاضر في القيم الفوقية الحاكمة للمجتمع وإنعكاس على راهنية الثقافة والمعرفة الاجتماعية , وليس بالضرورة أن يكون هو معيار التفاضل أو النتيجة الأصح أو المناسبة للواقع بصفته الإيجابية , قد يكون العقل الجمعي خاضعا لسطوة بعض العقل الفردي ومنحازا له نتيجة القهر والاستلاب المغلف أما بالخوف أو بالقداسة أو تحت سطوة العبودية للحاجة , العقل الجمعي هو إفراز لنظام أجتماعي يصنعه العامل الضاغط على قوة المحرك الأجتماعي ويسيره في الطريق الذي تختاره السلطة العقلية المهيمنة قبال ضعف وتخاذل القوة الجمعية لما يعرف بالقاعدة المطيعة أو الخاضعة لها .
في المجتمعات التي تختفي فيها ظاهرة التميز الفردي القائم على أستقلال الفكر وإشاعة المعرفة وظهور مفهوم العدالة والمساواة تتحول ظاهرة العقل الجمعي من شكلها العرضي إلى دائرة الفهم الطولي العمودي في تكوينه وفي تأثيره العام على أفراد المجتمع , عكس المجتمعات المنغلقة والتي نخض فيها الشخصية الجمعية إلى نحو ما تسيره العقلية الفردية المتسلطة والتي غالبا ما تستخدم الجهل والقوة والقداسة طريقا لصياغة توجهات العقل الجمعي ورسم مدارته , في جميع الحالات علينا أن نفرق بين مفهومين مهمين لتحديد العقل الجمعي بناء على ثبات وتحول الصيغة التأثيرية والمؤثرة له .
هناك ما يسمى بالقواعد العامة والرأي العام القيمي للمجتمع وهو الذي لا يتغير سريعا ولا يتبدل بسهوله لارتباطه ونتاجه أصلا من القيم الفوقية العاملة سواء أكانت تلك القيم فكرية أجتماعية أو متعلقة بالحاجات ونظام الأنتاج والعمل الأقتصادي , هذا الطراز أو النوع من العقل الجمعي كثيرا ما يخضع الفرد إلى ما يسمى بالأسر الأجتماعي القيمي (الظاهرة الأجتماعية الضاغطة) ويجعل منه فرد خاضع لا يمكنه الخروج من دائرة التأثير إلا بالتمرد أو الثورة ,على العكس من الظاهرة الأجتماعية المتولدة من تأثيرات التفاعل الآني أو الوقتي الذي يجعل من الفرد منغمسا بها ويخضع بذلك من حيث لا يعي قوته العقلية للعقل الجمعي الانفعالي وخاصة عندما يتعلق الأمر بحالة ذهنية تشاركيه منفعلة تحت تأثير قوة العاطفة أو العقيدة الدينية مثلا أو في حالات الهوس الجماعي .
يحلل دوركايم الحالة السابقة وفق العقل الجمعي وتأثيره على الأفراد ، فخلال الظاهرة الإجتماعية يبرز هذا العقل ويقوم بإشعاع قهره وتأثيره على عقول الأفراد الخاصة كما يتبين حين انفصالها وانصرافها عن بعضها البعض ,في مباريات كرة القدم مثلا أو في الطقوس الدينية التشاركية مثلا نجد أن العقل الجمعي المتكون هنا ليس عقلا واقعيا يتصرف وفقا لقواعد عملية , بل يتشكل تحت تأثير عاطفة المناسبة وأحيانا يتيه تحت تأثير الفاعل المثير دون أن يتحسس الخطأ أو الصح وهذا ما يساهم بشكل أو بأخر بخلق مفهوم الغوغاء أو الهوس القهري المصاحب لحدث لوجود الظاهرة المؤقتة , لكن ما يسجل أيضا أن بمجرد أنتهاء المؤثر يعود العقل أولا لقواعد العقل الجمعي الدائم ويلتزم بأحكام الذوق والأخلاق والمثل المرعية وبالتدريج يعود أيضا لأحكام العقل الفردي المسير للشخصية الذاتية الفردية .
السؤال المطروح هنا يتعلق بقضيتين مهمتين حول دور الفرد في صناعة الوعي الجمعي ودور المجتمع في إلجاء الفرد لخضوعه لهذا الكائن الذي يعتبره البعض حقيقة مستقلة عن المجتمع وكائن معنوي ولكنه واقعي منفصل عن قاعدته لكنه يولد بوجودها ,الأمر أذن يتعلق بمفهوم الأصل والأصالة في الوقت الذي يجب التفريق بين أصالة العقل الفردي في تكوينه ومشاركته في تأسيس الوعي والعقل الجمعي كما عند مرتضى مطهري مثلا , نجد آخرين يؤيدون في دراساتهم نظرية أصالة الوعي الجمعي وخضوع العقل الفردي في تشكله ونضجه ونظامه العملي للعقل الجمعي الأجتماعي بصفته ظاهرة أجتماعية .
لقد افترض دوركايم العقل الجمعي كشيء موضوعي ناتج عن دمج وتجاذب النفوس الفردية بعضها بالبعض ألآخر فهو كائن نفسي جديد ، أو ان له شخصية نفسية من جنس جديد وبذلك يتميز الشعور الجمعي عن الشعور الفردي كلياً ، وان قوانين الأول تختلف عما لدى الثاني فالكل هنا لا يمثل مجموع الأجزاء بل شيئاً آخر تختلف خواصه عن الخواص التي تحمله أجزاؤه الداخلية ,دوركايم ينفي أصالة العقل الفردي ويرى أن العقل الجمعي هو كائن موضوعي منفصل تماما في قيمه وأعتباراته وحدوده , والحقيقة التي يجب التأكيد عليها أن عملية التأثير لا والتأثر بين العقل الفردي والجماعي تخضع لاعتبارات عديدة ولكنها في الأخر كلاهما جزء من منظومة واحدة تتشكل بمجرد أرتباط عقل بعقل ووجود بوجود , فهي تنتج عن التواصل ولا يمكنها أن تتولد من خلال الوجود الفردي فينتفي التفضيل بينهما لأن النتيجة التي نتوصل لها دوما هي حقيقة أن المجتمع حالة فلكية تنمو حول نقطة جوهرية مركزية تؤثر في الجذب المركزي للنواة كما تؤثر الحالة الفلكية في إظهار فاعلية المركز والمحيط في تكوين الظاهرة .
تحت مقتضيات التأثير العاطفي المنتج للهوس الجمعي الأجتماعي يتحول الأنتحار المعنوي مثلا إلى مفهوم مقدس (الشهادة) ويتحول الإستحمار الفكري إلى طاعة وأحترام وتقدير , في حين لو تم عزل تأثيرات ظاهرة العقل الجمعي بجانبه الطارئ عن مؤثراتها الأساسية المحفزة للانغماس في الفكرة المهيمنة يتحول الشعور العاطفي إلى نوع من العقلانية التي تجبرنا على مراجعة الفكرة لأكثر من مرة , فأما أن نغادرها بحثا عن بديل أو ننحاز لها بدواع عقلية مبررة ومحترمة في منطقها .
فالتأثير الفوري والمصاحب بالشعور بالانتماء للظاهرة يفقد العقل الفردي أحيانا القدرة على العمل المستقل خارج دائرة اللحظة الزمنية ,مما يجبره أحيانا وتحت ضغط أنتماء القوى الحسية النفسية المستفزه بالمشهد الحضوري أو الصوري المتكون في الذهن إلى الإندماج مع الحدث والذوبان في معطياته الراهنة , هنا يتحول التأثير إلى ما يسمى بالأسر الأجتماعي للفرد ,وتتحول الظاهرة الأجتماعية إلى عامل إرتداد للخيارات العقلية فيتحول الفرد الفاعل في حيزه المعنوي ومنتج للموقف وصانع للهوية إلى ما يشبه الفرد في قطيع يقاد من عقله من غير موقف محدد ولا هوية واضحة .
الخطورة المتوقعة من تحول الفرد من كائن يتبع حريته طبيعيا إلى ما يشبه الكائن المستلب الإرادة وبقوة العقل الجمعي للمجتمع أنه سيكون خاضعا للتصنيع والخلق مرة أخرى , وهذه النقطة التي أدركها البعض من وقت مبكر وأستطاع توظيفها لتكون منهج نفسي وأجتماعي فاعل في صناعة الأتباع والمريدين من خلال ربط الفكرة بالظاهرة بالمقدس مستغلا عامل الخوف أما من الفشل أو من العقاب , وبالتالي تصوير الخضوع للمنهج على أنه الطريق الوحيد للفوز والأمان سهل وبشكل ملحوظ في تجذير التمسك بالخيارات الغبية التي تخاطب عنصر الخوف داخل الإنسان من المجهول الغير معرف والمختفي وراء أفق لا يمكن إداركه بالقوة العقلية الطبيعية إلا من خلال وسائل نادرة وصعبة التحقق كالوحي والبعث والرسالة الربانية .
نجح البعض من الاستفادة من تداعيات الإنغماس والذوبان في العقل الجمعي في تسخير المجموعة البشرية المتشاركة فيه وقيادتها نحو فعل طوعي أحيانا وأحيانا قهري للوصول بالمجموع إلى نتائج مرسومة سلفا ,الأخطر ما فيها العمل على إدامتها وتنميتها لتصبح واقع يومي معتاد وضروري بدل أن تكون ظاهرة مؤقتة , الأيديولوجيين عادة ودعاة الدين والهوس الإنفعالي هم الأقدر على اللعب على هذه الظاهرة وتجير نتائجها للوصول بها إلى فرض رؤية أو فكر أو أيديولوجية تمثل بمفهوم الأستعباد العقلي والإستلاب الإرادي للأتباع خاصة مع وجود شعارات براقة ومثيرة وحماسية تزيد من إنفعالات النفس وإسقاط تأثيرها القوي على النظام العقلي الفردي .
في الجانب الأخر العقلانيون الذين يعملون على تنمية العقل الجمعي الدائم ويخضعونه من خلال فلسفة التواصل والتبدل المرتبط بحركة الزمن , يقودون مجتمعاتهم لأفق تطورية وإعادة تفعيل مفاهيم متحركة وحداثية بدل قيم تتميز بالجمود وظاهر الثبات , الطبيعية البشرية مثل ما هي ميالة للانغماس بالهوس الأجتماعي قادرة أيضا أن تتفاعل مع متطلبات تحريك وتثوير العقل الجمعي ضد حيادية وجمودية الواقع , القضية ليست بمفهوم العقل الجمعي وإنما بكيفية صياغته وخلقه وتوجيهه بناء على مقدمات ومعطيات وآليات مختلفة لكنها من المؤكد ذات توجه فلسفي مصاحب لرؤية منهجية مختارة .
السؤال المطروح الآن على طاولة البحث هو كيف نحمي العقل الجمعي من التحول إلى أداة إنقياد وأستلاب للهوية في ظل أستحقاقات خضوع المجتمع إلى الكثير من المحفزات المؤثرة في تأجيج الهوس الجماعي ؟ وأستثمار الظاهرة الأجتماعية لتكون أداة تحفيز وحث على قبول مبدأ المشاركة في بناء منظومة قيادية فكرية تدير عمليات التحول الأجتماعي وتراع الحق في الحرية الفردية ؟ , من المؤكد أن تطور المجتمع الذي يتزامن مع أنتشار التعليم والتربية الثقافية المرتكزة على مدنية العلاقات البينية وتيسير المعرفة وغياب تأثيرات العامل الغيبي القداسي في وجوده وأستمراره على عنصري الخوف والقلق يساعد كثيرا في إعادة برمجة العقل الجمعي الواعي ,أو ما يسمى بالوعي العام التشاركي في بناء مفاهيم متطورة تعتمد الرغبة في الإرتقاء أولا التعبير عن الحرية الذاتية الطبيعية الخاضعة لمبدأ التوازن مع ضرورات العيش المشترك والتكافل في أداء الوظيفة الأجتماعية .
لو ساد المجتمع أطار قانوني وأخلاقي وقيمي يرفض التقسيم الأجتماعي القائم على الممايزة ويستند على التميز الفاعل ,سنكون في حال يسمح بها للعقل الجمعي أن ينحاز للتميز ويسايره ليس كتابع بل كمشارك ومراقب وناقد وموجه للبوصلة الأجتماعية , القول هذا من واقع تجربة عايشتها الكثير من المجتمعات بعد نضال مرير وطويل ومسنود برؤى فلسفية تنوريه هيأت لمرحة التحولات في كل أوجه الحياة , أوربا المسيحية التي كانت خاضعة بشكل عام وتقريبا للنمط الكهنوتي الذي تقوده الكنيسة وأرست مع مرور الزمن صورة لعقل جمعي يؤكد ويبرهن على أن خيار الكنيسة هو خيار الله وبالتالي لا مجال للخروج أو التمرد عليه , وبرغم من الخضات الفكرية والتلاقح المعرفي مع مجتمعات له رؤى وأفكار متشابهة ومتناقضة لكن العامل الحاسم في التفكير نحو الخلاص من الممايزة الكهنوتية أعتمد على الفكر المادي والعلمي والأخلاقي الذي جرد العلاقة بين العقل الجمعي ومستوى التأثير بالتميز الإبداعي صاحب ذلك بداية تحولات مادية عززت أتجاه التميز وشاركته كحالة متميزة أيضا في تجسيد روح التمرد والثورة .
إذن من المسائل المهمة في تطوير فاعلية العقل الجمعي الثابت والإيجابي أن يدعم السلوك الفردي والكلي للمجتمع بمقومات الحركة وأستخدام تقنيات التفكير الإيجابي ووسائل تقويم السلوك , هذه المعالجات تبعد الفرد من الوقوع في أسر الإنفعالات الهوسية الآنية والتي تعتمد الإثارة والتحفيز النفسي أكثر ما تحفز العقل الواع على ذلك , من هنا يمكن ومن خلال دراسات سيكولوجية وأجتماعية وفكرية تنمية أطر وفعاليات فكرية تحصن الفرد من هذه التأثيرات وتنمية الوعي الوجودي العلمي والمعرفي وتأهيل الفجوات الفراغية التي تترك بلا معالجات من قبل المجتمع أو المناهج التعليمية والتربوية كي تستغل من قبل مثيري حالة الهوس والإنفعال .
النتيجة التي نريد أن نقولها وبكل صراحة أن التستر المتعمد والتغافل الإرادي عن بعض الحقائق والوقائع التأريخية أو الفكرية والدينية بحجة أنها لا تتوافق مع قراءتنا أو عقيدتنا حسب مقدماتنا ومعطياتنا الفردية والذاتية ,هي في الغالب السبب الذي ينفذ منه صناع الهوس والإنفعال بتبريرات وتفسيرات نفسية تثير كوامن الضعف الذاتي عند الإنسان ,فيعمد على أستبدال طرق المعالجة بتصرفات (ردات فعل) قريبا من الانتقام وجلد الذات أو تحقير الغير أو رفض الحياة والتفكير بتدميرها ,أو يعبر بطريق أخر يتمثل للفرد أنه تنفسيا للضغط الداخلي الحاصل من المصاعب والمشاكل الإجتماعية وتفريغا للكبت والمعاناة اليومية من المشاكل والضغوطات العائلية والأجتماعية .
الفلسفة الأجتماعية الواقعية في نظرتها للنشاط الأجتماعي بشقيه الفكر والممارسة لا بد لها أن تمنح العقل الجمعي الأهمية القصوى في الدراسة والبحث والتنظير العلمي ,لما يمثله هذا الركن من الظاهرة الأجتماعية الكلية من أهمية في صيانة وصياغة التوجهات القيادية لروح المجتمع والتي تعبر بدقة عن المكون الأجتماعي والثقافي والسلوكي أيضا ,كما يمكننا ومن خلال الدراسة والتقصي والبحث أن نتوقع التطورات المستقبلية لحركة المجتمع وأتجاهات التنمية الفكرية فيه ,كما يمكننا من خلالها معرفة الأختلالات البنيوية وقياس التوازنات العلمية في حركة المجتمع العامة ,والتي غالبا ما تكون لا مرئية بالقدر الذي يسجل لها واقع حضوري ملموس ,أيضا تكمن الأهمية في الدراسة البحثية من أنها تعط المجتمع والدارس فرصة للتأمل والبحث عن مسارات أكثر إيجابية وتحييد المسارات السلبية التي تعرقل من التحول الحداثي والتطوري في بنيان النظام الأجتماعي الكلي .
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟