أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالحميد برتو - محو العراق (3)















المزيد.....


محو العراق (3)


عبدالحميد برتو
باحث

(Abdul Hamid Barto)


الحوار المتمدن-العدد: 7032 - 2021 / 9 / 28 - 21:05
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


عراقيون تحت الحصار
نجح الكتاب من بدايته، في الجمع بين جمال الإسلوب والحرص على إيصال الحقيقية. لا يمكن أن تتوفر أو تسطع الحقيقة إلاّ في حالة الإنغمار بالأحداث، في مسعى للوصول الى نواتها الأساسية. يحلو لنا أن نقول بأن العلم يبدأ بفتج باب السؤال بماذا ولماذا. كلما إنغمر السؤال بواقع الأحداث تبددت الأستار الزائفة.

سار الكتاب على منهجية واضحة، تقوم على جمع الأدلة وتحليلها وتصديق النتائج ثم طرحها. ومن بين أهم قنوات المعلومات إعتماد اسلوب المقابلات، خاصة مع الأشخاص، الذين عايشوا وتجرعوا تلك التجارب. برع الكتاب في توحيد المعلومات المستقاة من: المقابلات، الملاحظات، الوثائق، تقارير الهيئات الدولية، الرسمية منها والأهلية، خاصة تلك التي تتميز بقدر كبير من المصداقية والإحترام. إندرجت في هذا المجال أيضاً، متابعة التصريحات الرسمية وغير الرسمية للأطراف المسؤولة عن العدوان وغير المسؤولة، القريبة منها والبعيدة.

لم يترك الكتاب المقابلات عائمة. إنما يذكر إسم الذي أجرى المقابلة من المؤلفين. تضاف إليها معطيات وإشارات ذات قيمة معلوماتية، عن الأشخاص، الذين جرت المقابلات معهم. كما لم تهمل مسألة محيط المقابلة وأجواءها، مثل: مكان المقابلة، تاريخها، معطيات مهمة عن المتحدث في المقابلة، وضع عائلته، سكنه الحالي وفي العراق، خلفيته الثقافية والعمر، أي كل ما قد يطرحه القارئ المدقق للإطمئان حول دقة المعلومات.

لا يجد القارئ سبباً للخوف من تهويل المعلومات. إن حديث أي عراقي عن الأهوال، التي تعرض لها بلده، من جراء الإحتلال، وما سبقه وأعقبه لا يتسع للإحاطة الكاملة. يشهد المواطن الفرد موضوعياً جزءاً من كل مأساة. لا يعرف كل ما حصل لشبكات المياة على سبيل المثال. إنه يرى حالة بيته وإنقطاع الماء عنه، وكذلك حال الكهرباء أو القصف الجوي أو تصرفات الجنود الأمرييكين. كل الشهادات تعجز عن الإحاطة بهول المأساة، وبكل ما أحاق بالعراق من دمار. أما قياس التأثيرات النفسية والإجتماعية والإقتصادية، فليس كل من عاش المأساة خبيراً متخصصاً بتلك الشؤون.

لم يعتمد الكتاب شهادات أشخاص محسوبين على النظام السابق. بدأ الكتاب بنشر المقابلات في هذا الفصل. كانت أولها مع أمير. هو أحد اللاجئين الى السويد. كان يريد التخلص من النظام السابق. لكن قسوة الظروف، التي خلقها الإحتلال أدت الى هروبه من العراق. ترك نحو نصف عائلته هناك. شعر بالرعب، الذي تسببه القنابل المتساقطة. قتلت تلك القنابل كثيرين وحطمت منازل. حطم القصف أحياءً كاملة. ظهرت الجثث في الشوارع. لقد تحولت الغبطة، الى إرتباك، ثم خيبة أمل، ثم تحولت الى غضب.

تغيرت صورة الجندي الأمريكي، عند كارهي النظام السابق، فالجنود الأمريكيون يسرقون البيوت وغيرها من الأماكن. قال لاجيء آخر جاء الى السويد بعد 2003: "خسرنا كل شيء". إستبدلوا نظام صدام بالفوضى. ينتقل الكتاب الى عرض نتائج إستطلاع أجراه مكتب المفوضية العليا للاجئين في الأمم المتحدة عام 2007 على اللاجئين العراقيين، الذين بلغ عددهم نحو 2,4 مليون، لتحديد مستوى الصدمة منذ عام 2003. شملت المقابلات 754 شخصاً. أظهرت نتائج المسح ما يلي:
ـ 77% تأثروا بالغارات الجوية والقصف والهجمات الصاروخية.
ـ 80% شاهدوا عمليات إطلاق نار.
ـ 68% خضعوا للتحقيق أو المضايقة على أيدي الميليشيات أو غيرها من المجموعات، بما في ذلك تلقيهم التهديد بالموت.
ـ 16% تعرضوا للتعذيب.
ـ 72% شهدوا عملية تفجير سيارة.
75% يعرفون أحد الأشخاص الذين قتلوا.

يواصل الكتاب نقل مقابلات مع عراقيين من محافظات مختلفة، يعيشون كلاجئين في عدد من الدول. يتحدث أحدهم في عَمان عن هلع الجنود الأمريكيين، الذين إذا سمعوا أزيز رصاصة يبدأون بإطلاق النار في كل الإتجاهات. خلاصة الأمر أن العراقي يعيش في وقت واحد تحت وطأة أكثر من ضغط وطرف.

الإبتزاز ومنطق القوة القاهرة
شن العراق في الثاني من آب/ أغسطس 1990 هجوماً على الكويت، التي تتربع على خامس أكبر إحتياطي نفطي. جاء أول رد فعل للرئيس الأمريكي جورج بوش في 15 آب/ أغسطس 1990 بقوله إن: "وظائفنا، واسلوب حياتنا، وحريّتنا ستعاني كلها إذا سيطر صدام حسين على أكبر إحتياطيات العالم من النفط". وبعد ذلك بخمسة أيام أصدر بوش المذكرة الأمنية رقم 45 الى رؤساء الأركان، الموسومة بـ: "سياسة الولايات المتحدة رداً على الغزو العراقي للكويت". تلك السياسة بجوهرها تقوم على ما عرف بعقيدة كارتر، التي تعبير الخليج العربي مصلحة حيوية للولايات المتحدة وحلفائها، حتى إذا تطلب الأمر فرض ذلك، من خلال إستخدام القوة العسكرية.

إعتبرت الولايات المتحدة إجتياح الكويت يغير موازين القوى الإقليمية. وربما وجدت الفرصة مناسبة للظهور بمظهر القوة العظمى الوحيدة في العالم، بعد أن أصبح مآل الإتحاد السوفيتي، المنافس القوي لها بإتجاه التفكيك. ضمنت موافقة الأمم المتحدة على هجوم عام 1991 على العكس من التمهيد لإجتياح عام 2003، حيث مررت القرار الدولي رقم (660)، الذي يطالب العراق بالإنسحاب الفوري من الكويت دون شروط. والقرار رقم 661 الذي يحرم بيع العراق كل السلع ما خلا المواد الغذائية والطبية للحالات الإنسانية.

نجحت الولايات المتحدة بتمرير القرار رقم 678 الذي أمهل العراق للإنسحاب من الكويت، حتى 15 كانون الثاني/ يناير 1991. سمح القرار الدولي بإستخدام كل الوسائل لدعم القرار 660 وتنفيذه، أي تركت أمام العراق فرصة إسبوعيين فقط. نجح الوسيط السوفياتي يفغيني بريماكوف بإقناع العراق بالإنسحاب من الكويت. لكن واشنطن دفنت الخطة "بشكل جاف".

بدأ في 17/1/1991 تحالف دولي مؤلف من 34 دولة بقيادة الولايات المتحدة بقصف العراق والقوات العراقية في الكويت. تضم قوات التحالف 893600 جندي، فضلاً عن مساعدات لوجستية من دول أخرى. أطلقوا عليها عاصفة الصحراء.

إن الحرب التي أستغرقت 42 يوماً، أسقطت نحو 88500 طن من الذخائر. تعادل تلك الذخائر الساقطة، سبع قنابل ذرية، من حجم قنبلة هيروشيما. يقول الكتاب "قنبلة ذرية كل إسبوع، وهو مقدار من التدمير ليس له ما يوازيه في تاريخ الحروب". يستدرك الكتاب ويضيف: "القدرة التدميرية المروعة للقنبلة الذرية في موقع واحد" بينما غطت القنابل والصواريخ العراق كله. كما قُدرت الخسائر العراقية، خلال ما عرف بعاصفة الصحراء فقط، بـ 232 مليار دولار، أي ما يعادل ستة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي السنوي.

أفواه مفتوحة تبتلع القنابل
هنا يستعين المؤلفون بالأعمال الإبداعية لموهبين عراقيين، كتبوا عن الحرب، منهم الرسّامة والخزّافة نهى الراضي. قارنت الراضي بين الكلام الرسمي الأمريكي وواقع القصف، الذي لم يستثني المصافي ومحطات الكهرباء والمياه وشبكات الهاتف. شرح ضابط التخطيط في سلاح الجو الأمريكي سبب أستهداف المنشآت المدنية والبنى التحية. بالقول: ذلك ليس لمساعدة الشعب العراقي، إنما يهدف الى تسريع تنفيذ العقوبات. وفعلاً نجحت الخطة في تفكيك حياة الناس، ومنهم نهى الراضي نفسها.

ترك تحطيم الجسور أثراً مؤلماً في نفوس العراقيين. ثم جاء القصف المأساوي لملجأ العامرية المدني، ليزيد البشاعة بشاعة، حيث أسفر القصف الجوي الأمريكي "الدقيق" جداً، عن إحراق أكثر من 200 مرأة وطفل داخل الملجأ. تقول نهى الراضي بقينا أربعين ليلة ونهاراً، وهو رقم توراتي، نبتلع القنابل بأفواه مفتوحة.

توقف القصف في يوم 27/2/1991. لكنهم خلال تلك الفترة، مسحوا كل ما حققه العراق في تاريخه الحديث. حولوا المجتمع الى مجتمع فاقد للمكنة والتصنيع والتمدن. تحطمت معظم الوسائل الداعمة للحياة الحديثة. أعيد العراق الى عصر ما قبل الصناعة، كما توعد بوش بإصرار حاقد، تقودة غطرسة القوة العسكرية. حطم 83 جسراً، أصيب تسعة آلاف منزل. تحطيم المنازل قذف 72 ألف مواطن الى التشرد.

لاحظ الدكتور ليون أيزنبرغ إن تدمير معامل الطاقة يؤدي الى وقف نظام تكرير المياه وتوزيعها، مما يؤدي الى أنتشار وباء الكوليرا والتيفوئيد والـتهابات المعدة والأمعاء. جاء ذلك في مقال نشره في "نيو إنغلند جورنال أوف ميديسين". أليس هذا حال يشبه حال إستخدام السلاح البيولوجي.

ثمن العقوبات
يتساءل الكتاب بوضوح وإستياء عن الأسباب، التي تقف خلف ذلك التصميم، الذي أصر على تدمير العراق. يطرح سؤالاً عريضاً أيضاً، عن أسباب تواصل العقوبات الإقتصادية، حتى بعد إنسحاب الجيش العراقي من الكويت.

كما يرى بأن إستمرار مفعول قرار مجلس الأمن الدولي رقم (667)، الى أن تم إحتلال العراق عام 2003، يكشف عن الإصرار المسبق على إحتلال العراق. إن الأسباب التي بررت تلك الفعلة مجرد ذرائع، مثل ذريعة تصفية أسلحة الدمار الشامل، غير الموجودة أصلاً. وكذلك ذريعة لن يعود العراق الى المجتمع الدولي مع وجود صدام حسين. على الرغم من أن الولايات المتحدة وبريطانيا إعترفتا، في الوقت ذاته، بأن تلك العقوبات يدفع ثمنها الشعب العراقي، بكل فئات الإجتماعية. وليس رأس النظام. تواصلت هذه السياسة في عهد الرئيس بيل كلينتون أيضاً. ثم صدر قانون تحرير العراق عام 1998، الذي خصص أموال للمعارضة العراقية. وأمر كلنتون بشن غارات جوية على العراق لمدة أربعة أيام. تكشف هذه التصرفات الشائنة واللاإنسانية عن النوازع التدميرية والإصرار على إحتلال العراق، وكل ما سبق الإحتلال هو مجرد تمهيد له، ولخلق مبررات مقنعة لتضليل الرأي العام المحلي والدولي، بما فيها الدول التي شاركت في العدوان والغزو والإحتلال.

وظفت كل الخبرات السابقة المتراكمة في جعبة قوى الغزو والإحتلال. لكي يتجرع العالم سقوط القنابل، التي بلغ وزن ما تحوي من اليورانيوم المنضط الملقى على العراق 286 طناً، وهو سلاح تستخدمه الولايات المتحدة لأول مرة عام 1991 في حرب الخليج. يدعي الآن ثلث الجنود الأمريكيين، الذي شاركوا في الحرب، أنهم يعانون من أضرار وتأثيرات اليورانيوم المنضب. أليس من حقنا أن نسأل نحن العراقيين: ما هو حال ناسنا الذين سقطت على رؤوسهم قنابل "الحضارة" الأمريكية وحضارة "العالم الحر".

ينقل الكتاب صور مؤلمة، لما حل بالقطاع الطبي منذ عام 1995. شهد القطاع تدهوراً حقيقياً، إنعكس على صحة المجتمع، خاصة الأطفال. مثل: إعادة إستخدام الأطباء للقفازات أكثر من مرة واحدة بعد محاولة تنظيفها، كذلك الحال بالنسبة الى الحقن، الإضطرار الى إستخدام خيوط عمليات لا تذوب بسرعة مناسبة، ربما تستغرق بين خمسة الى ثمانية أشهر، إستخدام نوعيات رديئة من البنج ودفن الموتى بسرعة لإفتقار المستشفيات الى البرادات. وقد أحكموا الحصار على العراق بحراً وجواً بإقامة منطقتي حظر شمالاً وجنوباً.

جاء في دراسة لمنظمة اليونيسيف في عام 1999 بالإشتراك مع وزارة الصحة العراقية، بأن 21% من الأطفال حديثي الولادة ودون سن الخامسة، يعانون من نقص في الوزن وغير ذلك من الوهن وهزال الصحي، بسبب سوء التغذية. إن برنامج النفط مقابل الغذاء فُرِضَت عليه إجراءات تعسفية، ففي عام 1998 حصل العراق على أساس هذا البرنامج على 20 مليار دولار. ولكن المبلغ وزع على النحو التالي: إنفاق ثلثه كنفقات للأمم المتحدة وتعويضات للكويت. ترك نحو 13 مليار للحكومة العراقية. ولو قسم هذا الرقم على سكان العراق البالغ عددهم حينذاك 22 مليوناً، لباتت الحصة السنوية للفرد العراقي 190 دولاراً. هذا حال يدعو للرثاء.

إن تلك التصرفات تمثل خيانة فجة وفاضحة لميثاق الأمم المتحدة. فمنطق الهيمنة الأمريكية، الذي فرض إهانته على المنظمة الدولية والمجتمع الدوليين، لم يحتمله بعض موظفي الهيئة الدولية نفسها. إن ذاكرة العراقيين تحترم قرار دنيس هاليدي، منسق الشؤون الإنسانية في العراق للأعوام 1997 ـ 1998. قدم إستقالة من منصبه في الأمم المتحدة، معتبراً هذا البرنامج يساوي "الإبادة". إستقال هاليدي بعد 34 عاماً من العمل في الأمم المتحدة. وصل خلالها إلى مستوى مساعد الأمين العام للمنظمة الدولية ـ الأمم المتحدة. إستقال في عام 1998 بسبب عقوبات العراق، واصفًا إياها بـ "إبادة جماعية ". قدم لاحقًا التفسير التالي لقراره بالاستقالة.

أجاد مؤلفون كتاب محو العراق بالإشادة والإشارة، الى إستقالة دنيس هاليدي وخلفه هانس فان سبونك من منصبيهما، كمسؤولين أمميين عن تنسيق الشؤون الإنسانية في العراق. ولكني جدتُ شيئاً من الضرورة بوجوب بعض التعريف عنهما، حيث الدلالة العميقة لوصف هاليدي للحصار بالإبادة الجماعية، وكذلك ما جاد به قلم هانس فان سبونك.

هاليدي إيرلندي. يحمل ماجستير في الإقتصاد والجغرافيا والإدارة العامة من كلية ترينيتي ودبلن. قدم لاحقاً تفسيراً لإستقالة. إستقلت "لأنني رفضت الاستمرار في تلقي أوامر مجلس الأمن، وهو نفس مجلس الأمن الذي فرض واستمر في عقوبات الإبادة الجماعية على الأبرياء من العراق. لم أرد أن أكون متواطئاً. أردت أن أكون حراً في التحدث علناً عن هذه الجريمة. وفوق كل شيء، كان إحساسي الفطري بالعدالة ولا يزال غاضباً من العنف الذي تسببت فيه عقوبات الأمم المتحدة وما زالت تجلبها على حياة الأطفال، العائلات - العوائل الممتدة، احباء العراق. لا يوجد مبرر لقتل شباب العراق، لا كبار السن، ولا المرضى، ولا الأغنياء، ولا الفقراء".

في عام 2003 تم منح هاليداي جائزة غاندي الدولية للسلام تقديراً لعمله في لفت الإنتباه الى محنة العراقيين. منذ إستقالته من منصبه الرفيع في الأمم المتحدة، شارك بنشاط في جميع الفعالية الدولية الداعمة للسلام والتعامل الإنساني مع الجميع. كان هاليداي على متن السفينة الإنسانية MV Rachel Corrie في طريقها إلى غزة. وفي بيان أصدرته حملة التضامن مع فلسطين بأيرلندا، قال هاليداي: "نريد أن نؤكد أن هدفنا ليس الاستفزاز بل إيصال شحنات المساعدات إلى غزة. إننا ندعو الأمم المتحدة لتفتيش الشحنة ومرافقتنا إلى غزة، وإرسال ممثل للأمم المتحدة للإبحار على متن السفينة قبل دخولهم منطقة الحظ".

أما هانس فان سبونك، فقد إعتبر برنامج الأمم المتحدة في العراق نوعاً من التجويع للسكان. عمل هانس فون سبونك في منظمة الأمم المتحدة لعدة عقود. كان آخرها تعيينه منسقاً للأنشطة الإنسانية للأمم المتحدة في العراق خلال الفترة 1998-2000. لكنّه آثر الاستقالة من تلك المنظمة، احتجاجاً على الأحكام الأممية، التي قادت الشعب العراقي للبؤس والمجاعة. مما كتبه عن تلك المنظمة، وهو أحد أبنائها، مايلي: "إن الأمم المتحدة بعيدة كل البعد عن السهر على احترام القانون الدولي ودعم عملية السلام، وتصبح بذلك عامل ظلم بالنسبة لمعاون السكرتير العام السابق في منظمة الأمم المتحدة هانس كريستوف فان سبونك".

إن ضمير ومبادئ هانس فون سبونك وأخلاقه الشخصية، دفعته لأن يكتب مقالاً رائعاً، حول جريمة الإدارة الأمريكية باحتلال العراق. سيظل هذا الإنسان شاهد صدق على مزاعم حقوق الإنسان والدفاع عن الديمقراطيات والحريات، التي يتشدّق بها الغرب الرسمي، دون خدمة فعلية للشعوب المظلومة والمستلبة الحقوق، أو أقلة لو ترك لها، حق التعامل مع واقعها دون تأثيرات التسلط والإستحواذ والنهب.

حمِل المقال المنصف والرائع لـ (هانس فون سبونك) عنوان (إلى ذلك العراقي المجهول). كتب في مقدمته: لم يبق إلا اعتزازك بنفسك. وذنبنا، فهل ستسامحنا يوماً؟ ومما جاء في المقال: "ما فعلناه بك بإسم الحرية والديمقراطية، ليس له مثيل في التاريخ. لقد دسنا على حقائق معاناتك، وسعينا بكل الوسائل، حتى الرشاوى، لكي نفوز بالحلفاء، ودفعنا جانباً أولئك الذين عارضوا طموحاتنا الإمبراطورية. والقوة السافرة أصبحت البديل عن ذلك الوعد الذي أطلق في عام 1945 عن (إنقاذ الأجيال القادمة من كارثة الحرب). إنك أنت من دفع الثمن. الدكتاتورية الفظة كانت عذاباً لك، لكننا زدنا هذا العذاب بسيف العقوبات الذي سلطناه على رقبتك. كنت تتلقى لعنة العقاب المزدوج على شيء لم يكن لك يد فيه".

يشخص هانس فون سبونك بدقة محور الشر الحقيقي بقوله: "حقا كان هناك محور الشر، ذلك الحلف من الحكومات ومعاهد البحوث وصنع القرار ومؤسسات الإعلام والشركات الكبرى ممن أقاموا حائطاً كبيراً من الخداع بينك وبين العالم. العراق، القاعدة، أسلحة الدمار الشامل، والإرهاب: قلنا للعالم إنها توليفة خطيرة. قلنا للجميع: ثمة مئات الأطنان من الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، والكثير من الصواريخ والقنابل والآلاف من الإرهابيين يستعدون للانقضاض علينا. ثمة خطر ماحق ينتظرنا، وليس لدينا سوى استباقه وتدميره لتجنبه. كل أولئك المعارضين، ممن دعوا إلى السلم وتحكيم المنطق والقانون، عوقبوا عقاب "الصدمة والترويع" قبل أن تصب حمم «الصدمة والترويع» على رأسك".

"بكل سخرية، أعلنا أن (170) من مفتشي الأمم المتحدة وتلك الطائرات المروحية البيضاء، لم تكن كافية لأداء مهمة نزع سلاح العراق، وساعدنا في ذلك فيض متواصل من الوثائق المزورة والتقارير المفبركة والاستخبارات المفتعلة لاقناع الناس بجدوى الحرب عن طريق زرع الخوف في قلوبهم، ولكي نقنع برلماناتنا بالموافقة على الحرب. قلنا لجنودنا إنهم يحاربون الشر ويدافعون عن الخير".

أوهمت صناعة دعاية الحرب حتى بعض المشاركين فيها. يصف مقال هانس فون سبونك مشهد القوات الغازية على النحو التالي: "كان هناك القليل من الزهور والإعلام والوجوه الباسمة، ممن استقبلتنا عندما دخلنا العراق. أين ذهبت تلك الأسلحة الفتاكة، التي وعدونا بالعثور عليها؟ لم نحس بالذنب، ولم تكن لنا رغبة في الاعتذار. ولسوء حظك (يقصد الإنسان العراقي)، لم تكن هناك خطة لشفائك. المنتصرون هم المنتصرون. والفوضى ناسبت ما كنا نريده لك. لكننا كنا حريصين على آبار النفط... اغتصب تراثنا المشترك. فمتاحفك أضحت فارغة، ومكتباتك محروقة، وجامعاتك مدمرة. لم يبق إلا اعتزازك بنفسك... وذنبنا، فهل ستسامحنا؟!".

إن ما خجل منه المسؤولان الكبيران في المنظمة الدولية، لم يخجل منه بوش وحلفاؤه الدوليون وخدم أمريكا المحليين والإقليميين، خاصة أتباع الدين السياسي. كذلك الحال لأشخاص ملغومين مثل: ريتشارد باتلر وسلفه رولف ايكيوس، اللذين ماتت بين ضلوعمها طباع الإنسان الإيجابية.

قدرت اليونيسيف عدد الأطفال العراقيين، الذين ماتوا بين الأعوام 1991 ـ 1998 بنحو نصف مليون طفل، دون سن الخامسة. إن سلوك الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، أثار سخط وغضب الكثير من العلماء والمفكرين الإنسانيين، الذين وصفوا العقوبات بالحملة الرجعية غير الإنسانية. وهي الأكثر إكتمالاً في التاريخ المسجل. أهلكت شعب العراق، ونالت من عروقه. بينما ظل العالم، يتذكر قول وزير الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت، عنما سؤلت عن هل يستحق الأمر، أن يكون ثمنه موت نصف مليون طفل. قالت: "أعتقد أن الأمر يستحق هذا الثمن".

خوف وهروب
بعد أن آذنت الولايات المتحدة لمجلس الأمن، برفع العقوبات عن العراق، رفعت في يوم 22/5/2003. قال بوش: "على الأمم المتحدة، الآن، وقد حُرّر العراق، أن ترفع العقوبات عن هذه الدولة". بعد هذه الجملة الآمرية والفجة إتجاه "المجتمع الدولي". وعد بأن حياة العراقيين ستكون أفضل. ولكن الوقائع أكد عكس ذلك، بل أسوء مما تخيله أشد المتشائمين.

ينقل الكتاب حديثاً خلال مقابلة مع أحمد، الذي وصفه، بأنه نصف سني ونصف شيعي. بتعبير أحمد نفسه أنه "سوشي". هذا العراقي ولد في فترة حرب الخليج الأولى ونجا منها. توقع حالاً أفضل بعد التخلص من النظام السابق. عندما شنت الولايات المتحدة في فجر يوم 20/3/2003 حربها على العراق، التي عُرفت بـ"عملية الحرية للعراق" من دون دعم مجلس الأمن الدولي. ولكن سريعاً إعترف أكثر من مسؤول أمريكي رفيع بعلاقة الحرب بالنفط حسب. على الرغم من إصرار بياناتهم السابقة قبل الغزو، حول وجود أسلحة الدمار الشامل العراقية. بلغت البيانات حول هذا الشأن 950 بياناً.

يقول أحمد عاد مع عائلته أواخر عام 2003 من دمشق، التي توجهوا إليها في اليوم الأول للحرب، إعتقاداً منهم بمرور الجزء الأسوء. لاحظ أحمد تصدعات حقيقية بدأت تظهر في المجتمع العراقي. ينقل صوراً عن بشاعة تدهور الحياة والأمن والعلاقات بين الناس.

شهود على الإنترنت
بدأت تلعب وسائل التواصل الإجتماعي دوراً مهماً في التواصل بين الأصدقاء، بين الهاربين وعوائلهم. باتت المدونات مصدراً مهماً لمتابعة ومعرفة التطورات. جاء في أحدى المدونات، التي نالت شهرة في تلك الفترة "لا تدعوا أحداً يقنعكم بشن حرب بإسم حريتكم". انتشرت المدونات تدريجياً من واحدة، قبل الغزو في عام 2002، حيث وصلك في عام 2006 الى 200 مدونة، تستخدم العربية والإنكليزية. ظهرت مدونات معادية للإحتلال بقوة مثل مدونة "حمورابي"، التي وصفت ما عرف بالتعاون الأمريكي العراقي هو مجرد وهم لإذلال الشعب. إن الأمريكيين دمروا العراق منذ عام 1991 قتلوا خلال حربيين و12 عاماً من الحصار الإقتصادي ملايين من أبنائه.

وأخيراً حظت مدونات العراقيين بإهتمام الموثقين الأجانب. لما تحمله من مرارات مؤلمة. ضاعت تضحيات أجيال العراقيين لِيُحّوَلَ الى مستعمرة أمريكية يطغى عليها البؤس. لماذا تحمل المناضلون كل تلك التضحيات؟ ليأتي العم سام يعلمنا كيف ندير بلادنا، ونشتري الأسلحة من عندهم.

أظهرت المدونات الكثير من الحقائق المرة، التي أصابت مختلف فئات الشعب العراقي وشرائحه. من الصور المؤلمة، تبرز حقيقية كيف باع أساتذة الجامعات مكتباتهم في فترات الحصار، لتغطية شراء الغذاء وغيره من المستلزمات الأساسية. تواصل ظهور مدونين جدد مثل فايزة العراجي التي قدمت وصفاً يومياً للغارات والقصف على بغداد.

إن تزايد أعداد المدونات، جاء نتيجة للإحساس، بأن الإعلام الغربي، لا يقول سوى نصف الحقيقة، لما يجري في العراق. أهم ما في تلك المدونات أنها تقدم صوراً عن طبيعة حياة الناس، وردود أفعالهم تحت القصف. مثل دهس أب وطفلته بدبابة، طريقة تفتيش الأمريكيين للسيارات وحقائب النساء والأطفال، إشعار المواطن بالذل، تفتيش البيوت وإثارة خوف العزل، قتل جماعي لعائلة في عام 2006، بعد إغتصاب إبنتهم البالغة من العمر 14 عاماً، من قبل الجنود الأمريكيين، قتل صبي عمره 12 عاماً في حديقة داره... وقائمة المآسي تحمل الكثير الكثير، مما يفوق أفلام الرعب الأمريكية ذاتها.

يتبع: محو العراق (4)



#عبدالحميد_برتو (هاشتاغ)       Abdul_Hamid_Barto#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- محو العراق (2)
- محو العراق (1)
- مرحلة العجب العجاب
- وداعاً أبا سامر - كاظم حبيب
- هوامش عابرة على سياسةِ اليوم
- أَعَرَبٌ أَنتم؟!
- المجد للأول من آيار
- البصرة وصورة الأمس
- أَحم، عندنا إنتخابات 7 من 7 (3)
- أَحم، عندنا إنتخابات 7 من 7 (2)
- أَحم، عندنا إنتخابات 7 من 7 (1)
- أَحم، عندنا إنتخابات 6 من 7
- أحم، عندنا إنتخابات 5 من 7
- أَحم، عندنا إنتخابات 4 من 7
- أَحم، عندنا إنتخابات 3 7
- أَحم، عندنا إنتخابات 2 7
- أَحم، عندنا إنتخابات 1 ـ 7
- سَمْتُ الإنتفاضة العراقية
- منى سعيد: جمر وندى 4 من 4
- منى سعيد: جمر وندى 3 من 4


المزيد.....




- مشهد يحبس الأنفاس.. مغامر يتسلق جدارًا صخريًا حادًا بسويسرا ...
- وسط التصعيد الأوكراني والتحذير من الرد الروسي.. ترامب يختار ...
- انخفاض أعدادها ينذر بالخطر.. الزرافة في قائمة الأنواع مهددة ...
- هوكستين في تل أبيب.. هل بات وقف إطلاق النار قريبا في لبنان؟ ...
- حرس الحدود السعودي يحبط محاولة تهريب نحو طن حشيش و103 أطنان ...
- زاخاروفا: الغرب يريد تصعيد النزاع على جثث الأوكرانيين
- صاروخ روسي يدمر جسرا عائما للقوات الأوكرانية على محور كراسني ...
- عشرات القتلى في قصف إسرائيلي -عنيف- على شمال غزة، ووزير الدف ...
- الشيوخ الأمريكي يرفض بأغلبية ساحقة وقف مبيعات أسلحة لإسرائيل ...
- غلق أشهر مطعم في مصر


المزيد.....

- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال
- الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية / خالد فارس
- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالحميد برتو - محو العراق (3)