أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الحركة العمالية والنقابية - مصطفى محمد غريب - الطبقة العاملة العراقية وحركتها النقابية تاريخ ونضالات وآفاق مستقبلية - الجزء الثاني - مرحلة جديدة في العمل النقابي















المزيد.....


الطبقة العاملة العراقية وحركتها النقابية تاريخ ونضالات وآفاق مستقبلية - الجزء الثاني - مرحلة جديدة في العمل النقابي


مصطفى محمد غريب
شاعر وكاتب

(Moustafa M. Gharib)


الحوار المتمدن-العدد: 486 - 2003 / 5 / 13 - 05:41
المحور: الحركة العمالية والنقابية
    


 

لقد إغتنت تجربة الطبقة العاملة العراقية بالمقارنة مع الفترة القصيرة التي مرت على نشؤها وتكوينها لتكون طبقة لذاتها كما هي الطبقات في المجتمعات الرأسمالية والتي انتقلت فيها التشكيلات الإجتماعية بشكلٍ تدريجي وطبيعي في مرحلة معينة من تطور المجتمع وإسلوب الإنتاج وتطور القوى المنتجة التي تكون القاعدة للعلاقات الانتاجية التي يكون فوقها البناء الفوقي، ولاسيما  في بلد كالعراق، زراعي متخلف تعيش فيه إقطاعية وراثية متخلفة، حيث تدني مستوى التكنيك وملكية  للأراضي يعتمد على أسس عشائرية وتبعية فلاحية شخصية ، والذي  بقى سنيناً طوال تحت هيمنة الإمبراطورية العثمانية التي كان لا يهمها سوى جمع الضرائب بدون الإهتمام بتطوير للمرافق الحيوية في البلاد، وأهمالها المتعمد لكل أنواع التطور الحضاري الصناعي الذي بدأ يغزو الشرق ويبشر بتحولات واسعة في مجالات الصناعة والزراعة ونشوء القوى المنتجة الحية التي ستكون لها الإمكانية في التأثير على مستقبل البلاد سياسياً وفكرياً .

 وكانت  العقلية الرجعية المتخلفة هي الحكم الفيصل في رسم السياسة العثمانية للحفاظ على الإمبراطورية بولاياتها تحت يا فطة " الدولة الإسلامية " وبعد سقوط الإمبراطورية المريضة حسب المسميات التي أطلقت عليها، قدم المحتلون الإنكليز تحت يافطة اخرى " تحرير العراق " وإقامة الدولة العصرية إلا ان النيات الإستعمارية كانت تخطط لغير ما ادعت به وصرحت حوله، وعندما  احتلت العراق والعديد من الدول العربية أعلنت سياستها وهيمنتها على ثروات العراق الوطنية، وبانفجار ثورة العشرين وما أعقبها من أحداث تم تأسيس الدولة العراقية وسلمت زمام أمورها إلى الأمير فيصل الأول الذي أصبح ملكاً وصار العراق دولة ملكية..

خلال هذه الحقبة والحقبة الثلاثينية تطورت الطبقة العاملة كماً ونوعاً ، وبدأت تمارس نضالاتها كطبقة اجتماعية وتحولت نضالاتها المطلبية إلى نضالات سياسية مع مجريات النضال العام ضد الهيمنة الإستعمارية البريطانية.

ان الطبقة العاملة على الرغم من تشويهات المنظّرون الرأسمالليون الذين راحوا يتحدثون وَيُنَظّرون عن نفي لدورها التاريخي، وإنها طبقية وقتية تكونت بحدود تاريخية لحاجة المجتمع لها وإذا ما انتفت الحاجة لوجودها سوف تحيلها الصناعات المتطورة الحديثة تدريجياً ( التكنيك الحديث، والاتمتة المتطورة، والعقول الإلكترونية وغيرها )  إلى التقاعد بتحويلها إلى مجالات عمل أخرى وتفكك حدودها الطبقية، هؤلاء وقعوا في اخطاء كبيرة بعد التطورات اللاحقة في القرن العشرين ولحد وقتنا الراهن،  فها هي الطبقة العاملة على الرغم من القفزات الهائلة في مجال العقول الألكترونية والمرافق الصناعية الأخرى تؤكد أهميتها وتأثيرها الجديدين في هذه التحولات والتطورات، وبالعكس فقد تطورت القوى المنتجة بقياسات علمية وبدلاً من إلغائها من قبل النظام الرأسمالي نجد أن الكثير من الفئات الإجتماعية وبخاصة تلك القريبة من عملية الإنتاج البدني والفكري ( أي شغيلة العمل البدني وشغيلة العمل الذهني ) تندمج في الطبقة العملة وفي عملية نضالها ضد الإستغلال الطبقي التي تتعرض له في كل لحظة من قبل الأنظمة الراسمالية، ولسنا هنا مناقشة ما يجري في دول المساعدات الاجتماعية وكأنها قيم إشتراكية حسبما يدعيه البعض على الرغم من حسناتها الكبيرة في مجالات الحياة الإقتصادية والمعاشية والخدمية وحقوق الإنسان وغيرها بالمقارنة مع العراق أو أي دولة عربية أخرى ، فهذه مسألة أخرى تحتاج إلى موضوع آخر.

والطبقة العاملة العراقية التي تقوت وتوسعت بعوامل الإحتلال الإستعماري، وبصورة غير كلاسيكية كما حال الطبقة العاملة في أوربا أي بالإنتقال الطبيعي من الإقطاعية إلى الرأسمالية، فأحد الأسباب الموضوعية في تطورها وإتساعها إلى جانب أسباباً أخرى كما أشرنا هو الإستعمار الإنكليزي، ولهذا نشأت وهي تدمج نضالها المطلبي الطبقي مع نضالها الوطني السياسي، ففي الوقت التي تناضل من أجل سن قانون للعمل تحدد فيه حقوقها الطبقية المطلبية فهي تقاوم المحتلين الذين يحتلون بلدها ويقفون حائلين دون حصولها على حقوهقها إضافة للشعور الوطني العالي الذي تربت عليه الطبقة العاملة العراقية، وخلال هذه الحقبة الصغيرة مثلما اسلفنا فإنها اكتسبت تجربة غنية في هذا الصراع الدائر خلال فترة العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، ودخلت الإربعينيات وهي أقوى من السابق تستطيع ممارسة نضالها المطلبي وتعتمد في نضالها على حزب عمالي وطني ينفرد من دون الإحزاب الوطنية الأخرى بتسمية نفسه بحزب الطبقة العاملة العراقية. 

خلال تطور الصناعة في الأربعينات تنامت واتسعت الطبقة العاملة أكثر من السابق وهو عامل موضوعي وذاتي في الوقت نفسه، لتقع على عاتقها مهمات جديدة وطرق نضالية جديدة أيضاً، وبتنامي الطبقةالعاملة تصاعدت حركة الإضرابات المتنوعة التي خاضتها بعد ثورة 1941، ونتيجة هذه الإضربات والتصميم على نيل حقوقها في التنظيم النقابي فقد أجبرت السلطات الحكومية على إجازة ( النقابات العمالية اعتباراً من سنة 1944 )

واستأنف بشكل حذر خلال هذه الفترة نشاط النقابات والأحزاب السياسية ، إلا أن   المتابع لهذه النشاطات يجد تطورات جديدة في تشكيل النقابات ولاسيما فقد تشكلت (16) نقابة، كما لوحظ النشاط المتميز للحزب الشيوعي العراقي حيث سجل له قيادة (12) نقابة من المجموع أعلاه.. وعقدت على أثر ذلك نقابة السكك أول إجتماع لها في أيلول 1944 ، وتضمن برنامجها التي أعلنته عن قضايا مطلبية ، كزيادة الأجور وتحسين ظروف العمل.

لقد قدمت هذه الطلبات إلى مجلس إدارة الشركة البريطانية من أجل تنفيذها بشكل سلمي، ولكن مجلس الإدارة رفض هذه المطاليب بدون دراسة المتطلبات العمالية .. ولهذا دعت النقابة إلى الإضراب ولقد لبى الطلب (1250 ) عامل ، ونجح العمال في تحقيق مطالبهم في زيادة الأجور، لكن بعد فترة وجيزة ( منعت النقابة من ممارسة نشاطها)

إلا أن هذا المنع لم يكن حائلاً في استمرار العمال في نضالهم ، فقاموا بتنظيم إضراباً عاماً في 1946 وآخر في 1948 ..

وقد سجلت ما قبل هذين التاريخين إضرابات عمالية في الميناء حيث قام العمال بتأسيس نقابتهم عام 1945، وكذلك إضرابات النفط في كركوك عام 1946 حيث شارك في المظاهرة العمالية حينذاك (5) آلاف عامل وقدم العمال العديد من الشهداء في (كاورباغي ــ كركوك)، كما قامت اضرابات مماثلة في (K.3) وكانت هذه الإضربات بقيادة من الشيوعيين العراقيين..

لم تكن فترة بداية الخمسينات إلا تتوجياً للنضالات الإضرابية العمالية لفترة الأربعينات، ففي عام 1951 تم تأسيس ( مكتب النقابات الدائم )  دون أخذ موافقة من السلطة الحكومية  وقد كان هذا المكتب نقلة نوعية في العمل النقابي في المجالين الأعلامي والتنظيمي ، ففي االجانب الإعلامي اصدر المكتب العديد من البيانات، وفي مجال التنظيم قام بتشكيل الحلقات النقابية واللجان النقابية السرية خلال عام 1953 ، كما أصدرت الحركة السرية في 1954 جريدتها السرية ( اتحاد العمال )

وشهدت فترة الخمسينيات اضرابات عمالية عديدة ومتنوعة ، ونشطت هذه الإضربات في مجال عمال البناء في البصرة وإضرابهم المعروف، وتبعهم اضراب عمال النفط في البصرة أيضاً ، ثم اضرابات عمال النسيج والسكاير والمطابع في بغداد، ولم تتأخر الطبقة العاملة وحركتها النقابية في المشاركة النشيطة في إنتفاضة 1952 الوطنية، كما أضرب عمال مصلحة نقل الركاب في البصرة،  واضرب في تشرين الثاني عمال اللاسلكي في الميناء،  وتلتها إضرابات عمالية تضامنية عديدة، وعندما تفاقم الأمر أعلنت السلطات الحكومية الأحكام العرفية العسكرية لقمق الإضربات والحركة الجماهيرية المتصاعدة مما أدى إلى غلق العديد من الصحف الوطنية وزج المئات في السجون والمعتقلات وتقديمهم للمحاكم العسكرية.

واستمرت الطبقة العاملة في المساهمة لقيادة الحركة النقابية الديمقراطية وشاركت في جميع المظاهرات الوطنية المساندة لحركة التحرر الوطني وبخاصة ضد العدوان الثلاثي الإستعماري ( الإنكليزي والفرنسي والإسرائلي ) على مصر في 1956.

وشهد عامي 1957 و 1958 العديد من الإضرابات العمالية في قطاعات مختلفة مثل معمل نسيج الوصي، وشركة الغزل والنسيج وغيرها وسجل للعمال العراقيين ونقاباتهم أول مشاركة تاريخية علنية على المستوى العالمي حضورهم في عام 1957 المؤتمر العمالي العالمي.

لقد تميزت تلك الإضرابات العمالية المستمرة والمتلاحقة بالإنظباط الواعي ودرجة كبيرة من الوعي الطبقي والتضامن العمالي لدى العمال المضربين والعمال في القطاعات الأخرى فضلاً عن كونها تنصب في مجرى نضالات الشعب العراقي الذي كان يخوضها ضد الحكومة الملكية المدعومة من قبل الإستعمار الإنكليزي، وضد دخول العراق حلف بغداد العدواني الذي خطط له على اساس ضرب الحركات التحررية الوطنية في المنطقة وتشكيل تحالف عسكري ضد الإتحاد السوفيتي حينذاك.

 ولم تقتصر نضالات الطبقة العاملة وحركتها النقابية الحرة على الإضربات والإعتصامات المطلبية فهي شاركت في كافة الوثبات والإنتفاضات والمظاهرات التي خاضتها الجماهير العراقية، كما أنها في الوقت ذاته حولت نضالاتها الإضرابية المطلبية إلى إضرابات سياسية في مواجهتها للقوات العسكرية البريطانية أو ضد النظام الملكي .. وقد نتج عن ذلك قيام السلطات الحكومية بحمولات قمعية تخللتها الإعتقالات والسجن والتعذيب لكثير من العمال النشطين في مجال العمل النقابي، وغيبت بعظهم في السجون بعد أن قدمتهم لمحكمات (عرفية) عسكرية التي أصدرت أحكاماً بالسجن لسنوات طويلة، وابعد قسماً آخراً إلى سجون نائية كسجن (نقرة السلمان) في الصحراء ولم يتم تحريرهم إلا بعد انبثاق ثورة 14 تموز 1958 الخالدة.

ولقد أدت هذع الهجمات السلطوية بعد إعلان الأحكام العرفية في 1948  وإرسال الجيش العراقي إلى فلسطين إلى زج " بخيرة القادة النقابين والعمال النشيطين في السجون والمعتقلات " وكذلك إلى إعدام سكرتير الحزب الشيوعي العراقي يوسف سلمان يوسف (فهد) واعضاء المكتب السياسي، زكي بسيم ، وحسين الشبيبي.. بحجة مكافحة الصهيونة، في الوقت الذي أشير بعد ذلك أن "عصبة مكافحة الصهيونية" كانت من تأسيس الحزب المذكور أعلاه..

هذه الهجمة المتنوعة الأشكال التي طالت ليس الشيوعين والعمال النقابين فحسب وإنما جميع الوطنين والقومين والديمقراطين، عرباً وأكراداً وتركماناً وآشورين لم تثن قادة العمال من مواصلة النضال وتشكيل اللجان النقابية السرية والقيام بالإضربات والإنتفاضات خلال الحقبة الأولى من الخمسينيات وكان أنبثاق جبهة الإتحاد الوطني اكبر حدث سياسي في هذه الفترة ، فقد تكلل هذا التحالف العريض بين الأحزاب الوطنية حينذاك إلى قيام الضباط الأحرار بتفجير ثورة 14 تموز وإقامت الجمهورية العراقية

التي فجرت الطاقات الجماهيرية وبضمنها الطبقة العاملة العراقية التي دخلت المرحلة الجديدة بتغير نمط نضالها السابق.

 

العمال والحركة النقابية في 14/ تموز / 1958

 

 لقد كانت ثورة 14 تموز الوطنية أعظم إنجازٍ حققه الشعب العراقي وقواه الوطنية والقومية والديمقراطية من خلال تنظيم الضباط الأحرار بقيادة المرحوم عبد الكريم قاسم، ومنذ أول لحظات انتصارها قامت الجماهير الشعبية بدورها التاريخي لحمايتها والدفاع عنها أمام التحديات الإمبريالية وحلف بغداد المركزي ولم تتأخر الطبقة العالمة من دورها التقدمي الهادف إلى ترسيخ المبادء الديمقراطية في الحياة السياسية وكذلك القيام بتأسيس نقاباتها بكل حرية مما جعلها في أوليات المخططات الرجعية المعادية للحركتها التاريخية واعتبارها خطراً حقيقياً ليس على القوى الرجعية في الداخل فحسب وإنما على المصالح الإمبريالية والدول التابعة لها في المنطقة.

ان الإنجازات الرائعة التي حققتها هذه الثورة في بداية مسيرتها المظفرة جعلتها محط حقد وكراهية من جميع الرجعيات العربية والقوى الإستعمارية التي خسرت أكبر موقع لها في العراق، وبخاصة بعد قانون 80 بخوص المناطق النفطية غير المستغَلة، وشكلت هذه المنجزات حافزاً كبيراً لقوى التقدم والحرية في المنطقة.

أما الطبقة العالملة العراقية فقد سارعت منذ البداية على العمل من أجل علانية العمل النقابي الذي كان يعيش الظروف السرية والملاحقة والإضطهاد في العهد الملكي ، ومنذ التشكيلات الأولى أخذ عشرات الآلاف من العمال ينتمون إلى نقاباتهم ن وبعد أتمام عملية تأسيس النقابات في أكثرية المرافق العمالية من المعامل والورش والمهن وغيرها أنطلق العمل من أجل التحضير لعقد المؤتمر التأسيسي العلني وقد تحقق ذلك في تموز 1959 ، وفي نقلة ليس لها مثيل في تاريخ الحركة النقابية العراقية الذي مثلها  المؤتمر التأسيسي والذي مَثّل ( 250 ) ألف عامل، فكان أكبر مظاهرة عمالية ليس على نطاق العراق فحسب وإنما على نطاق دول العالم الثالث، هذا التنظيم الواسع ذو الإتجاه التقدمي والتحرري كان موضع حسابات القوى الظلامية التي آخذت منذ اللحظات الأولى التآمر على ثورة 14 تموز ومنجزاتها الرائعة، ولم يكتف العمال بمؤتمرهم التأسيسي حتى عقدوا المؤتمر الأول في 1959 الذي حضره (350) مندوباً يمثلون أكثر من ( 350 ) ألف عامل عراقي..

وهكذا عاشت الطبقة العاملة العراقية وحركتها النقابية أوج إزدهارها من خلال تعبئة عشرات الآلاف من العمال في النقابات معتمدة على الحريات العامة وحرية العمل النقابي، وقد تجلى هذا الإزدهار بروعة المظاهرة المليونية التي انطلقت في 1/ أيار / 1959 عيد الطبقة العاملة في العالم، حيث شارك إلى جانب الطبقة العاملة والجماهير الكادحة في هذه المظاهرة الجبارة جميع الفئات الشعبية والمؤسسات الثقافية والتربوية وغيرها، وكان بحق تعبيراً عن وحدة الشعب الوطنية والدفاع عن الجمهورية الفتية.. ونتيجة لنضالات العمال وتضحياتهم من أجل تأسيس حركة نقابية خاصة بهم فقد تم تشكيل (51) نقابة واتحاد فرعي في جميع أنحاء العراق تقريباً

 إلا ان هذه الفترة  الذهبية للطبقة العاملة وحركتها النقابية الحرة لم تدم طويلاً، حيث بدأت الأجهزة والمؤسسات الحكومية  الأمنية وغير الأمنية التي لم يجر تطهيرها من العناصر الرجعية التي كانت تترحم على العهد الملكي وتتمنى عودته بعد أن فقدت الكثير من الإمتيازات، وكذلك لم يجر أيضاً تغير جوهري على نمط عملها القديم المعادي للحركة الديمقراطية والحركة النقابية الحرة، فأخذت تضيق الخناق على هذه الحركة وتوجهاتها الوطنية وطابعها الطبقي، وكان المتربصون بالثورة وإنجازاتها يدركون إدراكاً عميقاً أن الطبقة العاملة وحركتها النقابية تشكل إلى جانب القوى الوطنية الأخرى درعاً واقياً للجمهورية الفتية، وبتحريض من هؤلاء المتربصين وعلى رأسهم شركات النفط الإستعمارية ورجال العهد الملكي وبقايا الإقطاع والجبهة القومية وعلى رأسها حزب البعث العربي الإشتراكي العراقي ورؤوساء بعض العشائر والإغوات والبعض من رجال الدين الذين أصدروا البعض منهم فتاوي غير صحيحة وبتحريض من أعداء الثورة ..

أما الحركة المسلحة الكردية التي كان يقودها المرحوم مصطفى البرزاني والحزب الديمقراطي الكردستاني فقد كانت من أحد الأسباب الرئيسية التي استغلالها الإنقلابيون للإطاحة بالثورة وإيقاف توجهاتها الوطنية التحررية، إضافة للدعم المتعدد الجوانب ماديا "السلاح والمال عن طريق القطر السوري في ذلك الوقت" وإعلامياً للتأثير المعنوي في الصحف والإذاعات ونشر الإشاعات والتحريض الذي قدمته الجمهورية العربية المتحدة بقيادة المرحوم جمال عبد الناصر.

 لقد أخذت تلك الجهات تتآمر على الحركة النقابية فضيقت الخناق عليها وعلى النقابات وأخذت تستخدم تشتى الطرق لتحجيم دورها  ودور العمل النقابي أو السيطرة على بعض النقابات بطرق مختلفة وأساليب متنوعة، منها التدخل لتزوير الإنتخابات أو الترغيب والتهديد لبعض القادة النقابين، وزج بالمئات من نشطاء العمال النقابين في المعتقلات والسجون، وكان الحجز بأمر الحاكم العسكري حينذاك من أكبر المهازل التي جرت فيها عملية وأسباب الحجز بحجة التشرد الذي طال اساتذة ومعلمين وأطباء ومثقفين وسياسين إضافة لقادة نقابين معروفين، ومنذ بداية 1960 بدأن الهجمة تشتد وتتوسع على الحركة النقابية حيث جرت تزوير الإنتخابات في عدة فروع وهيئات نقابية أنتج عنها السيطرة على اتحاد النقابات العام وعين على رأسه نقابي حكومي معروف بعدائه للحركة النقابية الديمقراطية الحرة، لكن الطبقة العاملة بقت تكافح من أجل تخليص النقابات من سيطرة الإصلاحيين  والحكوميين وغيرهم وتدعوا إلى الحريات العامة التي هي اساس للحرية النقابية ومبادئ الديمقراطية النقابية ، ونتيجة كفاحها الصلب احتفظت على الرغم من الهجمة الشرسة بالعديد من النقابات الفرعية والعامة بسبب إلتفاف العمال ودفاعهم عن هذه المؤسسات التي قاموا بتأسيسها واعتبروها شكلاً من أشكال تنظيمهم العمالي.

لقفد نجحت الهجمة المعادية للجمهورية الفتية وإنجازاتها في تفتيت الوحدة الوطنية الداخلية التي كانت بالأمس القريب أحد أهم الأسباب التي أطاحت بالملكية، فجمد بعض الأحزاب الوطنية نشاطه بحجج واهية خدمت بطريقة ما المؤامرة اللاحقة التي حدثت ضد الشعب العراقي ، ومن جهة أخرة  كانت الأحزاب القومية تعمل بجد للوصول إلى هدفها التآمري، ولم يبق سوى الحزب الشيوعي العراقي وبعض القوى الديمقراطية يدافعون عن الثورة ويناضلون من أجل تجاوز الإنتكاسة التي حدثت حينذاك..

  وفي نهاية المطاف وبعد استكمال المخطط الأجرامي التآمري المدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية تسنى للقوى الظلامية التي كانت تتربص بالجمهورية وإنجازاتها الوطنية، ولإعادة العراق وشعبه خطوتين إلى الوراء .

1- خطوة التخلص من رجال الثورة والقوى التقدمية الوطنية والحركة النقابية الحرة وجميع التنظيمات الجماهيرية الأخرى التي تدعم التوجهات الديمقراطية في الحياة السياسية، وذلك عن طريق المؤامرة والإنقلاب العسكري، وقد نجحوا في 8/شباط/ 1963 حيث تسنى لهم بعد ذلك إعدام الزعيم عبد الكريم قاسم وصحبه الوطنيين المخلصين الشرفاء رحمهم الله،  وبحل أو السيطرة على جميع المنظمات الديمقراطية الجماهيرية بما فيها النقابات ، حيث ملئت السجون والمعتقلات بقادة الحركة النقابية من العمال وغيرهم، وتكللت خططهم الإجرامية بإصدارهم البيان رقم 13 الفاشي المعروف.

2- الخطوة الثانية العودة لأحظان القوى الإمبريالية ولكن عن طريق آخر ورجال آخرين رفعوا يافطة القومية والوحدة العربية وتحرير فلسطين وغيرها من الشعارات الفضفاضة التي لم يحققها اولئك الذين رفعوها وتآمروا بها على الحكم الوطني في العراق.

وهكذا تسنى لهذه القوى مجتمعة النجاح في انقلابها الدموي فأغرقت العراق في ظلام تقوده عقول ظلامية كما هي العصور الوسطية الظلامية ، ونجحت في إقامة مسخها من الأنظمة المعادية للتطلعات الطبقة العاملة وحركتها النقابية، ولم تمر سوى فترة قصيرة حتى كانت النقابات تحت هيمنتها، لتوجيهها حسب مصالحها الحزبية الضيقة دون الاهتمام بمصالح العمال وتطلعاتهم الوطنية الحرة في حياة نقابية سليمة تعتمد على مبادئ الديمقراطية النقابية.. ولكن سرعان ما انفضت عرى هذه التحالفات غير الطبعية وتقاتل حتى الموت حلفاء الأمس أعداء اليوم ، وراحت الإتهمات تطلق فيما بينهم عن مسؤولية ما جرى ويجري في العراق..

 أن انقلاب (18) تشرين في عام 1963 لم يختلف من حيث الجوهر عن ما سبقة أثناء ,وبخاصة بعد انفراد حزب البعث العراقي وحرسه القومي بالسلطة، وإنما جرى تغير بعض الوجوه التي تنكرت لحزب البعث  كأحمد حسن البكر الذي أصبح رئيساً للجمهورية بعد انقلاب 1968 وأمين سر القيادة القطرية للحزب، بينما بقت الممارسات الإرهابية والملاحقات الأمنية مستمرة، ولم يطلق سراح إلا اليسر القليل من المعتقلين لأساباب سياسية ومنهم قادة عمال نقابين معروفين بإخلاصهم للطبقة العاملة والحركة النقابية الديمقراطية الحرة، ومعروفين في أواسط واسعة من جماعير العمال العراقيين.. لكن هذه الفترة " الفترتين العارفيتين" شهدت بعض الإنفراجات في العمل النقابي ، وحاول بعض  النقابين من الحركات والأحزاب القومية الذين انسلخوا عنها  بسبب دماغوغية توجهاتها وشوفينية سياستها، العمل من أجل استقلالية النقابات والتنظيم النقابي، ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل، وظلت تصدم بالسياسة العامة للدولة وهي محاربة القوى الديمقراطية وتسلطها على الحياة السياسية والنقابية وحرمان الشعب ومؤسساته السياسية والمهنية من حقه في العمل السياسي والنقابي، وحرية التنظيم والراي والإنتماء..

وبقت هذه الفترة تترواح في مكانها إلا اللهم ما شهدته الساحة العراقية وهو إنشقاق في الحزب الشوعي العراقي مما أثر على الحركة النقابية الديمقراطية، وفي الساحة العربية بعد هزيمة ( ه حزيران 19967 ) التي انهزمت فيها الجيوش العربية( الجمهورية العربية، الأردن، لبنان ، والمشاركة الرمزية للجيش العراقي على الحدود العراقية ) أمام أمام القوات الإسرائيلة، وهي نكسة ليس فقط للحكومات العربية وإنما للقوى القومية والديمقراطية وبضمنها الحركة النقابية الوطنية الحرة.

لقد كشفت وعرت هذه الهزيمة الكثير من الحكومات العربية وأنظمتها الهزيلة التي كان لا يهمها سوى السلطة ومحاربة شعوبها وحجبها للحريات العامة والشخصية ومعاداتها للديمقراطية وحجبهاعن جماهير بلدانها العريضة، وأثبتت هزالة التضامن العربي وضعف الجامعة العربية التي ظهرت بشكل واضح وجلي بأنها لا تمثل إلا المصالح السياسية للحكام والحكومات العربية ، بينما كشفت قوة التلاحم والتعاضد بين دولة إسرائيل وحكوماتها العنصرية وحكومات الولايات المتحدة الأمريكية والكثير من الحكومات الغربية والسائرة في الركب الأمريكي.

لقد بدأت بالفعل بعد هذه النكسة بوادر حركة تصحيحية لمفاهيم حركة التحر الوطني العربي وانعكس ذلك على مجمال الحركة النقابية العربية وفي العراق أيضاً

 

 

يتبع

 



#مصطفى_محمد_غريب (هاشتاغ)       Moustafa_M._Gharib#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الطبقة العاملة العراقية وحركتها النقابية تاريخ ونضالات وآفاق ...
- لنحتال على الضحك........!
- هل جاء الإحتلال رحمة لأقطاب النظام العراقي ؟
- الفرق بين الشجاعة والتضحية ونبْلهما ومهزلة والجبن وعاره الأب ...
- المثقف وحرية الجماهير في طقوس الممارسة العكسية
- هل نستطيع التخلص من الغوغائية في الفكر والضوضائية في العمل ا ...


المزيد.....




- الفينيق يُطلق حملته السنوية بمناسبة اليوم العالمي لمناهضة ال ...
- الفينيق يُطلق حملته السنوية بمناسبة اليوم العالمي لمناهضة ال ...
- نقابة الصحفيين الفلسطينيين تطلق حملة صحفيات بزمن الحرب
- الحكومة الجزائرية : حقيقة زيادة رواتب المتقاعدين في الجزائر ...
- تأكيد المواقف الديمقراطية من الممارسة المهنية وعزم على النهو ...
- وزارة المالية العراقية : موعــد صرف رواتب المتقاعدين في العر ...
- “اعرف الآن” وزارة المالية تكشف حقيقة زيادة رواتب المتقاعدين ...
- مركز الفينيق: رفع الحد الأدنى للأجور في الأردن: استثمار في ا ...
- تعرف على موعد صرف رواتب الموظفين شهر ديسمبر 2024 العراق
- تغطية إعلامية: اليوم الأول من النسخة الأولى لأيام السينما ال ...


المزيد.....

- الفصل السادس: من عالم لآخر - من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الفصل الرابع: الفانوس السحري - من كتاب “الذاكرة المصادرة، مح ... / ماري سيغارا
- التجربة السياسية للجان العمالية في المناطق الصناعية ببيروت ( ... / روسانا توفارو
- تاريخ الحركة النّقابيّة التّونسيّة تاريخ أزمات / جيلاني الهمامي
- دليل العمل النقابي / مارية شرف
- الحركة النقابيّة التونسيّة وثورة 14 جانفي 2011 تجربة «اللّقا ... / خميس بن محمد عرفاوي
- مجلة التحالف - العدد الثالث- عدد تذكاري بمناسبة عيد العمال / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- نقابات تحمي عمالها ونقابات تحتمي بحكوماتها / جهاد عقل
- نظرية الطبقة في عصرنا / دلير زنكنة
- ماذا يختار العمال وباقي الأجراء وسائر الكادحين؟ / محمد الحنفي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الحركة العمالية والنقابية - مصطفى محمد غريب - الطبقة العاملة العراقية وحركتها النقابية تاريخ ونضالات وآفاق مستقبلية - الجزء الثاني - مرحلة جديدة في العمل النقابي