كامل عباس
الحوار المتمدن-العدد: 7018 - 2021 / 9 / 13 - 21:07
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
(1)
عرفت سوريا أواسط القرن المنصرم حكما رشيدا جرت خلاله انتخابات بشكلين .
- انتخابات لمرة واحدة من اجل تشكيل جمعية تأسيسية مهمتها صياغة عقد اجتماعي بين السوريين يبني على التوافق بين ممثلي الكتل السياسية المنتخبة .
2- انتخابات برلمانية كل أربع سنوات مرة واحدة تتشكل على أثرها حكومة جديدة تصيغها الأغلبية وتتحول الأقلية الى معارضة برلمانية لها . وهكذا اذا استعرنا لغة هذا الزمن لقلنا ان سوريا شهدت آنذاك دولة مدنية تعددية تداولية تحددها صناديق الاقتراع وتقوم ديمقراطيتها على المواطنة وليس على المحاصصة . تحطّمت كل المؤامرات التي حيكت على سوريا بفضل صمود البرلمان المدعوم من الشعب السوري, وبقي لدولتهم قرارها الوطني المستقل رغما عن أنف المعسكر وداعميهم في الداخل والخارج
جاءت أشد تلك الضغوط من أمريكا حتى أنها تدّخلت بوقاحة من اجل قلب نظام الحكم بمؤامرة قادها عميل لها يدعى هواردستون تعاون فيها مع الشيشكلي والحسيني وكُشِفت المؤامرة وقُدِم الكثير منهم للمحاكم لكن ذلك لم يثنها عن عزمها للإطاحة بالحكم السوري او دفعه للتحول الى حكم شبيه بالحكم اللبناني حيث تقوم ديمقراطيته على المحاصصة وليس على المواطنة .
استمات "الأشقاء العرب الموالون لأمريكا نوري السعيد من العراق والملك حسين من الأردن وكميل شمعون من لبنان والملك سعود من السعودية , لجّر سوريا الى الحظيرة الأمريكية خوفا عليها من الخطر الشيوعي !! فردت عليهم الحكومة السورية ببيان شهير في 10 / 1/ 1957 جاء فيه حرفيا
( ترفض الحكومة السورية النظرية القائلة بان وجود مصالح اقتصادية لدولة أو لمجموعة من الدول في إحدى مناطق العالم يبيح لها الحق بالتدخل في شؤون هذه المنطقة للحفاظ على تلك المصالح , اذ ان هذه النظرية تخالف بصراحة مبدأ احترام السيادة , هذا المبدأ الذي يجب اتخاذه أساسا لعلاقات الدول فيما بينها والذي قام عليه ميثاق الأمم المتحدة ) وبدلا من الانصياع لهم ذهب رئيس وزراء سوريا خالد العظم الملقب في الشارع السوري آنذاك بالمليونير الأحمر وعقد اتفاقات اقتصادية وفنية بين البلدين يُقدم بموجبها الاتحاد السوفياتي الى سوريا المساعدة الفنية والمالية بفائدة 2,5%لمدة 12 سنة وبعد عودته الى دمشق جرت الموافقة على الاتفاقيات ضمن احتفال رسمي داخل البرلمان ومن ثم نشرت في الجريدة الرسمية .
مع ذلك لم يكن الاتحاد السوفياتي راضيا عن الحكم السوري ذي القرار المستقل وينتظر الفرصة لكي يستحوذ عليه بشكل كامل , وهكذا اجتمعت رغبة أمريكا وروسيا ودول الجوار في الخارج والعسكر في الداخل على الخلاص من ذلك الحكم وكان لهم ما أرادوا أخيرا على يد الوحدة السورية المصرية وبطلها القومي جمال عبد الناصر حيث بادر على الفور بعد الوحدة الاندماجية في حل الأحزاب السورية والبرلمان معا واستبدلهما باستفتاءات ال99%بالتعاون مع أجهزته الأمنية المتعددة .
هكذا وصلنا أخير الى حكم سوري مستقر بعد الحركة التصحيحية مدعوم من الشرق والغرب.
حقيقة قد يتفّهم المرء اتكاء الأسد على فلسفة الشيوعيين ليحّول نفسه الى قائد ضرورة في سوريا, فالشيوعيون وعلى رأسهم لينين دافعوا عن ثبات الأمين العام للحزب وصّوروا كل من يعمل لتغيره زنديق مرتد لا يريد للطبقة العاملة الخير لكونه سيحرمها من القيادة المجرّبة والمحنكة التي تمّرست من خلال المعارك الطبقية ويريد كلما اكتسب أمين عام هذه الخبرة أن يغيره ليأتي غيره , وهكذا يصبح توريث الأمانة العامة الى الأبناء مفيد للطبقة العاملة بحسب التطوير الستاليني لتلك الفلسفة ومن بعده الأسدي لأن هؤلاء يعيشون مع الأمين العام في نفس البيئة والمحيط ويراقبون المعارك الذي يخوضها أبوهم منذ الصغر فيكتسبوا هذه الخبرة ويصبحوا أحق من غيرهم لاستلام منصب الأمين العام .
لكن كيف له ان يتفّهم مساندة دولة مثل أمريكا لحكم كهذا وهي التي تدّعي انها تريد تعميم نموذجها القائم على تداول السلطة بناء على ما تقرره صناديق الاقتراع! كيف له أن يتفهم مباركة وزيرة خارجية أمريكا مادلين اولبرايت لتغيير الدستور السوري خلال أربع وعشرين ساعة ليصبح ملائما لتوريث السلطة في سوريا ؟ مادلين اولبرايت أشرفت بنفسها على الانتقال السلس للسلطة في سوريا – حسب تسميتها الشهيرة لذلك الانتقال - من الأب الى الابن بعد تعديل الدستور ؟؟!!
انكسرت أحلام السوريين في تحديث وتطوير بلدهم فترة الخمسينات وعاد الشعب السوري الى الحظيرة مهموما منكسرا حزينا ليشهد مرحلة من الذل والهوان هي امتداد لاستبداد جثم على صدرها ألف عام
(2)
أكمل التاريخ سيره بخطوات سريعة مؤخرا فأنتج تطورات تكنولوجية وعلمية دفعتنا غصباً عنا الى أن نصبح ضمن قرية كونية نتحّرك في سوقها الرأسمالية بوصفنا بشر بغض النظر عن لون بشرتنا أو عرقنا او قوميتنا أو ديننا, واقتصاد السوق الجديد ألّح على تطوير وتحديث البنية السياسية القديمة وفي مقدمتها هيئة الأمم المتحدة لتنسجم مع ما افرزه التطور من دول جديدة أصبحت بمستوى الدول المسماة كبرى ولها حق الفيتو في هيئة الأمم , بمعنى ما . انتظر العالم خطوة اصلاحية على هذا الصعيد تشبه الخطوة التي تّمت بعد الحرب العالمية الثانية وأنتجت هيئة الأمم بدلا من عصبة الأمم .
لقد عبّر عن تلك التطلعات الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة كوفي عنان عام 2001 من على منبر الجمعية العامة - على سبيل المثال لا الحصر - بقوله في إحدى خطبه ما يلي : إذا كان التدخل العسكري لحماية حقوق الإنسان تعدياً على السيادة الوطنية للدولة ذات العلاقة، كيف يمكن لنا أن نتعامل مع إمكانات وجود راوندا جديدة أو سريبربنتسا أخرى، حيث يجري انتهاك منظّم ومنهجي لحقوق الإنسان في شكلٍ يتناقض مع كل مبدأ من مبادئ بشريتنا المشتركة؟». وكان بذلك يُلوِّح لتفعيل المادة السابعة من دستورها كي تتدخل لحماية المدنيين من بطش حكامها الديكتاتوريين, وبناء على قوله تشكّلت لجنة لدراسة الموضوع والتعامل معه, نتج عنها ما سمي مبادرة «مسؤولية الحماية»، اقترحت جملة مبادئ بُنيت على قاعدة أن السيادة الوطنية ليست حقاً، وإنما هي مسؤولية بالدرجة الأولى وعرضت على الجمعية العامة في عام 2005ووافق عليها 191 دولة .
هذه الأجواء بالذات سببّت هبوب رياح عالمية تطالب بالتغيير نحو الأحسن أوائل هذا القرن ووصلت بالنهاية الى بلدنا سوريا لكن الرياح فيما بعد جرت بما لا تشتهي السفن
بدأت موجة المطالبة بالتغيير من درعا وعلى لسان أشبالها الذين ملؤا جدران شوارعهم بكتابات تقول : اجاك الدور يا دكتور , كانت ردة فعل الأجهزة الأمنية عنيفة مما صّب الزيت على النار ليخرج الشعب السوري عن بكرة أبيه مطالبا بحريته وكرامته بعد أن أهدرتها تلك الأجهزة على مدى عقود وهو يتوهّم بأن المجتمع الدولي سيسند مطالبه العادلة هذه المرة فماذا كانت النتيجة ؟
الصورة واضحة الآن لكل من يريد ان يستعمل عقله , لقد وقف المجتمع الدولي وفي مقدمته روسيا وأمريكا ضد أحلام الشعب السوري خوفا من ان يُشكِّل نظامها الجديد بؤرة اشعاع تنويرية في المنطقة تؤثر على مصالحهم ولذا جاءت جيوشهم الى سوريا ليس من أجل مساندة هذا الشعب في مطالبه العادلة أو حمايته من القصف العشوائي المجنون كما اتفقوا عليه في هيئة الأمم , بل من اجل إعادة الشعب الى الحظيرة كما جرى في الخمسينات او على الأقل التفاهم على حكم جديد يلبي مصالحهم ويعيد الشعب السوري الى القمقم .
وحدها درعا أم الصبي استعصت عليهم ورفضت مهزلة الانتخابات الأخيرة التي كانت أسوأ من كل المهازل الانتخابية السابقة ولسان حالها يقول درعا البلد انتفضت ضد ديكتاتورية الأسد التي تمثلت بانتخابات صورية كان يعرف الجميع نتيجتها مجرد أن تخرج القوائم من فروع الأجهزة الأمنية في المحافظات والآن يريدون تكرار تلك المهزلة وبشكل أسوأ حيث رُفِدت المخابرات بمليشيات ألعن وأدق رقبة في اذلالها للمواطن السوري , لن نشارك في المهزلة . ومع أنهم حاولوا تجاوز كل أخطاء المعارضة السابقة وكانوا مرنين وواقعيين في المفاوضات الا ان ذلك لم يفدههم كون القيمين على المجتمع الدولي يريدون تأهيل نظام الأسد للحكم من جديد فكانت النتيجة تدمير درعا البلد وبموافقة روسيا وامريكا والأردن واسرائيل الذين ضمنوا لهم سلاحا فرديا يستعملونه اذا اراد النظام الانتقام منهم , وسط صمتالعالم كله والمعارضة السورية معا !!!
لم تُقصر الثورة السورية في تعرية النظام الدولي الحالي, لكن التعرية الحقيقية هي في ما حدث مؤخرا في درعا , فالعالم كله يريد تلميع نظام الأسد وإعادة الشعب السوري الى الحظيرة كما جرى في الخمسينات أما الحك عن الانسان وحقوقه فلم يكن الا من أجل ذر الرماد في العيون
بكل اسف قالت احداث درعا الأخيرة : ان حضارتنا الرقمية الجديدة لاتشذ أبدا عن خط قديم في التاريخ حيث استطاع الظالمون هضم أي إصلاحات طالبت بها الشعوب, على العكس فان حضارتنا الرقمية هي الأسوأ والحقائق تفقا العين ففي ظلها شهدنا احتقار الانسان وحقوقه وعودة الى حكم الأمبراطوريات القائم على القوة العارية لاخضاع الشعوب كما كان الأمر ايام القرون الوسطى , وفي ظلها احتقرت روسيا وأمريكا معا كلام كوفي عنان عن السيادة الوطنية ووقفت الى جانب النظام بدلا ان تقف الى جانب الشعب
مليارديري العالم المتحدين الآن وخاصة في روسيا وأمريكا مستعدون لشن حرب جديدة لتركيع الشعوب المنتفضة في كل مكان على طريقة الشعب السوري ويظنون انهم سينتصرون بها, فالعالم كله الآن مع كذبهم ونفاقهم وفسادهم وإفسادهم. الى جانب اسلحة متطورة بين يديهم ,واذا لم ينتصروا فهم يفضلون قيام الساعة وفوران التنور على أن يتنازلوا عن جاههم وعزهم وامتيازاتهم ويخوتهم وطائراتهم ومسابحهم الخاصة .
لكأن التاريخ مشى على رأسه بدلا من أن يمشي على رجليه منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن وضرب كل آمالنا وتطلعاتنا عن دعم ثقاقة وحضارة قرنين من تاريخ هذا الجنس توهمنا أنها ستسند وتساند الانساني على حساب الطبقي .
أخيرا هذه أول مرّة منذ ان بدأت الثورة السورية وحتى الآن اعترف - والحزن والأسى يعصر قلبي - بهزيمة الثورة السورية بعد ان دخل الجيش السوري الى مهد الثورة (درعا البلد) وسط تفرج وصمت العالم الخارجي والمعارضة السورية على التدمير والتهجير والإذلال لأبنائها.
لن يغير من الأمر القول : أنها هزيمة بطعم النصر .
كامل عباس – اللاذقية
#كامل_عباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟