|
الانسان أهم من رأس المال
منى نوال حلمى
الحوار المتمدن-العدد: 7018 - 2021 / 9 / 13 - 06:20
المحور:
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
---------------
ما هو " المعيار" ، الذى يحدد ، " صغر " ، وتفاهة " ، أو " كبر " ، و " أهمية " الأشياء ؟ . أولا ، أي معيار ، هو " نسبي " . بمعنى ، أنه يعبر ، عن ثقافة خاصة ، ومزاج معين ، ومصالح محددة . وبالتالي ، فإن الشئ " الصغير" ، " التافه " ، عندى ، ليس هو ، الشئ " الصغير " ، " التافه " ، عند شخص آخر . ثانيا ، وهذا هو بيت القصيد ، الذي يؤرقني منذ زمن بعيد ، هل هناك ما نستطيع أن نسجنه ، فى قالب " الشئ التافه " ، أو " الصغير " ، فى مقابل " الشئ المهم " ، " الكبير " ؟. ان ذرات الرمال ، تصنع الجبال ، وقطرات الماء ، تصنع البحار ، وتروى الظمأ . وشمعة واحدة ، تضئ الظلام ، ودقيقة من الزمن ، تفصل بين الموت ، والحياة ، بين الليل ، وطلوع النهار. فهل نعتبر ، قطرة الماء ، مثلا ، شيئا ، " صغيرا " ، " تافها " ؟ . النار من مستصغر الشرر ، فهل من الحكمة أن نستهين بخيط دخان ؟ . ان عودا واحدا من الكبريت ، ملقى باهمال بجانب الحائط الكبريت ، قد يحل لغز جريمة غامضة ، ظلت مستعصية على الحل فترة طويلة . و زلة لسان غير مقصودة ، تكشف مشكلة نفسية مزمنة . ذرة واحدة من الملح ، اما أن تصلح الطعام ، أو تفقده مذاقه . " فيروس " فى منتهى الصغر ، لا ُيرى بالعين المجردة ، يفتك بالأفراد ، ويبيد الجماعات . كلمة واحدة ، تُقال الصباح ، إما أن تعكر مزاجنا اليوم كله ، أو تجعله يتألق . نقطة حبر ، تلوث صفحة بأكملها . ورحلة الالف ميل تبدأ بخطوة . فهل من العدل ، أو من حسن التمييز ، القول مثلا ، بأن ذرة الملح شئ تافه ؟ . كلمة واحدة عابرة ، لا تستوقفنا ، تسمعها الطفلة ، فتصبح حين تكبر ، مثل ريا وسكينة ، أو مثل مى زيادة ، ومارى كورى . كلمة واحدة نعتبرها " لا شئ " ، يسمعها الطفل ، فيكبر ، مثل جبران خليل جبران ، وألبرت اينشتين ، وتشى جيفارا ، أو يصبح مثل جنود وزعماءالتنظيمات الدينية المسلحة بسفك الدماء ، وأستاذ الاجرام والنازية هتلر ، وقاتل متسلسل يجوب الطرقات ليلا ، للذبح والتمثيل بجثث الضحايا . كلمات بسيطة عابرة ، فى الطفولة ، تحولنا الى اما أسوياء ، أو مرضى . ألسنا نقول ، فى أمثالنا الشعبية ، " القشة التى قصمت ظهر البعير " ، أو " جاءت على أهون سبب " ، أو " النواية تسند الزير " ؟؟. إنها تلك الأشياء ، التي يسميها البشر " صغيرة " ، " ليست مهمة " ، أو " تافهة " ، لكنها تصنع كل الفرق ، وتميز بين طباع ، ومواهب وشخصيات البشر ، وتجعل " شيرلوك هولمز " ، وهو الشخصية الوهمية ، التى ابتكرها ، وابتدعها ، د . أرثر كونان دويل 22 مايو 1859 – 7 يوليو 1930 ، يتفوق فى بعض الجرائم ، على سكوتلاند يارد نفسها . " انها موهبة البحث عن التفاصيل بدقة " ... هكذا أسميها ، وهى الشئ الغائب فى مجتمعاتنا . الكل ، أو أغلب الناس ، ينشغلون بالأشياء " الواضحة " ، " المرئية " ، " الكبيرة " ، " المهمة " ، " الجسيمة " . ويغفلون تماما ، عن الأشياء " الخفية " ، " غير المرئية " ، " الصغيرة " ، " غير المهمة " ، " البسيطة ". من أجمل أغنيات ، المغنية الأميركية ، " كيتى كالين " 25 مايو 1921 – 7 يناير 2016 ، أغنية بعنوان " أشياء صغيرة تعنى الكثير " ، وفيها تقول لحبيبها أنها تحب الأشياء الصغيرة ، مثل أن يلمس شَعرها وهى جالسة على الكرسى ، أو أن أن يأخذ ذراعها وهى تعبر الطريق ، التى تعنى الكثير ، ولا تهتم بأن يشترى لها الجواهر أو غيرها . في مقدمة ، كتابه ، أسطورة سيزيف ، يقول الفيلسوف والأديب الفرنسى ، البيركامو ، 7 نوفمبر 1913 – 4 يناير 1960 ، أن الانتحار ، هو المشكلة الفلسفية ، الوحيدة الجديرة بالتأمل . وأنا أتفق معه تماما . فأن ينهى شخص ما ، حياته بيديه ، فى لحظة محددة ، وقد قرر الاختفاء نهائيا عن كل الأشياء ، وجميع البشر ، عن الحياة التى يتشبث بها الناس ، ويخافون من ضياعها ، لهو أمر جسيم ، جدير بالتحليل ، والتفسير . فى هذا الكتاب ، يفرق ألبير كامو ، من " دافع الانتحار " ، و" أخذ قرار الانتحار ". فالدافع الواضح ، ربما يكون الاكتئاب ، أو الإحباط ، أو ألم فقد شخص عزيز ، أو الاصابة بمرض لا شفاء منه ، أو أحوال معيشية رديئة مزمنة . الإنسان يقرر الانتحار ، لأحد هذه الدوافع . لكننا لا ندري بالتحديد ، وبدقة ، ما الذي جعله " ينفذ " هذا القرار الكامن ، في لحظة معينة في يوم معين ، ويحوله من " رغبة " ، الى " فعل " . وغالباً ما يكون " المسبب " لتنفيذ القرار ، هو ما نسميه ، شيئا ، " صغيرا " ، أو " تافها " .
مثلا ، أن تأخذ إنسانة ما ، قرار الانتحار ، يوم 10 ديسمبر عام 2000، لأنها مريضة باكتئاب مزمن . لكنها " نفذت " القرار ، يوم 22 أكتوبر 2002 . هنا يقول ألبير كامو ، أن الشئ " الجسيم "، هو الاكتئاب المزمن المصاحب بميول انتحارية . لكن شيئا " صغيرا " ، أو " تافها " ، هو الذى ، دفعها لتنفيذ القرار الفعلى . ربما ألقى عليها أحد ، تحية الصباح ، بنبرة صوت لم تعجبها ، أو أبصرت سحابة سوداء ، تمر بالسماء ، أو سمعت لحنا معينا ، أو اخترق أذنيها ، نفير سيارة عابرة ، أو زعيق ميكرفون . عن تجربة شخصية ، فاننى كثيرا ما أكون جالسة أكتب موضوعا جديدا ، أو قصيدة جديدة ، تأتى ذكرى لقاء معين ، أو استمع الى نغمات لحن فى الراديو ، أو أستعيد مكالمة هاتفية ، أو أو أحدق قليلا فى خشب الأثاث ، والأوراق المحيطة بى ، أجدنى وقد اجتاحتنى حالة مركبة معقدة من الغثيان الروحى ، وأرغب بشدة فى القفز من النافذة ، والانتهاء من الحياة بأسرها ، بحلوها ، ومُرها . فى عام 2003 ، احتفل العالم لأول مرة ، باليوم العالمى لمنع الانتحار ، فى 10 سبتمبر ، بعد أن أصبح ظاهرة عالمية ، حيث هناك على مستوى العالم ، شخص يقتل نفسه كل 40 ثانية . أنا مقتنعة جدا ، أن المصائب ، والكوارث ، تحدث لأننا أهملنا ، أشياءً ، نعتبرها " صغيرة " ، أو " غير مهمة " . بل اننى أعتبر ، أن " النضج " ، هو رؤية الأشياء " الصغيرة " ، وأن " الحكمة " ، هى عدم الاستهانة ، بالأشياء ، " التافهة " . وأعرف الانسان " الكبير " ، بأنه الانسان القادر على التقاط ، وتفسير ، لأشياء " الصغيرة ". كما أننى مقتنعة ، أن هذا العالم الذى صنع يوما عالميا " لمنع الانتحار " ، فى 10 سبتمبر ، هو السبب الرئيسى ، فى انتحار البشر . هذا العالم المؤسس على أن أسياد العالم هم الأغنياء ، والرجال ، والحكام ،يزدهر على مصير وحرية وسعادة وصحة ، الفقراء والنساء والمحكومين ، لابد أن يصيبنا بأمراض جسدية وعقلية ، ونفسية ، واضطرابات وجدانية ، وعدم اتساق نفسى ، وأنواع من الازدواجيات ، والتناقضات ، والكآبة ، والتعاسة . هناك ناس " تحتمل " ، و " تتفلسف " ، و" تقاتل " حتى النهاية . وهناك وهناك ناس " تبتسم ولا تكترث ". هناك ناس " تعيش يائسة " . هناك ناس تريد الانتحار فعلا ، ولا تقدم عليه ، عجزا ، أو جبنا ، أو خوفا من كلام الناس ، وحكم المجتمع بالكفر . وهناك ناس " تنتحر ". ان أغلب أطباء النفس ، يعالجون الأمراض النفسية ، والاكتئاب الشديد المزمن ، المصاحب بميول انتحارية ، باعطاء مواد كيميائية ، تعدل وتضبط الكيمياء فى مخ الانسان المكتئب . مع أن المفروض ، هو عدل وضبط الكيمياء ، فى مخ العالم . والسؤال الجوهرى ، هو لماذا أصلا تختل ، أو تنقص ، الكيمياء فى مخ الانسان ، يظل بلا اجابة . وأحيانا يقولون ، هناك استعداد وراثى للاكتئاب . لكن السؤال يبقى ، عن السبب الرئيسى الجوهرى ، لهذا الاستعداد . فى جميع الأحوال ، يظل " الانتحار " محيرا ، لأنه ليس مقتصرا على طبقة معينة ، أو فئة معينة ، أو شريحة معينة ، أو مهنة معينة ، مجتمعات فقيرة، أو على مجتمعات مرفهة ، مجتمعات قاهرة ، أو مجتمعات حرة ، مجتمعات تدين بدين واحد ، أو مجتمعات متعددة الأديان أو لادينية . لكننى أرى أن مع اختلاف المجتمعات على سطح الكرة الأرضية ، الا أنها تخضع لحضارة عالمية واحدة ، حضارة أن " رأس المال ، أهم من الانسان ". " تعددت المجتمعات ورأس المال واحد ". هذا هو عنوان العالم اليوم . ورغم أن دراسة ظاهرة الانتحار ، ربما يفيدها تحليل كل " حالة فردية " ، على حدة ، الا أننى على يقين ، أن معدلات الانتحار سوف تقل ، لو انعكس المبدأ السائد عالميا ، وأصبح " الانسان أهم من رأس المال ". جميع المشاكل والأزمات والأمراض ، وسفك الدماء ، والتعاسة ، والمخاوف ، والجرائم ، سوف تنتهى لو أصبح " الانسان " ، أو " الانسانة " ، أهم من " الفلوس " ، ولها قيمته المرموقة ، وكرامته المحفوظة ، واحترامها المعترف به ، وهى " معدمة " ، لا تملك شيئا . ------------------------------------------------------------------
#منى_نوال_حلمى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السيد درويش البحر .. اسرار وعنفوان وطزاجة وخلود - البحر-
-
الفقر والمحتل الأجنبى وسُلطات الذكور
-
السنبلة الممتلئة بالقمح
-
القٌبلة اختصار
-
هيا يا مصر افعليها ولا تخافى خفافيش الليل وخفافيش النهار
-
عقليات وأخلاق بعض أصحاب التعليقات على الكُتاب والكاتبات
-
أربع قصائد
-
كلمات الرئيس السيسى عن اعادة التفكير فى المعتقد الدينى
-
قصة حب ترقص على ايقاعات المستحيل
-
أسلمة أوروبا وخدعة فصل الدين عن الدولة
-
قصيدة ما أحتاج اليه
-
تدوس على الخطوط الحمراء ولا تشرب من كوكتيلات الترقيع
-
السيطرة على - ألم البشر والسيطرة على - حرية - البشر
-
قصيدة نختبئ تحت الغطاء
-
ثلاث قصائد
-
- أسلمة - الموجة الحارة بضاعة فاسدة قاربت على الافلاس
-
أديب يكتب لنا من تحت التراب
-
3 أغسطس ... ميلاد رجل يفرحنى
-
نقد الاجماع المتواتر للفكر العلمانى
-
امرأتان
المزيد.....
-
استفزه فضربه الآخر بكرسي.. مرشح لمنصب عمدة بالبرازيل يهاجم م
...
-
كاميرا ترصد لحظة القبض على المشتبه به في محاولة اغتيال ترامب
...
-
ترامب يعلن أنه سيتفاهم مع روسيا والصين إن فاز بالانتخابات
-
جزر الكناري تستقبل 500 مهاجر غير شرعي من جنسيات مختلفة خلال
...
-
إثيوبيا تصل قريبا للبحر الأحمر.. توتر جديد بالقرن الأفريقي؟
...
-
الصومال يوقع قانونا يلغي الاتفاقية بين إثيوبيا وجمهورية أرض
...
-
هل باتت الحرب بين إثيوبيا ومصر وشيكة؟
-
نصف سكان الأرض لا يتناولون ما يكفي من 7 عناصر غذائية هامة..
...
-
الجيش الإسرائيلي يعتقل 3 فلسطينيات بينهن زوجة القيادي الأسير
...
-
الدفاع الروسية تنشر فيديو لتطهير قرية حدودية من قوات كييف
المزيد.....
-
الجِنْس خَارج الزَّواج (2/2)
/ عبد الرحمان النوضة
-
الجِنْس خَارج الزَّواج (1/2)
/ عبد الرحمان النوضة
-
دفتر النشاط الخاص بمتلازمة داون
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (مقدمة) مقدمة الكتاب
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (3) ، الطريق المتواضع و إخراج
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
ثمانون عاما بلا دواءٍ أو علاج
/ توفيق أبو شومر
-
كأس من عصير الأيام ، الجزء الثالث
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
كأس من عصير الأيام الجزء الثاني
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
ثلاث مقاربات حول الرأسمالية والصحة النفسية
/ سعيد العليمى
-
الشجرة الارجوانيّة
/ بتول الفارس
المزيد.....
|