بعد انهيار المعسكر الاشتراكي الأوروبي بزعامة الاتحاد السوفياتي، وتضخم معسكر حلف الأطلسي، وتراجع مصطلح دكتاتورية البروليتاريا ليحل مصطلح دكتاتورية العسكرتاريا الأطلسية والأوليغاريا الأمريكية، وتمركز رأس المال العالمي بأيدي أقل من خمسمائة من أصحاب المليارات القابعين وراء حصونهم المحروسة بالأجهزة الإلكترونية المتواصلة مع الأقمار التجسسية يتحكمون بالعالم من خلال المصارف والاحتكارات والمضاربات المدمرة للغير بدون شفقة أو رحمة، وأمبراطورياتهم الإعلامية المقروءة والمسموعة والمنظورة التي بإمكانها قلب الحقائق رأساً على عقب وتتحكم بالرأي العام لصالحهم، وأجهزة الاتصال الحديثة بكل إبداعاتها اللامحدودة، وممثليهم في من يرشحونهم ويوصلونهم إلى مراكز القرار، وأجهزة القمع الحديثة بوسائلها الجهنمية، وغياب شعار(يا عمال العالم اتحدوا) ليرتفع شعار(يا بورصات العالم اسحقي كل من هم دونك)، وتحول ثنائية التوازن القطبي العالمي إلى أحادية القطب المتجبرة والمتسلطة بهمجية غير مسبوقة على مقدرات الآخرين، واقتناص 20 في المائة من سكان العالم 80 في المائة من دخله، وتحول أكثر من مليار راغب في العمل وقادر عليه وبأمس الحاجة له إلى جيوش عاطلة عن العمل تتجول كجثث متنفسة في شوارع وعلى أرصفة المدن الكبرى، لتحل محلهم التكنولوجيا الذكية المؤتمتة والمروبطة، وعيش أكثر من 2.5 مليار نسمة في العالم المعاصر تحت خط الفقر ومثلهم يتناولون مياه غير صالحة للشرب، وحوالي مليار نسمة ينامون على الطوى .. إلخ، هذا عداك عن حالات الأوبئة والأمراض المتزايدة، وتكاليف الحياة المتصاعدة، مما يجعل حياة الكادحين من عمال وإنتلجنسيا فكرية في حالة تردي مستمر يوما بعد يوم.
ولقد كان عيد العمال العالمي في الأول من شهر أيار في الماضي غير البعيد، يمثل عيد الزهو والكبرياء الجماعي، والانتصارات العمالية، والإنتاج المبدع لما تحتاجه المجتمعات، والثقة بالنفس والآمال العريضة بالحاضر والمستقبل، والاقتناع بأحقية الكادحين من العمال والفلاحين المنتجين للخيرات المادية في جني ثمار عملهم، وفي اتخاذ القرار الديمقراطي (كونهم الأكثرية في المجتمع) في دولتهم العمالية العظيمة التي بنوها بسواعدهم وجبلوا اسمنتها بعرقهم ودافعوا عنها بأرواحهم .. إلخ.
وكانت ورود القرنفل الأحمر، واللافتات التي تحمل شعار: يا عمال العالم اتحدوا .. والأعلام والبيارق الحمراء ترفرف بشموخ وكبرياء فوق رؤوس العمال والعاملات في الميدان الأحمر في موسكو، كما في كل شوارع المدن الكبرى في العالم، وبما يشعر كل ناظر إليها أن هذا العيد هو عيده لأن خير عمال الاشتراكية يعم جميع سكان العالم في ظل شعار الأممية .. فيفرح مع الفرحين، ويتوقع متأكداً المزيد من الإنجازات والرفاهية لعمال العالم في ظل السلام العالمي، والمزيد من التقدم لكل قوى الخير في العالم ولا سيما بعد تتالي الانهيارات الرأسمالية الاستعمارية العالمية واستغلالاتها، ومافياتها، وبورصاتها، وإفلاساتها آنذاك تحت ضربات الأحزاب اليسارية والقوى التقدمية في كل أنحاء العالم وحركات التحرر في بلدان العالم الثالث بعد الحرب العالمية الثانية مدعومة سياسيا وعسكريا وأيديولوجيا وفي المنظمات الدولية من قبل المعسكر الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفياتي، ولا سيما بعد إمساكه بقوة بناصية الثورة العلمية التكنولوجية وامتلاكه القدرة النووية والعسكرية البرية والبحرية والجوية والفضائية التي بإمكانها التصدي لكل قوى الشر في العالم، وتجاوز كل المراحل الصعبة التي فرضت عليه من حروب وحصار، وبالتالي بدأت مرحلة الحصاد والقطاف العمالي لثمارالنضال الاشتراكي اليانعة، ولا سيما كان قد بدأ التحول للمرحلة الاشتراكية الأكثر تطورا لتعويض الكادحين عما بذلوه من جهد وكدح في بناء مجتمعاتهم الاشتراكية الإنسانية.
ولكن البيروسترويكا الغورباتشوفية الهدّامة، والحماقة اليلتسينية الكارثية أطاحتا بكل المنجزات والمكتسبات الاشتراكية الكبيرة، وهدمتا ذلك الصرح العمالي الاشتراكي التقدمي الأممي العظيم المتمثل في الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي المتعاظم في حينه، المتصدي للإمبريالية والصهيونية والرجعية، المناصر لقضايا المستضعفين في كل أنحاء العالم، وتخلت عن مكتسبات عشرات السنين لبعض الشركات الإمبريالية والصهيونية، وحولت الشعب السوفياتي الأمن والسعيد في نظامه الاشتراكي إلى شعب يعاني الأمرّين في ظل البطالة والمديونية والمافيات والنهب العالمي لثرواته أمام عينيه، ومعها تهدمت آمال الشعوب الفقيرة في البلدان النامية وخاصة آمال الطبقة العاملة في كل البلدان في ظل العولمة الجديدة التي شعارها (يا مافيات العالم اتحدوا) (ويا بورصات العالم ازدادي غنى).
وانعكس ذلك أكثر ما انعكس على البلدان العربية والإسلامية التي أصبحت بلا مظلة عالمية تستظل بها أو جدار تستند عليه أو كتف تتكئ عليه أو حتى صدر تبكي عليه ولا سيما في ظل تهميش الأمم المتحدة وقرارت مجلس الأمن، ولا سيما بعد تفجير برجي التجارة الدوليين في نيويورك في 11/9/2001 فتحولت هذه البلدان إلى أهداف ثابتة للرمي عليها أو حصارها، أو اجتياحها كما جرى في أفغانستان والعراق الشقيق، ولا سيما بعد أن تم تجاهل المظاهرات العالمية والرأي العام العالمي والمنظمات الدولية وتجاوزها، وتحولت إدارة العالم إلى القطب الدولي الواحد، المتمثل بأمريكا واللوبي الصهيوني العالمي المتحكم بها، وأصبح المال والإعلام وبالتالي القرار بأيدي البورصات وتجار السلاح وشركات البترول، وبضع مئات من كبار الطواغيت الرأسماليين من أصحاب المليارات وأكثرهم من الصهاينة، الذين يتحكمون بأرزاق المليارات السبعة من بني البشر، ويحتمون في قصورهم العاجية، ومخابئهم الذرية وراء الأبواب الحديدية المصفحة، تحميهم الروبطات الإلكترونية، وأجهزة القمع الرهيبة الموظفة باسم دافعي الضرائب لحمايتهم من الجماهير الكادحة الجائعة الغاضبة، وأصبحت شريعة الغاب هي التي تسود عالم اليوم.
وهاهي ذي البطالة والفقر من جهة ينهشان أجسام ونفوس عمال المناجم ومعامل الحديد والصلب والسيارات وكل أنواع الصناعات الأخرى وأسر هم وكذلك خريجي الجامعات والمعاهد من الشباب والشابات، ومن الجهة الثانية تنهشهم عصي أجهزة القمع إن هم طالبوا بحقوقهم الإنسانية الحياتية، ويودي بهم الحرمان إلى الاكتئاب والإحباط والقنوط فالتصوف والزهد أو الإرهاب فالسجن أو القبر .. إلخ وأصبح المهم فقط المزيد من الترف والسمنة لمافيات البورصات العالمية في أمريكا الشمالية والاتحاد الأوروبي واليابان ووكلاؤهم في البلدان الأخرى .. إلخ.
وهاهي ذي المظاهرات العمالية الاحتجاجية على الرأسمالية وعلى الفوارق الطبقية المتزايدة تعبر عن نفسها في الأول من أيار من كل عام، ولا سيما في أكبر العواصم الإمبريالية وتصطدم مع أجهزة القمع البوليسية الرأسمالية في كل هذه الدول .. إلخ، بالإضافة إلى روسيا وبقية البلدان، والمطالبة الحادة بالعمل والقضاء على البطالة المتفاقمة، ورفع الأجور، وتحقيق الضمان الصحي والاجتماعي، وتحسين ظروف العمل، والعدالة، والمساواة الاجتماعية، وإزالة الظلم والقهر الاجتماعيين، وتخفيض أسعار متطلبات الحياة، والمشاركة في ملكية وسائل الانتاج .. إلخ.
وما المظاهرات العمالية هذه إلا صور للمظاهرات الجماهيرية الغاضبة التي قامت في كل من سياتل، وبراغ، ودافوس، وجنوا، وكيوبيك، وجنوب إفريقيا .. إلخ (ضد العولمة المفروضة من الدول الغنية الصناعية السبعة، وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الدولية)، والتي تدل كلها على تزايد خطر اتساع الفجوة الكبيرة بين الأقلية المالكة الحاكمة المستغلة، والأكثرية المحرومة الجائعة والمفتقرة المستغلة والمهمّشة ..
وإننا عندما نندب المعسكر الاشتراكي نندب صديقا قويا للعرب ونصيرا لكل الشعوب الفقيرة، بالفكر الثوري والتأييد السياسي العالمي، وبالكلاشينكوف، وبالمشروعات الاقتصادية الاستراتيجية والتعليم المجاني لأبناء العالم الثالث (بمن فيهم العرب) في بلاده لتنمية بلدانهم، وتعريض وتقوية الجبهة المعادية للإمبريالية والصهيونية.
ونحن العرب وأمام تكالب قوى الشر الإمبريالية والصهيونية علينا، وخاصة بعد غياب الأصدقاء الأقوياء وكذلك في غياب الوحدة العربية (وخاصة بعد وجع وألم وحزن وضيم الشعب العراقي الشقيق المقهور بما سببه له حاكمه الجاهل من كوارث متلاحقة منذ عام 1980 بهدم الجدار الإسلامي العربي و1990 وهدم الجدار العربي وحتى 9/4/2003 وإلى الآن ولأمد طويل بتطبيق كل الجدران والأسقف على الشعب العراقي الطيب الكريم النبيل، نتيجة سياسته القمعية واعتدائه على الآخرين والتسبب في محاصرته وتجويعه وإمراضه وإفقاره والاستعداء عليه وتدمير بنيته التحتية والفوقية، ليصبح شعباً محتلاً دون ماء نظيفة وبدون غذاء أو دواء ودون كهرباء ودون متحف وبدون مكتبات أو جامعات أو مدارس أو مشافٍ أو أرشيف .. إخ إلخ، وبالتالي تحويله من أغنى شعب في العالم الثالث بالمياه والبترول والغذاء والرفاهية والتعليم .. إلخ بالنسبة للفرد الواحد من السكان وخاصة في المنطقة العربية، إلى مستوى شعوب العصور الوسطى، ورهن كل ثرواته الكبيرة لمئات السنين المستقبلية ثمنا لعشرات القصور وآلاف التماثيل وعشرات الآلاف من أطنان الأسلحة الحديثة والقديمة التي لم تستعمل يوما إلا ضد الأهل والأخوة في العراق وإيران والكويت .. إلخ إلخ) ذلك بالإضافة إلى الوجع الفلسطيني الذي ابتلي باستعمار استيطاني يتحكم في أقوى الأسلحة الأمريكية الحديثة والدعم الأمريكي اللامحدود، ووقوف العرب والعالم أجمع يتفرج والكل يقول وبحسرة: قدر وما باليد حيلة .. إلخ.
وبعد كل هذه الكوارث العالمية والعربية وخاصة منها الفلسطينية والعراقية أما يحق لنا وخاصة نحن العرب أن نندب حظنا ونعيد ونكرر بملء الأفواه والأشداق وبكل ميكروفونات المعابد قول شاعرنا العربي العظيم أبو الطيب المتنبي وهو في أسر كافور الإخشيدي: (عيد بأية حال عدت يا عيد .. إلخ) .. (فليت دونك بيداً دونها بيد)؟!
وبالتالي نعيد ترتيب البيت العربي من الداخل والتعاون مع كل الخيّرين بالعالم للقضاء المطلق على الأمية الأبجدية والعلمية والتقنية والتوعوية والوحدوية والديمقراطية والحقوقية الإنسانيةوالعدالة الاجتماعية .. إلخ.
وإن تورّم الأزمات العالمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعرقية إلى حد التوزّم والتقيُّح .. إلخ (التي لا تقدر العلاقات الإنتاجية الرأسمالية على حلها لا كليا ولا جزئيا لاحاضرا ولا مستقبليا)، لا بد من أن تتسبب في فرز القوى التقدمية الخيّرة على مستوى العالم، لتتصدى لكل هذا الخلل العالمي الفظيع المخالف لكل القوانين الطبيعية والأخلاقية والإنسانية، وتصويب الاختلالات والأخطاء حيث وجدت، وقد يطول الانتظار أو يقصر ولكن لا بد أن ياتي المصوِّب من الأرض أو من السماء.
__________
* أستاذ الاقتصاد بجامعة حلب