|
ماركسيون لاقوميون يساريون - ردا على جينارو جيرفازيو
سعيد العليمى
الحوار المتمدن-العدد: 6991 - 2021 / 8 / 17 - 20:15
المحور:
التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية
نشر هذا النص كمدخل للجزء الثانى من الوثائق التأسيسية لحزب العمال الشيوعى المصرى – بمناسبة مرور خمسون عاما على تأسيسه تحت عنوان : القضية الوطنية – تقديم جينارو جيرفازيو وتحقيق سعيد العليمى عن دار المرايا – القاهرة – 2021 . وللأسف لم تنشر هوامش هذا المدخل رغم أنها ليست أقل أهمية من المتن فضلا عن أن هناك مصار وأفكار تقتضى الأمانة العلمية نسبتها لأصحابها . لذا أنشر هنا النص كاملا . يتناول هذا المدخل للوثائق المنشورة هنا تقييمًا نقديًا لسياسات حزب العمال الشيوعي المصري في المسألة الوطنية، والقومية العربية، والوحدة العربية، والصراع العربي الإسرائيلي 1969 – 1979 تعقيبًا على ما تضمنه الفصل الثامن ( ص ص 148 - 167) المعنون: ماركسية أم قومية يسارية، اليسار في مصر في السبعينات بقلم الأكاديمي الإيطالي المعروف في أوساط المثقفين المصريين د. جينارو جيرفازيو، في كتاب أشرفت على تحريره الأكاديمية د. لور جرجس وهو: اليسار العربي، تاريخ وتراث من 1950 - 1970( )، وهو فصل لا يضيف جديدًا لما سبق أن طرحه باحثنا في دراسة سابقة هي أطروحته الجامعية : الحركة الماركسية في مصر (1967– 1981)، ولا يعدو أن يكون تكرارًا وتلخيصًا لما انتهى إليه فيها. ولا يولد تكرار القول معرفة بالقول، بل ربما أسهم في طمس الواقع الذي أراد أن يعرضه بعد أن توفرت فعليًا مواد وثائقية إضافية بعد انجاز أطروحته الأولى كان من المحتمل لو حرص على الاطلاع عليها، أن تغير بعض التصورات السابقة حول بعض الظواهر، بدلًا من الارتكان في تفسيرها إلى عامل واحد بديلًا عن "التحديد التضافري"، وأن تصوب بعضها الآخر، وهو في كل الأحوال لم يستفد بكل الوثائق الحزبية التي توفرت له والتي ذكرها بوصفها مصادر أطروحته، ولم يصِب في تفسير بعضها، فضلًا عن أنه لو تمعن في المآل الذي بلغه الوضع الراهن في مصر أي حاضر النظام الاقتصادي والسياسي الحالي، بروابطه الإقليمية والعالمية والمحلية، بعد أن تفتحت كليًا "أزهار الشر" التي بذرتها الطبقة الاجتماعية التي رعاها الرئيس أنور السادات (25 ديسمبر 1918 – 6 أكتوبر 1981) في فترة تدهورها، ربما أمكنه أن يفسر الأحداث التاريخية في السبعينات على نحو أعمق من الظاهر وصولًا إلى الجوهر، فالحاضر هو الذي يملك مفتاح الماضي على حد تعبير ماركس . وكما أشير عاليه سبق لباحثنا أن أصدر كتاب الحركة الماركسية في مصر (1967 – 1981) وقد كان وقت صدوره عملًا رائدًا في مجال لم يسبق طرقه من قبل بمثل هذا التوسع النسبي ومن مواقع غير متحيزة عن المنظمات الراديكالية في السبعينات، وقد خصص فيه لـحزب العمال الشيوعي المصري قسمًا هامًا.( ) أولا : في غياب المفهوم وأول ما يواجهنا في بحثه ماركسية أم قومية يسارية هو غياب المفهوم والتعريف، وافتقاد التحليل الطبقي؛ فماذا يعني بدقة ومن الناحية النظرية بمقولته في وصف سياسات ح.ع. ش.م. بأنها "قومية يسارية"؟ ولا يدري أحد إن كان المقصود قومية يسارية مصرية ؟ أم قومية يسارية عربية ؟ معادية للأممية وشوفينية، أم معادية للإمبريالية عمومًا، أم للصهيونية تحديدًا أم للاثنين معًا ؟ وماذا تستهدف هذه "القومية اليسارية"؟ وما هو مضمونها الطبقي، وأساسًا باسم أي مفاهيم نظرية ماركسية معيارية يحاكم خطنا السياسي؟! والحال أن مفهوم القومية Nationalism أو الوطنية Patriotism هو مقولة اتفاقية اصطلاحية، ومن الضروري تعيينه وتحديده فهو مناط الإدراك والفهم، وخاصة لأنه عرضة لتعدد الدلالات والمعاني التي تتغير في سياق المجال المعرفي التاريخي الذي ينطوي فيه بتغير الواقع، كما أن له ذاتيته في إطار المشكلات التي تطرح أو التساؤلات التي يجيب عنها حتى يتفادى أنواعًا من الانتقاء أو ضروبًا من التحوير، بينما علينا أن نتمكن من أن نحكم بدقة على مدى المطابقة بين سياسات بعينها وبين القول عنها والتفكير فيها وإلا بات القول متاهة مسكونة بما هو غامض لفظيًا وظاهريًا، بعيد عن المعنى المضبوط ودانيًا من حقل الدلالات الملتبسة .فالمفهوم هو شكل من أشكال انعكاس العالم في العقل يمكن به معرفة الظواهر والعمليات، وتعميم جوانبها وصفاتها الجوهرية. كما أن التعريف هو نهج منطقي يمكن من تمييز أو إيجاد أو بناء نوع من الأشياء وفرزها بخصائصها النوعية (الخواص والعلاقات).( ) والواقع أن بعض التعريفات للقومية اليسارية تسمها بأنها توجه معارض للنزعة العرقية رغم أن بعض أشكالها حبذتها بتفضيلها مجتمعًا متجانسًا خالٍ من الأقليات معارضًا للهجرة. كما توصف القومية الاجتماعية أو مرادفها القومية الاشتراكية بأنها قومية يسارية، وهي تقوم على المساواة الاجتماعية والسيادة الشعبية، وحق تقرير المصير القومي كما أنها يمكن أن تشمل حركات مناهضة الإمبريالية والتحرر الوطني. ومثال هذه الحركات القومية اليسارية الجيش الوطني الهندي الذي عزز استقلال الهند عن بريطانيا، والحزب القومي في كويبك بكندا، وحزب شين فين في أيرلندا، وحركة الاستقلال الكتالوني أو الباسكي في أسبانيا، وعصبة الشيوعيين اليوغسلاف ، والمؤتمر الوطني الأفريقي لجنوب أفريقيا تحت قيادة مانديلا، وحركة 26 يوليو في كوبا، والصهيونية العمالية في إسرائيل.( ) وتقدم موسوعة ويكيبديا تحت مادة القومية اليسارية تعريفها التالي: "قومية الجناح اليساري أو القومية اليسارية، المعروفة أيضًا بالقومية الاجتماعية، الاشتراكية القومية أو القومية الاشتراكية، تصف شكلًا من القومية مؤسس على المساواة الاجتماعية، والسيادة الشعبية وحق تقرير المصير، ويمكن للقومية اليسارية أن تتضمن أيضًا مناهضة الإمبريالية، وحركات التحرر القومي. وهي تقف في تضاد مع القومية اليمينية، وغالبًا ما ترفض القومية الإثنية لنفس الغاية، رغم أن بعض الأشكال الأخرى من اليسارية القومية قد تبنت برنامجًا ينطوي على نزعة عرقية، محبذة مجتمعًا متجانسًا، ورافضًا للأقليات، ومعارضًا للهجرة."( ) ويقدم لنا البيروقراطي ديما فاروبليف وهو مسئول دعاية سوفييتي سابق تعريفًا خاصًا للقومية اليسارية ينطوي على نزعة عدمية قومية لاعلاقة لها بالماركسية وفهم "جوهراني" يقف فوق التحليل الطبقي التاريخي العيني مهما كانت تنويعاته وتجلياته فهو لا يميز بين الفاشية الإيطالية واليابانية والإسبانية وبين حركات تحرر قومية غير شوفينية مناهضة للإمبريالية أو للاستيطان العنصري الصهيوني فيكتب: "القومية اليسارية هي في جوهرها تكرارًا للفاشية مناهض للكولونيالية وهي تتخذ من الصراع الطبقي في الماركسية قاموسًا لها وتحوره. فالطبقة المستغلة الآن هي شعب بلد معين، والمضطهدون هم قوة إمبريالية سابقة؛ أو النخبة المالية الدولية، الأنجلوساكسون / الاستعماريون الجدد الأوروبيون، الصهاينة المعتدون أو أي قوة أخرى خارجية من إثنية مختلفة. والتضامن الطبقي إما غائب بشكل واضح أو أنه يعرض بوصفه شيئًا يعالجه مناهضي الكولونيالية على أساس إثني متبادل. ويتم تجاهل كلمات ماركس حول أنه ليس للبروليتاريا وطن أو ينظر إليها بوصفها محاولة مراوغة من البيض لشق وحدة الأمة المضطهدة."( ) ولايدرك أن معنى ليس للعمال وطن وفق المفهوم اللينينى أن العمل المأجور ليس قوميا بل أممى ، وعدوه الطبقى أممى وهو البورجوازية العالمية ، وأن شروط تحرره أممية ، وأن وحدة العمال الأممية أهم من الوحدة القومية بين المستغلين والمستغلين ضمن نظام الأمة الواحدة . بينما تعرف ناتاليا يفريموفا عالمة الاجتماع السوفييتية المسألة القومية بأنها "مسألة تحرر الأمم من الاضطهاد القومي والاستعمار، والظروف الكفيلة بتأمين تطورها الحر بما في ذلك بناء دولتها القومية"، أما النزعة القومية فهي "الشعور بالانتماء إلى أمة معينة، والولاء لها، والاعتداد بها، والنضال في سبيل استقلالها .. الخ وبهذا المعنى قد ترادف النزعة الوطنية." وتتجلى الأخيرة في "حب الوطن، محبة المرء لوطنه، وإخلاصه لشعبه، واستعداده للتضحية في سبيله"( ). ثانيًا المسألة القومية في التراث الماركسي والواقع إن التراث الماركسي الذى لن أتناول منه إلا مايتعلق بموضوعنا حافل بدلالات متعددة لمفهوم القومية كمفهوم مرتبط بسياقه التاريخى ، ومن ثم إقترن بمواقف مختلفة وأحيانا متعارضة إزاء تجلياتها الواقعية ( ومثالها الأبرز أيرلندا وبولندا ) بدءً من ماركس وإنجلز وكاوتسكي مرورًا بلينين وستالين حتى القائد الأيرلندي الشهير جيمس كونولي - هذا إذا تغاضينا عن تيارات معينة مثلتها الاشتراكية الديموقراطية النمساوية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، وركزت على حق الاستقلال الذاتي الثقافي القومي واعتدت باللغة الواحدة، والطابع النفسي المشترك معيارًا للقومية – ويرتبط تعدد الدلالات والمواقف فى المنهج الماركسى بالوضع التاريخي الملموس ومراحله المتباينة، والطبيعة الطبقية لمضمونها ولحاملي لواءها، ومدى تكشفها عبر الزمن وفض بواطنها المتناقضة ، فلا القومية ولا الأممية مفاهيم مجردة يحاكم بها الواقع التاريخي الملموس في أي لحظة بعينها، فهناك قوميات إمبريالية شوفينية مضطهِدة، وهناك قوميات مضطهَدة في بلدان مستعمرة، وهناك قوميات هامشية صغيرة رأى بعض الرواد ضرورة ذوبانها في قوميات أكبر( ماركس – إنجلز ) بوصفها شعوبا " لاتاريخية " بعكس الشعوب الكبرى " التاريخية " ، ورأى آخرون منحها حق تقرير المصير أيًا كانت ضآلة حجمها (لينين) ، مع ضرورة تميز موقف الماركسيين الذين لابد وأن يرعوا مصالح البروليتاريا، بينما هناك قوميات تشكل شعوبا رجعية تستحق المناهضة - في رأي ماركس وإنجلز - ومثالها بعض تلك القوميات السلافية مثل "التشيك" التي مثلت مخفرًا أماميًا للرجعية القيصرية الروسية ضد ثورات الشعوب الأوروبية المضطهدة (قارن دولة الاستيطان الصهيوني المخفر الأمامي للإمبريالية البريطانية ثم الأمريكية مع ذلك فمقولة الشعب الرجعى لاتعنى أن مجتمعا كاملا بكل أفراده كذلك ، فهو منقسم طبقيا ويدور فيه صراع طبقى ولكن إلى أى مدى تستفيد الطبقة العاملة الإسرائيلية من وضع دولة الإستيطان الإستغلالى القمعى ) . وقد ارتبط كل ذلك لدى الماركسيين الراديكاليين غير الذيليين (أي ممن لا يدورون في فلك بورجوازيتهم ولا يتجاوزونه لأن للبورجوازية مصالحها الخاصة في كل قطر وهى تحتل المكانة الأولى لديها لذا لا يمكن لها أن تذهب ما وراء القومية) تحديدًا بأفق الثورة الاشتراكية التي كانت تمثل الهدف الاستراتيجي سواء تخيله البعض آنذاك هدفًا قريبًا أم بعيدًا وبالأممية البروليتارية. ولذلك على الماركسي بتحليله التاريخي الملموس ألا ينكص متبنيًا موقف "العدمية القومية" وأن يميز بين التجليات المختلفة للنزعة القومية بوجهها التقدمي الذي يفضي إلى آفاق الاشتراكية، ووجهها العنصري الشوفيني العدواني ذو الطابع الإمبريالي. وكذلك السياق التاريخي في عصري ما قبل تحقق الثورة البورجوازية القومية واستيلاء الأخيرة على السلطة السياسية، وإعادة تشكيل المجتمع وفق مصالحها، وبعد تحققها غير المكتمل بانتقال المسائل القومية والوطنية من محورها البورجوازي إلى المحور البروليتاري. وقد ورد ذكر هذا المفهوم مبكرًا في البيان الشيوعي، حيث يوصف الصراع الطبقي بوصفه صراعًا عالميًا بسبب عالمية البورجوازية ذاتها وما يترتب على ذلك من عالمية البروليتاريا ومن ثم يتعين على الأخيرة أن تشكل ذاتها بوصفها طبقة قومية وأن تصبح هي ذاتها الأمة، ومن ثم فهي ما تزال قومية" ولكن ليس بالمعنى البورجوازي للأمة "على حد تعبير البيان وهو المفهوم الذي دافع عنه ماركس أيضًا في نقده لبرنامج جوته داعيًا الطبقة العاملة إلى القضاء على الطبقات وتشكيل ذاتها في أمة، وإقامة ديكتاتوريتها. فالقومية بهذا المعنى هي الشرط الضروري الذي يسبق الأممية. لقد ندد ماركس وإنجلز بالرومانسية القومية، والصوفية القومية عندما نقدا السلافية القومية عام 1848. لكنهما لم يكونا من دعاة العدمية القومية ، ولم يعارضا الواقع الطبقى بالواقع القومى فقد ساندا الوحدة الألمانية مساندة ضمنية، كما دعما بولندا، وأطلق إنجلز عبارته الشهيرة "إن شعبًا يضطهد شعبًا آخر لا يمكنه أن يكون حرًا" فى عامى 1847 – و 1863 وباتت شعارا للماركسية فى المسألة القومية . كما ساندا أيرلندا فقد أصبحت القومية (حركة فانيان) وكأنها "حركة شعبوية ذات نزعة اشتراكية وذلك بكسبها للتأييد الشعبي والعمالي". ولابد من التشديد هنا على أن ماركس وإنجلز أسسا موقفهما "على التحليل الطبقي وأخضعا الرهانات القومية إلى استراتيجيات الحركة العمالية الثورية ليرفضا الانسياق وراء العاطفية القومية، أو ذات النزعة القومية التي ازدهرت في أوروبا في القرن التاسع عشر ..." وفي مرحلة تالية هي مرحلة الإمبريالية جرى التمييز بين "القومية التي تبررها أولوية التحرر الوطني الديموقراطي وهي قومية الأمم المضطهدة وبين قومية الأمم المهيمنة، هذه القومية التي تطمس عمل الحركة العمالية وتقودها إلى التواطؤ الإمبريالي. إن هذا التمييز الذي قام عليه تأسيس الأممية الثالثة لن يفتأ لينين يؤكد عليه مساندًا بذلك حركات التحرر الوطني في إطار ما أطلق عليه آنذاك مسألة الشرق. وسوف يصل الأمر بلينين إلى حد التخلي عن قصر آفاق هذه الحركات على المرحلة الديموقراطية البورجوازية الصغيرة ليعتبرها بمثابة حركات قومية ثورية (المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية) أي أنها تتمكن بواسطة تعبئتها للجماهير المفقرة من الانتقال من الثورة الوطنية إلى ثورة اجتماعية يحتمل أن تكون ثورة اشتراكية، لكن بشرط أن تتم المحافظة على العمل المستقل والقيادي للأحزاب الشيوعية".( ) وفي واحدة من الرسائل الهامة كتب إنجلز إلى كاوتسكي في 7 فبراير 1882 رسالة تناول فيها وضع القوميات في أوروبا ثم مشيرًا فيها إلى بولندا وأيرلندا بصفة خاصة: "... لا يمكن تاريخيًا لشعب كبير أن يعالج على نحو جاد أية مشكلة داخلية مادام يفتقر للاستقلال القومي ... فحركة البروليتاريا الأممية بصفة عامة ممكنة فقط بين أمم مستقلة ... وإزالة الاضطهاد القومي هو الشرط الأساسي لكل تطور حر سليم. ليس من مهامنا أن نردع البولنديين عن بذل الجهد لتحقيق الظروف الضرورية لنموهم وتطورهم في المستقبل، أو أن نقول لهم أن استقلالكم القومي برمته أمر ثانوي من وجهة نظر أممية. بل على العكس من ذلك، فإنني أجده شرطًا لكل تعاون بين الأمم".( ) ورغم أننا يمكن أن نعزو للطبقة العاملة روحًا قومية نبيلة غير أن رسالتها التاريخية تتقوم في الإطاحة بالبورجوازية وبناء الأممية البروليتارية، فمشاعر البروليتاريا على المدى الطويل لن تكون قومية بل أممية. والأممية في كل الأحوال ليست عداءً مجردًا للقومية. وربما كان من أهم من تناولوا المسألة وله علاقة وثيقة بموقف حزب العمال الشيوعي المصري هو القائد الاشتراكي الأيرلندي جيمس كونولي. وقد أسس في عام 1896الحزب الجمهوري الاشتراكي الأيرلندي وقد اعتبر نفسه وطنيًا إلا أن نزعته الوطنية كانت تتضمن فكرة المساواة الاشتراكية. وكانت له نظرية حول ما يمكن أن نسميه "قومية بروليتارية"، وكانت مساهمة حقيقية في فهم العلاقات بين الاشتراكية والقومية في وضع تاريخي محدد، وهما وجهان سياسي واقتصادي لسيرورة أو لعملية واحدة. ورأى أن سيطرة عميقة الجذور في أي بلد ... لا يمكن أن تقتلع إلا بدفع ثوري متفق مع خط تطور العصر بكامله. وقد أدرك إدراكًا تامًا أن من الممكن أن ينجم عن الاستقلال السياسي خضوع جديد لسلطة رأس مال أجنبي ... وعداؤه للإمبريالية الاقتصادية كان لا يقل عن عدائه للإمبريالية السياسية. وكتب: "إذا أزحتم الجيش الإنجليزي غدًا ورفعتم العلم الأخضر فوق قلعة دبلن، فإن جهودكم كلها ستذهب سدى، ما لم تشرعوا ببناء "الجمهورية الاشتراكية". وستبقى انجلترا حاكمة عليكم. ستحكمكم من خلال رأسمالييها، من خلال سادة الأرض لديها، من خلال أصحاب مصارفها، من خلال مجمل شبكة مؤسساتها التجارية والفردية التي زرعتها في هذا البلد ... القومية دون الاشتراكية، دون إعادة تنظيم المجتمع على أساس الملكية العامة الأكثر شمولًا وتطورًا التي كانت مرتكز التركيب الاجتماعي في أيرلندا القديمة هي خيانة قومية فحسب" لذا "فالطبقة العاملة الأيرلندية هي وحدها التي ستكون وريثة، لا يمكن إفسادها، للنضال التحرري في أيرلندا "( ). وسوف نعود لهذا القائد الأيرلندي الاشتراكي في موضع آخر نظرًا لأهميته النظرية والسياسية في جلاء مواقف حزب العمال الشيوعي المصري من القضايا المطروحة، فضلًا عن أصالة نظرته قياسًا بالتراث الماركسي . ولابد هنا قبل الإنتقال للقسم التالى من التنويه إلى أن ماركس وإنجلز قد تعرضا لإنتقاد بعض مفاهيمهما من المفكر العربى جورج طرابشى حول مفهوم الشعوب التاريخية وغير التاريخية ، وحول رجعية بعض الشعوب وثورية أخرى ، وحول تغير مواقفهما من تحرر أيرلندا ففى 1847 إعتقد ماركس أن إيرلندا لن تتحرر إلا يوم ينجز العمال الإنجليز ثورتهم الإشتراكية المنتظرة ، وقد ظل يعبر عن هذا الرأى فى مقالاته فى " النيويورك تريبيون فى 1853 ، غير أنه فى 1867 رأى أن إانفصال أيرلندا محتم قبل تحرر البروليتاريا الإنجليزية . والحال أن بعض تصورات ماركس وإنجلز قابلة للنقد وقد كانا سباقين فى ذلك . والبديهى أن الماركسية لم تكن وحيا ناجزا هبط مكتملا من السماء ، وإنما تطورت فى واقع جدلى تناقضى وقد عكست فى مسيرتها هذا الواقع ، الأمر الذى يفسر تغير مواقفهما بصدد بعض مظاهر المسألة القومية بعد توفر شرطها التاريخى مثلها فى ذلك مثل كثير من المفاهيم والمقولات ، وينطبق ذلك على عدم تحقق توقعات أخرى لهما. ( أنظر هامش 10 أدناه ) . ثالثًا من الأطروحة حتى الفصل الثامن في اليسار العربي ربما كان يتعين علينا الآن أن نعود إلى كتاب د. جيرفازيو الحركة الماركسية في مصر وهو الأطروحة التي قدمها لنيل شهادة الدكتوراة حتى نستنبط من كلماته ما يقصده تحديدًا بالقومية اليسارية حتى وإن خلا النص أيضًا من تعيين نظري لها. وكما يقال "هناك شيء معقول في أن يكتشف المؤلف ما قاله في نص ما من خلال ردود أفعال قراءه . إذ يغدو في سياقها واعيًا أيضًا بما قصد أن يقول، وربما أغتنم الفرصة حين تسنح له ليعبر بشكل أشد وضوحًا عما أراد أن يفصح عنه". يمكن القول بأن الوقائع التاريخية التي راكمها باحثنا لا تشي بذاتها عن معناها أو دلالاتها ومغزاها، فمن ناحية هي موضع اختيار، ولا يمكن إدراكها إلا من خلال مفاهيم نظرية كلية مترابطة ومتسقة، وهي وإن كانت تشتق هي ذاتها من الرصد والملاحظة إلا أنها تساعد في استيعاب الوقائع وإدراك روابطها وصلاتها الداخلية وتناقضاتها الباطنة في شمولها وعموميتها. والحال تخلو دراسات الباحث الإيطالي من أية مفاهيم نظرية مترابطة ترصد العلاقات الداخلية للوقائع المتراكمة التي يدرسها (يرصد هزيمة يونيو والتغيرات التي أحاطت بالنظام بسببها عقب حرب أكتوبر دون أن يستخلص بلا تردد ما هو ضروري منها)، وتغويه الاستنامة إلى تفسيرات أحادية بسيطة سهلة مسبقة لظواهر معقدة لا يمكن إلا أن تتعين وتتحدد تضافريًا. ولذا فمن الطبيعى أن يصل باحثنا في تعليل "اختفاء" المنظمات الماركسية في السبعينات وعزلتها الجماهيرية إلى أن السبب الرئيسي - وليس الوحيد - هو "التضحية بالقضية الاجتماعية في سبيل القضية الوطنية"( ) ناسيًا بديهية أنه لا يمكن فهم أو تحليل أي قضية اجتماعية – سياسية بمعزل عن الطبقات وصراعها. ويبدو أنه يقصد بالقضية الإجتماعية "النضال الاقتصادي" العمالي وهو شكل واحد ضيق من أشكال الصراع الطبقي، جانب النضال الأيديولوجي والسياسي، ويشير في المقدمة التي كتبت بعد انتهائه من دراسته وبعد مناقشة مع بعض الرفاق من حزب العمال الشيوعي المصري حول المسألة مستدركًا : "أولًا، من الواجب توضيح أنه حين يتحدث النص عن "حدود" اليسار فإنه يتحدث عن حدود "برامجية" وليس عن حدود "نظرية". فمن الواضح كما لاحظ بعض المناضلين الذين ناقشوا دراستي أن "القضية الوطنية" ينبغي أن تكون القضية الرئيسية التي تفرض نفسها داخل البلاد التي تشهد احتلالًا لجزء من أراضيها، ذلك أن التراث الماركسي كذلك بدءً من لينين إن لم يكن من ماركس نفسه يعطي أهمية أساسية "للصراع الوطني من أجل التحرير"وللدور الذي ينبغي للماركسيين أن يلعبوه في هذا الصراع. وعلى أي حال، فإذا تراءى لي أنه ينبغي أن أسلم بهذه التدقيقات، فإنه يبدو لي أن من الضروري، وكمساهمة شخصية في الجدل، تكرار استنتاجاتي التي ترى أن التركيز على "الخيانة الوطنية" حتى حين أتم الرئيس تقريبًا الخطوات الحاسمة تجاه الصلح مع إسرائيل (1978 – 1979) سواء في الصحافة الماركسية "الرسمية" أو "السرية" يمثل عنصرًا أساسيًا إذا أردنا البحث عن تفسير لاغتراب الجماهير المتزايد عن اليسار، وعن تفسير الأزمة الداخلية للمنظمات الماركسية الراديكالية ثم حلها وربما أيضًا النمو السريع للمنظمات الإسلامية في السياسة والمجتمع المصري"( ). ويشير في موضع آخر من الكتاب إلى أن "ومن المهم أن نلاحظ الآن أن اليسار الطلابي مثل جزء كبير من "الحركة الشيوعية الثالثة" ركز على المسألة القومية أو الوطنية،"القضية الوطنية" على حساب "القضية الاجتماعية" للمرة الثانية في التاريخ الماركسي المصري ..."( ) ولا يلاحظ الباحث السياقين التاريخيين المختلفين تمامًا للحلقتين الثانية والثالثة في الحركة الشيوعية المصرية. بل ويقف هنا على يمين تونى كليف وهنرى كورييل . ويبدو مما ورد في الفقرة الأخيرة من ذات الصفحة أن د. جيرفازيو يطابق بين النضال الاقتصادي و"آليات صراع الطبقات" ووجود "مسار مستمر للإضرابات والمظاهرات والنشاط في المصانع المصرية منذ 1971 حتى الانتفاضة الكبرى في يناير 1977"( ) وينتقد اليسار الراديكالي "... في إصراره على مواضيع راديكالية بشكل أو بآخر إلا أنها تمثل تراثًا ناصريًا واضحًا في إعطائها الأولوية لشعارات وبرامج قومية، وترتب على ذلك إهمال القضية الاجتماعية مما قلل من تقدير قيمة التغيرات العميقة التي مرت بها البلاد مع فشل الانفتاح وازدياد الفجوة بين الطبقات ... الخ "( ). وقد سبق أن نوه إلى ما اعتبره الحدود التي أحاطت بنشأة ح.ع.ش.م. "من منظور التنظيم الداخلي والإستراتيجية الدعائية والانتماء الاجتماعي للمناضلين ... ورغم ادعاء الرغبة في تمثيل الحزب الحقيقي للطبقة العاملة في مصر فقد نشأ هذا الحزب من مجموعة من الطليعة المدينية المثقفة ..."( )"... من ذوي الأصول البورجوازية الصغيرة والمتوسطة المتركزة في البلاد وخاصة العاصمة"( ). وتنتهي خلاصة نقده إلى أنه ".. إذا كان علينا أن نوجه نقدًا لليسار الراديكالي في عمومه فسيتركز على إصراره على رؤية القضية الوطنية كصورة وحيدة للحركة حتى عندما أظهرت الجماهير، بشكل تلقائي، سخطها بعد تكثيف الانفتاح والتخلي المتزايد عن الضمانات الاجتماعية، وقيام الدولة واقعيًا بفسخ "العقد الاجتماعي" الذي يربطها بالشعب"( ). "... لم تكن منظمات اليسار الجديد سوى أندية مثقفين ذات صلة واهية بالطبقة العاملة ..."( ). ويقارن بين أثرها الواهى في أوساط الكادحين وعمق تغلغل ونفوذ أعمال رأسماليي الإخوان المسلمين الخيرية ، وكأن هذا هو معنى القضية الإجتماعية لديه ! وإذا كان في مقدمة كتابه المشار إليه أعلاه قد استدرك فوضع تمييزًا بين الحدين "البرنامجي" و"النظري" رغم أنهما مرتبطان ولا يمكن الفصل بينهما إلا أنه في بحثه الأخير(الفصل الثامن من اليسار العربي) لم يشر حتى لهذا الاستدراك. وربما جاز لنا الآن ووفق نصوص باحثنا أن نستنتج أن ما يعنيه بالدرجة الأولى هو "الصراع الوطني من أجل التحرير" رغم إشارته في مواضع أخرى منها إلى القومية بشكل عام أو القومية العربية والوحدة العربية. والمقصود عنده بالطبع لا يتجاوز تحرير الأراضي المصرية – العربية التي احتلتها إسرائيل عام 1967. وقبل أن ننهي هذا الموجز الذي يعرض للجانب المحوري في وجهات نظره، لابد وأن نشير إلى ذلك الميل المقنع الذي أبداه نحو الحركة الشيوعية المصرية في حلقتها الثانية، ويكشف جذور أفكاره وبعض مظاهرها فقد كانت في الأربعينات من القرن الماضي وفقًا له "عالمية وكوزموبوليتانية" بفضل الأجانب واليهود، ثم خضعت لـ"تحول قومي" بعد نكبة 1948، وأدى هذا التحول "الشوفيني" الذي قد يعد من وجهة نظر البعض "خيانة للأممية والأخوة الاشتراكية" إلى إبعاد قيادات مثل هنري كورييل بسبب الخلط الذي نشأ آنذاك بين "الأفكار الماركسية والوحدة العربية"! كما أن القضية الفلسطينية التي كانت في الأصل مسألة "محلية"( ) قد تحولت بعد ذلك إلى مسألة قومية، وخاصة بعد الخضوع للنفوذ الأيديولوجي والسياسي الناصري والبعثي. ولا يلاحظ مثلًا أن "الكوزموبوليتانية" ليست الأممية فهي ضرب أيديولوجي رجعي نادى باللامبالاة تجاه الوطن القومي والثقافة والتراث القوميين، وقد نادى بعض الإمبرياليين بهذه الفكرة بل ودعوا إلى إقامة حكومة عالمية بهدف تخليد سيطرتهم على العالم، ووأد حركة المقاومة القومية العادلة ضد الاستعمار وحق تقرير المصير. وقد أهدى باحثنا إلى هنري كورييل أهزوجة غنائية شعرية بدأت بالإشادة بقدراته التنظيمية، والاقتصادية، وتوسع منظمته حمتو في تجنيد مناضلين مصريين ومن الطبقة العاملة، بل وبامتداح انتهازيته التي دفعته لاختيار اسم الحركة المصرية للتحرر الوطني اسمًا لمنظمته بديلًا عن "التمسك الزائد بالماركسية" أي بتسميتها الحزب الشيوعي المصري، و"راديكاليته" في المسألة الوطنية التي أدت به إلى رفض "كل حل تفاوضي مع القوة الاستعمارية حيث طالب بانسحاب غير مشروط للقوات البريطانية من مصر" (طلب من من؟ وما أهمية الطلب؟! لا يدرى د. جينارو أن كورييل ناهض إسهام الشيوعيين المصريين من مناضلى حدتو في الكفاح المسلح الذي نشب في مدن القناة ضد الاحتلال البريطاني قبل وفي أواخر عام 1953 بوصفه إرهابًا وبالأحرى لم يدعُ إليه أصلًا!) وينسب إليه أول اختراق ماركسي في "المجال العمالي القاهري" وقد ظهر نجاح المنظمة في تمكنها من إرسال أحد أعضائها بمناسبة المؤتمر الأول لاتحاد النقابات العالمي المنعقد في باريس عام 1945. (ولا يدري د. جينارو أيضًا أن المندوب المرسل دافيد ناحوم هو "بورجوازي يهودي مثقف ... وعضو بنادي الجزيرة الأرستقراطي" ولم تكن له علاقة بالطبقة العاملة المصرية، وربما لم يكن يعرف العربية! وانتهى إلى أن أصبح ذات يوم أحد كبار رجال الأعمال في ميلانو).( ) ولم يشر د. جيرفازيو إلى موقف هنري كورييل من دولة إسرائيل وزعمه أن لليهود "حق في وطن قومي في فلسطين" رغم عدم توفر شروط القومية كما عينتها الماركسية اللينينية ، ولا إلى دعوته "الأممية العربية - اليهودية البروليتارية المفترضة بين الكادحين" دون تمييز بين مستعمر بروليتاري صهيوني وكادح عربي في وطن مغتصب، ولا لوقوفه ضد الشيوعيين المصريين والعرب في القضية الفلسطينية بوصفهم "شوفينيين" و"منحرفين قوميًا" ولا إلى المواقف التي اتخذتها منظمته حدتو من الدولة الصهيونية الوليدة عام 1948، و"عزلتها" عن جماهير الشعب المصري، بل وانسحاب الكثيرين من العمال منها بسبب موقفها المؤيد للتقسيم وما رافقه. ويبدو بشكل ساطع أن التصورات السابقة جميعًا تستبطن مفاهيمه وموقفه الخاص إزاء الحركة الشيوعية المصرية عامة وبصفة خاصة حلقتها الثالثة، وأي مقارنة بين آراء د. جيرفازيو وآراء كورييل كما عرضها الأخير في كتابه : من أجل سلام عادل في الشرق الأوسط توحى بإحتمال أنه قد تبنى بعضها من الناحية الأساسية فى أحد جوانبها وقد صبغت أبحاثه بصبغتها حيث ينتهي إلى أن : "وهكذا إذا كانت بداية العقد الجديد قد شهدت وجودًا ماركسيًا نشيطًا في مصر رغم أن الاعتقال والنفي كانا يحدان منه بقوة، فإنه يبدو أن الحركة فقدت قدرتها على أن تضع نفسها في طليعة المجتمع المدني المصري كأداة نقل الحداثة والتحرير الاجتماعي كما كانت في منتصف الأربعينات، ومن المحتمل جدًا أن "الانعطاف القومي"، وإن كانت الظروف التاريخية والمحلية قد دفعت إليه، كان مبنيًا على هذا التراجع الذي يمكن قراءته بشكل معين باعتباره "فقدان الهوية" للماركسيين المصريين من أجل الانضمام للمحيط الواسع للفكر القومي. وهكذا، كما كانت الحركة في سنوات الأربعينيات تمثل للعديد من المناضلين قمة النشاط الشيوعي في مصر فقد مثل تراجعها سواء الأيديولوجي أو التنظيمي عبئًا على أجيال المستقبل من المناضلين حتى اليوم."( ). رابعًا ماركسيون أم اشتراكيون ديموقراطيون ا - بير بوروخوف هناك نزعة لها تنويعات متعددة ستعرض هنا من زاوية توافقها جميعا على بعض التصورات والمفاهيم مبينا أثر بعضها على نظرات د . جيرفازيو بدون الدخول فى جدال تفصيلى معها ، وهى تمتد من بير بوروخوف الروسي (الصهيوني الماركسى !) (1881 – 1917) مرورًا بتوني كليف (1917 – 2000) وهنري كورييل (1914 – 1978) وصولًا إلى جويل بينين (أستاذ التاريخ في جامعة ستانفورد بولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة)، ويوسي أميتاي (مدير المركز الأكاديمي الإسرائيلي في القاهرة 1997 – 2001)، وقد غشت هذه النزعة التى هيمنت فيما يبدو تصورات ومفاهيم د. جينارو جيرفازيو سواء في أطروحة الدكتوراة، أو في الفصل الثامن من اليسار العربي المشار إليهما عاليه. وهذه النزعة تهيمن عمومًا في أوساط اليسار الأوروبي وخاصة الفرنسى – الإيطالى الخاضع لمؤثرات تاريخية قروسطية ، ولفظائع النازية ، والدعاية الصهيونية وهي تكرس ضمنيًا أو ظاهريًا "قومية يهودية" لها "حق تقرير المصير" في أرض فلسطين العربية، بوصفها "الوطن القومي" وتدعو إلى "تآخى الكادحين الأممي" من اليهود والعرب في مواجهة الحكومات الرجعية العربية والإمبريالية البريطانية في مرحلة الأربعينات، وبعدها في الستينات والسبعينات وماتلاها اعتبروا النضال ضد البورجوازيات العربية هو النضال الطبقي الحقيقي، والتخلي عن الصراع القومي أو الوطني ضد دولة الاستيطان الصهيوني صراعًا "غير طبقي" أو "غير اجتماعي" و"شوفيني" وقد أدى ذلك إلى "فقدان الهوية" للماركسيين المصريين حتى الآن (والعياذ بالله!) كما رأى ذلك باحثنا الإيطالي د. جيرفازيو، ومن ثم لم يكن ذلك سوى دعوة للعدمية القومية من ناحية، وتهوينًا من شأن التطورات الخطيرة التي أحاطت بشعوب الدول العربية وخاصة طبقاتها الكادحة من ناحية أخرى، وشمل ذلك بالطبع القومية العربية، والوحدة العربية، ومن المنطقي أن ينتهي ذلك ضمنيا بطلب الاعتراف الصريح أو المستتر بدولة الاحتلال الصهيوني، وبحدودها الآمنة وإقامة العلاقات الاقتصادية والسياسية معها ... باختصار إقامة علاقات طبيعية معها بوصفها دولة عادية من دول "الشرق الأوسط" وما يترتب على ذلك من تصفية القضية الفلسطينية، والاندماج الكامل في عالم الغرب الرأسمالي الإمبريالي المعولم بديلًا عن الشعار الذي رفعه الماركسيون المصريون الراديكاليون آنذاك وهو إقامة جمهورية ديموقراطية علمانية على كامل التراب الفلسطيني تضم العرب واليهود في دولة مواطنة هي النقيض لدولة الاحتلال الصهيوني، والتي لا يمكن أن تقوم إلا على أنقاضها بعد الإطاحة الثورية بها. وربما كان داف بير بوروخوف الذي ولد في زالاتونشا بأوكرانيا في ظل الإمبراطورية الروسية هو أول "ماركسي صهيوني" حاول أن يقدم مفهومًا "ماركسيًا" عن القومية اليهودية حيث عرضه في كتابه المسألة القومية والصراع الطبقي في 1905، وقد كان بوروخوف من مؤسسي اتحاد العمال الاشتراكي الصهيوني، وقد تسبب ذلك في طرده من حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الروسي الذي كان عضوًا فيه ... وقد قام ميتشيل أبيدور بعرض موجز لأفكاره "الماركسية الصهيونية الاشتراكية" فلم تكن الدولة التي تخيلها دولة قومية فقط، وإنما ذات أساس طبقي وفق تعبيره، ومن ثم تختلف عن "الصهيونية البورجوازية"، كما رأى أن اليهود لا يمكن أن يتحرروا إلا من خلال الاشتراكية. ولكن لا ينبغي على اليهود أن ينتظروا حتى يكنس الاشتراكيون الرأسمالية من العالم وإنما عليهم أن يبنوا اشتراكية يهودية تخصهم في مجتمع يخصهم، خالٍ من القمع ومعاداة السامية. وسيكون تأسيس هذه الاشتراكية اليهودية ثمرة صراع طبقي يخوضه العمال اليهود ضد البورجوازية اليهودية، ومجتمع كهذا لا يمكن تأسيسه في الشتات. وعلى ذلك لابد أن تكون هناك أمة يهودية حيث يمكن أن تتطور بروليتاريا يهودية جنبًا إلى جنب بورجوازية يهودية، وسوف يؤدي ذلك إلى إحتدام الصراع الطبقي بينهما الذي سينتهي إلى الاشتراكية بشكل حتمي. أما الأرض التي سيقام عليها هذا المجتمع الاشتراكي اليهودي فلن تكون غير أرض فلسطين. وبالنسبة للصهيونية البروليتارية فهذا خطوة نحو الاشتراكية. وهي اشتراكية لن تستبعد العرب المقيمين في فلسطين مادامت هناك مصالح طبقية مشتركة( ). وقد تصدى إبراهام ليون القائد الماركسي (اليهودي) البلجيكي عام 1942 في كتابه المفهوم المادي للمسألة اليهودية لنظرية بوروخوف واعتبرها "مادية ماورائية" ودعا للإنهزامية الثورية، واستلهم من دراسة ماركس حول المسألة اليهودية نظرية "الشعب - الطبقة" بتركيزه على الدور الاقتصادي الذي قام به اليهود عبر التاريخ. وقد عرى طابع المثال الأعلى الصهيوني البورجوازي الصغير، ورأى أنه كان محكومًا بسبب الوضع الإمبريالي إلى أن يكون أداة بيد الرأسمالية العالمية. وفضح الصهيونية ككابح للنشاط الثوري لدى العمال اليهود في العالم وكعائق لتحرر فلسطين من الإمبريالية الإنجليزية، وعقبة على طريق الوحدة الكاملة بين اليهود والعمال العرب في تلك البلاد . وكان لينين قبلها قد اتخذ موقفًا حازمًا من الصهيونية التي اعتبرها رجعية كليًا، ليس فقط عندما دعا لها دعاتها "الصرحاء"، ولكن كذلك حين عبر عنها هؤلاء الذين حاولوا أن يخلطوها بأفكار الاشتراكية الديموقراطية مثل البوند. وكان يرى أن فكرة القومية اليهودية ضد مصالح البروليتاريا اليهودية، لأنها تروج في صفوفها، مباشرة أو بشكل غير مباشر روحًا معادية للتمثل والإنصهار ، إنها روح الجيتو أى الخصوصية والإنعزال . وقد تجلى الموقف اللينينى بداية عام 1903 عند تأسيس حزب العمال الإشتراكى الديموقراطى الروسى حين أصر البوند ( الحزب القومى للبروليتاريا اليهودية ) الذى كان قد تأسس على أساس دينى أو ( قومى ) يهودى قبل ذلك بسنوات على مبدأ الإتحادية والإنفصالية فى التنظيم الحزبى ورفضه لمبدأ المركزية اللينينى، وتبنيه لفكرة الإستقلال الذاتى الثقافى القومى ضد فكرة حق تقرير المصير ، وتبنى فكرة وجود أمة يهودية وهى أساس المطالبة بمبدأ الإتحادية القومية . وإنحصرت مناظرة لينين مع البونديين فقط فى الأسباب التنظيمية المذكورة أعلاه مع وجود الحزب الصهيونى الإشتراكى ، والحزب العمالى الإشتراكى اليهودى . ب - توني كليف أما توني كليف (1917 – 2000) المولود في فلسطين والذي نشأ صهيونيًا في بيئة صهيونية عريقة محاطًا في طفولته بمؤسسي الكيان العنصري – الاستيطاني أمثال بن جوريون وغيره من "الرواد"، والذي تحول فيما بعد إلى الماركسية ثم هاجر إلى بريطانيا، وأسس حزب العمال الاشتراكي البريطاني ، وهو ممن يتبنون فكرة وجود "قومية يهودية" فقد كتب في مقال استفزاز بريطاني جديد في فلسطين عام 1946: "لقد حاولت الإمبريالية البريطانية أن توجه سخط الجماهير العربية بلا انقطاع ضد سكان البلاد اليهود. ولهذا السبب فقد دعمت سياسة التوسع الصهيوني، وهي سياسة تمخضت عن طرد الحائزين العرب من الأرض، وتسريح العمال العرب من وظائفهم، وتقوية الحصن الصهيوني المصمم على تأسيس دولة يهودية في فلسطين. والدعم الإمبريالي للصهيونية محسوب على أساس أن يحقق هدفين: الأول، هو أن يؤسس قوة تدعمه مباشرة، التي سوف تؤلف حليفًا مخلصًا ضد العرب في حال حدوث أي انتفاضة مناهضة للإمبريالية لعرب الشرق الأوسط، والآخر لجعل الصهيونية تخدم كوسيلة لتحويل سخط الجماهير العربية إلى موضوع جانبي وهو الصدام مع اليهود (الاستعمار الاستيطاني موضوع جانبي - مسألة محلية عند د. جيرفازيو - لا ينبغي إعارته اهتمامًا بخلاف الوجود الإمبريالي البريطاني س.ع.) ... بمعنى آخر هناك بين السيد الإمبريالي وخادمه الصهيوني مصالح مشتركة ومتعادية. تريد الصهيونية تأسيس دولة رأسمالية قوية"( ). والإمبريالية البريطانية هي التي تستهدف "إثارة الصدامات بين العرب واليهود"، بما يتضمنه ذلك من "بذر الكراهية المجتمعية" و"التناحرات القومية"، حيث يكون الضحايا بالفعل هم "الجماهير العربية واليهودية" ويتضافر مع البريطانيين "القيادة العربية الإقطاعية شبه البورجوازية" و"القوى الشوفينية الكهنوتية". واعتبر انتفاضة الجماهير العربية ضد البريطانيين والصهاينة فى فلسطين "مذبحة ضد اليهود"، وانتقد المظاهرة الوطنية التي نظمت في 2 نوفمبر 1945 في مصر ضد وعد بلفور ورأى فيها فاشية قادمة وبدلًا من رؤية كراهية الجماهير العربية الموجهة ضد الصهيونية بوصفها شكلًا لمقاومة الإمبريالية، إعتبرها شوفينية أسئ توجيهها تلاعب بها الإمبرياليون (وهو بالمناسبة ذات موقف كورييل وحلقته المصرية وبصفة أخص تلميذه النجيب رفعت السعيد؛ كما سيأتي بيانه في موضعه) التي احتضن فيها الشعب المصري القضية الفلسطينية لأن بعض أنصار جماعة الإخوان المسلمين، وحزب مصر الفتاة قد هتفوا ضد اليهود (الصهاينة) كما انتقد بعض الشيوعيين العرب ممن تبنوا ذات الموقف حيث "تجلت عادة الستالينيين بالانجرار خلف "القوميين" في أقبح صورها خلال الأيام الماضية" وفق تعبيره. وزعم أن هناك أساسًا متينًا "للوحدة بين الكادحين الفلسطينيين دفاعًا عن مصالحهم الحيوية"( ) لذا أيد الهجرة اليهودية بوصفها عاملًا أساسيًا في تسريع التطور الرأسمالي ونمو طبقة عاملة يهودية تمثل قوة جادة مناهضة للإمبريالية. ولا يرى توني كليف مشكلة سوى في الاستفزازات الإمبريالية التي تتسبب في "معاناة كبرى للجماهير العربية واليهودية معًا" لذا لابد من "صراع من أجل الوحدة الشاملة للاتحادات النقابية في بلدان الشرق العربي بغض النظر عن الاختلافات القومية والطائفية ... يجب اقتلاع الإمبريالية، وهي مصدر الاستفزازات الطائفية، ويخاض الصراع لتحرير الشرق، بحيث تنال كل الأقليات - اليهودية، الكردية، الخ - استقلالًا ذاتيًا واسعًا في الأقاليم التي يقطنونها، ضمن الإطار الشامل لجمهورية عمال وفلاحين في المشرق العربي"( ). وفي مقالة عنوانها الصراع في الشرق الأوسط (1967 – 1990) يكتب "إن التراجيديا الإنسانية هي التي أتت باليهود إلى فلسطين" ويستعرض اضطهادهم في أوروبا، ويشير إلى أنه في فلسطين لم يكن بمستطاع العامل اليهودي أن ينافس العامل أو الفلاح العربي لأنه كان يبيع قوة عمله أو منتجه بسعر زهيد، لذا ينوه إلى أنه لم تكن هناك طريقة غير حجب العمل عنه، أو منعه من بيع منتجاته في السوق، وإلى أنه ما من حزب صهيوني، حتى الأكثر تطرفًا ناحية "اليسار" في هاشومير هاتزائير، المابام وقتها، قد عارض مقاطعة العمال والفلاحين العرب. والمقاطعة مباطنة للصهيونية وكامنة فيها، بدونها لم يكن من الممكن أن يبقى عامل أو فلاح أوروبي على قيد الحياة اقتصاديًا. ويتساءل: "هل شعب إسرائيل يمثل أمة استعمارية؟" ويجيب: الاقتصاد الإسرائيلي ليس اقتصادًا متخلفًا يعاني من استغلال الإمبريالية الغربية، ويرصد مصادر تمويله في التعويضات الألمانية، والمساعدات الاقتصادية من الولايات المتحدة الأمريكية، ومن دعم يهود أمريكا وبلدان غيرها. ويذكر أن إسرائيل تعادي أي إصلاح زراعي جذري وخاصة بعد أن تخلصت من الفلاح العربي أصلًا. ويطرح سؤالًا مهمًا في موضوعنا: هل يهم إسرائيل أن تتوحد البلدان العربية في دولة واحدة ؟ ويجيب: بالطبع لا. إسرائيل ليست دولة مقهورة من الإمبريالية، وإنما مستعمرة، حصن استيطان، منصة إطلاق للإمبريالية. ثم يتحدث مرة أخرى عن "تراجيديا" ذات الشعب الذي تعرض للاضطهاد والمذابح بطريقة وحشية كيف يتم دفعه بحماسة شوفينية وعسكرية إلى أن يكون الأداة العمياء للإمبريالية لإخضاع الجماهير العربية. وإذ يرى توني كليف الوضع من منظور أقدار "تراجيديات المسرح الإغريقي" مثله مثل الفيلسوف الفرنسى جان بول سارتر( 21 يونيو 1905 – 15 أبريل 1980 ) فى تأملاته فى المسألة اليهودية عام 1944 يفصل بين البشر ونظامهم الاجتماعي بوصفه قوة قدرية عاتية، بين عقيدتهم الصهيونية المسيطرة وأفعالهم ومواقفهم، ولا يخطر بباله مجرد خاطر ما ورد في التراث الماركسي عن "الشعوب الرجعية" أو حتى الطبقة العاملة الرجعية حين تتبنى الصهيونية وتصبح مرتشية بواقع الإحتلال ، والموقف منها. فيقول: "بنفس الطريقة التي يلام بها النظام الاجتماعي القائم على مصائب اليهود، فهو يلام أيضًا على استغلال كوارثهم لأهداف قمعية ورجعية. فالصهيونية لم تنقذ اليهود من معاناتهم. على النقيض فهي تعرضهم لخطر جديد وهو أن يكونوا حاجزًا بين الإمبريالية والنضال التحرري القومي والاجتماعي للجماهير العربية". ورغم أن السكان اليهود منقسمون طبقيًا إلا أن العمال اليهود لن ينضموا للعرب في نضالهم ضد الإمبريالية، ربما باستثناء حفنة ضئيلة، ويلوم العمال العرب على عدم قدرتهم على إقناع العمال اليهود بضرورة التضامن البروليتاري. وهو ذات موقف هنري كورييل، ويؤكد بالنسبة للعرب على ضرورة الضفر بين الثورة القومية والثورة الاجتماعية، وينتقد محقًا الأحزاب الشيوعية العربية التقليدية التي اتبعت خط "الوحدة الوطنية" مع البورجوازية فاصلة النضال ضد الإمبريالية عن النضال من أجل التحرر الاجتماعي. وينتهي في مقاله بطرح يراه الحل الوحيد الممكن لاحتياجات الشرق الأوسط وهو إنجاز ثورة عمالية – فلاحية تهدف لإقامة جمهورية اشتراكية، تمنح اليهود والأكراد والأقليات القومية عامة حقوقًا متساوية( ). وفي مقال آخر كان قد كتبه عقب الغزو الإسرائيلي لبيروت عام 1982 تحت عنوان جذور العنف الإسرائيلي حاول تقديم تفسير للمجازر التي ارتكبت ضد اللبنانيين والفلسطينيين، ووجد جذور هذا العنف في البدايات الأولى الصغيرة، حين كان موجودًا في فلسطين، فالسبب هو أن "الصهيونية، والنزعة الانفصالية اليهودية، والإيمان بوطن قومي لليهود، قد تطورت إلى أن أصبحت عنف دولة". لكن "الصهيونية لم يكن لها ذات الوجه القبيح الذي باتت عليه اليوم" وكأن تاريخها لم يكن سوى تاريخ مجازر متصلة منذ البدايات الأولى ضد الشعب الفلسطيني خاصة، ثم يعيد علينا رواية "تراجيديا" الاضطهاد في روسيا القيصرية، والأوضاع الانفصالية التي وسمت واقعهم وحبذوها. ثم يضيف "إن منطق الصهيونية هو، الانفصال عن السكان غير اليهود (الأغيار) سواء في روسيا أو بولندا أو فلسطين، وقد أدى ذلك إلى اعتمادها على الإمبريالية". وفي ألمانيا النازية حين هزمت الطبقة العاملة "وإذ لم يكن بمستطاع اليهود أن يثقوا في الألمان فقد كان من الطبيعي بالنسبة لهم أن يروا الدولة اليهودية بوصفها الإجابة الوحيدة" (لا أن يناضلوا بشكل مشترك مع الألمان المعادين للنازية ضد صعود هتلر ، وبعد صعوده إلى السلطة مثلا– س.ع.). ورغم الراديكالية اللفظية أحيانًا إلا أن نمط القول يتخذ لدى توني كليف شكل اللغة الوصفية، المحايدة، "الموضوعية" - مثل حكام المباريات - التي تبرر ما هو قائم وتفسره دون بيان موقف إزاءه، وعدم التطرق لمواقفه القديمة ونقدها كما عبر عنها في مقال استفزاز بريطاني المشار إليه أعلاه. وينتهي إلى أن الطبقة العاملة العربية في الشرق الأوسط هي القوة الوحيدة التي تستطيع إيقاف الصهيونية وتحطيم الإمبريالية لأن الدول القائمة حاليًا لن تفعل ذلك وضمنيًا كما يفهم من السياق، فالطبقة العاملة اليهودية عنده ليست مدعوة لشيء!( ). رغم أنها لن تتحرر إلا إذا وقفت ضد دولتها بالذات فى كل مايخص الشأن الفلسطينى . ج - يوسي شوارتز ونقده الصريح للأممية الرابعة والضمني لغيرهم وقد وجه يوسي شوارتز عضو التيار الشيوعي الأممي، والإسرائيلي –اليهودي – الماركسي – الترتسكوي، نقدًا شديدًا لـلأممية الرابعة ولعدد من المفكرين التروتسكيين منهم هال درابر، وتوني كليف في مقال له بعنوان حرب إسرائيل عام 1948 وانحلال الأممية الرابعة (وهو نقد ينطبق أيضًا على هنري كورييل وحلقته وتلامذته المصريين والأجانب ومنهم بالطبع جويل بينين ويوسي أميتاي وتابعيهم ومن سار على نهجهم، ويتكامل مع النقد الذي وجهه المفكر الماركسي إبراهيم فتحي في كتابه المعروف عن هنرى كورييل). ويعتبر سيرًا على نهج المفهوم المادي للمسألة اليهودية لإبراهام ليون، وكذلك لكراس الطبيعة الطبقية للمجتمع الإسرائيلي لحاييم حانجبي وموشى ماشوفر وآكيفا أور. يحاول يوسي شوارتز في مقاله الهام (وهو فصل من كتاب) أن يحدد الموقف الماركسي من دولة الاستعمار الاستيطاني إسرائيل، ظهورها وحروبها الرجعية، وينتقد الأممية الرابعة في موقفها من الصهيونية ومن النضال التحرري القومي الفلسطيني، ويعتبر أن القوى التروتسكية الصغيرة بقيادة تونى كليف لم تفهم أبدًا المسألة القومية في فلسطين، وكان يتعين عليها أن تتخذ موقفًا انهزاميًا ثوريًا ضد إسرائيل عام 1948، وموقفًا دفاعيًا ثوريًا مع البلدان العربية. كما ينتقد من أسماهم الستالينين الذين توهموا أن إسرائيل ستشكل مجتمعًا تقدميًا ديموقراطيًا داخل المحيط العربي الرجعي، وأنها حاربت حربًا ثورية ضد الإمبريالية بينما الحاصل النهائي الذي تمخض عنها هو تعزيز الأخيرة وركائزها في كامل المنطقة. ويعتبر أن إسرائيل باتت دولة إمبريالية في سيرورتها وإن لم تكن كذلك في بدايتها، وهي لم تمر بثورة ديموقراطية، ولا يمكن لها أن تمنح الفلسطينيين حقوقًا متساوية لأنها بذلك لن تصبح دولة ذات أغلبية يهودية فتفقد شرعية الوجود ويتعرض جهاز دولتها للخطر، وينوه إلى أنه يكفي أن تقرأ المقالات، واليوميات، وأحاديث القادة الصهاينة، لتدرك أن الهدف الصهيوني من حرب 1948 كان تحطيم وإجبار الفلسطينيين على ترك وطنهم. ويظهر أيضًا أن الصهاينة قد صيغوا على شاكلة أفريكان جنوب أفريقيا. وشوارتز يدين مواقف الأممية الرابعة كما يدين من أسماهم الستالينيين لأنهم لم يتناولوا حرب 1948 من منظور الطبقة العاملة العالمية وأيدوا "حق تقرير المصير لليهود" في واقع جديد زعموا أنه تطورت فيه "أمة يهودية". "من المستحيل في العالم الحقيقي أن تؤيد حق تقرير المصير للإسرائيليين والفلسطينيين معًا. وعلينا أن نختار جانبًا إما المستوطِنون المستعمِرون أو الفلسطينيون المستعمَرون والمضطهَدون. أن تؤيد حق تقرير المصير يعني أن تؤيد الحق في إقامة دولة. والدولة الصهيونية إن أقيمت حتى على أقسام من فلسطين لن تتحقق إلا بسرقة أراضي الفلسطينيين. ليس هذا فحسب بل وعنت أي دولة صهيونية ذات أغلبية يهودية طرد الفلسطينيين. وهو لا يري أن لليهود الحق في أن ينالوا دولة على حساب الحقوق القومية للشعب الفلسطيني "هذا ليس حق تقرير المصير، وإنما غزو لإقليم شعب آخر"؛ حسب تعبيره( ). ويجادل هال درابر: "من أين تستمد المبدأ المطلق الرفيع لحق تقرير المصير لكل الأمم ؟ هل يمكن أن تجده عند ماركس؟ بالقطع لا. لقد سجل ماركس موقفه بمعارضة مطلب حق تقرير المصير لملاك العبيد في الجنوب خلال الحرب الأهلية الأمريكية. ورفض ماركس وإنجلز في عام 1848 أن يؤيدا حق تقرير المصير للسلاف الجنوبيين لأنه كان سيخدم مصالح القيصر الروسي، وقد كان مع الإمبريالية البريطانية يمثل عماد الرجعية. هل أخذته من لينين؟ بالقطع لا. كان لينين مع سحق استقلال بولندا في ظل هيمنة القوميين من الجناح اليميني الذين شاركوا فى الهجوم الإمبريالي على الثورة الروسية عام 1920. لا يدافع الماركسيون عن حق تقرير المصير للإمبرياليين الذين يضطهدون الأمم وإنما عن الأمم المضطهدة فقط .." إذا ما أزلنا الهراء عن المبدأ النبيل ونظرنا لكل مسألة من منظور أي سياسة هي التي تدفع قدمًا مصالح الطبقة العاملة فلابد أن نستخلص أن الموقف الصائب في حرب 1948 كان هو الانهزامية الثورية لإسرائيل والدفاع الثوري للدول العربية. "تأييدهم في المواجهة العسكرية بدون تأييد سياسي لأننا لا نستطيع أن نثق فيهم بشأن قيادة الصراع ضد الإمبريالية وضد الصهاينة" كان هذا سيكون الشعار الصائب "الطبقة العاملة فقط هي التي يمكن أن تكون موضع ثقة في تنفيذ تلك المهمة"( ). ويرد جابرييل باير من العصبة الشيوعية الثورية والأممية الرابعة على هال درابر أيضًا: "... من الوهم الظن (1) أن الإمبريالية قد هزمت بخلق دولة مستقلة جديدة في صراع مناهض للإمبريالية أو (2) أن وجود دولة يهودية له تأثير تقدمي على الطبقة العاملة والحركة العمالية في البلدان العربية في الشرق الأوسط، و(3) أنه من المهم أن نوضح لكل اشتراكي في العالم أنه لم يكن من الممكن تأسيس دولة إسرائيل بدون دعم الإمبريالية الأنجلو-أمريكية. ويكتب لولا أن وفد الولايات المتحدة للأمم المتحدة أثر في / ورشا عددًا معينًا من وفود الدول الصغيرة، هاييتي، الفلبين وبلدانًا أخرى، ولو لم تسمح الولايات المتحدة لإسرائيل بالمال والعتاد وهو ما مكنها من أن تدفع مقابل الأسلحة التشيكية بالدولار، ولو لم تعترف بالدولة الجديدة خلال بضع ساعات من إنشاءها، ولو لم يتسامح الجيش البريطاني وفتح الطريق إلى القدس بالغزو وإخلاء القرى العربية على طول هذا الطريق (في 2 مارس 1948 التحقت القوات البريطانية بقوات الهاجاناه لاقتحام حاجز عربي عند باب الوادي، وفشلت في بواكير شهر أبريل في أن تتدخل حينما بدأت الأعمال العسكرية على طول الطريق، وبعد ذلك في 6 أبريل أتى البريطانيون ببعض قطارات للتموين داخل المدينة، الخ) لو لم يأتِ الجيش البريطاني لإنقاذ المستوطنات اليهودية: دان وكفار زولد في الجليل الأعلى في التاسع من يناير وأخيرًا وليس آخرًا، لو لم تنقذ الهدنة الأولى التي فرضتها الأمم المتحدة في يونيو 1948 القدس اليهودية من المجاعة والانهيار العسكري؛ لو لم يحدث كل هذا ما قامت لدولة إسرائيل قائمة"( ). وبعد، بدلًا من أن ينوه توني كليف بالدور العسكري للصهيونية التي سعت لإرهاب الجماهير العربية لإجبارها على الخضوع للإمبريالية، ورؤية كراهية الجماهير العربية الموجهة ضد الصهيونية بوصفها شكلًا لمقاومة الإمبريالية حتى وإن كانت إرهابًا مضادًا، فقد رآها بوصفها شوفينية أسيء توجيهها تلاعب بها الإمبرياليون؛ "كان هدف الإمبريالية الأنجلو-أمريكية خلق قوة تلعب نفس الدور في إطار الشرق الأوسط ككل وهو الدور الذي لعبته الصهيونية لمدة 30 عامًا في فلسطين. بوصفها بؤرة للكراهية الشوفينية حيث تخدم في تحويل النضالات الثورية للجماهير العربية في الشرق الأوسط من كونها مناهضة للإمبريالية إلى مسارات دينية أو عرقية"( ). في مقالة لقائد العصبة الشيوعية الثورية توني كليف في نوفمبر 1938، في فصل معنون النزاع العربي الإسرائيلي، كتب: "ماهي أسباب هذا النزاع؟ هناك إجابتان تطرحان في فلسطين. تقول المجموعات الصهيونية أن النزاع هو ببساطة تصادم الإقطاع والرجعية مع القوى التقدمية للرأسمالية. ويزعم القوميون العرب ومؤيديهم الستالينيين بأن هذا التصادم بين حركة التحرر العربي والصهيونية ولكن التفسير الأول خاطئ لأن حقيقة النزاع بين الإقطاع والرأسمالية لا يفسر الحركة القومية التحررية في فلسطين. وهناك مظاهر مماثلة للقومية في البلدان المتاخمة (سوريا ومصر). أضف إلى ذلك فهو لا يفسر كيف أن عصبة من الأفنديات نجحت في السيطرة على حركة قومية قوامها مئات الآلاف. من الواضح أن سبب التناحر بين الجماهير العربية والسكان اليهود لا ينشأ من حقيقة أن الأخيرين ينعمون بمستوى أعلى من المعيشة وقد خلقوا حركة عمالية متصلة. إن معارضتهم الرئيسية تنبع من حقيقة أنهم يرون في السكان اليهود حملة الصهيونية، وهي كنظام سياسي قائمة على الإقصاء القومي، والعداوة لمطامح الجماهير العربية في الاستقلال ومقرطة النظام السياسي. وجهة النظر الثانية، أى دعوى القوميين العرب، هي بالمثل خاطئة. فهي لا تأخذ في الاعتبار أن هناك نزاعًا فعلًا بين الإقطاع والتطور الرأسمالي، ثانيًا، أنه داخل الحركة القومية هناك بورجوازية عربية تتناقض مع الاقتصاد اليهودي المغلق مما يطور اتجاهات عربية إقصائية، وثالثًا، أن السكان اليهود ليسوا جزءً من المعسكر الإمبريالي. يترتب على ذلك أن التصادم في النزاع العربي اليهودي هو بين حركتين إقصائيتين (بين الصهيونية وبين القيادة العربية البورجوازية شبه الإقطاعية من ناحية، ومن ناحية أخرى نضال الجماهير العربية ضد الصهيونية). إن الصراع الدائم من أجل تلطيف هذا النزاع ممكن فقط على أساس النضال ضد الصهيونية، ضد النزعة القومية العربية الإقصائية والأعمال المعادية لليهود، ضد الإمبريالية ومن أجل مقرطة البلاد واستقلالها السياسي". وهكذا نرى قائد العصبة الشيوعية الثورية يتبنى منهجًا مثاليًا، غير مادي ولا دياليكتيكي، وهو يساوي بين القوميتين الصهيونية والعربية أو "الإقصائية القومية" بدون إدراك الاختلاف بين أمة مضطهَدة وأمة مستعمِرة مستوطِنة مضطهِدة( ). على أية حال كان لابد لنا أن نتوقع من كليف أن يعرف مدى أهمية الكفاح داخل الطبقة العاملة الإسرائيلية اليهودية للانفصال عن الصهيونية والالتحام بالمقاومة الفلسطينية. وليست هناك فرصة أخرى لتحرير الطبقة العاملة في إسرائيل سوى طريق القطيعة مع روابط الصهيونية والدولة الإسرائيلية نفسها. كان يمكن لنا أن نتوقع من كليف، بوصفه اشتراكيًا يُعتقد أنه تروتسكوي أن رؤاه السياسية في فلسطين كان لابد أن تكون مختلفة. إلا أنه قد ساوى بين المستوطِنين المستعمِرين الذين تساندهم الإمبريالية البريطانية والمقاومة العربية للإمبريالية والصهيونية. ويبدو أنه لم يكن خلال نشاطه السياسي في فلسطين، قادرًا أبدًا ولا مستعدًا لينفصل بشكل متسق عن التأثير الصهيوني. وذلك واحد من الأدلة الأشد أهمية على افتقاد الطرائق الثورية اللاحقة. وحتى في سيرته التي كتبها بعد ذلك بسنوات بعد أن غادر فلسطين لام العمال العرب. وكم يبلغ بك السخف حين تلوم الجماهير المضطهَدة وتتهمها بأن ذنبها أنها لم تؤثر في العمال الإسرائيليين وتدفعهم لموقف إيجابي!( ) وينتهي شوارتز في مقاله إلى أن المهمة الأساسية لكل الشيوعيين في إسرائيل والعالم العربي بالطبع هي بناء حزب ثوري متعدد الجنسيات منقوش على رايته: فلتسقط إسرائيل دولة التمييز العنصري! ومن أجل جمهورية عمالية فلاحية من النهر إلى البحر! من أجل فلسطين حرة حمراء! بدون حزب كهذا، بدون النضال من أجل توجه ثوري لحركة العمال، فإن قوى رجعية مثل القوميين والإسلاميين سوف تظهر بوصفها الإمكان الوحيد لقتال المعتدين الإسرائيليين! ومن ثم فإن مطلب إقامة جمهورية ديموقراطية واحدة من النهر إلى البحر لا يمكن أن يتحقق دون ثورة اشتراكية. د - هنري كورييل تاجر الثورة ومرابيها لقد ترك لنا المفكر الماركسي إبراهيم فتحي أثرًا هامًا لندرة موضوعه فما كتب عن هنري كورييل من حلقته ومريديه وضعه في موضع "رجل من طراز فريد" و"نسيج وحده" كما كتب الفرنسي جيل بيرو، وكادت حقيقته أن تطمس تحت ركام الأساطير التي يروجها شيعته ويجري ترديدها دون تمحيص أو مراجعة، ويتم تزييف الوقائع التاريخية ولا تجد من ينقضها، ولكن الأخطر هي الأفكار التي سرت في جسم الحركة الشيوعية المصرية، ومازالت تجد لها موطئًا في بقايا حدتو التي تعضنت في موقعين حزبيين رسميين في حياتنا السياسية الراهنة، وفي أدمغة الفاقدين للفكر النقدي. فضلًا عن الأثر الذي تركه فيى إيطاليا (وخاصة علاقته بـ الحزب الشيوعي الإيطالي راعي أحد مؤتمراته الداعية للسلام الإسرائيلي) وفرنسا وبعض البلدان العربية من خلال حلقة روما الشهيرة. لقد ترك لنا إبراهيم فتحي جملة من المقالات تمثل ثروة فكرية صدرت في مجلة طريق الانتصار لسان حال الحزب الشيوعي الفلسطيني تحت عنوان حلقة هنري كورييل ومستقبل الحركة الشيوعية في مصر( )وقد تناول فيها فكر الحلقة النظري والسياسي والتنظيمي والجماهيري، ورغم أنه تناول فيها موقفها من القضية الفلسطينية إلا أنه عاد للموضوع باستفاضة في كتاب خصصه لذلك وهو كتاب هنري كورييل ضد الحركة الشيوعية العربية في القضية الفلسطينية( ). وما يعنيني في هذا السياق هو ما يتعلق بالقضايا التي طرحها د. جينارو جيرفازيو صراحة أو ضمنًا وكشف الصلة التي تربط بينها وبين تصورات هنري كورييل التي تأثر بها. وأعيد هنا الخلاصة التي انتهى إليها د. جيرفازيو: "وهكذا إذا كانت بداية العقد الجديد قد شهدت وجودًا ماركسيًا نشيطًا في مصر رغم أن الاعتقال والنفي كانا يحدان منه بقوة (المقصود اعتقال كورييل ونفيه – س.ع.)، فإنه يبدو أن الحركة فقدت قدرتها على أن تضع نفسها في طليعة المجتمع المدني المصري كأداة نقل الحداثة والتحرير الاجتماعي كما كانت في منتصف الأربعينات، ومن المحتمل جدًا أن "الانعطاف القومي"، وإن كانت الظروف التاريخية والمحلية قد دفعت إليه، كان مبنيًا على هذا التراجع الذي يمكن قراءته بشكل معين باعتباره "فقدان الهوية" للماركسيين المصريين من أجل الانضمام للمحيط الواسع للفكر القومي. وهكذا، كما كانت الحركة في سنوات الأربعينيات تمثل للعديد من المناضلين قمة النشاط الشيوعي في مصر فقد مثل تراجعها سواء الأيديولوجي أو التنظيمي عبئًا على أجيال المستقبل من المناضلين حتى اليوم"( ). عرضت آراء هنري كورييل ودوره في مصادر عديدة أبرزها ما أورده بالطبع تلميذه رفعت السعيد في تأريخه للحركة الشيوعية المصرية، وكتاب صديقه جيل بيرو رجل من طراز فريد وقد صدرت للكتاب الأخير عدة ترجمات مصرية وعربية، كما تضمن كتاب وثائق الحركة الشيوعية المصرية 1944 – 1952 والأجزاء التالية عليه، الصادر عن مركز البحوث العربية والأفريقية وثائق كتبها كورييل أو كتبت عنه في الفترة المعنية، كما أشرف د. رءوف عباس على نشر كتاب أوراق هنري كورييل، وقد نشر الراحل محمد يوسف الجندي، وهو من أتباع هنري كورييل المخلصين، آراءه وأفكاره بالنسبة للقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي في كتاب من أجل سلام عادل في الشرق الأوسط( ) بوصفها ذات وزن وكان لها دور هام في تطور هذا الصراع وفي البحث عن تسوية سلمية حسب تعبيره في مقدمة الكتاب المذكور. وبالطبع ليس من شأن المقال الراهن أن يتناول تأريخ حياة كورييل أو تصوراته السياسية الكلية أو دوره ونوعية ارتباطه التاريخي بالحركة الشيوعية المصرية، وأسبابها، إلا بالقدر الذي يرتبط بموضوعنا وخاصة بمقولات د. جينارو جيرفازيو بوصفها مؤثرًا أساسيًا في تشكيل تصوراته. ويكفي في البداية أن أشير لباحث من المتعاطفين مع كورييل ومع خطه في الصراع العربي الإسرائيلي ويوافقه على أن إسرائيل هي تعبير مشروع عن"حق الشعب اليهودي في تقرير مصيره" وهو جويل بينين الذي يصفه بأنه كان يهوديًا كوزموبوليتانيًا مثله مثل كثيرين في تنظيمه الحزبي ، وفي بلد يسيطر عليه الأوروبيون اقتصاديًا، ويعاني من الاحتلال ويعتبر من غير المألوف أن تصبح أقلية تعليمها فرنسي كوزموبوليتانية بورجوازية منفصلة عن نسيج الحياة الشعبية، بارزة على هذا النحو في حركة تدعي تمثيل الجماهير الشعبية. فضلًا عن طرح المسألة اليهودية على الشعب المصرى بوصفها مشكلة في التاريخ الأوروبي. ونقد بينين ينصب على نفس الشئ الذى إمتدحه من أجله د. جيرفازيو بشغف شديد . ويتداعى إلى ذهني بهذا الصدد موقف إنجلز من الاشتراكيين الديموقراطيين الألمان الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ففي رسالة وجهها إنجلز إلى فريدريش أدولف زورجه بتاريخ 2 ديسمبر 1893يقول أن الأوضاع رهيبة، والشباب الذين يأتونك من ألمانيا ليسوا هم الأفضل، وليسوا بأي حال عينة نموذجية للحزب الاشتراكي فهم مثلما يحدث في كل مكان يريدون أن يدمروا ما هو موجود بالفعل ويعيدوا إنشاء كل شيء من جديد حتى يبدو وكأن عهدًا جديدًا قد بدأ معهم. ونظرًا لفيض المهاجرين الجدد الذين يتحدثون لغتهم فهم لا يشعرون بضرورة تعلم لغة البلاد، أو اكتساب معرفة بأوضاعها. وكل هذا يسبب قدرًا كبيرًا من الضرر بلا شك، ولكن من ناحية أخرى لا يمكن إنكار أنه في أمريكا في الوقت الراهن هناك كثير من الصعوبات بشأن النمو المتسق لحزب عمالي، وأنه حين تنضج الشروط لوجوده فلن يعوقه عن ذلك حفنة من العقائديين الاشتراكيين الألمان. وفي رسالة أخرى لذات الشخص بتاريخ 12 مايو 1894، ينتقد الاشتراكيين الألمان الأمريكيين لأنهم اختزلوا نظرية ماركس عن التطور إلى أرثوذكسية فظة حيث لا يتوقعون أن يبلغها العامل بوعيه الطبقي وإنما وبدون إعداد يريدون أن يدفعونها فورًا في حلقه وكأنها مادة إيمان، وفي رسائل أخرى ينتقد طابعهم الحلقي وانعزالهم. وكانت أول نصيحة لهم هي تعلموا الإنجليزية. (الأعمال الكاملة، المجلد 50، بالإنجليزية، ص 299 - 328، 329، طبعة الناشرون العالميون، نيويورك 2004). وإرتباطا بشئ مماثل رفض ليون تروتسكى منصب وزير الداخلية بعد نجاح ثورة أكتوبر لقمع الثورة المضادة رغم إصرار لينين على ذلك بسبب "يهوديته " التى قدر أنها قد تسئ إلى الثورة البلشفية، وإعتبر ذلك تنازلا صغيرا لصالح البلاهة . ونعود إلى كورييل (اليساري بسبب صعود النازية في ألمانيا) الذي تتقوم تصوراته في أن هناك "حق لليهود في وطن قومي في فلسطين" وهو حق مقدس وغير قابل للتقادم للجماعات القومية، لذا لهم مثل أي أمة "الحق في تقرير المصير" وأن الإمبريالية البريطانية ومعها الرجعية العربية - وقتها - توظف النزاعات بين اليهود والعرب لحرف الحركة الوطنية لكل شعوب المنطقة عن المهمة الأساسية وهي إنجاز الاستقلال الوطني، وجلاء القوات الأجنبية. وأنه كان على اليهود والعرب أن يتحدوا في جبهة معادية للإمبريالية وينشئوا معًا دولة واحدة ديموقراطية. ومثل توني كليف فقد اعتبر مظاهرات 2 نوفمبر 1945 في مصر في ذكرى وعد بلفور بمثابة مؤامرة إنجليزية وحكومية لحرف الأنظار عن مطالب الحركة الوطنية المصرية، رغم أنها عبرت من الناحية الأساسية عن احتضان الشعب المصري للقضية الفلسطينية، وإفشاله محاولات الإخوان المسلمين ومصر الفتاة للسيطرة عليها وتحويلها لمظاهرة معادية لليهود. وفي عام 1947 ركزت الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني وحلقة كورييل بقيادته على المطالب الوطنية المصرية حصرًا، وأيدت بعد ذلك قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة بشأن فلسطين بذريعة أنه كان حلًا عمليًا رغم أنه لم يكن مثاليًا، بينما عارضته الأحزاب الشيوعية العربية والقوى السياسية المصرية. وفى أول مايو 1948 صدر بيان المكتب السياسي لـحدتو يندد بالحرب الرجعية التي كان يعد لها. ويلقى اللوم على سياسة موالاة الاستعمار التي تنتهجها البلدان العربية، بينما الضمان الوحيد لوحدة فلسطين هو العمل على إيجاد جو من الألفة والثقة المتبادلة بين الجماهير الكادحة العربية واليهودية. وفي أحد بيانات حدتو المنشورة تعقيبا على أحد قرارات الجامعة العربية ينص على أن : "أمام هذه الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية يرى الاستعمار والرجعية ألا مخرج لهما سوى إشعال حرب العنصرية في الشرق العربي، تلهي الشعوب عن أهدافها الوطنية ومطالبها الاقتصادية والاجتماعية وتحول أنظارها عن العهود الحاضرة المعادية للديموقراطية، وقد وجدوا في فلسطين نقطة البدء لتحقيق هذه السياسة الإجرامية"( ). ويفخر هنري كورييل بأن حدتو كانت في هذا الوقت "بطلة الأممية البروليتارية" التي ساندت الاتحاد السوفييتي وناضلت داخلها "ضد الانحرافات القومية"، وخارجها "ضد الشوفينية" لدى الأحزاب الأخرى بلا استثناء، صدورًا عن ثقتها في الشعبين العربي واليهودي، ونتاجًا لرفضها التبعية تجاه الطبقات الحاكمة وإصرارها على اتخاذ موقف بروليتاري مستقل وغير ذيلي. وإذا كانت إسرائيل التي طالب لها بحق الاعتراف بالوجود كدولة مستقلة قد لعبت دور الشرطي للإمبريالية والتفت حول القيادة الصهيونية، فذلك فيما يبدو نتاج خطيئة الشعوب العربية "ولكن إذا اقتنع الشعب الإسرائيلي أن الشعوب العربية لا تهدد وجوده وأن الحركة الوطنية والديموقراطية تتخذ موقفًا وتناضل من أجل حل عادل للنزاع، فإن المشاريع الإمبريالية ستفشل مرة أخرى"( ). وإذا كانت هناك سياسة استفزازية للحكومة الإسرائيلية فهي لا تختلف في شيء عن السياسة الاستفزازية للحكومات العربية وإذا كانت أكثر عدوانية من الأخيرة فأحد الأسباب "غياب مواقف وأعمال من جانب القوى الديموقراطية العربية" ويدعو للتشديد الفعال على النضال ضد شوفينيتنا الخاصة( ) حيث لاحظ فيما بعد "أن الشيوعيين في مصر تركوا أنفسهم ينجذبون في هذا المجال إلى التيارات القومية البورجوازية"( ) بل وبلغ الأمر داخل حزبه حد الكشف عن "انحراف قومي"( ). ويعلق في موضع آخر على برنامج الحزب الشيوعي المصري الموحد حيث يقرر أن تحقيق السلام مع إسرائيل يساوي دخول حلف بغداد الاستعماري ويصف ذلك تهكمًا بأنه "الماركسية الخلاقة". وفي كتاباته ومذكراته ورسائله يشدد كورييل على أهمية السلام وما يتضمنه من تنازلات حتمية ويتصور الأمور بعقلية المرابي والسمسار بين الطرفين مع الانحياز للغاصبين "ففي إسرائيل يمثل السلام التوطيد النهائي للدولة الناشئة"( ) ويعتبر أنه لا يمكن أن يفرض أي شيء على دولة إسرائيل لا تقبله، وأن الشعب هناك قد عاش وسواس الإبادة ومن ثم فلابد من سلام حقيقي وأمن حقيقي. وأنه من غير المعقول مطالبة إسرائيل بالعودة إلى خطوط ما قبل يونيو 1967. وحسب تعابيره ( وهو أمر ينتقده . س ع ) يجرى تصوير السلام للبلاد العربية باعتباره تكريسًا للهزيمة، وخيانة لفلسطين كبلد عربي موجود في قلب الشرق الأوسط العربي، وقبولا لبلد يفصل البلدان العربية الموجودة في الغرب عن تلك الموجودة في الشرق، بلد خلق بنهب السكان العرب الأصليين، مرتبط بالإمبرياليين الغربيين، ويعتبر الكفاح ضد إسرائيل هو كفاح ضد الإمبريالية، ويعقب كورييل على هذا العرض الذى قام به لوجهة نظر مغايرة بالقول "نحن لا نشترك بالطبع في فهم الأمور بهذه الطريقة"( ). ويكتب بشكل غاية في التحدد: "يجب أن نقول أولًا بوضوح أننا ننطلق ... من الحقيقة الإسرائيلية باعتبارها شرعية"، ويعتبر شيئًا مسلمًا به "أن اليهود في إسرائيل يكونون كيانًا قوميًا له مثل كل المجموعات القومية الحق في تقرير مصيره وتكوين دولة قومية. "يبقى ذلك صحيحًا حتى إذا أعلننا أن إسرائيل هي واقع استعماري لأن كثيرًا من الدول القومية أصلها وقائع استعمارية، وقد تأكد ذلك بشكل خاص سواء في أفريقيا أو الشرق الأوسط ). ونعتبر أيضًا أن الجماهير اليهودية الإسرائيلية لها مثل كل شعوب العالم الحق في الأمن من ناحية وأن تتطلع إلى ذلك من ناحية أخرى"( ). ه - إبراهيم فتحي ونقد أسطورة كورييل يبدد المفكر الماركسي إبراهيم فتحي أسطورة الصحافة الرجعية في العهد الملكي عن هنري كورييل بوصفه مؤسسًا للشيوعية المصرية في حلقتها الثانية. وهو مليونير يهودي لا يجيد العربية وينتمي ثقافة وفكرًا وطريقة حياة للرأسمالية الفرنسية التي يحمى امتيازاتها الاحتلال البريطاني، ويرتبط ثقافيًا وعاطفيًا بفرنسا التي تستعمر بلدانًا في المشرق والمغرب العربي. ويبين عدم التطابق بين أفكار كورييل وتنظيمه حدتو الذي كان تنظيمًا فئويًا تعددت فيه المراكز والتيارات الفكرية التي منحت بعض المناضلين إمكان الاستقلال عن الخط الرسمي المعلن، وأساليب العمل المعتمدة. ويشيد بمناضلي حدتو ذوي الاستقلال الفكري، والابتكارات الثورية في المجالات العمالية والطلابية والفلاحية فهم الذين خلقوا خطًا جماهيريًا داخل الحركة العمالية، وأسهموا في بلورة مطالب محددة للحركة وتأسيس أشكال للتنظيم مستقلة عن توجيهات كورييل بل وعلى النقيض منها في كثير من الأحيان مثلما هو الحال بصدد القضية الفلسطينية. ومنهم أسماء لامعة مثل محمد على عامر، وأحمد طه، وعطية الصيرفي، وعيسى مصطفى واستلهمت هذه الكوكبة العمالية نضالاتها من خبرتها الواقعية ولم تستمد الوحي من "دافيد ناحوم" رجل الأعمال الذي عينه كورييل ممثلًا للطبقة العاملة المصرية، وبعث به إلى المؤتمر التأسيسي للاتحاد العالمي للنقابات بفرنسا عام 1945 وأشاد به باحثنا د. جيرفازيو. ويشدد إبراهيم فتحي على أن المثقفين الماركسيين المصريين عمومًا وباستقلال عن كورييل قد خلقوا تيارًا أيديولوجيًا يناوئ فكر البورجوازية في مجالات مختلفة وحاولوا ربط الماركسية بالواقع المصري في المسألة الوطنية والزراعية والتركيب الاجتماعي بل وفي قضايا الفلسفة والتاريخ وعلم النفس والأدب والدين. وبرز مناضلون ضاربي الجذور في الأرض المصرية أمثال يوسف المدرك، طه سعد عثمان، محمود العسكري، وشعبان حافظ الرباط من الطبقة العاملة، ومن المثقفين عصام الدين حفني ناصف، د. عبد الفتاح القاضي، د. حسونة حسين إسماعيل (من مناضلي حزب 1922) وشهدي عطية، أسعد حليم، أنور كامل، عبد الرحمن ناصر وفوزي جرجس وعبد العظيم أنيس وغيرهم. وبعكس ما يتوهمه د. جينارو جيرفازيو عن ذات الفترة ناسبًا انجازاتها إلى كورييل وأمثاله يؤكد إبراهيم فتحي: "إن الماركسيين المصريين في أواخر الثلاثينات وأوائل الأربعينات كانوا يناضلون على المستوى الاقتصادي والسياسي والفكري نضالًا شديد القسوة والصعوبة، وقد حفروا الأرض الصخرية بأظافرهم حينما كان "كورييل" كما يقول أخلص مؤرخ له "جيل بيرو" في الفترة الماخورية. وبطبيعة الحال لا يعرف جيل بيرو شيئًا عن نضال الماركسيين المصريين في ذلك الوقت وهو يتوهم أن كورييل حينما كان يناضل في ملهى الكيت كات لم يكن هناك نضال يخوضه اليسار المصري، وأن مصر كانت تنتظر الخواجة المخلص المؤسس مرتديًا بنطلونه القصير. هل يمكن الحديث عن اشتراكية طفيلية مثل الحديث عن رأسمالية طفيلية؟"( ). ويواصل إبراهيم فتحي بيان الطبيعة الاجتماعية لكورييل وحلقته وهو يميز تمييزًا قاطعًا بينها وبين حدتو ومناضليها؛ فهذه الحلقة احتوت على رجال أعمال (وقتها وفيما بعد) ينتمون فكريًا للثقافة البورجوازية الفرنسية العقلانية. ويساريتهم نشأت على أرض أخرى غير أرض الصراع الطبقي والوطني في مصر والعالم العربي الذي كان موجهًا ضد الاستعمار العالمي والصهيونية وركائزهما الداخلية. لقد وجدت جذورها في معاداة الفاشية والاشتراكية الديموقراطية الفرنسية في خضم العدوان النازي على فرنسا ومعاداة السامية ( هناك تطابق سياسى بين تأملات سارتر فى المسألة اليهودية ورؤى كورييل بعد نزع غلاف الأولى الوجودى عنها ) . وهم لا ينتمون إلى الحركة الشيوعية العالمية ولا للتراث النضالي للشعب المصري. ونقطة الانطلاق عندهم ليست حركة التحرر القومي العربية ذات الأفق الاشتراكي بقيادة الطبقة العاملة حيث القضية الفلسطينية والدولة الفلسطينية جزءً لا يتجزأ من هذا المحيط الثوري بل جزيرة مجردة معزولة يتنازعها حقان قوميان مقدسان. وقد رأى الحزب الشيوعي الفرنسي في كورييل شخصًا مشبوهًا لا ينبغي التعامل معه، واعتبره السوفييت عميلًا للموساد. وقد أدين بصراحة من قبل الشيوعيين الكوبيين( ). ويكشف إبراهيم فتحي الترجمات العربية التي أخفت أو زورت مقاطع من كتاب جيل بيرو وتدين هنري كورييل، معتمدًا على النص الفرنسي الأصلي، وخاصة دعوته الشيوعيين المصريين للقفز في طائرة السادات الذاهبة في الزيارة المشئومة إلى القدس في نوفمبر 1977.الزيارة التى حياه عليها سارتر أيضا . ويندد إبراهيم فتحي بفهم كورييل وبطانته للمسألة الوطنية في مصر "فقضية الاستقلال والجلاء عندهم قضية مجردة معزولة عن أي فهم شامل للمعركة العربية ضد الإمبريالية العالمية باعتبارها كلاً مترابطًا، بالإضافة إلى أن ما يسمى بخط القوات الوطنية والديموقراطية عندهم كان يعجز عجزًا شائنًا عن رؤية خصوصية المعركة ضد الصهيونية وعن فهم الدور الجديد الذي أصبح على الصهيونية بعد الحرب العالمية الثانية أن تلعبه. لقد انفردت حلقة كورييل بالنظر إلى القضية الفلسطينية باعتبارها قضية تضامن ثانوية بين الشعبين المصري والفلسطيني ضد الاستعمار البريطاني، كما انفردت باعتبار الصهيونية جزءً ثانويًا يتبع المسألة الرئيسية مسألة وجود قوات احتلال إنجليزية، حتى أن كورييل لم يستشعر الحاجة إلى إهدار أي جهد لإثبات عدائه للصهيونية، فهي مسألة بديهية تتعلق بتسجيل موقف وليست مسألة نضال طويل الأمد. وليت الأمر وقف هنا، بل أن هنري كورييل ذهب إلى حد"تحريم" إبداء العداء للصهيونية، واتخذ موقفاً مناهضًا لجميع الأحزاب الشيوعية العربية حينئذ على نحو سافر"( ). وقد عرض إبراهيم فتحي - وهو المفكر النظري الأبرز لـحزب العمال الشيوعي المصري - في مقدمة كتابه لبعض الأسس النظرية للمسألة القومية لدى رواد الماركسية، وتناول مسألة الشعوب الرجعية (بعد افتراضه جدلًا أنه كانت هناك قومية يهودية)، وكون المسألة القومية لأي شعب من الشعوب لا ينبغي النظر إليها بشكل مجرد بمعزل عن احتياجات العملية الثورية وآفاقها. من ناحية أخرى أشار إلى الموقف المبدئي الماركسي الأممي الذي ينبغي اتخاذه من الماركسيين المصريين إزاء يهود فلسطين مما يتناقض مع أي نزعة قومية بورجوازية أو "قومية يسارية" على حد وصف د. جيرفازيو، فيقول: "ولن نصل من ذلك إلى أن مسألة الحقوق القومية لبعض يهود فلسطين يمكن تجاهلها بالنفي، أو تحويلها إلى مسألة أقلية دينية استنادًا إلى رعب خرافي وتبجيل مبالغ فيه لكلمة قومية. وهذا الموقف الخاطئ امتداد للفكر البورجوازي في مسألة القومية العربية نفسها والذي يتعامل مع"القومية" كما لو كنا في القرن السابع عشر وقيادة البورجوازية للحركات القومية، و"الحقوق الطبيعية" لقومية مجردة من أي مضمون طبقي أو علاقة بالحركات الثورية العالمية، إيجابًا أو سلبًا. والحديث لا يدور عن كل سكان إسرائيل، أي عن عشرات الآلاف من المرشحين المحتملين للهجرة المضادة، إذا ساءت الأحوال في إسرائيل، والذين يحتفظون بوشائج غير مقطوعة مع بلاد أصلية أو مختارة، ولا يتكلمون اللغة العبرية أو يتكلمونها كلغة ثانية. ولكن ما من سبيل لإنكار حقائق واقعية منها أن نصف قرن أو يزيد من أوسع هجرة يهودية أو "غزوة صهيونية" قد نجم عنها ميلاد جيل أو أكثر من اليهود لا يعرفون لهم وطنًا آخر، ولا لغة غير اللغة العبرية ويحيون حياة اقتصادية فيها بعض السمات المشتركة، وبدأت تتكون لديهم على نحو تدريجي وبطريقة متعثرة حافلة بالتناقضات والاتجاهات العكسية بعض الملامح الثقافية المشتركة، إن بذور قومية يهودية فلسطينية في طريقها إلى التكوين بين جيل أو أجيال ما بعد الصهيونية هي بذور تواصل النمو، ولابد من ملاحظة أن هذه الملامح القومية التي ما تزال في طريق التكوين تحمل طابعًا رجعيًا ويغلب عليها النفوذ الصهيوني طالما ظلت دولة إسرائيل تحقق انتصارها، وظل "المواطن" الإسرائيلي يجتني أرباحًا من الدور الاستعماري التوسعي لدولته. وقد تعلمنا من لينين أن حق تقرير المصير ليس أمرًا مطلقًا بل هو جزء من الحركة الاشتراكية العامة، وفي حالات مفردة بعينها قد يتناقض هذا الجزء مع الكل، فإذا كان الأمر كذلك يجب رفض الجزء. إن حق تقرير المصير لا يتم تقييمه من وجهة النظر الشكلية والحقوق المجردة بل من زاوية مصالح الحركة الثورية. ويوضح الماركسيون أن الصهيونية تؤسس مجتمعًا على تضامن مصطنع وتواصل موقف الصدام مع العرب وتبرير الحرب بإدعاء التهديد وخطر الإبادة لجذب يهود الشتات، كما أن ضرورة السلام أقل إلحاحًا بالنسبة للمواطن الإسرائيلي. ويجعل الطابع النوعي الشاذ للتطور الاقتصادي والسياسي في إسرائيل من المحتم أن يظل العدوان المستمر مكونًا أساسيًا للدولة الصهيونية، "فالمواطنون" الإسرائيليون يعيشون داخل دوائر متشابكة للمؤسسة الصهيونية في حلقة مفرغة. ولا يقول أحد بأن إسرائيل بلا تناقضات، أو أن جميع اليهود صهاينة وأعداء للسلام. ولكن إسرائيل ليست إطارًا يضمن الوجود المستقل والنمو المستمر للعناصر والسمات القومية اليهودية الديموقراطية، بل أن هياكل الدولة الصهيونية عائق حاسم أمام نمو هذه العناصر والسمات القومية الديموقراطية وتؤكد الدولة الصهيونية عزلة أي قومية يهودية في طور التكوين وتخليد ارتباطها العضوي بالإمبريالية. ولن تزدهر الحقوق القومية لليهود، إلا بالصراع ضد هياكل الدولة الصهيونية، وليس بتدعيم هذه الهياكل والزعم بتطابق دولة إسرائيل مع الحقوق القومية الديموقراطية لليهود كما تزعم حلقة كورييل. ويتعلق ذلك بالموقف النظري المبدئي وبالأهداف الثورية. وليس معنى ذلك أن تتحول الخطوات العملية في الساحة الدولية، ومحاولات استغلال التناقضات والاستفادة منها لصالح الأهداف الثورية إلى مجرد تكرار نقي للأسس النظرية والأهداف النهائية. فالأسس النظرية ليست قيودًا تعوق انطلاق الحركة الثورية، وهي تفترض المنعرجات والتنازلات المرتكزة على المبادئ بشرط أن يكون ذلك كله لصالح تحقيق الأهداف"( ). و - هل اختلف الدرب مع جويل بينين ؟ هل تغيرت رؤى جويل بينين (أستاذ التاريخ في جامعة ستانفورد بولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة)، ويوسي أميتاي (مدير المركز الأكاديمي الإسرائيلي في القاهرة 1997 – 2001) فيما كتبا بعد توفر أعمال ومؤلفات "المؤرخون الجدد" التصحيحيون الذين أعادوا تدقيق التاريخ الإسرائيلي الرسمي وكشفوا تزويره، بمعنى آخر هل غيرت مؤلفات هؤلاء في النتائج التي انتهوا إليها بخلاف السابقين أمثال بوروخوف أو كليف أو كورييل، وهل اقتربوا من الموقف الماركسي الذي دعا إليه مفكرنا إبراهيم فتحي أو يوسي شوارتز؟ قبل أن أتناول بإيجاز آراء جويل بينين أشير لمقدمة كتابه التي كتبها أحد رجال كورييل المقربين وناشر مؤلفه من أجل سلام عادل في الشرق الأوسط، الراحل محمد يوسف الجندي حيث يفخر فيها بموقف كورييل وبطانته الذي ينسبه زورًا لا إلى حدتو ومناضليها فقط، وإنما إلى الشيوعيين المصريين كافة، فالكتاب حسب قوله "يتعرض لمرحلة هامة من تاريخ الشيوعيين المصريين ويتحدث بالتفصيل عن موقف تميزوا به وانفردوا بين كل القوى السياسية في البلاد العربية ... وذلك أنهم وقفوا ضد حرب فلسطين وأيدوا قرار التقسيم الذي صدر عن هيئة الأمم المتحدة ... وظلوا بعد ذلك يدعون للسلام العادل بين البلاد العربية وإسرائيل"( )، ثم يكرر ذات الأسباب التي أبداها هنري كورييل في كتاباته ومراسلاته وليس هناك من داعٍ لتكرارها. موضوع كتاب جويل بينين هو دراسة العملية التي تحققت بها "هيمنة السياسات القومية" وكيفية اشتداد ساعد "الخطاب السياسي القومي الداعي للهيمنة" في أوساط الحركة الشيوعية في مصر باتجاهاتها الكبيرة الثلاثة، والحزب الشيوعي الإسرائيلي (ماكي)، وحزب العمال الموحد (المابام) منذ منتصف الخمسينات، بعد أن كانت هذه التشكيلات قد نادت قبل حرب 1948 وبعدها "... بحل سلمي للقضية الفلسطينية وللنزاع العربي الإسرائيلي على الأساس الذي استهدفه مشروع الأمم المتحدة للتقسيم في نوفمبر 1947: الاعتراف بحق تقرير المصير لكل من الشعبين العربي والإسرائيلي، وتكوين دولة عربية ودولة فلسطينية في فلسطين / أرض إسرائيل (آرتس يسرائيل) وإقامة سلام يقوم على الاعتراف المتبادل بين إسرائيل والدول العربية"( )لكن فشلت "الأممية" وانتصرت "القومية". فبحلول منتصف الخمسينات" ... لم يكن اليسار في الشرق الأوسط ... يسارًا قوميًا فحسب، بل كان ذا نزعة قومية متطرفة جدًا."( ) ومن ناحية أخري "لم يكن لدى الأحزاب الماركسية فهم كافٍ للنزعة القومية وقوتها السياسية ... فقد اعتنقت وجهة نظر نفعية إزاء نضال التحرر الوطني باعتباره أداة، ومرحلة أولية وضرورية من المحتم أن تحل محلها سياسات الصراع الطبقي. ومن ثم فقد شارك الماركسيون في، وأضفوا مشروعية على، الخطاب السياسي الوطني بدون أن يدركوا أنهم إذ يفعلون ذلك، فإنهم يشتركون في خلق الظروف اللازمة لنزع المشروعية عن مشروعهم السياسي الأحمر المستند لطبقة"( ). ويتحدث الكاتب عن السياسات الماركسية والمنهج الماركسي في النزاع العربي الإسرائيلي الذي جرى التخلي عنه، وهو لا يتجاوز موقف هنري كورييل وبطانته الذي تم عرضه أعلاه ويساوي من الناحية الفعلية بين القومية العربية بمضمونها الناصري والصهيونية رغم تمييزه اللفظي بينهما. ويعتبر أن المكونات الأساسية لحل النزاع الفلسطيني العربي هي مبادئ تقرير المصير والاعتراف المتبادل، والتعايش السلمي. ولم يستطع جويل بينين أن يستخلص النتائج الضرورية من الحقائق التي ذكرها حول "... أن الصهيونية والقومية العربية الناصرية كانتا تقومان على تحالفات طبقية غير متماثلة، مع ما لذلك من آثار ضمنية متعارضة بالنسبة للاتجاه الدولي للحركتين. وينبغي وضع العلاقات المصرية في الخمسينيات والستينيات في سياق علاقتهما المتباينة مع الإمبريالية الغربية؛ والتي لا تعني السيطرة السياسية الغربية في الشرق الأوسط فحسب، بل تعني أيضًا وهو الأهم، دور رأس المال الغربي في الهياكل الاجتماعية الداخلية واقتصاديات مختلف دول الشرق الأوسط. ولم يكن الاتجاهان الدوليان لمصر وإسرائيل ونهجهما إزاء النزاع العربي الإسرائيلي، مجرد تعبيرين مستقلين عن تفضيلات مجموعات حاكمة معينة، بل كانا يضربان بجذورهما في الطبيعة الاجتماعية للمشروعين القوميين لهذين البلدين"( ). إذا كان المصدر الذي اعتمدت عليه في عرض آراء جويل بينين العلم الأحمر... قد توقف عند نهاية الحلقة الثانية للحركة الشيوعية المصرية وموقفها من النزاع العربي الإسرائيلي، ولم يتعرض للحلقة الثالثة و"اليسار الجديد" الراديكالي في هذا الصدد، إلا أنه قد أثبت موقفه منه أثناء تعرضه في مقال عن انتفاضة يناير 1977 ودون أي تمييز بين مرحلتين مختلفتين كليًا أي مرحلة صعود البورجوازية ومناهضة الإمبريالية، ثم مرحلة هبوطها وإعادة توثيق روابط التبعية بالغرب الإمبريالي وفقدان الاستقلال النسبي الذي كان قد تحقق في مراحل سابقة، وأهداف حرب يونيو 1967 التي تحققت بعد حرب أكتوبر بإعادة تشكيل النظام المصري طبقًا لمطالب خارجية التقت بركائزها الطبقية في الداخل. وجويل بينين يتبنى نقد الراحل أحمد صادق سعد للإنتليجنسيا المصرية حيث يعتبر أن الطبقة العاملة قد قاومت سياسة الانفتاح وأن قادة اليسار المنظم قد انعزلت عن العمال والشرائح الشعبية التي تتحدث باسمها ومصالحها "وبالرغم من عدم افتقار اليسار المنظم للمؤيدين من الطبقة العاملة والفلاحين إلا أن قيادتها الوطنية وحسها بالأولويات السياسية سيطر عليها لمدة طويلة حلقة منقسمة داخليًا ومحدودة من المثقفين القاهريين ذوي التعليم الغربي تنتمي بنسبة كبيرة منهم لخلفيات نخبوية"( ) وقد انتهت إلى أنها "قد فرضت أيضًا أولوياتها على الطبقة العاملة ودأبت على إخضاع الصراع الطبقي للنضال ضد الإمبريالية والخيانة. ولم يكن هذا مترتبًا على الانتهازية أو الخيانة ( ). وإنما كان وفقا لما أورده نتاجا لهيمنة الماركسية السوفيتية ، والنظرية الصينية حول الديموقراطية الجديدة الماوية . أ. يوسي أميتاي والمركز الأكاديمي الإسرائيلي شغل يوسي أميتاي منصب مدير المركز الأكاديمي الإسرائيلي في القاهرة 1997– 2001. وهو عضو كيبوتس جفولوت، ومحاضر في قسم دراسات الشرق الأوسط بـ جامعة بن جوريون في النقب، وقام بتأليف العديد من الكتب منها اليسار المصري والصراع العربي الإسرائيلي 1947 – 1978( ). ورغم ما ذكر في عنوانه من أن الكتاب يغطى فترة زمنية معينة تقع في إطارها الحلقة الثالثة من الحركة الشيوعية المصرية خاصة ما اصطلح البعض على تسميته بمنظمات "اليسار الجديد"، إلا أن الكتاب لا يتناول سوى مواقف الحلقة الثانية بصفة أساسية وممثليها البارزين حتى الاتفاقيات الأولى بين مصر وإسرائيل عقب زيارة السادات إلى القدس في نوفمبر 1977. وهو يستخدم عبارة "اليسار المصري" بشكل تعميمي ساحبًا مواقف حدتو وكورييل عليه رغم تعدد منظماته الحزبية ورغم عرضه لمواقفها المغايرة في مواضع أخرى. وهو لا يخفي تعاطفه مع كورييل ومفاهيمه "حول السلام العادل في الشرق الأوسط" وآراء حوارييه أمثال ألبير آرييه وغيره. ويعلن المؤلف منذ الصفحات الأولى "قانون إيمانه" فقد تبنى "النظرية الماركسية غير الدوغمائية"، ومن ثم يقبل بشكل بديهي "بحق جميع شعوب العالم في تقرير المصير" وبالطبع "بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته الحرة إلى جانب دولة إسرائيل". وقد هاله التناقض الذي وجده بين قبول معظم اليساريين المصريين للتقسيم عام 1947 وبين انخراط حزب التجمع سليل حدتو في معارضة مبادرة السادات، واتفاقيات كامب ديفيد. وهو ينتمي لمن تحمسوا للسلام الإسرائيلي المصري، واعتزوا باعتبار "مصر" هذا السلام "خيارًا استراتيجيًا"(58) وهو ينظر بتعاطف شديد لآراء ومواقف كورييل ومجموعة روما. ويكرر مثل سابقيه ممن عرضنا آرائهم فيما سبق خاصة جويل بينين وجينارو جيرفازيو، تعميمًا لا تاريخيًا يفتقر إلى رؤية الاختلافات الطبقية العميقة بين مراحل تطور البورجوازية المصرية وروابطها الإقليمية والعالمية ومراحل تطور الشيوعية المصرية فيقول أن هناك "... إشكالية حقيقية حساسة صاحبت حركات اليسار المصرية على مدى تاريخها أي التناقض بين إعطاء الأولوية للصراع الاجتماعي الطبقي من جهة وإعطاء الأولوية للتحرير الوطني للمجتمع الخاضع للاحتلال الأجنبي من جهة أخرى"( ). وإذ يكرر ما أورده كورييل في كتابه من أجل سلام عادل من آراء ومواقف حيث كان يراقب من منفاه الباريسي بقلق شديد عملية التطرف التي تجتاح الشيوعية المصرية يأسف أميتاي لأنه "على الرغم من تأملات كورييل تلك، التي ارتكزت على مبادئ ماركسية تقليدية واعتمدت على التحليل العقلاني إلا أنها لم يكن بها ما يحول دون مد التوجه القومي الراديكالي الذي ترسخ في صفوف اليسار المصري ..."( ). والخلاصة أن رؤية كورييل التي يحبذها تتناقض تمامًا مع رؤية جميع اليساريين المصريين بكل تلاوينهم المتصلبون والمرنون منهم "فعلى عكس هؤلاء وهؤلاء فإن كورييل لا يعتبر إسرائيل "حقيقة استعمارية" و"أداة إمبريالية" بل كيان قومي شرعي له الحق في الوجود والأمن بدون شك كما لا يعتبر السلام العربي الإسرائيلي "استسلامًا" من الجانب العربي أو "إملاءً إمبرياليًا" ... وفي الحقيقة هذه هي الفرصة الوحيدة من أجل إضعاف سيطرة الإمبريالية على الشرق الأوسط وتحقيق التطلعات العادلة والشرعية للعرب وخاصة الفلسطينيين"( ). هل تحقق أي شيء من ذلك ؟! الواقع أن السلام الإسرائيلي عمق النفوذ الإمبريالي، وعزز الوجود الاستيطاني الصهيوني، وحقق ما لم تحققه أي حروب سابقة هزم العرب فيها عسكريًا. ويطرى "الماركسي غير الدوغمائي" أميتاي نتائج حرب أكتوبر 1973 التي غيرت جدول "الأولويات القومية" وتأثيرها خاصة على الصراع العربي الإسرائيلي: "لقد نجح السادات في استغلال الإنجازات العسكرية والسياسية لحرب أكتوبر... لكي يضع أسس وتغيرات جذرية واسعة النطاق بدأها في مصر منذ توليه الحكم. كان الانفتاح الاقتصادي يمثل نواة هذه التغيرات والتي استلزمت في المقابل، تغيرات أيضًا في علاقات مصر الخارجية على النطاق العربي ... وعلى الصعيد الدولي ... كما استلزمت تغيرات في الشكل التنظيمي للنظام. وقد استلزم كل ذلك التعامل بشكل واقعي مع مشكلة الصراع العربي الإسرائيلي لاستغلال ثمار الإنجازات السياسية والعسكرية لحرب أكتوبر وإعطاء دفعة للواقع الجديد والتي من شأنها إضعاف التداعيات المؤلمة للصراع على التطور الاقتصادي والاجتماعي في مصر."( ) تجاهل الباحث الإسرائيلي يوسي أميتاي تمامًا مواقف المنظمات الشيوعية المصرية في السبعينات، - كما لم يورد سوى عبارات موجزة عن الحركة الطلابية المصرية - وشعاراتها ومواقفها التي تجاوزت الأفق البورجوازي، وناهضت النظام القائم وطرحت ضرورة الإطاحة به، وتجاهل كتابات هامة مثل كتابات إبراهيم فتحي ونقده لهنري كورييل بوصفه النقد الأشد راديكالية، وكان من المنطقي ومما يتسق مع مواقفه أن يتجاهل كتاب عبد القادر ياسين عن القضية الفلسطينية في فكر اليسار المصري. والحال أنه لم يقدم جديدًا يفوق ما قدمه صاحب من أجل سلام عادل في الشرق الأوسط فيما يخص موضوعنا. وهو يدعو بالطبع إلى حوار يساري - يساري في مصر، ويروج مثله مثل من سبقوه وراء لافتة يسارية أو حتى ماركسية للتطبيع مع دولة الاحتلال الصهيوني التوسعية – العنصرية – المخفر الأمامي للرأسمالية الإمبريالية المناهضة للشعوب العربية وطبقاتها الكادحة المتطلعة للاشتراكية. إن من يريد أن يكون ماركسيًا عليه أن يثور ضد احتلاله، واستعماره الاستيطاني واضطهاده واستغلاله، ويقف ضد الهجرة اليهودية واستئصال الشعب الفلسطيني والتوسع العدواني، وأن يعمل على الإطاحة بدولة إسرائيل وهياكلها السياسية من أجل إقامة جمهورية ديموقراطية علمانية لكل سكانها من يهود وعرب. أي تصفية الامتياز الاستعماري العرقي بتصفية النظام الرأسمالي الذي يقوم عليه هذا الامتياز. أتى الأكاديمي يوسي أميتاي ممثلًا لدولة إسرائيل في مصر وليس مندوبًا "أمميًا" عن اليسار الإسرائيلي، وربما لم تكن هناك حاجة لذكر أن المركز الأكاديمي الإسرائيلي نشأ استنادًا لبنود معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل التي حتمت التبادل الثقافي بين البلدين. وعلى هذا الأساس، أقيم المركز بالقاهرة، عام 1982. لقد شاعت الآراء السابقة فى أوساط اليسار الأوروبى بأشكال مختلفة وربما كان واحدا من مصادرها الأصلية هو الفيلسوف الفرنسى جان بول سارتر ( 21 يونيو 1905 – 15 أبريل 1980 ) حيث أصدر كتابه تأملات فى المسألة اليهودية " عام 1944 . وقد عبر عن أفكاره السياسية بلغة الفلسفة الوجودية ورأى أن محاولات اليهود التحرر من الإضطهاد تتجلى فيها فكرة المسؤولية والإختيار والموقف الوجودى الحر ، ولم يعدوا العنف والمجازر التى إرتكبوها بإزاحة شعب بكامله عن موطنه فى نظره سوى أداة للتحرر وخلق الذات اليهودية التى كانت موضع إضطهاد نمطى عبر التاريخ بلغ ذروته مع الإبادة العرقية التى حاولتها النازية . وقد إعتبر الصهيونية حركة تحرر يهودية لتجاوز معاداة السامية والإضطهاد، ونفى صورة اليهودى التى ليست سوى فكرة عند الآخرين أضفوها عليه . فلا مشكلة فى اليهودى فى حد ذاته وإنما المشكلة فى تصور المجتمعات التى عاش فيها عنه ، حيث الفكرة عن اليهودى هى الشئ الجوهرى وهى منبع الإشمئزاز الإقتصادى أو الدينى . ومن هنا لابد من تعويضهم عما عانوه تاريخيا منذ العصور القديمة مرورا بالعصور الوسطى وحتى النازية فى العصور الحديثة وإعتبر إستيطان فلسطين " إختيارا شرعيا " لحل هذ " المشكل الإنسانى " وأيد الهجرة اليهودية إليها . وهناك تشابه عميق بين أفكار الروسى بوروخوف ممثل الصهيونية الماركسية وبين هذه الوجودية الصهيونية التى نظر لها سارتر . مع ذلك ورغم تعاطف سارتر مع اليهود وإنشاء دولة إسرائيل كرد فعل على إضطهادهم العنصرى وإبادتهم العرقية فى أوروبا فلم ينتبه بل وتجاهل حقيقة أن الشعب الفلسطينى شعب مضطهد إقتلع من أرضه تعويضا عن مشكلة أوروبية لم يكن طرفا فيها – " مشكل إنسانى " أيضا . وإضطر سارتر بعد الأحداث اللاحقة على حرب يونيو 1967 ألا يتجاهل الحقوق التاريخية للشعب الفلسطينى على أرضه وحاول التوفيق بين وجود إسرائيل وتلبية مطالب الشعب الفلسطينى بالعودة وإنشاء دويلة فلسطينية . وسعى لإجراء مصالحة من خلال مفاوضات مباشرة تنتهى بالإعتراف المتبادل بين الطرفين . وكان من دعاة حوار اليسار العربى والإسرائيلى وقد خصص عددا من أعداد مجلة الأزمنة الحديثة عام 1965 لهذا الحوار .* هذه هي الصحبة التي بات في معيتها الباحث الإيطالي د. جينارو جيرفازيو والتي استلهم فكرته الأساسية منها.
-----------------------------------------------------------* تأملات فى المسألة اليهودية ، جان بول سارتر ، ترجمة د . حاتم الجوهرى ، دار روافد ، القاهرة ، 2016 . وكذلك ، سارتر والصراع العربى الإسرائيلى – نور الدين اللموشى ضمن كتاب سارتر والفكر العربى المعاصر أحمد عبد الحليم عطية ، دار الفارابى ، الطبعة الأولى ، 2011، بيروت .
خامسًا الثورة الاشتراكية هدف سياسات ح.ع.ش.م. ونشاطه العملي أ. كيف نحكم على الأحزاب إن تاريخ أي حزب من الأحزاب ينبثق من خلال رسم صورة مركبة للمجتمع والدولة ككل، وتتوقف أهمية أي حزب على نشاطه وإلى أي حد كان حاسمًا في تقرير تاريخ ذلك البلد، والمؤرخ سوف يؤكد قبل كل شيء على الفاعلية الحقيقية للحزب، على قوته الحاسمة، في وقوع أحداث بعينها وفي منع وقوع أحداث أخرى؛ على حد تعبير جرامشي في كراسات السجن. يكتب د. جيرفازيو في الفصل الثامن من الكتاب الذي نوهنا عنه عاليه تحت عنوان: ماركسية أم قومية يسارية، اليسار الجديد في مصر السبعينيات : "وبصرف النظر عن صياغة التنظيم الشيوعي المصري لواحدة من أكثر التنظيرات جذرية حول دور الدولة، إلا أنه واجه تحديات كبيرة فيما يتعلق بالتنظيم الداخلي، وإستراتيجية الدعاية، والأصول الاجتماعية للمناضلين. وقبل أي شيء، فبرغم زعم التنظيم أنه الحزب الحقيقي للطبقة العاملة المصرية، إلا أنه تكون أساسًا من مثقفين حضريين. وبينما اندمج التنظيم الشيوعي المصري في 1971 مع مجموعة ماركسية من العمال النشطاء في الإسكندرية، إلا أن كافة قادته (اللجنة المركزية) والغالبية العظمى من أعضائه ظلوا من أصول بورجوازية حضرية صغيرة ومتوسطة. ويساعد هذا في توضيح اختيار العمل على إصدار نصوص نظرية، ونشر دعاية ثورية بين الطبقات المتعلمة، ومحدودية العمل المباشر داخل صفوف الطبقتين العاملة والفلاحية."( ) إن محاولة تحليل سياسات الحزب من وجهة نظر أصول قيادته الطبقية، أو بنيته وتركيبته الاجتماعية فقط يختزل المفهوم الماركسي في كيفية الحكم على الأحزاب، ويمثل نزعة آلية يكذبها الواقع التاريخي في كل بلدان العالم، فعمالية البنية التنظيمية أو عمالية قاعدتها ليست ضمانة حتمية لإنتاج سياسات عمالية بروليتارية ثورية، فلم يكن ماركس ولا إنجلز ولا لينين عمالًا، وكان جرامشي صحفيًا وخريجًا جامعيًا، وتولياتي كان محاميًا، والحركة الشيوعية كما نعرف هي بمثابة اندماج المثقفين الثوريين بالحركة العمالية حسب المفهوم اللينيني. و ح.ع.ش.م لم يزعم أن قاعدته الطبقية أو هيكله التنظيمي كان عماليًا، أما تسميته بحزب العمال آنذاك فقد كانت تصف تطلعًا وتوجهًا وشعارًا تنظيميًا يجب السعي من أجل تحقيقه على مستوى قاعدته الاجتماعية، وعلى مستوى بنيته التنظيمية الداخلية، وبخلاف ما يدعيه باحثنا من أن "كافة قادته" ذوي أصول بورجوازية صغيرة أو متوسطة فقد كان هناك عاملين: فتح الله محروس، وسعيد عبد المنعم ناطورة وهما من عمال الغزل والنسيج في لجنته المركزية اعتبارًا من أواخر عام 1975. وليس من المبالغة القول أن "التوجه للطبقة العاملة" كان هاجسًا رئيسيًا للحزب في جدالاته الداخلية وهمومه اليومية منذ التقرير التنظيمي الأول الصادر في أغسطس 1971 عن الكونفرانس المشترك المنعقد بين أعضاء اللجنة المركزية وأعضاء لجنة منطقة القاهرة. أما ماذا يعني باحثنا بالعمل المباشر فلا ندري بالضبط فهو لم يبين مقصده. ويمكن الإطلاع على مدى إنخراط ح ع ش م فى العمل الجماهيرى فى مجالات مختلفة عمالية وطلابية وفلاحية وعسكرية فى المقدمة التى تصدرت الوثائق التأسيسية للمفكر إبراهيم فتحى الصادر عن دار المرايا عام 2020 . وقد أشير إلى موجزها هنا فى ذيل المقال . ألا تمثل فكرته تصورًا مشوهًا عن "أزمة القيادة الثورية" وقد أضفى عليها طابعًا مثاليًا بعد النظر إليها باعتبارها شأنًا ذاتيًا معزولًا عن أية عوامل أخرى، أي فصلها العمدي عن الأزمة الطبقية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي كان يعيشها المجتمع المصري آنذاك . لقد كان الحزب في طور التكوين ويعاني من موروث الحلقة الثانية في الحركة الشيوعية المصرية، وآثار تصفية الحياة السياسية، ومن الحصار البوليسي البيروقراطي للنقابات العمالية ولم تكن النضالات العمالية إلا نادرًا حركات كبرى محلية في الغالب، فضلًا عن الأزمة الوطنية العامة التي كان من الحتمي أن تسم بطابعها النشاط الحزبي ويظل الحاسم في الحكم على طبيعة الحزب في حالتنا هذه هو من تخدم سياساته، وما هو مضمونها الطبقي بما فيها سياسته الوطنية والقومية اللتان ترتبطان بمنظور أو محور بورجوازي أو بروليتاري اشتراكي ولا يمكن أن تعلقا في فراغ، وقد كانت سياسة ح.ع.ش.م. في المسألة الوطنية والقومية هي نقيض سياسات البورجوازية المسيطرة وقد اعتبرت هزيمة يونيو 1967 هي الأداة التي أعيد بها تشكيل نظم المنطقة لتعميق روابط التبعية الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية بالإمبريالية وبالكيان الصهيوني، فضلًا عن مواقفه من مختلف الطبقات الاجتماعية الأخرى بشأن قضاياها الحيوية والفيصل في كل هذا هو هل كان يعبر عن وجهة نظر ومصالح الطبقة العاملة في كل الأمور الجارية آنذاك أم لا. وربما كانت المفاهيم التي يمكن استخلاصها من أحد أحاديث ماوتسي تونج مفيدة هنا لتعزز ما قيل عاليه حيث يمكن أن يقوم التمييز بين الكينونة الطبقية أي الطبقة التي ينتمي إليها المثقف بالولادة، والموقع الطبقي، أي المجال الإشكالي العام الذي تتعين منه كل ممارسة نظرية، والمفروض في المثقف التقدمي أن ينطلق من مواقع الطبقة العاملة، والموقف الطبقي، أي توظيف الموقع الطبقي في مشكلة عملية محددة، الدراسة الطبقية، أي بنية المنطق النظري وأدواته من حيث أنها مكلفة بإنتاج التبرير الشرعي للموقع الطبقي( ). كما أن إصدار النصوص النظرية، ونشر الدعاية الثورية ليس منبعه أساسًا غلبة المثقفين في الحزب كما يظن وإنما تطبيق المنظور اللينيني في بناء الحزب ودور الجريدة التي أفاض لينين في شرح أهميتها في مؤلفه الشهير ما العمل وغيره. فمن وظائف المثقفين الثوريين كما هو معروف أن يحملوا للطبقة التي يمثلونها وعي وحدة مصالحهم، وأن يوجدوا داخلها تصورًا للعالم متجانسًا ومستقلًا. فلا وجود لماهية ثورية للبروليتاريا "جوهرانية" تقف فوق التغيرات التاريخية، كما أن وعي طبقة من الطبقات مشروط ومتأثر ومشوه بتصورات الطبقات الاجتماعية الأخرى وخاصة فكر الطبقة السائدة. ولكن لا قوام التنظيم العددي وشبابيته وحداثة خبرته، ولا الضربات البوليسية المبكرة لركائزه العمالية ولا المكانة التي احتلتها القضية الوطنية في الدعاية والتحريض يمكن أن تفسر المآل العام للحركة كلها أي يسار السبعينات الراديكالي، لا لـحزب العمال الشيوعي المصري بالذات، وإنما ينبغي النظر إلى الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسيكولوجية الأعمق التي تلت حرب أكتوبر، وشيوع أوهام الرخاء من خلال الانفتاح الاقتصادي، وهجرة العمال والحرفيين وفقراء الفلاحين للخارج، وتحريض الجماعات الإسلامية، وتعاظم النفوذ الخليجي ... غير أنه في تقديري لابد من البحث عن أسباب أعمق ، وهذا يتطلب جهدا جماعيا ممن شاركوا فى التجربة التاريخية بإتساع منظماتها . ولكن هل يمكن أن ينفصل مآل التنظيمات الماركسية كلها في هذه المرحلة التاريخية فضلا عن القمع البوليسى الدائم عن بدايات هيمنة العولمة، والليبرالية المتوحشة، وعن التغييرات الاقتصادية والسياسية العميقة التي أحاطت ببلادنا منذ عصر السادات وحتى وقتنا الراهن، أي لخمس عقود على الأقل، هل يمكن أن ينفصل عن النزعة التي هيمنت وحولت كل النضالات إلى مسارات حقوق الإنسان في الخارج والداخل، وجففت منابع الطاقة الثورية الشابة بتحويلها عن المسارات الجذرية إلى الصراعات القانونية الحقوقية التجزيئية ورشوتها وإفسادها، هل يمكن بصفة أخص أن ينفصل عن ما أثاره سقوط الاشتراكيات البيروقراطية الواقعية الذي كان حدثًا مدويًا لا يمكن مقارنته في تاريخنا بأي حدث آخر، فحتى تروتسكي ( لم نكن قد تعرفنا بعد على تونى كليف ونظريته حول رأسمالية الدولة ) لم تتجاوز تصوراته حول الاتحاد السوفييتي حد أنها دولة عمالية ذات تشوه بيروقراطي. حيث تزعزع "إيمان" الكثيرين وبات كل رفيق يسأل رفيقه كل يوم كيف حال إيمانك هذا الصباح؟ وهل يمكن أن ينفصل عن وضع الطبقة العاملة العالمية ومكانتها في الرأسمالية على الصعيد الأممي وعمومية شمول الجزر الثوري دوليا ؟ وهل يمكن أن ينفصل عن وضع الطبقة العاملة المصرية التي جرى تمزيق أوصالها وتفتيتها بأساليب مختلفة تبدأ من أساس وجودها الاقتصادي ممثلًا في القطاع العام الصناعي ببيعه وتصفيته، وبالإحالة للمعاش المبكر، وتجريدها من المكتسبات النسبية التي حققتها في العهد الناصري على ضآلتها واصلاحيتها، ومزيد من تجريدها من استقلاليتها بمصادرة أدوات صراعها النقابية والسياسية. فضلًا عن أن رثاثة البورجوازية وفق المصطلح الذي صكه أندريه جوندر فرانك لابد وأن ينعكس على نقيضها وحافر قبرها، وممثلوه السياسيون الذي يعكسون فيما يعكسون نفوذ هذه البورجوازية عليه، وكذلك تفاوت درجات الوعي بمصالحه حيث يسري هنا أيضًا قانون التطور غير المتكافئ. فلا يمكن أن توجد أحزاب ماركسية ثورية متماسكة في مواقفها ونظراتها، إلا استنادًا إلى طبقة عاملة ناهضة نشطة في حركتها التلقائية. وقد علمتنا اللينينية أن الحزب الثوري، ونظريته وأساليب عمله، وأشكال حركته وتنظيمه، تتخذ شكلها النهائي في علاقتها الوثيقة بالنشاط العملي لحركة جماهيرية حقًا، وثورية حقًا. على حد تقويم لينين في مرض الطفولة اليساري. وإذا كانت مصر لم تتمخض عن ماو، مثلًا، ألا يمكن لنا أن نفسر ذلك بغياب حركة فلاحية ثورية واسعة النطاق على غرار الحركة الثورية في الصين التي امتدت قرونًا، ولا تعود إلى تكاسل البعض أو عدم طموحه إلى أن يكون كذلك؟ وينطبق ذات الشيء على هوشي منه في فييتنام، متى تحرك فلاحونا المصريون وهل خاضوا أبدًا ما يمكن أن نسميه حرب فلاحين؟ ويمكن أيضًا أن نتساءل لماذا لم يظهر في أوساطنا لابريولا أو جرامشي، وهل يعود ذلك إلى أن بعض المثقفين من البورجوازية الصغيرة لم يرغبوا في أن يكونوهما، أي لأسباب تتعلق بطموحاتهم في "تحقيق ذواتهم" وهي العبارة المحببة لدى بورجوازيتنا الصغيرة التي تعتقد أن هذه هي مهمة التاريخ وصراعه الطبقي؟ هل يمكن أن نفصل ذلك عن الحركة الشيوعية المصرية التي كانت في إجمالها وخاصة كورييل وأتباعه القدامى والحاليون وباستثناءات قليلة تزدري النظرية وتعتبرها شيئا "حنجوريا" ليس ضروريًا إلا لنخبة ضئيلة، وعاشت على ماركسية عقائدية سوفيتية مبسطة، نست أن التاريخ لا يعود إلى الوراء شرط أن يكون قد تقدم بالفعل إلى الأمام؟ وأن أعمال رواد الماركسية الأوائل لم تعرف حتى اليوم إلا في أشكال مشوهة مجزأة؟ هل يمكن أن نفصل الانحراف اليميني الذي سيطر على تاريخ الحركة الشيوعية المصرية، وتذيل البورجوازية في مراحل مختلفة (تذيل كورييل وبطانته الوفد ورفض أن يؤسس حزبًا شيوعيًا، غير أنه رفض "التذيل" ودافع عن استقلالية البروليتاريا حين وقف الوفد ضد الدولة الصهيونية!) وتواصل التذيل حتى الآن حيث يهيمن المناشفة على الحركة الشيوعية المصرية بدرجات وتلاوين وأطياف مختلفة أو وهو الأخطر عن نسيان "الفريضة الغائبة"؛ وهي الانتفاضة، وفق المفهوم البلشفي، وضرورة الإعداد لها، دون اللعب بها حسب نصيحة إنجلز، بل والتباهي بأننا لم نحمل في حياتنا سوى قلمًا؟ هل يمكن لنا أن نتجاهل الموروث الثقافي الذي هيمن فيه الاتجاه الرجعي السلفى الدينى ، وغياب أي تقليد منهجي للفكر الفلسفي الذي انقطع منذ زمن ابن رشد تقريبًا ، ولم يكن عصر "التنوير البورجوازي" العربي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين سوى ومضة خاطفة وأدت مسيرتها طبيعة البورجوازية الناشئة التي لم تقطع أواصرها بكبار ملاك الأرض واقتصاد ما قبل الرأسمالية وكانت في وضع متقدم من زاوية إكتسابها خبرات الثورة المضادة بالنسبة للصراع الطبقي العالمي بعد كومونة باريس عام 1871 وثورة أكتوبر 1917؟ إن تقدم التنظيم الماركسي وصموده وثباته، واختفاءه وتلاشيه، أو اندماجه مع منظمات أخرى، لا يتعلق فقط بمدى سلامة، وثورية خطه السياسي، وكفاحية وقتالية مناضليه، وإنما بالشرط المادي لإنتاجه، أي الممارسة الاجتماعية لبروليتاريا حقيقية، ولحركات جماهيرية كبرى، أي ارتكازه على قوة اجتماعية مقاتلة، وتلك هي الأسس الطبقية لوجوده؛من هنا يمكن القول أن دراسة هذه المسألة بشكل علمي، وثوري، يحتاج لجهد تضافري معمق، يقدم جديدًا، ربما للمادية التاريخية ولعلم اجتماع الثورة. ولابد أن ينأى هذا بنا عن المستوى الهزلي الذي طرحت به المسألة بشكل اختزالي حول هيمنة الوطني أو القومي على الطبقي الاجتماعي. لابد من دراسة وضع الطبقة العاملة المصرية بشكل إمبيريقي ونظري معمق، خاصة وأن هناك محاولات لا تستند إلى أسس علمية توسع من مفهوم الطبقة العاملة لتدخل فيه كل من يعمل بأجر، ودون تمييز بين التلاوين المختلفة داخل الطبقة العاملة ذاتها، من عمال صناعيين إلى عمال خدمات إلى موظفين كادحين، حتى بات مأموري الضرائب وجباتها من الطبقة العاملة، ويترتب على ذلك بالطبع ممارسات وتوجهات سياسية معينة بحيث تصبح تنظيمات البورجوازية الصغيرة فعلًا اشتراكية اسمًا. لقد عرفت الحركات الماركسية الثورية في كل أنحاء العالم تبدلًا في أشكال التنظيم وتحولات واندماجات، وما إلى ذلك كما عرفها تاريخ الشيوعية المصرية الحافل بمثل هذه الأمور، وإذا كان حزب العمال الموحد قد استمر حتى 1996 مناضلًا ومكافحا في أوضاع عسيرة عايناها كلنا منذ انهيار سور برلين وحتى زلزال الاتحاد السوفييتي وعمليات "الردة" الواسعة التي جرت فهجر البعض الماركسية، وتحول البعض إلى إسلامي ثوري على النمط الإيراني، والآخر إلى ليبرالي حقوقي إنساني، أو تنويري، أو عدمي، أو هاجر للخارج، إلا أنه كان هناك رفاق آخرين ظلوا واقفين على أرض الماركسية حتى وإن قاموا بمراجعات نقدية لبعض مفاهيمهم السابقة. طبعًا دراسة وتفهم تلك الأسباب العامة التي مثلت أرض نهاية هذه التنظيمات شيء، ومعرفة التناقضات الداخلية التي أسهمت في ذلك شيء آخر، أعني داخل ح.ع.ش.م. في حالتنا هذه. ولو أن باحثنا د. جينارو جيرفازيو قد اطلع بشكل دقيق على ما في حوزته من وثائق وخاصة كراس الخلافات: حول الانحراف البيروقراطي التصفوي العزلوي لأدرك بعض العوامل الداخلية الهامة التي هيأت الأرض للمصير الدرامي الذي انتهى إليه. ب. المضمون الطبقي للوطني والقومي إن محاولة الفصل بين الصراع الوطني والطبقي هي محاولة لا علاقة لها بالمفهوم الماركسي الثوري وإنما بالمفهوم الليبرالي فالسمة الأساسية له أي للصراع الطبقي أنه صراع سياسي شامل يخاض على مستوى تنظيم الدولة، أي ضد الطبقة الرأسمالية الاستغلالية السائدة محليًا بكاملها لا ضد رأسمالي فرد من أفرادها أو مجموعة قليلة منهم، أو الطبقة السائدة على مستوى الرأسمالية العالمية، ووكلاؤها الإمبرياليون الإقليميون، أو ضد هذا الحلف الطبقي مترابط المصالح حين تكون الجماهير الكادحة إزاء عدو طبقي لا تتمايز التناقضات معه فهو تناقض أساسي بصفة جوهرية معها جميعًا. وخاصة إذا كان التحالف الأخير تتقوم مهمته الرئيسية في إدامة الاستغلال الطبقي المشترك ودعم وحماية النظم التي تقوم عليه، ويقف عائقًا حتميًا أمام ثورتها الاشتراكية المقبلة. وينطبق هذا أيضًا بالطبع على معارضة الوطني بالاجتماعي؛ كما يفعل د. جيرفازيو الذي دعانا إلى أن نترك الإمبريالية العالمية وخاصة الأمريكية، وأن ندير ظهورنا لدولة التوسع الصهيوني كإمبريالية صغرى، وأن نوجه جهودنا لتنظيم النضالات الاقتصادية والاجتماعية الصغرى والكبرى ضد الرأسمالية المحلية باعتبار هذا هو"الصراع الاجتماعي" الثوري الذي يحافظ على "هوية الماركسيين" التي فقدوها وباتوا يسارًا قوميًا خاضعًا لنفوذ الناصرية، ولا مانع حتى من الإطاحة بها – أي البورجوازية المحلية - فاصلًا إياها بشكل كلي عن حلفائها المشار إليهم آنفًا، وربما دعانا للقيام بالأعمال الخيرية بوصفها "شأنًا اجتماعيًا" على نمط الإخوان المسلمين التي يعتبرها واحدا من إنجازاتهم مقارنة بنا. وهو يعد "الخيانة الوطنية" موضوعًا انتهى بحدوثه، وكأنها مثلت لحظة عارضة ليس لها أثرًا ممتدا، وليست مسارًا تاريخيًا تشكلت في سياقه بلادنا بطريقة معادية لمصالح جماهيرها الكادحة ومواتية لمصالح الحلف الطبقي المحلي الإمبريالي الصهيوني، وأنه كان على مناضلينا أن يتوجهوا لـ"الاجتماعي" ما دامت الخيانة قد تمت، وانتهى بعدها الاحتلال المباشر لسيناء بما سُمى اتفاقيات السلام دون النظر لكل عواقبه التي يدركها باحثنا إدراكًا ظاهريًا ولفظيًا دون أن يرتب عليها النتائج الضرورية. ولا يستطيع مثله مثل جويل بينين أن يميز بين ذيلية معظم منظمات الحلقة الثانية في الحركة الشيوعية المصرية للبورجوازية المصرية في العهد الناصري وخطها الوطني وبين سياسات ح.ع.ش.م. الذي اتخذ نهجًا مستقلًا ضفر بين الوطني والقومي ذو المضمون والأفق البروليتاري من خلال توجهه الإستراتيجي الاشتراكي ووقوفه ضد سياسات البورجوازية في المسألة الوطنية والقومية العربية - التي انتهى دورها التاريخي ولن تتجاوز أفقها الطبقي، وقد برهنت الأحداث التالية على صواب هذا التوقع - سواء في عهد عبد الناصر أم السادات، ولم يكن ذيلًا لها وإنما عبر عن مصالح الطبقة العاملة وهدفها التاريخي وطرح شعار الإطاحة الثورية بها. وقف لينين ضد من كانوا يؤكدون أن على البروليتاريا ألا تبالي في أي قطر عاشت وفي ظل نظام ملكي أم جمهوري أم استبدادي "ففي نضال البروليتاريا الطبقي يمثل الوطن، أي الوسط السياسي والثقافي والاجتماعي، عاملًا بالغ الأهمية. ... فالبروليتاريا لا يمكن أن تقف موقف اللامبالاة إزاء الشروط السياسية والاجتماعية والثقافية لنضالها، ولا يمكن بالتالي ألا تكترث بمصير بلادها. ولكن إذا كان هذا المصير يهمها فهذا فقط بمقدار ما يؤثر على نضالها الطبقي"( ). كما امتدح شعور العزة القومية ومضمونه الارتفاع بجماهير الوطن الكادحة إلى حياة ديموقراطية واشتراكية واعية. واعتبر أن الاستقلال السياسي الشكلي أمر يختلف تمامًا عن التصدي للتبعية الاقتصادية. وتتسم الوطنية في المجتمع الاستغلالي بطبيعة متناقضة، لأنها تدل على موقف الناس من الأمة إجمالًا، بينما تتوزع هذه الأمة إلى طبقات متناحرة، والمحبة الحقيقية للوطن سمة للكادحين وهي تترافق مع كراهية النظم السائدة فيه وللفئة الحاكمة. وتتسم الوطنية الاشتراكية بالضفر بين حب الوطن والإخلاص لقضية الشيوعية، أي أنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالأممية البروليتارية. من ناحية أخرى يشرط لينين تأييد مطلب الاستقلال القومي بمصالح نضال البروليتاريا ويرفض كل ما من شأنه أن يؤدي إلى بلبلة وعي البروليتاريا بواسطة الأيديولوجيا البورجوازية (الناصرية أو البعثية في حالتنا). وفي كراسة حق الشعوب في تقرير مصائرها، ميز بين مرحلتين تاريخيتين في حياة البورجوازية، فترة صعودها الطبقي ثم تدهورها الطبقي، وتحدث عن سمات كل فترة ومظاهرها المميزة وانتهى إلى ضرورة أن يراعى الماركسيين في برنامجهم القومي الشروط التاريخية العامة وظروف الدولة الملموسة.( ) كنت قد أشرت قبلا للقائد الاشتراكي الأيرلندي جيمس كونولي، وأهمية كتاباته في التأسيس النظري لمفهوم "القومية الاشتراكية" ففي مقاله الاشتراكية والقومية المنشور عام 1897 يؤكد أن القومية التي يدعو إليها ليست أمثلة للماضي، وإنما هي أداة لصياغة إجابات على مشاكل الحاضر الاقتصادية والسياسية التي تواجهها بلاده وتلبى احتياجاتها. وهو لا يطمح لجمهورية مثل فرنسا ذات الدساتير المجهضة، ولا ملكية كإنجلترا متحالفة مع القيصر الروسي، ولا جمهورية كأمريكا حيث سلطة النقود تؤسس لطغيان جديد تحت مظاهر الحرية، فالجمهورية التي تطلع إليها لابد أن تكون منارة وملجأ للمضطهدين، نقطة انطلاق للاشتراكية. فجوهر المسألة هو الربط بين الآمال القومية وآمال هؤلاء الذين نهضوا للوقوف ضد نظام الرأسمالية وملاك الأرض ... إن نموذج الجمهورية الاشتراكية ينطوي على ثورة اقتصادية سياسية ضد الاستغلال الاستعماري وركيزته الطبقية المحلية( ). ولم يخف الحزب الجمهوري الاشتراكي الأيرلندي الذي كان ينتمي إليه جيمس كونولي عداءه قط للأحزاب البورجوازية القومية الشوفينية واعتبر أن تحرر العمال الاقتصادي يتطلب تحويل وسائل الإنتاج إلى ملكية اجتماعية، وأن الجمهورية الأيرلندية ستكون مصدرًا للسلطة الشعبية التي ستعري التطاحنات الطبقية وحدود التمايز الاقتصادي التي يعميها ضباب الوطنية البورجوازية. وشدد بشكل حازم على ما برهن عليه التاريخ من أن الحركات البورجوازية كانت دائمًا ما تنتهي بمساومة، وأن ثوريي البورجوازية اليوم هم محافظو الغد. وأن الاشتراكيين الأيرلنديين يرفضون أن ينكروا أو يفقدوا هويتهم ذائبين فيمن يفهمون مشكلة الحرية نصف فهم( ). كما لا يفصل كونولي الوطنية عن تضامن الكادحين، حيث لا سعادة لفرد إلا بسعادة المجموع، لا بالاكتناز الفردي الرأسمالي للثروات، ويميز بينها و بين وطنية الملاك القائمة على الاستغلال. ويدعو الطبقة العاملة إلى إعطاء الوطنية هذا المعنى. وعلى ذلك يتقوم موقف الحزب الاشتراكي الجمهوري الأيرلندي في اعتبار الاستقلال القومي الأساس الذي لا غنى عنه للتحرر الاقتصادي الذي تقوده الطبقة التي تستمد طابعها من القهر المزدوج الذي يمارس عليها( ). ج. ماذا تضمن أدبنا الحزبي حول الوطني والقومي العربي؟ منذ الوثائق الحزبية الأولى يضع ح.ع.ش.م. في طوره الأول الحدود الفاصلة بين خطه السياسي وخط السلطة، وخط المراجعة التي مثلتها منظمات الحلقة الثانية في الحركة الشيوعية المصرية، وخط الحركة الشيوعية العالمية. ففي وثيقة حول سلطة البيروقراطية البورجوازية الصادرة عام 1970 تشير إلى أن الطبقة المذكورة قد نشأت مع تعاظم دور المعسكر الاشتراكي، وتنامي حركات التحرر الوطني وتفاقم أزمة الرأسمالية العالمية، وقد تمكنت من تسديد ضربات قاصمة للاستعمار وحققت استقلالًا سياسيًا واقتصاديًا من الناحية الأساسية. وحذرت الوثيقة المذكورة من المغالاة في النظر لهذا الاستقلال : "فالعملية الإنتاجية الرأسمالية عملية مترابطة على النطاق العالمي، ويجب ألا نأخذ لحظة تاريخية ونعزلها خارج السياق الذي تتطور فيه الرأسمالية. فهي لم تكف أبدًا عن أن تبحث لنفسها عن عقد صلات مع السوق الرأسمالية العالمية: الولايات المتحدة وألمانيا الغربية واليابان، ولكنها ليست علاقات التبعية القديمة، بل علاقات البحث لأقدامها، التي بدأت تعرف القوة، عن مواقع داخل السوق المصرية والعربية والعالمية ... ولما كانت هذه الطبقة لا تعرف الاعتماد على الجماهير في صداماتها مع الاستعمار، ولا تقوى على خوض حرب دامية مع الإمبريالية، فإن عناصر المهادنة ماثلة في صميم وضعها في أشد لحظات احتدام الصراع مع الاستعمار، مثل التسوية بعد انتصار 1956 بمرور السفن الإسرائيلية في خليج العقبة، والإقرار الفعلي بحدود التوسع الإسرائيلي بالموافقة على قوات طوارئ تحرس هذه الحدود، ومحاولة التفاهم مع شركات ملاحة أمريكية على توسيع القناة، بالإضافة إلى القروض والتسهيلات الائتمانية التي سعت إلى عقدها مع الغرب الاستعماري. وحينما تنهض البورجوازية البيروقراطية المصرية بدور الحاجز القوي أمام نمو القوى اليسارية والثورات الشعبية التي يمكن أن تقودها الطبقة العاملة، وتبرز أظافرها الحادة في معاداة الشيوعية في مصر والعالم العربي، فإن ذلك يشكل أمام الاستعمار الأمريكي نقاطًا للتهادن لا يمكن إغفالها. ومن ناحية أخرى، فإن البورجوازية البيروقراطية لا يمكن أن تقيم اقتصادها الجديد داخل الأسوار المصرية كما لا يمكن لها أن تتجاهل حفاظًا على استقلالها دور الاستعمار في العالم العربي. إن الخطة الاقتصادية لهذه الطبقة تضع في حسابها السوق العربية أول ما تضع، تطرح قضية القومية العربية بشكل ملح. وهي بالفعل تطرح قضية القومية العربية من زاوية مصالحها الأنانية الضيقة، فهي باعتبارها أكثر البورجوازيات العربية نموًا مدعوة للسيطرة، لذلك تقول بقومية عربية جاهزة الصنع مزقها الاستعمار، ويتحقق لها منذ مئات السنين مقومات القومية ... كما تدعو إلى وحدة غير ديموقراطية تسيطر عليها. إن البرجوازية البيروقراطية لا يمكن أن تفهم أن القومية العربية هي قومية في مرحلة التكوين، لا تتشكل من أقاليم وقطاعات وأجزاء، بل من قوميات متفاوتة النضج أو في سبيل النضج. فمصر قومية متكاملة، وكذلك العراق، وكذلك الحال مع البلاد أو مجموعات البلاد العربية على أساس تاريخي. إن كل هذه القوميات المختلفة قد خضعت لعوامل مشتركة في تكوينها وتواجه أهدافًا واحدة أمام نفس الأعداء، وهذا الأساس هو الأساس الموضوعي لا لخلق قومية بورجوازية على أساس السوق الموحدة والدولة القومية الموحدة، كما كان الحال في مرحلة الثورة البورجوازية، بل لخلق قومية في مجرى الثورة الاشتراكية العربية على أساس انصهار هذه القوميات بقيادة الطبقة العاملة، انصهارًا يتيح ازدهار السمات القومية المختلفة ويتفادى تنافس البورجوازيات المختلفة، ويتم عبر مراحل تدريجية من الكفاح الشعبي المشترك لا وفق اتفاق مؤقت من أعلى بين القوى البورجوازية كما هو الحال اليوم( ). وفي وثيقة طبيعة الثورة المقبلة يجري التشديد على الطابع الاشتراكي للثورة المقبلة، وقد وقفت ضد نظرية المرحلتين الشهيرة لدى أتباع كورييل حيث أن "استكمال الثورة البورجوازية والسير بها لنهايتها تصبح مهمة ملقاة على عاتق الطبقة العاملة، ولكن حجم هذه المهمة وطبيعتها يبتعدان بها عن أن تكون مهمة إستراتيجية، فالسلطة من الناحية الأساسية تنفرد بها البورجوازية، والعلاقات السائدة في الاقتصاد والسياسة والفكر هي علاقات بورجوازية وذلك يجعل طبيعة الثورة القادمة اشتراكية من زاوية مضمونها الطبقي ومهماتها الرئيسية، ويحتم من ناحية أخرى استكمال الثورة البورجوازية كمهمة تكتيكية ملقاة على عاتق الثورة الاشتراكية، فلا يستوجب هذا الاستكمال مرحلة تاريخية كاملة". كما تواصل الوثيقة تطبيق الخط اللينيني البروليتاري بشأن المسألة الجوهرية وهي مسألة السلطة "إن البورجوازية الحاكمة لا يمكن أن تواصل طريق الثورة حتى النهاية بحكم طبيعتها الطبقية الأنانية الضيقة المعادية لمصالح العمال والفلاحين وخاصة بعد أن حققت أهدافها الرئيسية: السوق الرأسمالية، السلطة الرأسمالية. لقد انتقلت قضية الصراع ضد الإمبريالية وقضية الثورة الزراعية من المحور البورجوازي الديموقراطي المعادي للإقطاع للمحور الاشتراكي المعادي للرأسمالية. فالمسألة الجوهرية في أي ثورة هي قضية السلطة من أي الطبقات تنتزع ولإقامة أي علاقات إنتاجية؟" وتضفر نفس الوثيقة بين الوطني والاشتراكي الذي يقطع علاقات التبعية ويؤسس للاستقلال الجذري "ولما كان الاستقلال ليس وضعًا قانونيًا كما تفهمه البورجوازية بل معركة طويلة المدى ضد الإمبريالية العالمية تستلزم تضافر القوى الشعبية المنظمة المسلحة فإن معاداة الديموقراطية التي تنتهجها البورجوازية تشكل عقبة هائلة أمام تهيئة الظروف المواتية لخوض هذه المعركة وقطع الطريق على القوى الأساسية التي تستطيع محاربة الإمبريالية إلى النهاية. وهذه الحريات الديموقراطية هي الأسلحة الرئيسية للجماهير الشعبية في خوض المعركة الوطنية، لا تنتزعها لخوض المعركة الوطنية من الإمبريالية أو من كبار ملاك الأرض كما كان الحال قبل إنجاز الثورة البورجوازية، بل من البورجوازية الحاكمة وتشكل خسائر لها ورفضًا لمنهجها في حل المسألة الوطنية". وتنتهي الوثيقة ببيان "أن البورجوازية البيروقراطية، التي تبنى اقتصادًا رأسماليًا في عصر اضمحلال الرأسمالية العالمية، في مواجهة تناقضاتها القاتلة الناشئة عن طبيعتها الاستغلالية، عن أزمة نموها. لذلك فاحتمالات الردة الوطنية وظهور قنوات مختلفة للاتصال بهذه الكتلة أو تلك من الكتل الإمبريالية المتناقضة تتزايد، وفي نهاية منعرجات السياسة التهادنية التي لا تستبعد حدوث مساومات عالية الصوت، ومناوشات نظامية مسلحة مع إسرائيل وبيانات شديدة اللهجة موجهة ضد الاستعمار الأميركي، يلوح الارتباط بالاستعمار العالمي نتيجة حتمية للنمو التلقائي للرأسمالية المصرية، وهو ارتباط يختلف عن العمالة القديمة. ومن هنا يصبح التناقض بين الجماهير الشعبية والبيروقراطية الحاكمة على المدى الإستراتيجي وثيق الاتصال بالتناقض بين الجماهير الشعبية والإمبريالية العالمية. ولا يمكن القول بأننا إزاء نوعين مختلفين من التناقضات. إن الحركة الوطنية لا تستطيع لكي تتجاوز المأزق الذي تضعها فيه القيادة البورجوازية إلا أن تضع على عاتقها منذ البداية مهمات معادية للرأسمالية، ولا يتحقق الانتصار لهذه الحركة في بلادنا وفقًا لأوضاعنا الخاصة إلا بالتطويح النهائي بالنظام الاقتصادي للرأسمالية"( ). وفي وثيقة قضية التحالف الطبقي في مصر الصادرة عام 1971: "إن الحزب الشيوعي يكشف كل مؤامرات الاستعمار ويعبئ الجماهير لمواجهتها ويقف بحزم ضد محاولات الانقلابات الاستعمارية، وضد الفتن الرجعية، ويناضل بصلابة من أجل توجيه أفدح الضربات إلى الاستعمار وركائزه. ولكن هذا التأييد شيء مختلف تمامًا عن تبني البرنامج البورجوازي في معاداة الاستعمار وعن أن يذوب الحزب في الجوقة القومية البورجوازية الطابع، التي لا يمكن أن تسير في معاداة الاستعمار حتى النهاية بل أن طبيعة تناقضها مع الاستعمار من زاوية مصالحها الطبقية الضيقة تجعل قيادتها أخطر على استمرار المعركة مع الاستعمار، وتحمل في طياتها عناصر التنازل والتهادن ثم المشاركة والتحالف. إن الحزب الشيوعي لا يتنازل أبدًا عن تنظيمه المستقل، عن واجبه إزاء طبقته العاملة والطبقات الشعبية، عن إبراز خطة الثوري في الحركة الوطنية، ذاك الخط الذي هو مستقبل الحركة الوطنية هو خط الطبقة العاملة، وليست العلاقة بين خط البورجوازية في الحركة الوطنية وخط الطبقة العاملة علاقة تجاور بين خطين مطروحين للمفاضلة أو الصراع الفكري فحسب، إنها علاقة صراع طبقي منذ اللحظة الأولى يدور في الظروف المحددة من علاقات القوى في حركة الثورة. وتضع مسألة التأييد للمواقف التي تتخذها البورجوازية من الاستعمار في مكانها الصحيح من سياسية حزب لا يمكن أن تكون سياسته إلا النفي الجدلي لسياسة البورجوازية وإلا المعارضة الجذرية لهذه السياسة"( ). د. هل المسألة الوطنية من منظور اشتراكي هي أراضٍ محتلة حررت أو خيانة تمت ؟ إن كل الأدب الحزبي الصادر في أعقاب حرب أكتوبر 1973 بما فيها البيانات الأولى أدركت محدوديتها من جانب البورجوازية المصرية ولم يقف عند مسألة تحرير سيناء أو الجولان، بل أدرك الهدف الأساسي من وراءها من جانب الطرف الأمريكي الإسرائيلي فلم يكن احتلال الأرض سوى أداة إنضاج لتحويل شامل، ففي وثيقة جرت مناقشة مضمونها بين بعض الكوادر المركزيين والمناطقيين من الإسكندرية، وصاغها الرفيق الراحل خليل كلفت بعنوان ليس كل ما يلمع ذهبًا، ملاحظات حول حرب أكتوبر في عام 1974 أوجزت المسألة على النحو التالي : "ويمكن تلخيص المخطط الاستعماري الأمريكي بالنسبة لمصر بارتكازه على الاحتلال الإسرائيلي لسيناء والأراضي العربية الأخرى، وتدعيم هذا الاحتلال لإجبار الطبقة الحاكمة في مصر على تغيير بنيتها وتغيير سلوكها بما يتلاءم مع مصالح الاستعمار الأمريكي في المنطقة، في المجال الدولي (خصوصًا في مجال العلاقات مع الاتحاد السوفييتي وبقية البلدان الاشتراكية) وفي المجال العربي (خصوصًا ضرورة انتهاء عهد منازعة الاستعمار الأمريكي في المجال العربي ومناصبة العداء للرجعية العربية) وفي المجال الداخلي (بالتحضير للهجوم الاستعماري على الاستقلال النسبي الذي حققته مصر) وفي مجال الموقف من إسرائيل. إن اندفاع الطبقة الحاكمة في مصر نحو الاستعمار الأمريكي الذي يحمل مفتاح الحل تأكد في عهد السادات، ويمكن لإرهاصات الانفتاح المصري على الغرب الاستعماري أن تتحول من موقف ايجابي جزئي إلى انفتاح واسع النطاق بما يضمن للاستعمار الأمريكي تحقيق مخططه الأصلي في استعادة مصر إلى الحظيرة الاستعمارية، الأمريكية هذه المرة. ...الخريطة السياسية للمنطقة العربية يعاد الآن تشكيلها على أساس النجاح المضطرد للمخطط الاستعماري الأمريكي الإسرائيلي، ولصالح الاستعمار الأمريكي وإسرائيل والرجعية العربية العميلة ... بالأخص، ولصالح الاستعمار العالمي بوجه عام وبأقدار متفاوتة بتفاوت مصالح كتله المختلفة في هذه المنطقة من العالم. فما هو المكان الذي تحتله البورجوازية المصرية الحاكمة في مصر داخل هذه العملية الكبرى الخطيرة ؟؟ في أي اتجاه تنشط فاعليتها ؟ وهل تناضل ضد هذا المخطط الاستعماري وتضع عراقيل في طريقه أم على العكس من ذلك تعيد صياغة نفسها بما يتلاءم مع هذه الأوضاع الجديدة غير آخذة في اعتبارها سوى مصالحها الأنانية الضيقة ؟ هل توفر ضمانات جادة للحفاظ على الاستقلال السياسي والاقتصادي النسبي الذي حققته بلادنا وتعمل بمقتضيات مثل هذا الهدف "الاستقلال" أم تعرض ما تحقق للخطر؟ هل يمكن أن تلعب دورًا "تقدميًا" في مجال قضية القومية العربية؟ هل تستمر بعلاقاتها الدولية التي نشأت في ظروف شديدة الخصوصية ؟ أم أن إعادة صياغة كاملة تتم يومًا بعد الآخر في هذا المجال، وبعبارة واحدة: أما تزال هذه الطبقة الحاكمة في مصر واقفة على نفس الأرض التي نشأت وتبلورت عليها أم أنها تنتقل إلى الضفة الأخرى؟ قبل حرب أكتوبر، وقبل حرب يونيو، كان من الواضح أن البورجوازية المصرية بكل سلوكها السياسي والاقتصادي والعسكري والأيديولوجي، كانت تؤدى إلى ضرورة أن يربط الوعي الثوري بين تناقض الطبقة العاملة المصرية والشعب المصري مع الإمبريالية بقيادة الاستعمار الأمريكي، وتناقضهما مع الطبقة البورجوازية الحاكمة في مصر على المدى الإستراتيجي، استنادًا إلى أن السلطة البورجوازية المصرية التي عرفت في نشأتها وتطورها لحظات تقدمية في مواجهة الأعداء التاريخيين للشعب المصري، كانت مدفوعة بحكم مصالحها الأنانية الضيقة إلى مهادنة هؤلاء الأعداء التاريخيين في القضايا الكبرى للشعب المصري والشعوب العربية، متجهة عبر مراحل وحلقات متعاقبة إلى علاقات التحالف والصداقة مع الرأسمالية الاستعمارية العالمية بحكم المصالح الرأسمالية المشتركة في الوقت الذي تتجه فيه علاقاتها الانتهازية التكتيكية (والاضطرارية أمام مواقف سابقة للاستعمار الأمريكي والاستعمار العالمي) مع الاتحاد السوفيتي والبلدان الاشتراكية نحو التصفية التدريجية، إقامة الجسور مع الاستعمار الأمريكي، مهادنة إسرائيل والاعتراف الضمني بشرعيتها على حساب القضية الفلسطينية، الارتباط بالكتل الاحتكارية الاستعمارية المختلفة، تصفية الخلافات مع الرجعية العربية والاتجاه نحو علاقات الصداقة والتحالف معها ... الخ كان هذا هو المسار الحتمي أمام البورجوازية المصرية وانتقالها إلى الضفة الأخرى، ضفة العدو الاستعماري عبر المراحل والحلقات. الواقع أننا نجد أنفسنا إزاء طبقة استغلالية مضطهِدة، تشكل عقبة كأداء في سبيل المحافظة على الاستقلال النسبي لبلادنا - فضلًا عن تدعيمه وتطويره والسير به إلى الأمام في طريق الاستقلال الجذري الذي لابد له أن يرتبط بالاشتراكية – طبقة يقضي الواجب الثوري بالإطاحة الثورية بها، في الوقت الذي نجد الحركة الثورية غير مؤهلة للقيام بهذه المهمة في المدى المباشر، بل أنها ما تزال تشهد مرحلة ميلادها الجديد إن شعار الإطاحة بالبورجوازية البيروقراطية وبشبكة علاقاتها، التي تستكمل عناصرها مع الاستعمار العالمي بقيادة الاستعمار الأمريكي وحلفائه في المنطقة، يستوجب تحضيرًا شاملًا للثورة مع ربط هذا الهدف الإستراتيجي العظيم في كل لحظة من لحظات نضالنا، بالمهام المباشرة واليومية بحيث تتراكم في اتجاه ثوري وحيد، فلا تتبدد وتتناثر وتذهب أدراج الرياح، بل تترابط في اتجاه تحقيق الثورة الاشتراكية المقبلة.( ) لقد أوضحت عاليه النواة المبدئية لموقف ح.ع.ش.م.من قضية القومية العربية من واقع وثائقه الأولى وهو موقف مناقض لأي مفهوم بورجوازي ناصري أو بعثي منها كما يدعي د. جيرفازيو. وقد صدرت كراسة باسم القومية العربية، مناظرة موجزة مع ط.ث. شاكر حول المسألة، وقد وجهت سهام نقدها للفكر القومي البورجوازي العربي، وللشيوعيين المصريين والعرب، وللعلماء السوفييت، من منظور انعدام الروح الطبقية أو البروليتارية لديهم في النظر للمسألة القومية . والكراسة من ضمن "مقتنيات" د . جيرفازيو ومصادر أطروحته العلمية الأولى، والغريب أنه يطلق أحكامه دون أن يشتبك مع أي من مفاهيمها، مثلها في ذلك مثل بعض الوثائق الأخرى. تنص الوثيقة: "فالماركسيون الثوريون يحرصون على الفهم الثوري العلمي الدقيق، وأمميتهم البروليتارية لا يمكن أن تتناقض مع الجانب الديموقراطي التقدمي الثوري، من قضايا القومية. حقًا إن قوميتهم لا يمكن أن تتفق مع النزعة القومية البورجوازية أو مع أي شكل من أشكال التعصب القومي الأناني ضيق الأفق، والشوفينية والتطرف القومي. ولكن هذه الأممية تطبق في إطار معين بحيث أن خط البروليتاريا، في قضية قومية أو وطنية تعيشها هذه البروليتاريا في أي وطن، لا يمكن أن يكون سليمًا إلا بمقدار ما يكون تطبيقًا عمليًا للأممية( ). "أما الجانب الثاني فيتعلق بالمستقبل كما سوف نرى، حيث لا نقف عند حد الحديث عن وحدة عربية توحد هذه الأمم العربية المتعددة في دولة واحدة بل نذهب إلى ضرورة التركيز على انصهار هذه الأمم المتعددة في أمة عربية واحدة اشتراكية، لها دولتها القومية الواحدة. وإن أساس هذا الانصهار التاريخي بعيد المدى هو النضال المشترك للشعوب العربية في مواجهة الأعداء المشتركين، المتمثلين في الإمبريالية العالمية بقيادة الاستعمار الأمريكي، وإسرائيل والرجعية العربية، والبورجوازيات العربية التي تستسلم الآن نهائيًا لتفتح البلدان العربية أمام الإمبريالية. لا يمكن إلا لأحمق أن يظن أن أفضل طريقة لإثبات حسن نواياه تجاه قضايانا القومية العربية، هي الزعم مع الزاعمين أن هناك قومية عربية جامعة لكل العرب قد عاشت طوال القرون التالية للفتح العربي، أو الزعم مع الزاعمين أن أمة عربية واحدة تجمع كل العرب في يومنا هذا، فما كل ذلك إلا نفاقًا يورط أصحابه في اقتفاء أثر الفكر القومي البورجوازي( ). "فإن التحولات الكبرى في طبيعة الثورة المقبلة في الجانب الأعظم من البلدان العربية. تؤدي إلى القول أن الأهداف الإستراتيجية للثورة العربية قد تركت وراءها أهداف الثورة البورجوازية الديموقراطية. فهي اشتراكية تستكمل في سياقها مهام الثورة البورجوازية الديموقراطية. وهذا يعني من ناحية، أن الاشتراكية أصبحت على علاقة وثيقة لا يمكن فصم عراها مع الأهداف القومية والوحدوية العربية، كما يعني بالتالي، من ناحية أخرى، أن القوى البورجوازية والرجعية التي تعادي خط البروليتاريا العربية في الاستقلال الوطني الجذري وفي ربطه بقضايا الوحدة العربية سوف تزداد ضراوة في معاداتها للنضال الثوري على أساس هذا الخط، حيث تبرز الاشتراكية باعتبارها الهدف الأكبر الذي تربط البروليتاريا العربية به كل قضاياها، ومن بينها قضية الاستقلال الوطني الجذري في كل بلد عربي وفي كل البلدان العربية وأيضًا قضية الوحدة العربية. أي أن الحركة القومية العربية سوف تدور ليس فقط حول قضية الاستقلال الوطني أو التحرر الوطني وقضية الوحدة العربية في ترابطهما، بل لابد لها أيضًا من إدماجها في قضية الثورة الاشتراكية. إن هذا يمثل خط البروليتاريا العربية في هذه الحركة، فمن المنطقي أن تتجاوز هذه الحركة كل ما عرفته من قبل من شعارات وأهداف وقضايا، لتكوين حركة عربية جماهيرية شعبية من أجل الاشتراكية والتحرر الوطني الجذري والوحدة. ومثل هذه الحركة لا يمكن فهمها إلا باعتبارها النضال المشترك للشعوب العربية، بقيادة الطبقة العاملة العربية، من أجل تحقيق الأهداف المشتركة في مواجهة الأعداء المشتركين، أي أنها لا يمكن أن تظل أسيرة إطارها القديم كحركة قومية تنشد التحرر الوطني وتربطه بالوحدة العربية"( ). ونشر بيان لـ ح.ع.ش.م بعنوان نطالب الاتحاد السوفييتي وبقية البلدان الاشتراكية وجميع الأحزاب الشيوعية بسحب الاعتراف بإسرائيل وبسحب تأييد قرار مجلس الأمن رقم 242 أساس التسوية الأمريكية في ديسمبر 1977. وفيه نوقش الدور الوظيفي لإسرائيل في ارتباطه بالمشاريع الاستعمارية، وإسهامه في تغيير المنطقة العربية من منظور مصالح الإمبريالية العالمية، ونقض وجود القومية اليهودية، وانتهى بالموقف الماركسي من الدولة الصهيونية، وقد شاخت الاستشهادات التوراتية الواردة فيه بالكشوف الأثرية الحديثة، وبسقوط المعسكر الاشتراكي، غير أن الموقف السياسي يظل صائبًا، يقول البيان : "فالغرب الاستعماري يجد في إسرائيل أداة استعمارية وقاعدة عسكرية متقدمة ولهذا فإن الغرب الاستعماري، لم يعترف بإسرائيل فحسب بل خلقها وصنعها صنعًا. بينما الاتحاد السوفييتي "وكذلك بقية البلدان الاشتراكية" لم تسهم بنفس الصورة في خلق إسرائيل سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، ولكنه أخطأ خطئًا قاتلًا في فهم طبيعة إسرائيل فسارع بالاعتراف بها. لقد أخطأ الاتحاد السوفييتي هذا الخطأ الفظيع الذي جعله يسهم في الجريمة التاريخية التي كانها قرار تقسيم فلسطين وقيام الدولة الإسرائيلية وتشريد الشعب الفلسطيني، ليس لأنه يستفيد من وجود إسرائيل، بل بسبب فقدان الاتجاه وغياب الفهم الواضح لطبيعة هذه الدولة وعلى أساس فهم مغلوط. ورغم الرفض الماركسي - اللينيني الكامل للصهيونية ورغم أن الاتحاد السوفييتي لم يتخلَ عن هذا الرفض لا في أواخر عهد ستالين الذي تم فيه الاعتراف بإسرائيل ولا في هذا العهد الراهن الذي لم يسحب هذا الاعتراف بل يؤكده من خلال الموافقة على قرار مجلس الأمن رقم 242، نقول رغم هذا الرفض الجذري للصهيونية فإن الاتحاد السوفييتي اعترف بقيام إسرائيل التي لا يمكن أن تكون شيئًا آخر سوى التجسيد الفعلي للصهيونية في دولة. ولم يدرك الاتحاد السوفييتي حتى الآن أي ازدواج خطير يقع فيه عندما يرفض الصهيونية ويعترف بدولتها في نفس الوقت، أي عندما لم يتعرف في إسرائيل التي أيد وجودها بكل شدة، على الصهيونية المرفوضة والمدانة من جانب الماركسية ومن الاتحاد السوفييتي الذي يسترشد بتعاليمها العظيمة. لقد استند هذا الازدواج القاتل، الذي لا يقل عن جريمة فكرية وسياسية كبرى وقع فيها الاتحاد السوفييتي وكل من سار وراء هذا الموقف من مواقفه، على أساس الزعم الخاطئ بأن حق الأمم في تقرير المصير ينطبق على اليهود الصهاينة الذين كانوا يعملون على قدم وساق من أجل مشروعهم وإقامة دولتهم الصهيونية( ). "فالماركسيون الثوريون لا يجوز لهم أبدًا أن يؤيدوا حق جماعة عدوانية في الاعتداء على حقوق الغير، ولا يجوز لهم أبدًا أن يفعلوا ذلك باسم "حق الأمم" وما شابه ذلك، عندما تكون الحقيقة الاستعمارية لإسرائيل واضحة جلية من واقع العلاقة الوثيقة بين الاستعمار والصهيونية منذ ظهور هذه الأخيرة في أواخر القرن الماضي، وعندما تكون إسرائيل هذه ليست متناقضة فحسب مع أي حركة ثورية في المنطقة بل موجهة مباشرة ضد أي حركة قائمة أو محتملة، تهدد المصالح الاستعمارية. لقد اعترف الاتحاد السوفييتي وعدد من البلدان الاشتراكية بإسرائيل على أساس قرار تقسيم فلسطين منذ أكثر من ثلاثين عامًا، ومهما تكن الأوهام القاتلة التي أحاطت بهذا الاعتراف فالحقيقة التي لا جدال فيها أن "الحق" الوحيد الذي قامت إسرائيل على أساسه هو "حق" الفتح والغزو والاغتصاب، "حق" اغتصاب أرض الشعب الفلسطيني، وطرده وتشريده وذبحه. ولا يجوز لثوري أن يعترف بمثل هذا "الحق"، كما لا يجوز له الاستمرار في الخطأ القاتل القديم لمجرد أن الأمر الواقع الاستعماري قد ازداد قوةً ورسوخًا على مر الأعوام والعقود المنصرمة. ولا يجوز أبدًا أن نخلط بين الاعتراف بإسرائيل والصهيونية من ناحية والاعتراف بالمسألة اليهودية من ناحية أخرى، ومنذ الكراس الشهير لكارل ماركس لا يتردد الماركسيون أبدًا في تحديد الحل الحقيقي لهذه المسألة أي الديموقراطية والاشتراكية والقضاء الجذري على كل أساس للتمييز والاضطهاد بسبب الدين أو العرق أو اللون ...إلخ. أما الاضطهاد البشع الذي قاساه اليهود في روسيا القيصرية القديمة أو في ألمانيا الهتلرية أو في أي مكان أو زمان آخرين فلا يمكن أن تؤدي إلى تأييد الحل الصهيوني الرجعي للمسألة اليهودية، فلقد برهن هذا الحل الاستعماري أنه لا يمكن أن نعترف بإسرائيل فهذه الأخيرة ليست سوى التجسيد المنطقي للصهيونية، وليس سوى نفاق وتزييف أن يدعي أحد أن اعترافه بإسرائيل لا يعني في نفس الوقت تورطه الكامل في الاعتراف بالصهيونية وبالاستعمار الاستيطاني على حساب الشعوب( )". ونلاحظ هنا أن د. جينارو جيرفازيو يسم الشيوعيين المصريين بأنهم فقدوا "هويتهم الذاتية" كماركسيين وباتوا قوميين "ناصريين أو بعثيين" دون أن يحدد أية معاير ماركسية يستند عليها سوى المناقضة التجريدية العامة للوطني بالاجتماعي معممًا إياها على الحلقتين الثانية والثالثة من تاريخ الحركة الشيوعية المصرية، ويقفز فوق الحدود البنيوية التاريخية الواقعية المتمايزة للفكر السياسي بإقامة علاقة من التماثل تجوهره فتجعله ظاهرة لا تاريخية، وينطلق توني كليف وهنري كورييل من حق اليهود في تقرير المصير، ويستند الأخير على ستالين الذي نفى وجود ما يسمى بقومية يهودية منذ أن أصدر كراسه الماركسية والمسألة القومية عام 1913، رافضًا "الشوفينية القومية" لبعض الشيوعيين المصريين، وينطلق يوسي أميتاي من "ماركسيته غير الدوجمائية"، بينما ينطلق جويل بينين حسب قوله من "عجز الماركسية النظري على تفسير قوة القومية على بناء بديل للسياسات الطبقية قائم على الهيمنة، فإن عجزها بصفة خاصة عن تفسير طبيعة الصهيونية أدى إلى فقد الاتجاه السياسي والتفتت أيضًا. ولم تستطع الترسانة التحليلية الماركسية أن تنظر بصورة سليمة إلى كل من عنصري الصهيونية القومي– والمعادي للإمبريالية في إطار ما بعد الحرب - والاستعماري الاستيطاني"( ). لقد كان موقف ح.ع.ش.م. الثابت هو "أنه لا يجوز للماركسيين الثوريين أبدًا أن يؤيدوا حق جماعة عدوانية في الاعتداء على حقوق الغير، ولا يجوز لهم أبدًا أن يفعلوا ذلك باسم "حق الأمم" وما شابه ذلك، عندما تكون الحقيقة الاستعمارية لإسرائيل واضحة جلية من واقع العلاقة الوثيقة بين الاستعمار والصهيونية منذ ظهور هذه الأخيرة في أواخر القرن قبل الماضي، وعندما تكون إسرائيل هذه ليست متناقضة فحسب مع أي حركة ثورية في المنطقة بل موجهة مباشرة ضد أي حركة قائمة أو محتملة، تهدد المصالح الاستعمارية... فالحقيقة التي لا جدال فيها أن "الحق" الوحيد الذي قامت إسرائيل على أساسه هو "حق " الفتح والغزو والاغتصاب، "حق" اغتصاب أرض الشعب الفلسطيني، وطرده وتشريده وذبحه. ولا يجوز لثوري أن يعترف بمثل هذا "الحق"، كما لا يجوز له الاستمرار في الخطأ القاتل القديم لمجرد أن الأمر الواقع الاستعماري قد ازداد قوة ورسوخًا على مر الأعوام والعقود المنصرمة". إن اللاتاريخية في الفكر تعني العمى عن إدراك الواقع. ه. ماذا أرادوا وماذا حققوا؟ الحاضر يملك مفتاح الماضي رغم أن د. جينارو جيرفازيو قد رصد هزيمة يونيو 1967 وآثارها السياسية على النظام الناصري، ورغم تناوله لنظام السادات والتحولات التي جرت عقب حرب أكتوبر، وخاصة التحولات الطبقية داخليًا، وأدرك دلالات الانفتاح الاقتصادي، وإعادة تأسيس روابط التبعية للإمبريالية، وتدشين العلاقات مع دولة الاحتلال الصهيونية والانتقال من طور طبقي لطور آخر، إلا أنه لم يستطع استخلاص النتائج المترتبة على ذلك. فالمسألة كما أوضح أدبنا الحزبي لم تكن مجرد أرض محتلة، ولا خيانة وطنية انتهت بحدوثها، وإنما عودة شاملة للحظيرة الاستعمارية الأمريكية بصفة خاصة، واستسلام كامل لمطالب دولة الاحتلال الصهيوني التي قامت حرب يونيو 1967 من أجلها، وانتهاء عصر الوطنية والقومية البورجوازية وانتقالهما إلى محور البروليتاريا الاشتراكي. كانت المهمة الأساسية للطبقات الكادحة العربية تتقوم في ضرورة التحويل الثوري لبنية علاقات الإنتاج الرأسمالية التابعة، التي بتجددها المستمر، تتجدد السيطرة الإمبريالية سواء الإمبرياليات الكبرى كأمريكا أو الصغرى كإسرائيل ومشاريعها الشرق أوسطية في تحقيق "خريطة جديدة وعلاقات مختلفة" فيما بعد، وتحقق ذلك يمر عبر عملية معقدة من الصراع الطبقي ضد البورجوازيات العربية المسيطرة وضد الأطراف الإقليمية والعالمية معًا أي حلفها الطبقي. وتمثل المخرج من أزمة النظام البورجوازي في ضرورة انجاز تحويل اقتصادي اجتماعي سياسي ثوري على مستوى البلدان العربية تقوم به الطبقات الكادحة يحقق توحيدًا قوميًا بأيدي الكادحين ويبني اقتصادًا عربيًا مترابطًا شاملًا يتجه لآفاق اشتراكية. لقد تحول نظام البورجوازية البيروقراطية وفق سياسات الولايات المتحدة الأمريكية، ومخططات دولة الاحتلال الصهيوني إلى ما أراداه تمامًا. فمنذ بداية الخمسينات في القرن الماضي أرادت واشنطن جعل مصر حليفًا تابعًا ومواليًا لها يتصدى للمشاعر والتوجهات القومية الراديكالية في العالم العربي ويثبطها، ويقف مصدًا لخطر التيارات الثورية الشيوعية في إطار احتواء الشرق الأوسط داخل حدود"العالم الحر" في مواجهة الاتحاد السوفييتي والحرب الباردة معه. وقد كانت القضية الفلسطينية جزءً من المناورات الجارية، وقد استلزم ذلك اقتراح معاهدة سلام بين إسرائيل ومصر من خلال مفاوضات مباشرة، خاصة وأن الأخيرة من وجهة النظر الأمريكية تتمتع بنفوذ وتأثير على محيطها العربي فإذا بدأت سيكون لذلك أثره على بقية العالم العربي. وكان الرئيس الأمريكي أيزنهاور يريد مصر "مثالًا يحتذي به الآخرون" ولم يكن يعادي عبد الناصر - آنذاك - لأنه إن لم يقد الشعب المصري بوصفه "وطنيًا وقوميًا" فسوف يقوده الشيوعيون. وكان جون فوستر دالاس وزير خارجيته يرى "أن التحدي هو حرف انتباه الشرق الأوسط عن مشكلة الصراع العربي الإسرائيلي، وتوجيه عواطف الشعوب باتجاه حملة صليبية عالمية معادية للشيوعية، وعندئذ كان الأمل هو إقناع العرب بالسلام مع إسرائيل..."( ). وإذا كانت أمريكا في بداية الخمسينات قد خططت لوجود قاعدة أمريكية في السويس، وطلبت من نظام عبد الناصر الالتزام بمنظمة دفاع شرق أوسطية، وبالسلام مع إسرائيل، فلم يكن الطلب الأخير بعيدًا عن فكر قائد حركة يوليو (وقد أشار لذلك كاهنه الأكبر محمد حسنين هيكل في كتابه المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل)، ولكن عدوان إسرائيل المتكرر دفع الأمور في اتجاه الاحتدام بما يناقض المخططات الأمريكية، وتطورت الأمور من صفقة الأسلحة التشيكية، إلى تأميم قناة السويس، إلى العدوان الثلاثي في 1956 ورفض الأحلاف العسكرية، والوحدة المصرية السورية عام 1958، إلى تأميمات 1961، إلى التمويل الروسي للسد العالي ... الخ وقد عادتها أمريكا جميعًا، وإذا كان ما أسمي وقتها بمبدأ أيزنهاور قد عنى التدخل العسكري حال هيمنة الشيوعية الدولية، فقد كان موجهًا أيضًا لاحتواء الناصرية بوصفها قوة مستقلة في المنطقة باتت تهدد المصالح الإمبريالية الغربية، ووجود دولة إسرائيل. وجرى افتراض أن لناصر ميولًا ماركسية، وأهدافًا راديكالية، وبدا الترحيب ظاهرًا بأي قوى محلية يمكن أن تطيح به. لقد تلخصت المصالح الأمريكية في المنطقة العربية في الاستثمارات النفطية، والقواعد العسكرية، وقناة السويس، والمجال الجوي العربي، وأمن إسرائيل الذي بلغ حد مساعدتها في حيازة أسلحة نووية، وبالطبع خلق حاجز ضد الاتحاد السوفييتي وانتشار الشيوعية. وقبل حرب يونيو1967 مباشرة كتب والت روستو مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي جونسون: "تحت السطح مباشرة تكمن إمكانية لمرحلة شرق أوسط جديد معتدل، تركز على التنمية والتعاون الإقليمي، وتقبل لإسرائيل كجزء من الشرق الأوسط إذا أمكن وجود حل لمشكلة اللاجئين، لكن كل هذا يتوقف على تحجيم ناصر"( ). وكانت الهزيمة هي أداة إعادة تشكيل إطار ذلك التغيير المستهدف المنوه عنه عاليه. وبدا السعي لتسوية سياسية ولسلام سياسي قبل وفاة عبد الناصر قائمًا، حيث لم يعد هناك من يتحدث عن "حق إسرائيل في العيش"، وإنما عن "حق النظم البورجوازية المهزومة في العيش" بجوارها. وكان السادات ممثل البورجوازية البيروقراطية في طور هبوطها هو الذي قدم الدعوة المفتوحة للإمبراطورية الأمريكية للهيمنة الشاملة في المنطقة العربية، رغم أن فكرة تسوية سياسية كانت مطروحة ومقبولة عند عبد الناصر قبله، والأغلب أنها كانت ستتخذ شكلًا مختلفًا، وإن بقى جوهرها كما هو. ولم تكن حرب أكتوبر التي خاضها الجيش المصري بعماله وفلاحيه وبورجوازيته الصغيرة سوى وقود بشري من أجل "فرض حل دبلوماسي" الأمر الذي توقعه حزب العمال الشيوعي المصري قبلها بسنوات، وقد امتدح كيسنجر مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية الأمريكي - وصاحب فكرة "تحريك الوضع الجامد عسكريًا" بالوصول للضفة الثانية للقناة فقط - في كتابه سنوات الجيشان السادات رجل الدولة النادر الذي كان لديه "تصورًا واضحًا للهدف السياسي للحرب" وأطرى الاعتدال الذي مثل أساسها، بحفاظه على الدم اليهودي، كما أقر السادات بذلك في كتابه البحث عن الذات.واكتشف جوزيف سيسكو من وزارة الخارجية الأمريكية في السادات رجلًا يتفهم تمامًا مشاكل إسرائيل الأمنية بطريقة عقلانية. وكان "السلام الأمريكي" يضمن للولايات المتحدة مصالحها بالمنطقة، حين يلعب السادات دور عامل الاستقرار الإقليمي مع البلدان الرجعية الخليجية، مادام قد قطع عهدًا على نفسه بأن لا يحارب من أجل السوريين أو الفلسطينيين، واستجاب لشرط جوهري إسرائيلي وهو التخلي كلية عن "خطاب الحرب". واستهدفت الولايات المتحدة إنهاء "اشتراكية الدولة" وهى من مخلفات العهد الناصري، وتغيير العقيدة القتالية للجيش المصري بحيث يتوجه إلى التعامل مع التهديدات الجديدة الإقليمية (العراق - ليبيا)، والدولية مثل القرصنة، وأمن الحدود، ومكافحة الإرهاب. وتقليص العلاقات مع الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي. وكلها مما يدخل في نطاق الحفاظ على مصالحها وأهدافها في المنطقة( ). وكان ذهاب السادات إلى القدس 1977 في حد ذاته اعترافًا بإسرائيل، الذي تلاه توقيع اتفاقية كامب ديفيد 1978، ثم توقيع معاهدة السلام 1979. ولم يكن التطبيع بعد ذلك وضعًا لأسس علاقات بين دولتين متجاورتين، وإنما خطة دولية تشارك فيها الرأسمالية الأمريكية، والصهيونية العالمية، والمؤسسات المالية الدولية لتحقيق تعديلات جذرية في توجه المنطقة العربية وكامل سياساتها الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والثقافية. أي إعادة تشكيل المنطقة بهدف إحكام السيطرة عليها، وربطها بمقتضيات السياسة الأمريكية - الصهيونية، مما يعنى تعميق التبعية وتكريس استغلال المنطقة، والنهوض حاجزًا أمام أي ثورة اشتراكية. ويظل الأهم بالنسبة لسياسة الولايات المتحدة هو مصالحها الحيوية، وتأسيس وتوسيع نفوذها، وضمان وجود إسرائيل. أما المشروع الإسرائيلي فقد استهدف مع مصر والبلدان العربية إحداث تغييرات تبدأ بضرورة الاعتراف بإسرائيل، وإقامة علاقات دبلوماسية معها، وبحدودها الآمنة، وبأساسها الأيديولوجي الصهيوني، وإجمالًا بتغيير المعتقدات السياسية السابقة، وبالحد من قدرات العرب العسكرية، وإعادة صياغة شبكة العلاقات العربية - العربية، - وخاصة بإلغاء معاهدة الدفاع العربي المشترك والتخلي عن القضية الفلسطينية - وكذلك مع القوى الكبرى خارج المنطقة، وإحلال السلام الاقتصادي بفتح الأسواق المصرية أمام المنتوجات الإسرائيلية، وبإنهاء كل أشكال المقاطعة بالانتقال الحر للسلع والخدمات وعناصر الإنتاج في إطار سوق عربية مشتركة، حيث أن الاستقرار الاقتصادي يساوي الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وهو ما يدفع عملية السلام على حد تعبير شيمون بيريز. وقد اعتبر التطبيع الثقافي هو الدعامة الرئيسية لبناء السلام في المنطقة. وهو يستلزم "نزع العداء من العقل العربي" و"إزالة المفاهيم السلبية في الأيديولوجية القومية العربية والإسلامية تجاه إسرائيل"، مراجعة البرامج الدراسية، تغيير الموقف من تاريخ وثقافة الآخر. وقد تحقق الكثير مما ذكر بالاتفاقيات التي عقدت بين النظام المصري ونظيره الإسرائيلي( ). وربما كان ذو دلالة في موضوعنا ما أورده دافيد بن جوريون في يومياته بتاريخ 29 يناير 1949، حيث كتب: "الهزيمة العربية كاملة. لكني أتخوف طوال الوقت من نداءات في العالم العربي تدعو إلى إنشاء حركة شبيبة وتدريبها، وتوحد قيادة الجيوش العربية، وتقيم مصانع للسلاح، وتطبق عقوبات اقتصادية علينا، وتلغي الامتيازات التي تمكن الإمبريالية من السيطرة على العرب، وإنشاء تنظيمات عمالية، وتعزيز الصناعة والقيم العصرية، وفتح مؤسسات التعليم العالي، وإزالة الحدود الجمركية بين البلاد العربية، وتنظيم دعاية فعالة في العالم"( ). وكان الرئيس ترومان قبلها في 11 سبتمبر 1948 قد أصدر أمرًا رئاسيًا نصه كما يلي: منع انتشار الشيوعية بتقديم المساعدات الاقتصادية لإسرائيل. وهكذا بات الصراع العربي الإسرائيلي بعد قيام دولة الاحتلال الصهيوني عنصرًا أساسيًا في تشكيل مواقف وتوجهات كل القوى السياسية في العالم العربي سواء في السلطة أو خارجها. يقول هيكل عن حرب أكتوبر: "ولم يخطر ببال كثيرين أن النتائج العسكرية في الحرب المحدودة هي في الواقع نقطة البداية للحرب الحقيقية، حرب التحقيق السياسي لأهداف القتال"( ). وفضح هيكل مواقف البورجوازيات العربية حين تحدث عن الشعور الذي راود بعض القادة العرب خلال ما اعتبروه انتصارات أكتوبر 1973 "حين كان خوفهم من نصر يتحقق بقوة "الناس" من جماهيرهم وجيوشهم لا يقل عن خوفهم من هزيمة توجه إليهم من قوة إسرائيل وجيشها"( ). لذا كان شعار حزبنا آنذاك وهو ما سبق أن أثبتناه عاليه : "...الإطاحة بالبورجوازية البيروقراطية وبشبكة علاقاتها التي تستكمل عناصرها مع الاستعمار العالمي بقيادة الاستعمار الأمريكي وحلفائه في المنطقة، يستوجب تحضيرًا شاملًا للثورة مع ربط هذا الهدف الإستراتيجي العظيم في كل لحظة من لحظات نضالنا، بالمهام المباشرة واليومية بحيث تتراكم في اتجاه ثوري وحيد، فلا تتبدد وتتناثر وتذهب أدراج الرياح، بل تترابط في اتجاه تحقيق الثورة الاشتراكية المقبلة". سادسًا عن منظمة وحدة الشيوعيين المصريين وأمورٌ أخرى حين صدر كتاب الباحث الإيطالي د. جينارو جيرفازيو الحركة الماركسية في مصر (1967 – 1981)، قام بعض الرفاق القدامى بإبداء ملاحظاتهم عليه في عدة ندوات، وكتب الأستاذ إلهامي الميرغني الباحث الاقتصادي نقدًا تفصيليًا تناول أمورًا جوهرية في الكتاب أخصها أن الباحث الإيطالي لم يستفد بكامل وثائق ح.ع.ش.م. التي كانت في حوزته مما قاده إلى عدم طرح رؤى متكاملة. وتتبع تفصيليًا أخطاء في الوقائع أو التواريخ، وتجاهله لمنظمات كان عليه أن يتناولها، أو لم يتناولها بالقدر الكافي الذي يتناسب مع أهميتها، ورأى أن المؤلف إذ طرح نقدًا قوامه أنه إذا كان هناك تركيز على القضايا القومية والوطنية فلابد من "ربط ذلك بتطور الطبقة العاملة وتقلص القطاع العام والهجرة للنفط وانتشار مصانع القطاع الخاص العالية التقنية المنعدمة الضمانات وانهيار التعاونيات الزراعية كل هذه المتغيرات لابد من وضعها في الاعتبار بجانب التركيز على الجانب السياسي"( ). وقد تعرض د. جينارو في الفصل المعنون يساريون قوميون أم ماركسيون لعدة أمور لم يكن دقيقًا فيها فقد اعتبر أنه كان للمؤتمر التاسع للحزب الشيوعي الصيني أثر في تشكيل منظمتنا الأولى في ديسمبر 1969 ولم يعتبر ذلك من قبيل المصادفة، والحال أننا رفضنا أهم نظريات هذا المؤتمر حول اعتبار الاتحاد السوفييتي "إمبريالية اشتراكية"، ووجود "عوالم ثلاثة"، وأن "الريف العالمي يحاصر المدينة العالمية" واعتبار "الكفاح المسلح هو الشكل الرئيسي للنضال" فى كل الأزمنة والأمكنة ولم نقبل سوى "الثورة الثقافية" التي عنت تثقيف الشعب وفتح النار جماهيريًا على يمين اللجنة المركزية. وفي نقد الخط الذي أسفر عنه المؤتمر التاسع وتبناه الرفيق محمود حسين كُتبت وثيقتنا ملاحظات أولية حول خطوط الحركة الشيوعية العالمية عام 1972، ونشرت مضمومة مع مقال موقفنا من القائلين بسلطة البورجوازية الصغيرة بقلم شيوعي مصري، الصادر عن دار الطليعة، بيروت، 1974. وكاتبها هو الرفيق إبراهيم فتحي (مرسي مصطفى علي). والوثيقة تتناول الملحق الثاني المعنون إحياء الرأسمالية في الاتحاد السوفييتي والثورة الثقافية الصينية في كتاب الصراع الطبقي في مصر من 1945 – 1970 بقلم محمود حسين، ترجمة عباس بزي وأحمد واصل، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 1971. ومن أهم ملامح الوثيقة هي عرضها الجدلي لواقع وتناقضات التجربة السوفييتية في فترة الانتقال دون انحياز عقائدي يفتح الأفق مشروطًا لتعدد الاحتمالات حسب السياق التاريخي، رغم أنها رفضت فكرة وجود طبقة بيروقراطية استغلالية في الداخل وامتدادها في "إمبريالية اشتراكية" في الخارج. وفي نفس الوقت قدمت الوثيقة نقدًا مبدئيًا جذريًا لبعض مظاهر السياسة الخارجية السوفييتية وأثرها التخريبي على نضالات الشعوب العربية. لقد كانت الأفكار التي تضمنتها مجموعة المقالات التي ضمها مجلد ضخم بعنوان مناظرة حول الخط العام للحركة الشيوعية العالمية الذي صدر في بكين عام 1965 سابقة على المؤتمر التاسع هي دليلنا السياسي الذي لم نتجاوزه، وقد أسهمت في بلورة نقدنا للاتحاد السوفييتي، وللاشتراكية الناصرية بيروقراطية الطراز. لقد نشأت عدة حلقات ماركسية بعد حل المنظمات الشيوعية الرئيسية للحلقة الثانية عام 1965، وتشكلت حلقة خميس والبقري على يد عبد السلام الشهاوي، وخليل كلفت، وحسنين كشك، وزين العابدين فؤاد فقط (8 ديسمبر 1969)، وسرعان ما تم تجنيد إبراهيم فتحي للحلقة التي باتت التنظيم الشيوعي المصري، والتي لم تكن تملك آنذاك سوى تحليل موجز عن "طبيعة النظام الاجتماعي". لم يكن هو كما يظن د. جيرفازيو من حاول "تشكيل منظمة شيوعية جديدة" ولا "جيل جديد يمثل الطليعة الأدبية المصرية" فقد تبلور القائد والناقد الأدبي بقدر ما تبلور الجيل في علاقة تفاعل متبادلة، وإن كان تأثيره حاسمًا. كما أن رحابة الأفق الأممية لم يستمدها التنظيم من رؤاه بقدر ما استمدها من الواقع العالمي والإقليمي حيث فيتنام وكوبا والصين والجزائر والمقاومة الفلسطينية .. الخ. ويزعم د. جيرفازيو أن وحدة الشيوعيين المصريين قد تشكلت عام 1965 "منظمة من بعض المناضلين المهمشين، ومن رفضوا قرار حل الأحزاب، وبعض المناضلين الماركسيين الأقدم، وعدد من ألمع مثقفي جيل الستينات ... وفي أكتوبر 1966 تعرضت لهجمة بوليسية. ويمكن العثور على جذور ح.ع.ش.م. في الخبرة القصيرة لمنظمة وحدة الشيوعيين". والحال أنه لا يورد أي مصدر لمعلوماته ولا يعدو الأمر كونه تخمينًا. في حوار أجرته الدكتورة جمال حسان مع إبراهيم فتحي أحد مؤسسي التنظيم المذكور يقول: "في ذلك الوقت كنت عضوًا في حدتو لكن حدثت مشكلة داخل التنظيم حيث أيدوا ثورة 1952 بحماس شديد رغم أن عبد الناصر لم يكن قد أخذ بعد قراراته التقدمية، خرجت من التنظيم مع آخرين وكونا تنظيم وحدة الشيوعيين. كنت طالبًا وكان في الصدارة المحامي محمد مستجير، والمحامي أحمد فرج والمحامي محمود ندا، والنقابي علي الشوباشي والمناضل العمالي في شبرا الخيمة محمد الزيات وأول عضوة في مجلس إدارة النقابة العامة للنسيج بالظاهر توحيدة أبو الخير والطبيب أسعد البنا والطبيب الكاتب عاطف أحمد"( ). وقد أورد عادل أمين المحامي في تاريخه التوثيقي لقضايا الحركة الشيوعية المصرية إفادات كبار ضباط مكتب مكافحة الشيوعية، ومسئولي النيابة العامة، وييانات عدد من المنظمات منها ما يخص وحدة الشيوعيين. وفي تقرير مؤرخ في سبتمبر 1957 من المضبوطات بعنوان مسألة تكوين الحزب وأسلوب المنظمات الشيوعية ورد فيه أنه في أعقاب إعدام خميس والبقري كانت حدتو تهدئ العمال ونزل قادتها إلى شوراع كفر الدوار في سيارة بمكبر الصوت يدعون العمال إلى الهدوء والسكينة "وصرح أحد قادة حدتو وهو حميدو (المقصود محمد شطا – س.ع.) أن لكل ثورة ضحاياها! ياللحكمة. وهنا بدأت الانقسامات أولًا من قسم الطلبة، وكانت حدتو مستمرة في تطبيق خط القوات الديموقراطية، وسميت المنظمة الجديدة التي انقسمت وحدة الشيوعيين ومازالت قائمة حتى الآن"( ). وفي حوار أسبق لإبراهيم فتحي مع الصحفي خالد السرجاني أشار لتجربته في وحدة الشيوعيين المصريين: "أنا كنت في حلقة تضم مجموعة من المثقفين مثل علي الشوباشى وإبراهيم عامر، وكنا نتناقش في بعض أمور العمال وما كانوا يكتبونه عنهم. ولكن اهتمامنا كان بما يكتب عن الشيوعية أيامها وكان إسهامنا يتمثل في كيفية إخراج فكر شيوعي، وبرنامج شيوعي حقيقي. فكتاب إبراهيم عامر عن الحركة الفلاحية المسمى الأرض والفلاح احتوى في آخره برنامجًا للشيوعية وهذا البرنامج كنا نتفق عليه. أما كتاب عامر نفسه عن تاريخ الحركة القومية في مصر فكان ردًا على الدراسات التي تروج للقومية العربية. فعليًا كنا حلقة دراسية للشيوعية ولم نكن حزبًا أو تنظيمًا يرد في دماغنا إننا قيادة لشعب مصر أو الشيوعية. كنا نقول عن أنفسنا على سبيل المزاح "فرقة الصدام" كفرقة صدام فكري فقط وليس سياسيًا أو اجتماعيًا أو اقتصاديًا يتعلق بضدية مع أفكار زكي نجيب محمود الخاص بالوضعية المنطقية وضد فكر عبد الرحمن بدوي عن الوجودية وضد فكر الدكتور وهيب مسيحة في الاقتصاد الذي كان يؤيد فكرة أن الحمار أغلى من العامل، لأن العمال كثير والحمير قليلة. والأفكار الخاصة بنا في القانون كان يكتبها محمود ندا. كنا بعيدًا عن التنظيم عبارة عن وحدة ولم يكن أحد يناضل بالمعنى الشيوعي ولم يصدر عنهم حركة تنوير، ولم نملك قاعدة جماهيرية وشعبية لترسيخ الفكر الاشتراكي"( ). لم يكن التنظيم الشيوعي المصري امتدادًا تنظيميًا لـوحدة الشيوعيين المصريين، وإنما كان خليفته الأيديولوجي والسياسي وإن أتت منه بعض كوادر التنظيم الجديد مثل إبراهيم فتحي، عبد السلام الشهاوي، زين العابدين فؤاد، عبد الحميد بدر الدين، وسعيد العليمي. لقد وجدت مواقف وحدة الشيوعيين صداها في كتابات ح.ع.ش.م. فيما بعد. وخاصة الكتابات التي نشرت باسم إبراهيم عامر الذي كان يعمل صحفيًا في جريدة الجمهورية آنذاك. منها كراس تأميم القناة (1956)، كراس ثورة مصر القومية (1957)، كراس الاستقلال والطريق إلى الاشتراكية وهو ترجمة لمؤلف للعالم البولوني جوليان هوخفيلد (1957). وأهمية هذه الدراسة على صغر حجمها أن موضوعها كان انصهار عدة قوميات متفاوتة النضج في عصر الإمبريالية في قومية اشتراكية واحدة، في سياق الثورة الاشتراكية، وهي الفكرة التي وجدت صداها في وثيقة حول سلطة البيروقراطية البورجوازية في القسم الخاص بالقومية العربية، وفي وثيقة في ذكرى اتحاد الجمهوريات العربية. ثم كتاب الأرض والفلاح (1958) الذي رفض إلزامية المراحل الخمس التي يتعين أن تمر بها كل البشرية، وذكر لأول مرة موضوعة نمط الإنتاج الآسيوي في مصر (وهو نمط كان مرفوضًا منذ عام 1933 تاريخ آخر جدال حوله من قبل العلماء السوفييت في الحركة الشيوعية العالمية)، ثم عرض ملامح برنامج فلاحي في المسألة الزراعية. ولابد من الإشارة هنا لتحليل غاية في الأهمية كتبه إبراهيم فتحي إبان اعتقاله في سجن القناطر الخيرية عام 1961 ووجد طريقه خارجه بعنوان: حول اشتراكية رأس المال الكبير وكان تحليلًا للتأميمات التي أجرتها السلطة الناصرية، وفيه تتجلى إرهاصات ما كتبه عن البورجوازية البيروقراطية فيما بعد. وتناول فيما تناول التراكم الرأسمالي الذي يحققه التأميم، ورأسمالية الدولة، وظاهرة البونابرتية كشكل للحكم؛ وقد اطلعت على التحليل بنفسي عام 1968 بمعرفة المناضل الراحل عبد السلام الشهاوي. وهناك مصادر أخرى كان يتعين على باحثنا الإيطالي أن يعود إليها بشأن وحدة الشيوعيين المصريين وقد أثبتها في الهامش. ويستأنف باحثنا أخطاءه فيدعى أن "أنكر التنظيم الشيوعي المصري وجود أي سمة تقدمية في النظام الناصري" الأمر الذي يدعوني للتساؤل هل قرأ بالفعل وثائقنا التي أثبتها بوصفها مصادره بما فيها الكتابات التأسيسية، ففي وثيقة طبيعة الثورة المقبلة يرد الآتي:"هذا الشكل من أشكال الرأسمالية استطاع في فترة تاريخية في مصر أن يلعب دورًا تقدميًا في مواجهة الإمبريالية والمراكز الاحتكارية المرتبطة بالإمبريالية في رأس المال المصري، وأن يسهم في البناء الاقتصادي المستقل. وكان هذا الدور التقدمي الوجه الرئيسي لفترة تاريخية محددة"، ومعظم الكتابات الحزبية تميز بين مرحلتي صعود البورجوازية وهبوطها حتى تلك التي كتبت وهي في خطوتها الأخيرة نحو الاستسلام مثل ليس كل ما يلمع ذهبًا، ملاحظات حول حرب أكتوبر التي تشير إلى أن السلطة البورجوازية المصرية عرفت في نشأتها وتطورها لحظات تقدمية في مواجهة الأعداء التاريخيين للشعب المصري وغير ذلك الكثير. من ناحية أخرى هل استبعدت وثائقنا كليًا احتمال أن تشن البورجوازية حربًا على إسرائيل كما يدعى د . جيرفازيو ؟ الواقع أن كل الأطراف الإسرائيلية والمصرية والأمريكية كانت تجمع على أن الحرب لم تكن حتمية وكان يمكن تفاديها، وقد نشبت لتحريك الأزمة المجمدة وفي حدودها لا أكثر، أي أن الحرب لم تتجاوز ما هو مطلوب حسب طلب كيسنجر ورغبة السادات، ولم يكن ذلك يتناقض مع شخصية الأخير كما افترض باحثنا وقد أشير لذلك أعلاه. مع ذلك أشارت وثيقة طبيعة الثورة المقبلة إلى أنه "وفي نهاية منعرجات السياسة التهادنية التي لا تستبعد حدوث مساومات عالية الصوت ومناوشات نظامية مسلحة مع إسرائيل وبيانات شديدة اللهجة موجهة ضد الاستعمار الأميركي، يلوح الارتباط بالاستعمار العالمي نتيجة حتمية للنمو التلقائي للرأسمالية المصرية، وهو ارتباط يختلف عن العمالة القديمة". ويصادف باحثنا ما يعتبره "أمر محير وهو غياب التفكير التحليلي اليساري حول صعود الإسلام السياسي فيما يتجاوز مقارنة مصر وإيران" على حد تعبيره رغم أن النموذج الذي استلهمته الحركة الإسلامية في السبعينات هو النموذج الإيراني قبل الثورة وبعدها لذا جرى إيلاءه اهتمامًا شديدًا، كما أن ذات النموذج هو ما أدى ببعض الماركسيين إلى التلفع بالعباءة الإسلامية لاعتقادهم بأن هذا هو نموذج الثورة الملائم في العالم العربي. والواقع أنه توفر في عام 1974 كراس حول الماركسية والإسلام ردًا على كتاب د. مصطفى محمود بنفس الاسم، وفي العدد 12 من مجلة الشيوعي المصري الصادر في أغسطس 1976 نشر مقال عن عودة مجلة الدعوة وهى مجلة الإخوان المسلمين المعروفة وفي العدد 23 من مجلة الشيوعي المصري الصادر في يوليو 1977 نشر بيان الحزب حول خطف واغتيال الشيخ الذهبي، وفي العدد 27 من مجلة الشيوعي المصري الصادر في نوفمبر 1977 نشر مقال السلطة والاستغلال السياسي للدين، وفي نفس العدد نشر مقال حول الفتنة الطائفية. كما توفر في أواخر 1979 كراس الماركسية والدين ردًا على كتاب بنفس الاسم للدكتور رشدى فكار أستاذ السوربون المصري، الذي استدعاه السادات من أجل مجابهة الماركسيين فى مصر أيديولوجيًا. إن الدور الريادي الذي قام به د. جينارو جيرفازيو في حقل البحث التاريخي حول اليسار الراديكالي في مصر مازال موضع تقدير، إلا أن الوقوف عند مرحلة دون مراجعة نقدية ودون إدراك أبعاد خطابه ، أو تكرار القول دون تطويره يهبط بمستوى ما أنجزه . ولعل الإسهام في تأريخ القوى السياسية التى كانت تصنع التاريخ من الهامش وهي المدرسة التاريخية التي انتمى إليها باحثنا ، لا يبرر كتابته من الهامش أي دون مراعاة كل جوانبه وصورته الكلية .( 91 ) ( 91 ) منذ سني النشأة الاولى كان للحزب صلات حية ببعض تجمعات الطبقة العاملة فى المواقع العمالية الاساسية فى بلادنا ، ومن خلال تطور نفوذ الحزب فى الحركة العمالية مع اشتداد ساعدها ، فى مصنع الحديد والصلب ، والكوك بحلوان ، وبعض مصانع النسيج فى شبرا الخيمة ، وفى مصانع الغزل والنسيج ، والكتان ، والنحاس ، والترسانة البحرية بالاسكندرية ، وفى بعض مصانع دمياط ، ومصنع الألمونيوم بنجع حمادى . وقد كان له دور رائد فى بلورة البرامج النقابية لحركة عمال النسيج فى الاسكندرية بقيادة عضو اللجنة المركزية فتح الله محروس عام 1973 التى وضعت اساس البرنامج النقابى لعمال القطاع العام باكمله ، وهى الحركة التى هددت بالانتشار فى قطاعات عمال النسيج خارج الاسكندرية ، لولا التصدى البوليسى الارهابى للسلطة لهذه الحركة بالاعتقال والتشريد لعشرات النقابيين ، ولولا مستوى النضج العام للحركة العمالية . وتعددت معارك الحركة العمالية التى لم يعدم حزبنا سبل التاثير فيها فى العديد من المواقع العمالية الاساسية ، بل ان التاثير المكثف المباشر فى بعض الاحيان كان احد ثماره الاساسية توسع صفوف الحزب من العمال بنسبة كبيرة بالمقارنة مع نقطة الانطلاق . وبالاضافة لحركة المثقفين بكل فروعها ، والحركة الطلابية ، وبعض النقابات المهنية ، والحركة العمالية عرف حزبنا منذ فترة مبكرة طريقه الى بعض المواقع الفلاحية بالحدود التى سمحت بها حركتها الضامرة ( فى محافظة الدقهلية ، ومنطقة العمار ) ، وعضوية الحزب وامكانياته بالطبع ، وايضا فى مواقع محدودة بالقوات المسلحة . باختصار فان حزبنا لم يتشرنق فى مجال بعينه بل مد شباكه السرية ، واندمج فى المجتمع بكل فئاته ضمن حدود قدراته التى حكمها قانون الأعداد الصغيرة الذى حاولنا تجاوزه ، ضمن الشروط التاريخية لحركة الصراع الطبقى التى لاتشهد مهرجانا مقيما من الانتفاضات ، اى اننا كنا مازلنا بعيدين عن التحدث عن اوسع توسع وتغلغل فى صفوف العمال والطبقات الشعبية .( حول النشاط الكلى للحزب ، راجع ، 50 عاما على تأسيس حزب العمال الشيوعى المصرى ( 1969 – 2019 ) ، الوثائق التأسيسية ، الجزء الأول ، إبراهيم فتحى ، تقديم سعيد العليمى ، ص ص 32 – 39 ، دار المرايا للانتاج الثقافى ، الطبعة الأولى 2020 ، القاهرة . )
#سعيد_العليمى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وهن المثقف فى مسرحية مأساة الحلاج
-
حول الشعارات السياسية التاكتيكية
-
تناقض المضمون السياسي مع إدعاءات القوى السياسية
-
فى التحريض على الإنتفاض
-
تداعيات مصرية على الأحداث التونسية الأخيرة
-
حزب العمال الشيوعى المصري والقضية الكردية - الى الرفيق جوان
...
-
الإشتراكيون والطبقة االعاملة المصرية - تدوينة قديمة عام 2012
-
كلمة مازحة تحمل اطيافا من الحقيقة - فى عيد الأب
-
فى ذكرى مشؤومة منذ ثمانى سنوات
-
مو قف ماركسى ضد دعم الأصولية الإسلامية وأطروحات - النبى والب
...
-
انتفاضة الأفارقة الأمريكيون بسبب مقتل جورج فلويد
-
حزب العمال الشيوعى المصرى - نداء للقوى الديموقراطية والشيوعي
...
-
هل كان يمكن إزاحة سلطة الرئيس مرسى بجمع التوقيعات ؟
-
الموقف الثورى والنشاط العملى
-
فى معتقل القلعة السياسي بمصر عام 1968
-
فى ذكرى ثورة إدسا الفلبينية ( 22 فبراير 1986 )
-
حول توثيق خبرات ثورة 25 يناير فى مصر
-
فى ذكرى تكريم إبراهيم فتحى بالمجلس الأعلى للثقافة فى مصر
-
السلطة ومغزى تجديد الخطاب الدينى فى مصر
-
جدال قديم مع وقائع الثورة اليومية 3
المزيد.....
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
-
رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51
...
-
العمال يترقبون نتائج جلسة “المفاوضة الجماعية” في وزارة العمل
...
-
أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع
...
المزيد.....
-
نَقْد شِعَار المَلَكِيَة البَرْلَمانية 1/2
/ عبد الرحمان النوضة
-
اللينينية والفوضوية فى التنظيم الحزبى - جدال مع العفيف الأخض
...
/ سعيد العليمى
-
هل يمكن الوثوق في المتطلعين؟...
/ محمد الحنفي
-
عندما نراهن على إقناع المقتنع.....
/ محمد الحنفي
-
في نَظَرِيَّة الدَّوْلَة
/ عبد الرحمان النوضة
-
هل أنجزت 8 ماي كل مهامها؟...
/ محمد الحنفي
-
حزب العمال الشيوعى المصرى والصراع الحزبى الداخلى ( المخطوط ك
...
/ سعيد العليمى
-
نَقْد أَحْزاب اليَسار بالمغرب
/ عبد الرحمان النوضة
-
حزب العمال الشيوعى المصرى فى التأريخ الكورييلى - ضد رفعت الس
...
/ سعيد العليمى
-
نَقد تَعامل الأَحْزاب مَع الجَبْهَة
/ عبد الرحمان النوضة
المزيد.....
|